مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

كان الهدف الرئيسي من زيارة رئيس حركة حماس في الخارج الأستاذ خالد مشعل للبنان في الفترة 15-19 كانون الأول/ ديسمبر 2021 هو المشاركة في احتفالات وفعاليات الذكرى الرابعة والثلاثين لانطلاقة حماس، والتواصل مع أبناء الشعب الفلسطيني وهمومهم. وبالتأكيد لا يخلو جدول قائد كبير مثل مشعل من الالتقاء بالقيادات السياسية وقوى المقاومة، بما يخدم المشروع الوطني والإسلامي للحركة.

الزيارة التي كان قد جرى الترتيب لها قبل نحو شهر من موعدها، لقيت ترحيباً من الرئاسات اللبنانية الثلاث، رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ورئاسة مجلس النواب؛ بالإضافة إلى برنامجها الفلسطيني الحافل.

قبيل الزيارة حدث أمران بارزان، الأول: استشهاد أحد شباب حماس، هو حمزة إبراهيم شاهين يوم الجمعة 10/12/2021 في مخيم البرج الشمالي قرب مدينة صور، نتيجة انفجار ذكرت مصادر حماس أنه وقع بسبب تماس كهربائي أدى إلى انفجار عبوات أكسجين. وفي الجنازة الحاشدة للشهيد قامت عناصر من الأمن الوطني الفلسطيني الذي تهيمن عليه حركة فتح، بفتح النار على الجنازة مما أدى لاستشهاد ثلاثة من أبناء حماس. وهو ما زاد الأوضاع الفلسطينية توتراً وحدَّة. الأمر الثاني كان إبلاغ حزب الله لحماس أنه غير معني بالزيارة، وبعدم الرغبة بترتيب أي مقابلات من قيادته بخالد مشعل.

ويبدو أن قيادة حماس قرَّرت أنه بالرغم من عدم استقرار الأوضاع في لبنان، وبالرغم من حالة الاحتقان الداخلي الفلسطيني الشديد التي حصلت نتيجة استشهاد أبناء حماس، وتصاعد المخاطر الأمنية المحتملة؛ فإنه يجب المضي في الزيارة، وأن الأحداث التي وقعت تدفع أكثر باتجاه التواجد في الوسط الشعبي الفلسطيني، وليس تأجيل الزيارة أو إلغاءها.

وبالفعل وصل مشعل على رأس وفدٍ رسمي إلى لبنان يوم الأربعاء 15/12/2021؛ وأجرى لقاءات ناجحة مع قواعد حماس وكوادرها. وأسهمت زيارته في وأد الفتنة، والتأكيد على الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني؛ مع الإصرار على محاسبة القتلة على أسس من الحزم والعدالة والشفافية.

اللافت للنظر أن حزب الله والجهات المحسوبة على “محور المقاومة” لم تكتف بالاعتذار عن مقابلة مشعل؛ وإنما قامت بمجموعة من الإجراءات لإفشال الزيارة، ابتداء من التعتيم الإعلامي، وقيام عدد من الشخصيات المحسوبة على المحور بهجوم شخصي على مشعل، وليس انتهاء بالضغط على الجهات الرسمية وعدد من الفصائل لعدم اللقاء بمشعل. وبدا وكأن من قام بالهجوم والتضييق يحاول أن يفصل بين موقفه من حماس كحركة، وبين موقفه من مشعل نفسه. كما يحاول أن يُظهر وكأن هناك تياراً في حماس ترضى عنه إيران والحزب وتياراً آخر “مغضوباً عليه” على رأسه مشعل. وبالتأكيد فإن خروج حماس من سورية، في أثناء قيادة مشعل للحركة، كان سبباً رئيسياً لهذا الهجوم عليه.

بيد أن المتابع للشأن الحمساوي، ووفق ما توفّر للكاتب من معطيات، يمكن أن يضع هنا بعض النقاط على الحروف:

إن زيارة مشعل حققت، أولاً، في الإطار الفلسطيني نجاحاً كبيراً، وأعطى قدومه في هذا الظرف الدقيق والحساس، وبعد استشهاد أربعة من كوادرها، مصداقية كبيرة لمشعل وإخوانه؛ وتفاعلهم مع الشعب الفلسطيني وهمومه وقضاياه، وعائلات الشهداء، وتعاملهم بروح وطنية إسلامية عالية، مع الحالة المستجدة. وهو ما خلَّف ارتياحاً كبيراً في أوساط كوادر حماس في لبنان وفي أوساط فلسطينيي لبنان.

من ناحية ثانية، فإن زيارة مشعل لم تكن قراراً شخصياً، أو رغبة شخصية فقط، وإنما كانت قراراً مؤسسياً على مستوى قيادة الحركة. وكان معه في الوفد قيادات كبيرة من الخارج والضفة الغربية وقطاع غزة، وتحديداً موسى أبو مرزوق وفتحي حماد ومحمد نزال وحسام بدران؛ وكلُّهم أعضاء في المكتب السياسي أو في أعلى قيادة تنظيمية للحركة. كما انضم إليهم في عدد من الفعاليات الشيخ صالح العاروري نائب رئيس الحركة، هذا بالإضافة إلى كافة قيادات الحركة في لبنان. وعملوا معاً كفريق منسجم متكامل الأدوار والمهام.

ومن جهة ثالثة، فإن مشعل نفسه، ليس لديه أي حساسية مع العلاقة مع إيران أو حزب الله، وهو ممن يؤكد على دور إيران المهم في دعم المقاومة مالياً وعسكرياً، وممن دافع بقوة طوال فترة قيادته، وما يزال، عن استمرار العلاقة بإيران، على قاعدة دعم المقاومة ومواجهة العدو الصهيوني. كما يقدّر مشعل ورفاقه أهمية العلاقة مع الحزب في لبنان، ومستوى العلاقة والتنسيق الجيد بين الطرفين. وكان مشعل مستعداً للقاء قيادة الحزب في لبنان إن رغبت.

أما رابعاً، فمن حق حزب الله و”محور المقاومة” أن يجتمع بمن يشاء ويمتنع عمن يشاء، فهو حرٌّ تماماً في قراره؛ ولديه إمكانات وخبرات سياسية متميزة. وتدرك حماس كما يدرك الجميع مدى نفوذه وتأثيره في الساحة اللبنانية. ولكن المستغرب أن يسعى لمنع الآخرين من اللقاء برمز كبير على رأس عمله، من جهة يفترض أنها صديقة. فتعطلت ترتيبات المقابلة مع رئاسة الجمهورية، واعتذر رئيس مجلس النواب عن الاجتماع بعد أن كان قد وافق عليه، كما أن رئيس الوزراء اضطر تحت الضغط للاجتماع بمشعل في منزله وليس في السراي الحكومي. وفي المقابل، فإن مفتي الجمهورية لم يستجب للضغوط واستضاف مشعل في دار الفتوى، كما التقى مشعل وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وقيادة الجماعة الإسلامية في لبنان، ووفداً من حركة الجهاد الإسلامي برئاسة أمينها العام زياد النخالة، ووفوداً من علماء لبنان وفلسطين.

وهذا يعني، أن الحزب نجح جزئياً في إلغاء لقاءات ذات طبيعة بروتوكولية، ولا ينبني عليها عمل كبير. وهي جهات ألغت اجتماعاتها بسبب الضغط، وليس بالضرورة لقناعاتها الذاتية أو لمواقفها السلبية تجاه مشعل أو حماس.

ومن ناحية خامسة، قررت حماس من طرفها احترام قرار قيادة الحزب بعدم اللقاء، وعممت على كوادرها بعدم الرد على الهجوم الإعلامي على مشعل، وعدم الدخول في أي مناكفاتٍ، تَحرفُ الزيارة عن بوصلتها، أو تُسهم في تدهور العلاقة مع الحزب وإيران. وهو أمر يُحسب لحماس.

ومن ناحية سادسة، فإن خالد مشعل أحد القادة المؤسسين التاريخيين للحركة؛ وهو رئيسها لنحو 21 عاماً، أي نحو ثلثي عُمر حركة حماس. وله مكانته الكبيرة في كافة أوساطها ومستوياتها القيادية في الداخل والخارج. وهو عندما ترك قيادة حماس سنة 2017 تركها وهو في قمة عطائه، وبرغبة منه، واحتراماً للنظام الداخلي للحركة. وهو عندما عاد للعمل قائداً لحماس في الخارج في ربيع 2021 كان مرشح إجماع وفاز بالتزكية؛ ثم إن بيئة عمله التي يقودها تشمل كل المناطق خارج فلسطين، بما فيها المناطق التي يقودها أو يهيمن عليها “محور المقاومة”.

أما سابعاً، فقد أحدثت مقاطعة مشعل أثراً “عكسياً” في صفها الداخلي، كما يذكر مطّلعون؛ فازداد التضامن مع مشعل. كما ازدادت المخاوف من أن تحمل المقاطعة في طياتها ولو ضمنياً، الضغط باتجاه تحديد (أو وضع الضوابط) من يمثل حماس في تعاملها مع “محور المقاومة”. وبالتالي، زاد الاهتمام بتكريس استقلالية الحركة واستقلالية قرارها، وزاد التَّمسك بالعمل المؤسسي، وعدم خضوعها لأي ضغوط مهما كان مصدرها.

من جهة ثامنة، بالرغم من أن هذا المقال لا يناقش موقف حماس من سورية، ولا من الثورات والأحداث التي شهدتها المنطقة، فيما يُسمى “الربيع العربي”، ولا موقفها من إيران وحزب الله ودورهما الإقليمي؛ فإنه تجدر الإشارة إلى أن قرار حماس بالخروج من سورية الذي يسعى البعض لتحميل مشعل مسؤوليته، ويسعى لمعاقبته شخصياً عليه؛ لم يكن قرار مشعل وحده ولا قرار تيارٍ داخل حماس. فهذا القرار للحقيقة وللتاريخ، وبناء على الكثير من الشواهد، كان قراراً بالإجماع لدى قيادة الحركة، وبإسناد واسع من كافة قواعدها في داخل فلسطين وخارجها. وهو قرار شارك في اتخاذه وتبنِّيه كل قادة حماس في ذلك الوقت، بمن فيهم قائد الحركة الحالي إسماعيل هنية (الذي كان على رأس إقليم غزة) ونائبه الحالي صالح العاروري (الذي كان وما يزال على رأس إقليم الضفة الغربية)، وكذلك خليل الحية الذي يتولى الآن حقيبة العلاقات العربية والإسلامية، بما في ذلك ملفات العلاقة مع إيران ولبنان وسورية واليمن وغيرها. وحتى هذه اللحظة، لم يُتَّخذ قرار داخل حركة حماس بشأن عودة العلاقات مع سورية، حتى بعد نحو خمسة أعوام على ترك مشعل لقيادة الحركة.

والذي يعرف حماس، وبُناها المؤسسية، وطبيعة اتخاذ القرارات في داخلها، يعلم تماماً أن الأمر كان عملاً مؤسسياً (وما يزال)؛ ولذلك فإن تسليط السهام على خالد مشعل لا معنى ولا مبرر له.

من ناحية تاسعة، فإن حركة حماس ليست مجرد فصيل فلسطيني، يسهل الضغط عليه. فحماس تتصدر حالياً المشهد الفلسطيني، وتقود المقاومة الفلسطينية، ولديها شعبيتها الواسعة في الداخل والخارج التي تؤهلها للفوز في أي انتخابات نزيهة شفافة. وقد فازت بأغلبية كاسحة في انتخابات 2006 (والتي لم تُجرَ انتخابات بعدها)، وكانت المؤشرات حاسمة بفوزها في انتخابات 2021 لولا قيام قيادة فتح والسلطة بتعطيلها.

وحماس من خلال ريادتها لخط المقاومة في فلسطين على مدى سنوات طويلة، بما في ذلك انتفاضة الأقصى 2000-2005، والمعارك الكبيرة التي خاضها قطاع غزة، صارت تعبر عن نبض الجماهير والشعوب وعن إرادة الأمة العربية والإسلامية. وعندما خاضت معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021 خرجت جماهير الأمة من طنجة إلى جاكرتا نصرة لها وللمقاومة وللقدس. بل، نجحت المقاومة بقيادة حماس في تحشيد العالم ضدّ العدو الصهيوني، فخرجت مئات المظاهرات في قارات العالم كلها بما في ذلك أمريكا وأوروبا، وتراجعت شعبية الكيان الصهيوني في العالم الغربي تحديداً إلى مستويات غير مسبوقة. وحركة مثل هذه لا يمكن إلاّ تقدير مكانتها واحترام قراراتها.

ومن ناحية عاشرة، فإذا كان ثمة محور للمقاومة فحماس هي قلبه، وهي اللاعب الرئيس في الميدان، وفي موقع الصف الأول والريادة في الدفاع عن الأمة؛ وهي (إلى جانب قوى المقاومة الفلسطينية) تقبض على الجمر في فلسطين وخارجها، وتدفع كل لحظة فواتير الدماء والسجون والتدمير والتشريد. وبالتالي، فالعلاقة معها ينبغي أن تقوم على أساس التكافؤ والشراكة والقيام بالواجب. وهي ليست مَدينةً لأحدٍ يقومُ بما يمليه عليه واجبه ودينه، أو التزامه الوطني والقومي، أو مصالحه الاستراتيجية وأمنه القومي.

ويُنتظر ممن يشاركها خطَّها الجهادي المقاوم، أن يحترم قرارها الداخلي وبناها المؤسسية. وكما أن القوى المختلفة ترفض أن تكون جزءاً من أجندة حماس، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتوقع أن تكون حماس تحت جناحه أو جزءاً من أجندته.

وسابقاً، عندما كان لحماس علاقاتها الجيدة مع السعودية، وعندما كان مشعل في زيارة لها، أوفد الملكُ عبد الله الأميرَ مقرن بن عبد العزيز بطلب قطع العلاقة بإيران مقابل أن تتحمل السعودية المبالغ التي تدعم بها إيرانُ حماس، فرفض مشعل؛ على اعتبار أن حماس تحمل مشروعاً للمقاومة يسع الأمة، وأنها تُرحب بالدعم السعودي، ولكن دون شروط مسبقة؛ لأنها ليست تحت جناح أحد. وعلى اعتبار أن كل دولة أو هيئة أو جهة تدعم حماس إنما تقوم بواجبها تجاه القدس وفلسطين، ولأن حماس وقوى المقاومة حائط صدّ للأمة وللدول العربية والإسلامية في مواجهة العدو الصهيوني.

***

وأخيراً، فحزب الله معروف بمهاراته السياسية العالية، وقدرته الكبيرة على بناء العلاقات وإدارة التقاطعات وبناء التحالفات. فهل كان ثمة معطيات معينة أو معلومات غير دقيقة حول مشعل أو حول حقيقة موقف حماس، أدت إلى هذا التوجه بمقاطعة مشعل؟!

المرجو أن تكون هذه الزيارة ومخرجاتها فرصة للمراجعة الإيجابية، باتجاه اصطفاف حقيقي فعال لقوى المقاومة ضدّ المشروع الصهيوني.


مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 27/12/2021


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: