مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر على مدى يومين ونصف (5-7 /2022/8)، وتصدَّت له تحديداً حركة الجهاد الإسلامي، لم يكن حدثاً عابراً؛ ولم يخل من دلالات يجب التوقف عند أبرزها:

الوقفة الأولى: أن العدوان جاء في ضوء تخطيط استراتيجي إسرائيلي ممنهج، وهو جولة في خطة أوسع، وليس مجرد ردّ فعل لأحداث ميدانية. إذ إن هذا العدوان يَصبّ في استراتيجية إسرائيلية استهدفت منذ صيف 2021 إفراغ انتصار معركة “سيف القدس” من محتواها، والتسبب بتآكل آثار هذا الانتصار، وما أفرزه من معطيات. وأحد أبرز أهداف هذه الاستراتيجية إلغاء حالة “الربط” التي أحدثتها المعركة بين قطاع غزة، والقدس، وضرب فكرة “وحدة الساحات”. وقد قطع الاحتلال الصهيوني شوطاً كبيراً في تحقيق هدفه، من خلال استمرار اقتحامات المسجد الأقصى وتصعيدها وممارسة مزيد من الشعائر التوراتية. وسجل العدو مزيداً من النقاط في رمضان/ أبريل الماضي عندما لم تنفذ الفصائل الفلسطينية تهديداتها بضرب الاحتلال، نتيجة هذه الممارسات. وبالتالي، فإن الاحتلال يتابع الاستفراد بالقدس (وقد صعد عدوانه على الأقصى بالتزامن مع العدوان على غزة)، ويسعى لفصل مسار القدس والمضي به وفق مخططه التهويدي.

وينطبق على ذلك، أيضاً ما قام به على الأرض من إجراءات قمعية ووحشية في الضفة الغربية، ومن مزيد من التضييق على أهلنا في فلسطين المحتلة 1948.

هذه الخطة تستهدف تحييد المقاومة في غزة، وإفقاد المقاومة مصداقيتها، ومحاولة إظهارها عاجزة أمام شعبها وأمتها، أو على الأقل غير قادرة على إنفاذ تهديداتها.

ويأتي ضمن هذه الاستراتيجية، أن يأخذ الجانب الإسرائيلي زمام المبادرة، بحيث يشغل المقاومة في غزة بالحصار واستتباعاته، وبمعاناة الناس اليومية، وبتصعيد الاحتجاجات ضد الحكم في غزة سعياً لإنهاكه وإسقاطه، ليدعم الادّعاءات بأن المقاومة إذا كانت عاجزةً عن فك الحصار، وغير قادرة على تحقيق برنامجها؛ فلماذا تتسبّب في استمرار معاناة الناس؟!… وهو ما يسعى حراك “بدنا نعيش” الذي حاول استعادة فعاليته مؤخراً أن ينشره بين الناس، وهو ما تصب فيه أيضاً دعاية قيادة السلطة في رام الله، وكذلك أنظمة الحصار والتطبيع العربي.

ولذلك، فعلى قوى المقاومة أن تتوقع مزيداً من الحملات والاعتداءات الإسرائيلية المحسوبة، وربما أصبح الصهاينة وحلفاؤهم أكثر استعجالاً في محاولة تطويع قطاع غزة وإخضاعه، سباقاً مع الزمن لتهيئة بيئة أفضل لخلافة عباس.

الوقفة الثانية: هناك تفسير شائع مُتعسِّف لفكرة “وحدة الساحات” يجب علاجه وضبط معاييره.

فالربط الذي أحدثته معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021، بين غزة والقدس، وما ترافق معه من حراك وانتفاض وتفاعل في باقي الضفة الغربية، وفلسطين المحتلة 1948 والخارج، أعطى قفزة نوعية للعمل المقاوم، وأربك العدو الصهيوني. غير أنه سيكون مخطئاً من ظن أن غزة ستدخل حرباً مع العدو الصهيوني، كلما حدث انتهاك في القدس أو جريمة في الضفة أو انتهاك في الأرض المحتلة 1948.

فللحروب موازينها ومعاييرها وظروفها وحساباتها وأثمانها. وإذا كان ليست ثمة أدنى شك في الأداء البطولي لقطاع غزة، والصمود الأسطوري لأهله، ولمدرسة العزة والكرامة التي يقدمها للعالم؛ فليس هناك ضرورة لتحميل القطاع فوق طاقته. فالتضخيم غير الواقعي لقوة المقاومة وإمكاناتها، هو الوجه الآخر لتقزيم المقاومة وإضعاف صورتها ومكانتها. والتقدير الحقيقي للإمكانات هو المدخل السليم لصناعة القرار. وقيادة المقاومة لن تتردد في خوض معاركها، عندما ترى في ذلك مصلحة راجحة للعمل المقاوم.

ولذلك، فإن “وحدة الساحات” يجب أن تعني انخراط كل ساحة في مواجهة العدو بالتنسيق مع الساحات الأخرى، في إطار عمل مركزي للمقاومة، كلٌّ وفق إمكاناته وقدراته وظروفه؛ وليس دخول قطاع غزة في الحرب كلما حدث حادث هنا أو هناك. وإلا فإن العدو الصهيوني سيكون قادراً على جرّ غزة لحروب ومعارك غير جاهزة لها، في الأوقات والظروف والشروط الموضوعية التي تناسبه هو.

الوقفة الثالثة: هناك سعي صهيوني حثيث لدقِّ إسفين بين حماس والجهاد الإسلامي.

والدعاية الصهيونية التي رافقت العدوان، ركزت على الفصل بين هذين الفصيلين اللذين يُعدَّان الأبرز في العمل الفلسطيني المقاوم.

وكان من المطمئن سماع العديد من التصريحات من قيادة الطرفين، التي ركزت على معاني الوحدة والإخوة والاحترام والتقدير المتبادل. كما أن الاتصالات بينهما، والترتيب لعقد اجتماع مشترك بين القيادتين، قطعت الطريق على الدعاية الصهيونية. غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض الأحاديث في أوساط محسوبة على الجهاد، تنتقد عدم انخراط حماس في المعركة، مع محاولة تضخيم دور “الذات”؛ بينما بدا واضحاً انزعاج عناصر من حماس لانفراد الجهاد بقرار خوض المعركة.

ولذلك، فعلى حماس والجهاد أن تتوقعا مزيداً من سعي الصهاينة وحلفائهم، ومن يتقاطع مع خطهم فلسطينياً وعربياً ودولياً، لضرب التلاحم بين قوى المقاومة، وإشغالها في صراعات داخلية. وهو ما يجب أن يقابل ليس فقط بلقاءات تفاهم، وإنما ببرامج وحدوية، وتنسيق على كافة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية والتعبوية.

الوقفة الرابعة: حركة الجهاد الإسلامي فصيل إسلامي فلسطيني مقاوم أصيل، لا ينكر تضحياته وبطولاته ومواقفه الصلبة إلا جاحد.

غير أن ثمة تساؤلات مرتبطة بالأداء الميداني، لعلها تفيد في تجويد الأداء وصناعة القرار:

أولاً: مع كل التقدير لمكانة الشيخ بسام السعدي ودوره، فهل كان من المناسب خوض معركة غزة الأخيرة وربطها بشرط إطلاق سراح الشيخ. ذلك أن الصهاينة يمارسون الاعتقال التعسفي في الضفة الغربية بشكل منهجي وشبه يومي وللقيادات من كافة الفصائل؛ والكثير منهم من حماس التي تقود قطاع غزة. وللعلم، فإن سلطات الاحتلال اعتقلت الأسير المحرر والقيادي في حماس في نابلس مصطفى الشنّار بعد ساعات من اعتقالها للسعدي.

ومن ناحية ثانية، لمّا كان هناك قيادة تتبنى مشروع المقاومة في قطاع غزة، وإذا كان ثمة غرفة عمليات مشتركة تضم الفصائل بما فيها الجهاد وحماس، فلماذا لم تدعُ الجهاد، مثلاً، لاجتماع طارئ لاتخاذ القرار الأنسب في مواجهة عدوان الاحتلال، وجريمة اغتيال البطل الجعبري رحمه الله؛ وانفردت باتخاذ القرار؟!

ومن ناحية ثالثة، فما دامت الجهاد قد صعّدت من تحدِّيها للعدو ومن تحركاتها الميدانية، بعد اعتقال السعدي، فلماذا لم تتخذ إجراءات كافية لحماية أبرز قادتها من مخاطر هجمات صهيونية، خصوصاً وأن أكثر من ثلاثة أيام فصلت بين اعتقال السعدي واغتيال الجعبري، وخلالها قام العدو الصهيوني بمجموعة إجراءات تدلّ على نيته التصعيد ضد الجهاد في القطاع، مثل إغلاق معابر قطاع غزة في 2 آب/ أغسطس، ورفع حالة التأهب على الحدود مع القطاع، ثم مصادقة رئيس أركان جيش العدو في 4 آب/ أغسطس على خطة لما أسموه لجم التصعيد في القطاع. لقد كان اغتيال الشهيد الجعبري في مكان معروف تسهل مراقبته، ليس خسارة للجهاد، بل لكل قوى المقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني والأمة.

ومن ناحية رابعة، فلا نستطيع أن نتجاوز الكثير مما دار في الشارع الغزي حول ما ذُكر من وقوع صواريخ محلية في داخل القطاع، بدلاً من سقوطها على الجانب الصهيوني، وتسببها بضحايا وأضرار. وهو ما حاولت تقارير الجيش الصهيوني أن تنفخ فيه؛ فتحدثت أنه من بين كل خمسة صواريخ أطلَقتها المقاومة سقط واحد في القطاع. ولم تكن لدينا رغبة في الحديث عن ذلك، لولا اللغط الذي رافق هذا الموضوع؛ وبالتالي، حاجة الإخوة في الجهاد، ومعهم السلطات المسؤولة في غزة، للتحقيق في الأمر، وكشف الملابسات، وعلاج الخلل إن وجد، ومواجهة أي دعايات مُغرضة في المقابل.

إن هذه التساؤلات ليست انتقاصاً من جهاد الإخوة في الجهاد وبطولاتهم، وإنما محاولة للتسديد والمقاربة، فهم وإخوانهم من رجال المقاومة، يمثلون نماذج مضيئة لشعبنا وأمتنا على طرق التحرير والعودة.

الوقفة الخامسة: في ضوء ما سبق، فإن لوم حماس على عدم الانخراط في المعركة، بما يعنيه من إدخال قطاع غزة في المعركة على مدى أكثر اتساعاً وشدة وضراوة… ليس في مكانه. ولربما كان على حماس أن تراجع قرارها لو طال أمد المعركة التي لم تتجاوز يومين ونصف. غير أن حماس في الوقت نفسه، وهي التي تسيطر على القطاع، لم تكتف بفتح المجال للجهاد لخوض المعركة، وإنما وفرت أشكالاً من الدعم اللوجيستي والمعلوماتي، ونسقت مع الجهاد من خلال الغرفة المشتركة. وركز إعلامها على دعم المقاومة والجهاد، وتحميل العدو المسؤولية.

ويظهر أن تقديرات حماس العامة لم تصبّ في صالح دخول قطاع غزة في معركة جديدة، وقد سبق لها أن وصلت للتقدير نفسه في رمضان/ نيسان الماضي بالرغم من التصعيد الخطير الذي شهده الوضع في المسجد الأقصى والقدس؛ وبالرغم من النبرة العالية للتهديدات التي أطلقتها المقاومة.

هذه المعركة، رتّب لها العدو جيداً، واختار التوقيت الذي يناسبه؛ وكان واضحاً لدى قيادة المقاومة في غزة أن الأجواء الشعبية لم تكن تميل لحرب جديدة، وأن الحسابات والتقديرات السياسية والظروف الميدانية لخوض حرب تخدم شروط المقاومة غير متوفرة تماماً. ولذلك فإن قرارها ليس له علاقة بادعاءات ضغوط إقليمية تركية أو قطرية أو مصرية أو إيرانية.

***

وعلى ذلك، فإن أبرز الدروس المستفادة من هذه الجولة مرتبطة بالحذر من الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه المقاومة بعد معركة سيف القدس، وبإدارة رؤية “وحدة الساحات” على قواعد أكثر وضوحاً وصلابة، وتعزيز وحدة فصائل المقاومة وخصوصاً حماس والجهاد، والدخول في معارك مع العدو قدر الإمكان وفق ظروف وقواعد اشتباك تخدم المقاومة (إلا إذا فُرضت عليها)، والتعامل بحكمة وحزم مع الأفخاخ التي ينصبها العدو، وعمل المراجعات اللازمة لتعزيز المقاومة وتطويرها وتقوية التحامها بقاعدتها الشعبية وبأمتها.


تم نشر أصل هذا المقال في موقع “عربي 21″، 12/8/2022


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: