مدة القراءة: 8 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.English_Version

خمسون عاماً مضت على إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله. لم تنفع اتصالات وتدخلات العديد من الزعماء (بمن فيهم الملك فيصل ملك السعودية، ورئيس العراق عبد السلام عارف) والمفكرين والشخصيات والهيئات العربية والإسلامية في إثناء الرئيس المصري عبد الناصر عن إعدامه، الذي نُفذ في 29 آب/ أغسطس 1966.

ربما مرَّ على شريط ذكريات كل من عبد الناصر وسيد عند تنفيذ الإعدام ذلك اللقاء، الذي تحول حفلاً تكريمياً، والذي أقامه ضباط ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 (التي أسقطت الحكم الملكي في مصر) لسيد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والديبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في آب/ أغسطس 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك. قال سيد في هذا اللقاء ”إن الثورة قد بدأت حقاً، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام…“. ثم تابع سيد ”لقد كنت في عهد الملكية، مهيئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد مهيئٌ نفسي للسجن أيضاً، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل“!!
وهنا وقف عبد الناصر وقال بصوته الجهوري ”أخي الكبير سيد، والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا، جثثاً هامدة…“.

هذا الموقف كتبه شخص حضر الحفل، هو الأديب السعودي المعروف، مؤسس صحيفة عكاظ بعد ذلك، أحمد عبد الغفور عطار؛ ونشره في مجلة كلمة الحق، العدد الثاني، أيار/ مايو 1967.

بعد 14 عاماً صدقت توقعات سيد، وأُعدم بعد أن أمضى معظم ما تبقى من حياته في سجون ”تلاميذه“ من ضباط ثورة يوليو.

***

خمسون عاماً مضت على استشهاد سيد… ولكن لا يكاد يكون له بواكٍ… ولا كلمات وفاء؛ فقد كثرت عليه السكاكين… وتناوشته سهام المتنطعين وأنصاف المثقفين… وعلماء السلاطين… وأتت على فكره ومواقفه غيوم سوداء… وحملات تحريض وشيطنة… حتى تمّ حصر صورته، بشكل مُزوَّر، في شخصية تكفيرية متطرفة منغلقة. حتى إن عديدين من السائرين على خطه وبعض محبيه… وجدوا أنفسهم يتهربون من ذكره، أو يكتبون بطريقة اعتذارية خجولة عنه… غير أني أعتقد أن الدفاع عنه في هذه الأجواء ”المريضة“ وسام شرف يُفخر به… وليس أمراً يُخجل منه، أو يُعتذر عنه.

إن معظم من كتب عن سيد قطب ناقداً أو متهماً… ركز في كثير من الأحيان على سيد وفكره من خلال مقاطع مجتزئة أو من خلال ما كتبه آخرون… إن هؤلاء الذين ركزوا على بعض الجوانب ”الملتبسة“ في كتابات سيد… وغضوا النظر عن أدبياته الرائعة ونصوصه الإبداعية والتجديدية وروحه الثورية ومواقفه التي دفع حياته ثمناً لها… هؤلاء ظلموا سيد… وشاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين سيّد… ولم يخدموا بذلك سوى أنظمة الفساد والاستبداد وتيارات التغريب وأتباع ”أذناب البقر“.

وحتى من ناحية تاريخية، فإن بعض ما نُسب إلى سيّد قطب يحتاج إلى حذر في التعامل معه، كما في كتاب ”لماذا أعدموني“؛ فهو حسبما ذكر أخوه محمد قطب رحمه الله ليس كتاباً؛ إنما هو محاضر التحقيق التي أجريت معه في السجن الحربي، حيث حذفت منها الأسئلة التي وجهها إليه المحقق، وبقيت الأجوبة، وقد استخرجها محمد حسنين هيكل (وهو من المقربين لعبد الناصر) من ملفات السجن وباعها لجريدة ”الشرق الأوسط“، فنشرتها في جريدة ”المسلمون“ مجزأة ثم نشرتها في كتاب. وحُذف منها ما يتعلق بتعذيب سيّد. والمعروف أن المؤرخين يتعاملون علمياً مع محاضر التحقيق بالكثير من الشك والحذر، فكيف بالمحاضر التي تؤخذ تحت وطأة التعذيب الذي عرفته سجون عبد الناصر؟!

نعم، لسيد أخطاؤه كغيره من البشر، فلتتم معرفتها، وليتم نقد أفكاره وأدائه كغيره من المفكرين والمصلحين والسياسيين… فلا حرج ولا عيب… فكفى المرء نبلاً أن تعدُّ معايبه… أما أن يتم تشويه الشخص وشيطنته وإلغاء دوره… فلا.

***

إن طه حسين الذي كان يوماً مسؤولاً عن سيد قطب في وزارة المعارف قال في اللقاء التكريمي الذي أشرنا إليه أعلاه ”إن في سيد خصلتين هما المثالية والعناد“، وبعد أن تحدث عن أثر سيد في ثورة يوليو 1952 ورجالها ختم كلمته بالقول ”إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة؛ وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام“. ربما كانت ”المثالية والعناد“ وصفاً دقيقاً لسيد، غير أنه مع التزامه الإسلامي، كان معدنه الأصيل يعكس صفات ”التقوى والصبر والجرأة في الحق“؛ وهي أبرز صفات المصلحين وقادة الدعوات.

***

سيد الذي تعرض للظلم لم يأخذ حقه كأديب وناقد أدبي من الطراز الأول، فُتحت له أهم المجلات الأدبية في عصره، وأبرز جمال اللغة العربية،  كما أبرز إعجاز القرآن وعظمة آياته. فكتب في ”النقد الأدبي: أصوله ومناهجه“، وكتب ”التصوير الفني في القرآن“ و”مشاهد القيامة في القرآن“. أما كتابه “في ظلال القرآن” فقد استكمل فيه استعراض آيات القرآن، وإبراز ما فيها من قوة وبيان وجمال وتأثير، بأسلوب قوي معاصر، مستوعب لآيات القرآن وكلماته، وما فيها من معاني ودلالات؛ ومعطياً دفعة قوية لمدرسة التفسير الموضوعي في القرآن.

ولسيّد شعر جميل أخذ طابعاً وطنياً وإسلامياً وإنسانياً ولامس هموم الناس والمجتمع؛ وكتب في الوصف والحنين والتأمل والرثاء والتمرد والثورة وفلسطين…

***

من ناحية ثانية، عبر سيد عن روح ثورية إسلامية ووطنية هائلة كانت حافزاً وملهماً لأبناء جيله ولمن بعده في مواجهة الساسة والمثقفين والعلماء الفاسدين والأنظمة الفاسدة والمستبدة. وأبرز الإسلام بروحه الحركية العملية التي ترفض الظلم وتنتصر للمظلوم وتنزع الشرعية عن الطغاة. ولذلك قدم بمقالاته ”النارية“ ورؤاه الفكرية بنية أساسية دافعة للثورة على الملكية في مصر، وغيرها من الثورات وحركات التغيير. وعدَّه ضباط ثورة يوليو ملهماً لهم. وقبل الثورة بأربعة أيام (19/7/1952) كان عدد من ضباطها، بينهم عبد الناصر، يجتمعون في بيته لوضع ترتيباتها؛ وبعد نجاحها كان سيد هو الشخص المدني الوحيد الذي يحضر أحياناً اجتماعات مجلس قيادة الثورة.

لم تمض ستة أشهر حتى افترق سيد عن الثورة ورجالاتها بعد أن رأى ما لا يعجبه، فتركهم… وانتقدهم. وفي سنة 1954 حكم عليه نظام عبد الناصر بالسجن 15عاماً (ضمن حملته ضدّ الإخوان المسلمين)… فازداد صلابة وإصراراً، بالرغم مما عاناه في السجن من أمراض وآلام… وكتب قصيدته الشهيرة ”أخي أنت حر وراء السدود“ ؛ كما كتب قصيدته ”هبل… هبل“ التي رأى فيها كثيرون وصفاً لعبد الناصر ونظامه، وفيها:

هُبل…هبل رمز السخافة والدجل
من بعد ما اندثرت على أيدي الأباة
عادت إلينا اليوم في ثوب الطغاة…
هتَّافة التهريج ما ملُّوا الثناء
زعموا له ما ليس… عند الأنبياء
هو فاتح… هو عبقري ملهم
هو مُرسلٌ… هو عالمٌ ومعلم
ومن الجهالة ما قتل!!…
لكن الأحرار في هذا الزمان هم القليل
فليدخلوا السجن الرهيب وليصبروا الصبر الجميل
وليشهدوا أقسى رواية… فلكل طاغية نهاية.

واتخذت كتابات سيد في سجنه خطاباً أكثر حدة وعمقاً وتأصيلاً للثورة على الطغاة من خلال التركيز على مبدأ ”الحاكمية“ وردّ التشريع إلى الله والحكم بما أنزل الله. وعندما خرج من السجن في أيار/ مايو 1964 ( بتدخل من الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف) لم يتردد في قبول الإشراف والرعاية على تنظيم إخواني سري، كان يركز في تلك المرحلة على المعاني الإسلامية التربوية والحركية.

قُبض على سيّد في 9 آب/أغسطس 1965 بتهمة قيادة تنظيم عسكري سري إخواني بهدف زعزعة أمن البلاد واغتيال عبد الناصر والانقلاب على النظام، وحكم عليه بالإعدام بهذه التهم الملفقة. غير أن سيد تلقى قرار الإعدام ببسمته الساخرة قائلاً ”الحمد لله، لقد عملت 15 عاماً من أجل الحصول على الشهادة“.

ونقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: ”إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفاً يقر به حكم طاغية“، وقوله ”لماذا أسترحم، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل“!!

كان سيد يرى أن دفع حياته ثمناً لإيمانه ودفاعاً عن كلماته وأفكاره أمر طبيعي، بل هو ما يعطي لهذه الكلمات قيمتها ومعانيها وتأثيرها، فهو يقول ”إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع…، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة“.

***

من ناحية ثالثة، كان سيد من أبرز مفكري القرن العشرين العرب المسلمين الذين كتبوا في التعبير عن عزة الإنسان وكرامته وحريته واستعلاء إيمانه ولو اتسع المقام لأتينا بعشرات الشواهد على ذلك فـ”الظلال“ مليء بهذه المعاني. ولعل مقالته في ”العبيد“ في كتابه دراسات إسلامية من أروع ما كتب في فضح السلوك البشري المنحرف عن معاني الحرية.

***

من ناحية رابعة، كان سيد قطب من أبرز المفكرين الذين قدموا الإسلام بشموله وحيويته، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وقدرته على الحكم وعلاج مشاكل الحضارة، وتحقيق التوازن بين متطلبات الروح والمادة.

وكان في الوقت نفسه من أبرز الكتاب الذين نقدوا الحضارة الغربية، وكشفوا عوراتها، وفضحوا الاستعمار الغربي وأطماعه في المنطقة…. وقدم نقداً لاذعاً للأنظمة الرأسمالية والشيوعية… ولعل مقاله الشهير ”إسلام أمريكاني“ الذي نُشر في مجلة الرسالة سنة 1952 يفضح سياسة أمريكا وعملاءها في المنطقة… وفيه يقول ”الإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان… إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء… فكلاهما عدو“. وبالنسبة للأمريكان وعملاؤهم فالإسلام ”يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يُستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتى أبداً في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتى أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية…“!!

وسيد في مقالات أخرى لا يُعبِّر فقط عن احتقاره للسلوك الاستعماري الغربي، ولكنه يحتقر ”أولئك المصريين وأولئك العرب الذين لا يزالون يثقون بالضمير الغربي عامة، والأماني الخادعة من ذلك الضمير الغربي المأخوذ“!! ويهاجم سيد تلك الطبقة الحاكمة… ”تلك الحفنة المسنّة الرخوة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب، لا تقدر على الكفاح ولا تدع الشعوب تكافح… هذه الحفنة هي التي اخترعت كلمات المفاوضات والمحادثات والمؤامرات…“. (انظر مقال ”الضمير الأمريكاني وقضية فلسطين“ في مجلة الرسالة، 21/10/1946)

***

أما الروح الإنسانية والتعبير العميق عن المعاني الإنسانية فهي من ناحية خامسة، من الجوانب التي أبدع فيها سيّد، ومن الجوانب التي طمسها خصومه (وربما بعض محبيه). ولعل كتيب ”أفراح الروح“ بالرغم من صفحاته المحدودة يرقى إلى مصاف الأدب الإنساني العالمي الذي لم يلق ما يستحق من رعاية واهتمام من الأدباء والباحثين… وبالرغم من أنه عبارة عن خواطر كتبها وهو في السجن، إلا أنك تقرأ لمفكر يُحلق في أوسع آفاق الحرية والكرامة الإنسانية، ومعاني الحب والعطف واستيعاب الآخرين ومخالطتهم والانفتاح عليهم والصبر على أذاهم. والغريب أن سيّد الذي يتهمه خصومه بأفكار العزلة وهجرة الناس (مسيئين فهم أو استخدام فكرة العزلة الشعورية التي تحدث عنها) كتب نصّاً يكتب بـ ”ماء الذهب“ في موضوع الاختلاط بالناس واعتزالهم، جاء فيه:

”حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً …  لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!. إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!… إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً… إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية…!“

***

من ناحية سادسة، فقد ظُلم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزأوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيد أيضاً من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة… واستخدم متهموه وخصوصاً من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي… نصوصاً مجتزأة لإثبات ذلك. ولأن هذا المقال لا يتسع لمناقشة كل الاتهامات، فإننا نضع أبرز النقاط التي يجدر بيانها في هذا السياق:

1. يجب ملاحظة التطور التاريخي لالتزام سيد الإسلامي وفكره، الذي أخذ شكله الناضج في السنوات الأخيرة من عمره، ومن الخطأ محاسبة سيد عن مرحلة تاب عنها أو عن أفكار تراجع عنها. وكما قال أخوه محمد قطب في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن الهرفي، فإن سيد أوصى بقراءة بعض كتبه فقط قبيل وفاته، ومنها ”في ظلال القرآن“ وخصوصاً الأجزاء الاثنا عشر الأولى التي تمكن من تنقيحها، وكتاب ”معالم في الطريق“، و”هذا الدين“، و”المستقبل لهذا الدين“، و”خصائص التصور الإسلامي“، و”مقومات التصور الإسلامي“، و”الإسلام ومشكلات الحضارة“… . وهو ما ينبغي محاسبته عليه، وليس ما تراجع عنه.

2. إن سيد قطب كان أديباً ناقداً، قبل أن يكون عالماً شرعياً وفقيهاً بالمعنى الاصطلاحي المتداول. وقد أراد أن ينافح عن الإسلام عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة. ودفع حياته ثمناً لذلك؛ وقد وفقه الله في آلاف المواضع والشروح والمعاني الرائعة واللفتات القيِّمة… ولربما خانه تعبيره في بعض العبارات والاسترسالات… لكن كثيراً منها يوضحها كلامه في مواضع أخرى.

3. إن العلماء الكبار لم يُكفِّروا سيد، بمن فيهم علماء الاتجاه السلفي…، ووقف بعضهم في وجه من كفَّر سيّد، كما فعل العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، في رده على ربيع المدخلي؛ حيث طلب منه عدم نشر اتهاماته لسيد لكثرة ما فيها من التجنِّي عليه، مؤكداً أن الواجب ”الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه…“.

وفي الدراسة التي نال بها ماجد شبالة درجة الدكتوراه من جامعة صنعاء حول ”منهج سيد قطب في العقيدة“، توصل إلى أن سيد قطب كان موافقاً لما عليه أهل السنة والجماعة في الفهم، وأن سيد اهتم بالعقيدة وخصائصها، ونواقضها، وأنه نقض منهج مخالفي السلف الصالح من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة… وأن كلامه المتوهم خطؤه … يقابله كلام واضح قاطع يوافق الفهم الصحيح كما في قضايا خلق القرآن ووحدة الوجود… وغيرها.

وتجدر الإشارة إلى أن سيّد قد أقر على إخوانه، في التنظيم السري الذي أشرف عليه، كتابين في العقيدة لابن تيمية هما: رسالة ”العبودية“ وكتاب الإيمان.

وقد حدثني الشيخ عمر الأشقر رحمه الله كيف كان وإخوانه يتابعون كتابات سيد قطب، وكيف تأثروا بشكل بالغ بخبر إعدامه، وكيف جاءه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق باكياً يخبره بإعدامه.

4. إن سيّد قد بيَّن نواقض الإيمان التي يقررها الكتاب والسنة، مع اهتمامه الشديد بـ”شرك الحاكمية“ المرتبط بنبذ شرع الله، وتبني أيديولوجيات وتشريعات مناقضة للدين وتعاليمه، باعتباره أبرز أنواع الكفر في هذا العصر. وبالرغم من قوة عبارات سيد وحدَّتها في بعض المواضع، فإن من درس كتابات سيّد من العلماء المنصفين، ومنهم العلامة الشيخ عمر الأشقر (وهو ما سمعه كاتب هذه السطور منه) يذكرون أن كتابات سيد لم تَحوِ نصّاً واحداً يُصرِّح فيه بتكفير المجتمعات والأفراد… وبعض كتابات سيد كما في تعليقه على آية ”ولتستبين سبيل المجرمين“، قد يستنتج منه البعض معنى التكفير… غير أن قراءتها في ضوء النصوص الأخرى المحكمة التي كتبها… مثل تعليقه على آية ”ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً“… تُبعد سيد عن تهمة تكفير المجتمع. كما أن العدد الأكبر ممن خالط سيد من رفاقه ينفون عن سيد تهمة التكفير.

***

وأخيراً، فقد آن الأوان لإنصاف سيد قطب، وأن تُقرأ كتاباته بشكل موضوعي، وأن تحفظ مكانته باعتباره أحد أبرز رواد الفكر الإسلامي والإصلاح والتجديد في القرن العشرين… رحمه الله.

وللمستزيد عن سيّد أن يطلع على الدراسات المرجعية المتميزة للدكتور صلاح الخالدي (التي استفاد منها هذا المقال) والدكتور عبد الله الخباص والأستاذ عبد الباقي محمد حسين … وغيرهم.

هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 30/8/2016