مدة القراءة: 19 دقائق

إعداد: د. عدنان أبو عامر.
(خاص بمركز الزيتونة).

مقدمة:

منذ اللحظة الأولى لاندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مساء 10/5/2021، وحتى نهايته بعد 11 يوماً فجر 21/5/2021، خرجت استخلاصات إسرائيلية مفادها أن المزج بين محاولات اقتحام المسجد الأقصى في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتأجيل الانتخابات التشريعية بقرار تعسفي من رئيس السلطة الفلسطينية، وتصاعد التوترات بشأن ترحيل سكان حي الشيخ جراح، ولّد “عاصفة كاملة” لدى المقاومة الفلسطينية، التي بذل قادتها جهداً هائلاً، وتمكنوا من الضغط على “إسرائيل”، لتنفيذ هجمات خرجت عن نطاق السيطرة الإسرائيلية، ولذلك شهدت أيام العدوان اشتعال النار في كل المنطقة، وصولاً إلى المدن الفلسطينية المحتلة في الداخل، في مشهد لم يتكرر خلال السنوات والعقود الماضية.

رأى الإسرائيليون في نهاية هذه الجولة العدوانية على غزة أن حماس نجحت في القيام بمهمتها، لأنها أدركت هذه المرة أنها أمام فرصة استثنائية لجلب دعم متزايد لها، وتجلى ذلك من خلال هتافات آلاف المصلين في المسجد الأقصى بصراخهم في كل ليلة بصوت جهوري “يا قسام يا حبيب… اضرب اضرب تل أبيب”، وهم يلوحون بأعلام الحركة، وصور قادتها.

وقد حفلت الأوساط البحثية ووسائل الإعلام الإسرائيلية بجملة من الانتقادات الموجهة لدوائر صنع القرار السياسي والعسكري، بسبب ما عدّته إخفاقاً متعدد المجالات خلال العدوان على غزة، مما أسفر عن نتائج لم تكن في صالح الاحتلال من جهة، واستفاد منها الفلسطينيون، لا سيّما المقاومة المسلحة من جهة أخرى.

السطور التالية تسعى لتقديم استعراض تفصيلي بأهم السياقات الإسرائيلية لهذا العدوان الذي أسمته “إسرائيل” بـ”حارس الأسوار”، وأطلقت عليه المقاومة اسم “سيف القدس”،[2] بدءاً بأسبابه، مروراً بأهدافه، وصولاً إلى إخفاقاته، وتأثيراته الإسرائيلية والعربية والدولية، وانتهاء باستعراض جملة سيناريوهات متوقعة لمآلات العدوان في المرحلة المقبلة.


للاطلاع على ورقة العمل بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: قراءة إسرائيلية في معركة سيف القدس والعدوان على غزة: الأسباب والنتائج والسيناريوهات … د. عدنان أبو عامر (25 صفحة، 6.5 MB)

أولاً: أسباب العدوان:

جاء العدوان الإسرائيلي على غزة حصيلة تطورات أمنية وميدانية متلاحقة في الأراضي الفلسطينية. صحيح أن أسبابه المباشرة تمثلت بالإجراءات الإسرائيلية ضدّ سكان حي الشيخ جراح، ومحاولات المستوطنين تنظيم اقتحامات واسعة للمسجد الأقصى، لكن هناك أسباباً أخرى تمثلت بالهجوم الفدائي المسلح على مفرق تفوح الذي أوقع قتلى وجرحى إسرائيليين، ومحاولة الهجوم على المستوطنين قرب حاجز سالم.

يضاف إلى ذلك كله الصور الواردة من المسجد الأقصى حول الاستفزازات المستمرة للمستوطنين، مما وفر المزيد من الوقود للواقع المشتعل في الأراضي الفلسطينية، مع اكتمال الاستعدادات الإسرائيلية لإحياء “أسبوع القدس” العبري، الذي يحتفل فيه اليهود بتوحيد شطري القدس المحتلة، حيث استعاد الفلسطينيون مشاهد 29/9/2000، بعد اقتحام أريل شارون Ariel Sharon للمسجد الأقصى، وانتهى باندلاع انتفاضتهم التي استمرت عدة سنوات.[3]

مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحراك الإسرائيلي في المسجد الأقصى ليس جديداً، بل هو استمرار لمحاولات سابقة، لكن جرعته زادت هذه المرة بتزامنه مع العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وهي أيام تكتسب قدسية خاصة، مع جهود إسرائيلية حثيثة لاقتلاع سكان حي الشيخ جراح، وانضمام المؤسسة القضائية من خلال المحكمة العليا لإعطاء شرعنة لهذه المحاولات الهادفة لتهويد هذا الحي العربي الفلسطيني، وكأن اليمين الإسرائيلي أراد البقاء في السلطة، ولو على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة في القدس والأقصى وحي الشيخ جراح.

بالإضافة إلى ذلك، هناك بُعد إسرائيلي داخلي لا تخطئه العين صبّ مزيداً من الزيت على نار التوتر القائم، وهو حالة التنافس الحزبي الداخلي المحموم أكثر من كل مرة، لا سيّما عقب فشل بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu زعيم حزب الليكود Likud الحاكم في تشكيل حكومته، وانتقال التفويض إلى خصمه يائير لابيد Yair Lapid زعيم حزب “يوجد مستقبل Yesh Atid”، ومحاولة نتنياهو إفشال جهوده لتشكيل الحكومة من خلال منح معسكر اليمين بشقيه الديني والقومي، كامل الحرية في تنفيذ مخططاتهم التهويدية في القدس المحتلة، أملاً في عدم انضمامهم إلى لابيد. حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت Ehud Olmert اتهم نتنياهو بأنه:
رأى ما يحدث في القدس، لكنه تعمد تصعيد الوضع، لأنه عندما تحدث له ضائقة، فهو قادر على امتهان التحريض والكذب والتزييف والغش والتظاهر والخداع، ولذلك فإن أحداث العنف التي نظمتها الجماعات اليهودية المتطرفة في القدس مؤخراً تخدم أهداف نتنياهو، لأنها تساعده على المحاججة بأن إسرائيل تمر في حالة طوارئ وطنية، وهو ما يستدعي تشكيل حكومة يمينية متطرفة بمشاركة حزب يمينا، الذي يقوده نفتالي بينت [Naftali Bennett].[4]

هناك تطور فلسطيني داخلي تزامن مع اندلاع العدوان على غزة، وعلى الرغم من أنه قد لا يكون ذا صلة مباشرة، لكنه ألقى بظلاله السلبية على المشهد السياسي الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتأجيل الانتخابات التشريعية بصورة تعسفية، دون مشاورة مع باقي الفصائل، وهو ما توقعت الأوساط الإسرائيلية أن يكون له تبعات على صعيد التوتر بين المقاومة والاحتلال.

يصعب الربط القسري إسرائيلياً بين الأمرين، تأجيل الانتخابات الفلسطينية واندلاع معركة “سيف القدس”، لكن القاسم المشترك بينهما أن “إسرائيل” كانت فاعلة فيهما معاً، فهي لم تُخفِ رغبتها بإلغاء الانتخابات كلياً في ظل تقديراتها الأمنية التي تحدثت عن فوز كاسح لحماس، وفي الوقت ذاته أرادت استكمال مشروعها التهويدي في القدس، معتقدة أنها لن تجد مقاومة حقيقية تمنعها من ذلك.[5] غير أنه من ناحية أخرى، فإن تعطيل الانتخابات، جعل قوى المقاومة حرة في الدخول في معركة الدفاع عن القدس، دون أن يلومها أحد بأنها تعطل الانتخابات وتتهرب من استحقاقاتها.

لقد كشفت احتجاجات القدس والمسجد الأقصى أواخر نيسان/ أبريل وأوائل أيار/ مايو 2021، عن أربع دلالات؛ أولها أنه أكثر المتفجرات حساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وثانيها أن حدثاً تكتيكياً صغيراً يشهده قد يؤدي إلى اشتعال في عدة قطاعات جغرافية، وثالثها نجاح رواية الفلسطينيين في تأجيج المواجهة عالمياً، ورابعها وفي كل ما يتعلق بالأقصى، فإن “إسرائيل” قابلة للطي والانطواء والتراجع، بدليل أنها تراجعت عن مسيرتها الاستفزازية، ولو أن ذلك جاء تحت تهديد صواريخ المقاومة.[6]

مع العلم أن أوساطاً إسرائيلية عديدة في جهاز الأمن العام (الشاباك) Israel Security Agency—ISA (Shabak)، رأت مبكراً أن المسيرة اليهودية في المسجد الأقصى ستشكل وصفة للانفجار الكامل، وهذه المرة بصبغة دينية، وفيما سعى الشاباك لتجنب استفزاز الفلسطينيين، لكن الشرطة التابعة لوزير الأمن الداخلي الليكودي أمير أوحانا Amir Ohana أصرت، بتوجيه من القيادة السياسية الإسرائيلية، على المضي قدماً بتلك الاستفزازات، وجاءت النتيجة متمثلة في معركة سيف القدس.[7]

الخلاصة من وجهة النظر الإسرائيلية أن هذه الجولة لم تبدأ بسبب شيء حدث في غزة، كما جرت العادة في عدوانات سابقة في الأعوام 2008، و2012، و2014، سواء بسبب تشديد الحصار، أم وقف المنح المالية الدولية، أم اغتيال قيادي بارز، ولكن بسبب حدث شهده مكان بعيد، وتحديداً في القدس، وهذا بالضبط ما أرادت حماس أن تغرسه في الوعي الفلسطيني والإسرائيلي، وهو أنه لم يعد هناك فصل بين غزة والقدس، وفيما أرادت “إسرائيل” الفصل بين القطاعات الفلسطينية، غزة والضفة والقدس، فقد أرادت حماس العكس، ونجحت في ذلك.[8]

ثانياً: أهداف العدوان:

تلاقت جملة أهدافٍ سياسية وعسكرية وحزبية إسرائيلية في آن واحد إبان تنفيذ هذا العدوان على غزة، ويمكن تركيزها في النقاط التالية:

1. سعت آلة الحرب الإسرائيلية ممثلة بالجيش إلى تحقيق هدف مفاده “تدفيع” حماس ثمناً باهظاً لأنها “تجرأت” وقصفت في وضح النهار مدينة القدس المحتلة، ولها ما لها من رمزية لدى كافة اليهود والإسرائيليين بلا استثناء، وإفساد احتفالاتهم الدينية في اليوم ذاته، وبث مشاهد الذعر والرعب التي عاشها المستوطنون على مرأى ومسمع من كل العالم.[9]

كما دأبت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على “تحديث” بنك الأهداف الخاص بالمقاومة، وتَتَحيَّن الفرصة لاستهدافها، وتوجيه ضربات قوية لها، خصوصاً القدرات العسكرية، سواء الإمكانيات الصاروخية، أم شبكة الأنفاق وسواهما، مع العلم أن جيش الاحتلال كان يستغل أي فرصة للتصعيد الخاطف في غزة لاستهداف تلك المواقع من خلال سياسة “جز العشب”، لكنه هذه المرة أراد توجيه ضربات قوية موجعة للمقاومة تزيد عن تلك الضربات الخاطفة.[10]

2. رأى المستوى السياسي الإسرائيلي، لا سيّما نتنياهو، وهو يصارع الرمق الأخير للبقاء رئيساً للحكومة، أنه أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتفويت الفرصة على خصمه لابيد، الذي كان قد بدأ في حينه جهوده لتشكيل الحكومة، وربما سعى نتنياهو لاستغلال صواريخ حماس باتجاه القدس لإطلاق يد جيشه في هذا العدوان رغبة منه بوقف تلك الجهود من جهة، ومن جهة أخرى الدعوة لتشكيل حكومة طوارئ، لمواجهة التهديد الخارجي، قد تمتد ستة أشهر، وبعدها يتم الدعوة لانتخابات مبكرة خامسة.

لقد خرجت اتهامات إسرائيلية بين حين وآخر مفادها أن هذه الحرب في مجملها إنما هي بدفع من نتنياهو، كي تخدمه في مساعي تشكيل حكومته، وحين سمح للمستوطنين بمحاولة اقتحام الأقصى فهو يعلم أنه أمام شعلة نار حقيقية، وهو ما تحقق له “مؤقتاً” بانسحاب نفتالي بينت زعيم حزب يمينا من تحالفه مع لابيد، وعودته إلى نتنياهو، بالرغم من أنه في النهاية عاد مجدداً إلى لابيد.[11]

تشير وقائع العدوان الإسرائيلي أن نتنياهو الذي “غض الطرف” عن محاولات جماعات المعبد تنظيم مسيرتهم الاستفزازية داخل ساحات الأقصى، وبالرغم من إعلان حماس أن ذلك “لعب في النار”، لكنه قدَّر أن الحركة سترد كالعادة بقصف مستوطنات غلاف غزة، أو مدينتي عسقلان وأسدود شمال القطاع، فيرد الجيش بقصف بعض مواقع المقاومة، وتنتهي المسألة خلال يوم أو يومين، لكن الموضوع خرج عن سيطرته، فامتدت المواجهة زمانياً إلى 11 يوماً، واتسعت جغرافياً لتغطي معظم أنحاء فلسطين المحتلة، وعلى رأسها القدس وتل أبيب، وهنا “انقلب السحر على الساحر”.

3. السعي الإسرائيلي للحفاظ على التوافق الذي لم يتكرر كثيراً في عدوانات سابقة، بما في ذلك الدعم السياسي والحزبي، على الرغم من حالة الاستقطاب الداخلية الحادة بسبب أزمة تشكيل الحكومة؛ لكن استهداف حماس مباشرة للقدس وتل أبيب في ضرباتها الصاروخية الأولى، لعله دفع الإسرائيليين للشعور بالحاجة لتوجيه ضربات قوية للحركة، كي تردعها، وتمنعها عن العودة لذات السلوك الذي ضرب ما يزعمون أنها “عاصمتهم الموحدة”.

4. برز هدف ذو طابع استراتيجي هذه المرة ويتعلق بكسر حالة الإجماع الفلسطيني خلف المقاومة، التي ربما ظهرت أكثر من سابقاتها خلال الحروب والمواجهات السابقة، مما استرعى قلق المؤسسة الإسرائيلية، التي رأت قدرة المقاومة الفلسطينية على إنشاء محور غزة-القدس،[12] من خلال استنفارها واستعدادها لخوض مواجهة عسكرية عنيفة من أجل المدينة المقدسة، بل إن انضمام فلسطينيي 48 شكَّل مفاجأة من العيار الثقيل لـ”إسرائيل”، لأنها استفاقت على كابوس مفاده أن هؤلاء فلسطينيون عرب أقحاح، وليسوا إسرائيليين، ولن يكونوا.[13]

لقد ترافق العدوان على غزة مع دخول احتجاجات فلسطينيي 48 على الخط، وما تركته من ردود فعل غاضبة في الأوساط السياسية الإسرائيلية التي أكدت أنها لن تكون قادرة على تأجيل البحث فيها، أو تجاهلها، في ضوء المظاهرات الاحتجاجية غير المسبوقة التي قاموا بها في المدن العربية داخل “إسرائيل”، خصوصاً اللد والنقب ويافا والرملة، وغيرها من المدن العربية، مما تسبب بأجواء من القلق الإسرائيلي من إمكانية فقدان السيطرة على الأوضاع الأمنية في “إسرائيل”.[14]

ولذلك تحدثت التقديرات السائدة في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن هذه الاحتجاجات التي نجم عنها اشتباكات يومية بينهما في عدد من المدن، شكلت تهديداً أكبر للمجتمع الإسرائيلي من معركة غزة.

ثالثاً: الإخفاقات الإسرائيلية:

بعد انقضاء العدوان الإسرائيلي على غزة، بدأت تتكشف جملة الأخطاء والإخفاقات الإسرائيلية التي ارتكبها جيش الاحتلال وحكومته، مما ترك آثاره على فشل أهداف العدوان، وقد يدفع باتجاه تشكيل لجان تحقيق داخلية، بعد أن أسهمت هذه الأخطاء في تبدد صورة الردع الإسرائيلية أمام المقاومة.[15]

ومع إطالة أمد العدوان وأيامه، خرجت إلى السطح جملة انتقادات للأداء العسكري العملياتي، بالإضافة إلى السلوك السياسي، يمكن تركيزها في النقاط التالية:

1. توقف الإسرائيليون مطولاً عند ما أسموه “سوء تقدير الموقف” الذي ساد في الأوساط الحكومية والأمنية طيلة الأشهر الماضية، ومفاده أن حماس المنشغلة برفع حصار غزة، ومعالجة مشاكل الفلسطينيين المعيشية والاقتصادية، لن تتجه لخوض مواجهة عسكرية مع الاحتلال، حتى لو كان من أجل الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، مما دفع بمحافل أمنية إسرائيلية للمطالبة بمعرفة سبب هذه القراءة الخاطئة لتوجهات حماس السياسية والعسكرية.[16]

2. عدم قدرة الجيش وقبته الحديدية على إسكات صواريخ حماس، بالرغم من نشر بطارياتها في معظم أنحاء فلسطين المحتلة، لكن الحركة حافظت على وتيرة منتظمة من الإطلاق طيلة أيام العدوان، وطرح هذا الإخفاق تساؤلات كبيرة على دوائر القرار العسكري الإسرائيلية بشأن عدم إدراكها للقدرات الصاروخية للمقاومة، والافتقار إلى المعلومات الخاصة بمدى قدرتها على الاستمرار في إطلاق قذائفها طيلة أيام العدوان دون توقف.

وقد روجت المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية للمنظومات الدفاعية القادرة على التصدي لمختلف أنواع الصواريخ التي تهدد جبهتها الداخلية، ومنها “القبة الحديدية”، لكن صواريخ المقاومة من غزة تجاوزتها بصورة لا تخطئها العين، مما دفع الأوساط العسكرية الإسرائيلية لمحاولة تحليل أسباب هذا الإخفاق.[17]

وقد تباينت التفسيرات الإسرائيلية لهذا الفشل، بين قائل إن السبب يعود للكثافة الكمية للصواريخ، فكل رشقة لم تقل عن 50 صاروخاً، وفي إحدى المرات أطلقت كتائب القسام 130 صاروخاً في 90 ثانية، مما جعل اعتراضها صعباً، أو أن المقاومة نجحت بتضليل القبة الحديدية بإطلاق قذائف “تمويهية” في السماء لتلاحقها صواريخ القبة، التي تفرغ حمولتها من الصواريخ الدفاعية، مما يدفع المقاومة لإطلاق الصواريخ “الحقيقية”، وهنا تكون مخازنها فارغة أو شبه فارغة.[18]

3. الانتقادات القاسية الموجهة لقيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، التي بدت “مكشوفة” بصورة لافتة، وأمام ساحة واحدة تعد أقل الساحات تأثيراً من الناحية العسكرية، وهي غزة، فكيف سيكون الحال إذا اندلعت حرب مع ساحات أكثر إيلاماً وأشد فتكاً، مثل إيران وحزب الله، مع صدور اعتراف أحدث “هزة أرضية” لدى الإسرائيليين، من قائد الجبهة الداخلية أوري جوردون Uri Gordon الذي أكد أن “ما تعرضنا له من صواريخ غزة غير مسبوق، لم تستعد له الجبهة الداخلية بالصورة الكافية”.[19]

4. ظهور تضارب في الرواية الإعلامية للمواجهة، لا سيّما داخل المؤسسة العسكرية، بين المتحدث باسم الجيش باللغة الإنجليزية يوناثان كونريكوس Jonathan Conricus، الذي أعلن مساء 13 أيار/ مايو عن انطلاق العملية البرية ضد غزة، وخروج “تكذيب” له من الناطق باسمه باللغة العبرية هايدي زيلبرمان Heidi Zilberman، بالرغم من أنه بدا وكأنَّه “حيلة” مدبرة للإيقاع بالمقاومة، واستدراج مقاتليها.[20]

مع العلم أن هذا الإرباك شكل لاحقاً أحد منطلقات خيبة الأمل الإسرائيلية من عدم نجاح تنفيذ ما أسماه الجيش بخطة تدمير “مترو حماس”، قاصداً بذلك شبكة الأنفاق الأرضية على حدود غزة الشرقية والشمالية.[21]

5. مع تنامي الضغوط الدولية، لا سيّما الأمريكية، على “إسرائيل” لوقف عدوانها على غزة، كان نتنياهو يطلب المزيد والمزيد من الوقت، وقد تبدى لاحقاً أن طلب هذه الإضافات الزمنية إنما كانت بإيعاز من قيادة الجيش الذي انتظر أن يلوح له صيدٌ ثمينٌ في غزة يَطوي به صفحة العدوان، من خلال تحصيله لما يسمى “صورة انتصار”، لكنه لم يظفر بها، وكانت النتيجة توتراً مبكراً مع إدارة جو بايدن Joe Biden، دون أن تحصل “إسرائيل” على ثمن عسكري ميداني يوازي هذا التوتر السياسي.

6. في الوقت الذي اختارت فيه معظم القوى السياسية الإسرائيلية التزام الصمت خلال العدوان، لكنها فور أن تم إعلان وقف إطلاق النار، بدأت تخرج انتقاداتها لأداء الحكومة والجيش بسبب العجز الذي ظهر منهما خلال مواجهة المقاومة في غزة، متهمين إياهما بالضعف، وغياب العمل، والتسبب بحرج قومي.

وتحدّث ساسة إسرائيليون أن “حرب غزة كشفت أن عملية صناعة القرار الإسرائيلي ملتوية، وتمليها اعتبارات شخصية وحزبية، إلى الدرجة التي باتت فيها مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية في أدنى نقطة في تاريخ الدولة، بدليل أن هذه الحركات رفعت رأسها في هذه المواجهة، مقابل حالة الانقسام الداخلي والهدم الذاتي للإسرائيليين أنفسهم، مما تسبب بإضعافهم”.[22]

7. ظهر واضحاً أن الاحتلال بدأ عدوانه الأخير على غزة في 2021 بما انتهى به عدوان 2014، من خلال المباشرة بقصف وتدمير الأبراج السكنية لإخافة الفلسطينيين، وإيجاد شقوق بموقفهم الداعم للمقاومة، لكن إعلان الأخيرة عن معادلتها الجديدة “القصف بالقصف، والمبنى بالمبنى”، أسفر عنها توقف تام من الاحتلال عن الاستمرار بالسياسة ذاتها.[23]

8. شهدت الحرب صدور تهديدات إسرائيلية بأن العدوان قد يمتد لتنفيذ عملية برية ضد المقاومة، سواء في أعماق غزة أم على أطرافها، دون ترجمة هذا التهديد لواقع ميداني على الأرض عقب ردّ المقاومة بتهديد مماثل بأنها تستعد لمثل هذه العملية بسيناريوهات قاسية على جيش الاحتلال.

ومع مرور الوقت لم تتقدم قوات الاحتلال أمتاراً معدودة باتجاه قطاع غزة على الرغم من كثافة الضربات الجوية والمدفعية، وسط تحذيرات صدرت من أوساط سياسية وعسكرية في تل أبيب من التورط فيما أسمته “المستنقع الغزاوي”، لأن المقاومة لديها من الخطط العسكرية الكفيلة بتحويل جنود الاحتلال في شوارع غزة من “صيادين إلى مصطادين”، ويسقطون برصاص المقاومين في معارك يثبتون فيها أن لديهم قدرات عسكرية متفوقة، وستكون العبارة الأكثر تداولاً للجنود المتوغلين برياً “انظر، تحت قدمك توجد حفرة”.[24]

9. بذلت المخابرات الإسرائيلية خلال أيام العدوان جهوداً حثيثة للوصول إلى شبكة اتصالات المقاومة، لعلها تظفر بمعلومة هنا أو طرف خيط هناك، دون جدوى، مما جعلها تقصف العديد من المواقع مرتين وثلاثة، في ضوء “شح” ما تسميه “بنك الأهداف”، وعدم تحديثه، ولعل سبب الإخفاق الإسرائيلي هذا يعود إلى أن المقاومة تحوز على شبكة اتصالات مغلقة جداً من الناحية التكنولوجية، تُمكّن المقاتلين من إجراء اتصالات دون مشاكل، ولا يمكن للاحتلال اختراق محادثاتهم، مما أسهم بخفض نسبة الخسائر في الأرواح بين المقاومين.[25]

رابعاً: الانتكاسات الديبلوماسية:

على الرغم من حيازة الاحتلال لإمكانيات تقنية وتكنولوجية هائلة، يستخدمها في أوقات الحروب التي يشنها على الفلسطينيين بين حين وآخر، من أجل تبريرها وشرعنتها، لكنه هذه المرة أخفق في تحقيق مشروعية عدوانه على غزة، بدليل خروج مظاهرات واحتجاجات حول العالم تندد بالعدوان، وتطالب بوقفه، وتعلن عن تضامنها مع الفلسطينيين الذين يواجهون أعتى قوة حربية فتاكة.

وبدا واضحاً أن آلة الدعاية الإسرائيلية أخفقت في تقديم رواية مقنعة للمجتمع الدولي في مصداقية مواجهتها للمقاومة، لا سيّما عقب الصور التي خرجت من غزة للضحايا المدنيين، والمجازر والمذابح التي ارتكبها طيران الاحتلال في إبادة عائلات بأكملها، بالإضافة إلى استهداف الأبراج السكنية التي ضمت مقرات إعلامية وتلفزيونية، من بينها قناة الجزيرة، وقد فهم من ذلك أن الاحتلال يسعى لتغييب الصورة الصادرة من غزة.[26]

وبقدر الجهد الحثيث الذي بذلته الديبلوماسية الرقمية الإسرائيلية في عواصم صنع القرار الدولي، لكنها أخفقت في ترويج روايتها، لا سيّما مع خروج شهادات فلسطينية من قلب غزة عن استهداف المدنيين، وعدم دقة ما ينشره جيش الاحتلال عن استهداف مواقع عسكرية للمقاومة.

لعل سوء الحظ الإسرائيلي أن العدوان على غزة اندلع بعد أفول عهد دونالد ترامب Donald Trump، الرئيس الأمريكي السابق، الذي منح الغطاء السياسي والديبلوماسي للاحتلال في كل المجالات، بل وقع العدوان في الأشهر الأولى للرئيس جو بايدن، الذي شهدت علاقته بنتنياهو فتوراً لم تخطئه العين، مما أعاق تنفيذ المخطط العدواني بالشكل الذي ترغبه “إسرائيل” من جهة، بالرغم من استمرار الولايات المتحدة توفير الغطاء السياسي للعدوان. ومن جهة ثانية، فإن المواقف الدولية الأخرى بدت أكثر وضوحاً في المطالبة بوقف العدوان عدة مرات.

ولذلك شهدت مختلف عواصم القرار الغربي مظاهرات واعتصامات تندد بالعدوان، وتتضامن مع غزة، وقد تجاوز ذلك المستويات الشعبية والجماهيرية إلى الأوساط الرسمية والديبلوماسية، وصل ذروته في قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتشكيل لجنة تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، مما شكل انتكاسة ديبلوماسية إسرائيلية أربكت حساباتها العسكرية.[27]

على الصعيد العربي، جاءت المواقف العربية الرسمية في أدنى مستوياتها، واقتصرت على المطالبات الروتينية بوقف العدوان في غزة، والانتهاكات في القدس والأقصى، مع خروج مسيرات جماهيرية عربية لم تشهدها الحدود العربية الفلسطينية منذ سنوات طويلة، خصوصاً مع لبنان والأردن، ومظاهرات شهدتها العديد من العواصم العربية.

في الوقت ذاته، ترقبت “إسرائيل” معرفة تبعات عدوانها على غزة على العلاقة مع دول التطبيع، وخشيتها من أن تؤثر سلباً على هذه المسيرة، التي اتضح أنها لم تتأثر كثيراً، باستثناء “انزعاج” من تصويت السودان والبحرين المؤيد لقرار تشكيل لجنة التحقيق الدولية.[28]

وعلى ما يبدو، ففي مرحلة ما بعد حرب غزة، ليست هناك مؤشرات على استئناف مسيرة التطبيع العربية الإسرائيلية مع دول أخرى، سواء بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي الإسرائيلي الداخلي، وإمكانية غياب نتنياهو عن المشهد الحكومي باعتباره “عراب” التطبيع، أم عدم تشجع أمريكي لانطلاق مرحلة جديدة من التطبيع في ظلّ عدم حميمية العلاقات مع تل أبيب، أم بسبب استمرار حالة التأثر العربي الشعبية بنتائج حرب غزة.

خامساً: انعكاسات الحرب على الواقع الحزبي الإسرائيلي:

لم يتم العدوان الإسرائيلي على غزة بمعزل عن التطورات الحزبية الداخلية، واستفحال الأزمة الحكومية المستعصية منذ ما يزيد عن العامين، واقتراب طيّ صفحة نتنياهو بعد أن فشل في تشكيل الحكومة، وقد أشارت العديد من الأوساط الإسرائيلية أنه عازم على افتعال مواجهة خارجية من أجل لفت الأنظار عن الأزمة الداخلية من جهة، وإجبار خصومه على التوقف عن جهودهم لتشكيل حكومة بديلة.

وقد أثار معارضو نتنياهو شكوكاً حول أن التوتر مع الفلسطينيين يهدف لتعطيل الجهود لتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، حتى وصل الاشتعال “المتعمد” في القدس ليهدد بتعطيل خطط لابيد – بينيت، أو على الأقل تأجيل جداولهم الزمنية، لكن مخططات نتنياهو لم تنجح، واستطاع هذا الثنائي أن يتجاوزا كثيراً من العقبات للإطاحة به.

ومع مرور الوقت، ظهر لافتاً قدرة خصوم نتنياهو من معسكر التغيير، على تجاوز خلافاتهم وتبايناتهم، والإعلان عن تشكيل حكومتهم الجديدة “الضيقة” كي تكون بديلاً عن نتنياهو، الذي قضى ما يزيد عن 12 عاماً متواصلة في مقر رئاسة الحكومة، بالإضافة إلى ثلاثة أعوام سابقة في الفترة 1996-1999.

وبدا من الطبيعي أن تتوحد المواقف الإسرائيلية في بداية العدوان ضد غزة، لا سيّما مع اشتداد بأس المقاومة، واستهدافها لدولة الاحتلال في معظم أنحائها، مما أثار لدى الإسرائيليين حالة من التحشيد الداخلي، لكن هذه الحالة سرعان ما تبخرت مع أول ساعات وقف إطلاق النار فجر الحادي والعشرين من أيار/ مايو، وباتت تصدر الانتقادات الحزبية للحكومة والجيش بأن ما حصل هو هزيمة نكراء، وانتصار للفلسطينيين.[29]

فقد أعلن عضو الكنيست جدعون ساعر Gideon Sa’ar، زعيم حزب “أمل جديد”، أن “وقف القتال في غزة بشكل أحادي الجانب يُعتبر ضربة قوية للردع الإسرائيلي، لأنّ وقف النشاط العسكري في غزة بدون فرض قيود على تعزيز قوة وتسلح حماس، سيكون فشلًا سياسياً، سندفع ثمنه غالياً”.

أما أفيجدور ليبرمان Avigdor Lieberman زعيم حزب “إسرائيل بيتنا Yisrael Beitenu” فقد “تساءل عن مصير وقف إطلاق النار في غزة، بينما توافق الحكومة الإسرائيلية على استمرار تحويل المنح المالية القطرية إلى الفلسطينيين في القطاع”.

وعدَّت أيليت شاكيد Ayelet Shaked أحد قادة معسكر اليمين، ووزيرة القضاء السابقة أن “أي قرار بوقف إطلاق النار لا بدّ أن يشمل إعادة الجنود الأسرى لدى حماس في غزة”.

ميري ريغف Miri Regev وزيرة الثقافة الليكودية القريبة من نتنياهو، هاجمت الجيش في مجلس الوزراء، وسألت رئيس الأركان أفيف كوخافي Aviv Kochavi عدة مرات لماذا لم يواصلوا العملية، بزعم “أن 70% من الإسرائيليين أرادوا أن نواصلها”.

وتحدثت أوساط عسكرية إسرائيلية أن خلافات نشبت عقب وقف إطلاق النار بين قادة الجيش والمستوى السياسي، فـكوخافي رفض تحمل فشل العدوان في حال استمر، لكن نتنياهو بذل جهداً كبيراً للادعاء بأن الجيش يضغط لوقف العدوان.[30]

مع العلم أن تأثير الحرب في غزة، ومسبباتها الخاصة بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، ما زالت ماثلة لدى الدوائر الحزبية والسياسية الإسرائيلية، بل والمجتمعية منها، على اعتبار أنها ستترك تبعاتها على اتجاهات التعامل مع القدس والأقصى، في ضوء التباين الذي كشفت عنه بين مختلف دوائر صنع القرار.[31]

ففي حين أن نتنياهو والليكود لم يخفيا إلى حدّ كبير دعمهما لتوجهات اليمين الديني بتنفيذ مخططاته التهويدية باتجاه الأقصى خدمة لمصالح وأجندات حزبية وشخصية، فإن هذا التوجه ليس هو السائد لدى باقي مكونات الحلبة السياسية الإسرائيلية. فالحزب الثاني الأكبر “يوجد مستقبل” برئاسة لابيد لا يدعم هذه التوجهات من الأساس، فهو علماني أصلاً، ولديه خلافات كبيرة مع معسكر المتدينين، في حين أن حزب يمينا بزعامة بينيت، رئيس الحكومة المتوقع أن يدعم تلك التوجهات، فلديه خلاف قائم اليوم مع المتدينين لأنه أطاح بنتنياهو، وتحالف مع خصومه، أما حزب أزرق-أبيض Blue and White (كاحول لافان Kaḥol Lavan) برئاسة بني جانتس Benny Gantz، فليس متحمساً لهذه التوجهات، لا سيّما بالنظر لمحاولاته الواضحة في الحصول على التوافق الأمريكي الرافض لأي تغييرات في القدس والأقصى وحي الشيخ جراح، أما أحزاب العمل Labor Party وميرتس Meretz والقائمة العربية فيرفضون جملة وتفصيلاً المخططات التهويدية في الأقصى.

هذا لا يعني ألا يعود المستوطنون من جديد لأعمال الاستفزازات داخل ساحات الأقصى، أو التعرض لسكان حي الشيخ جراح، لكنهم قد يفتقرون لغطاء حكومي كما كان الحال في عهد نتنياهو، بالإضافة إلى وجود معارضة جدية من الدوائر الأمنية خصوصاً جهاز الأمن العام (الشاباك) لمثل هذه الاستفزازات، لأن من شأنها إشعال صراع “ديني” بين الفلسطينيين واليهود، وهو ما يسعون إلى تَجنُّبهِ. وكذلك، فإن الجيش لديه مخططات عسكرية تتعلق باستخلاص الدروس والعبر من حرب غزة، والانتباه لجبهات أخرى قد تكون أكثر خطورة، مما يجعل من صالحه تسكين الجبهة الفلسطينية، وكبح جماح أسبابها.

هناك مستجد إسرائيلي قد يلوح في الأفق يتعلق بإمكانية فشل الحكومة التي قد ترى النور في أي لحظة، برئاسة لابيد – بينيت، وهو خيار يبدو وارداً جداً، مما سيجعل “إسرائيل” على مقربة من انتخابات مبكرة خامسة، وفي هذه الحالة ستظهر المزاودات الحزبية على أشدها، وقد يكون أكثر المستفيدين منها هم المستوطنون المتدينون، الذين قد يكثفون اقتحاماتهم للأقصى، ومضايقاتهم للمقدسيين، خصوصاً في حي الشيخ جراح، وباقي الأحياء العربية.

في السياق ذاته، فقد فرضت الحرب على غزة واقعاً جديداً داخل دولة الاحتلال، تَمثَّل بالهبة الجماهيرية والانتفاضة الشعبية التي فجرها فلسطينيو 48، بصورة أظهرت فشل السياسة الإسرائيلية التي امتدت سبعة عقود من محاولات “الأسرلة والصهينة والتهويد” لأجيال متعاقبة منهم، وقد تبدى ذلك من خلال انخراط الشبان والفتيان الصاعدين في المظاهرات الاحتجاجية التي عمت مدن اللد، والرملة، وعكا، وحيفا، والمثلث، والجليل، والناصرة، واستخدمت أساليب خشنة في محاكاة واضحة للانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، وتمثلت بإغلاق الطرق، وإشعال إطارات السيارات، وإلقاء الحجارة على دوريات الاحتلال.

ربما لم تبالغ الأوساط الإسرائيلية حين زعمت أن أحد أسباب وقف العدوان على غزة هو وقف الأحداث الداخلية، وكبح جماح مظاهرات فلسطينيي 48، لأنها شكلت وفق تصريح نتنياهو “تهديداً وجودياً”،[32] وهناك رأي آخر بأنها “لا تقل خطورة عن صواريخ حماس”، بينما عبَّر موقف ثالث بأنها “تشكل بوادر حرب أهلية”.[33]

وقد بدا واضحاً أن السياسة الإسرائيلية المقبلة تجاه فلسطينيي 48 ستتخذ أشكالاً جديدة لعل أهمها تغليظ القبضة الحديدية، وتعميم السلوك الأمني، وقد تجلى ذلك بعد انتهاء عدوان غزة على الفور حين شنت حملات اعتقالات جماعية بحقهم تجاوزت 1,500 معتقلاً، وإصدار قرارات الإقامات الجبرية، والاستدعاءات الأمنية، وفرض الغرامات الباهظة، كل ذلك بغرض تخويفهم، ومنعهم من الانضمام في مرات قادمة لأحداث تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة.

مع العلم أن أحد الإنجازات التي حققتها المقاومة في العدوان الأخير، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، قدرتها على تحشيد مكونات الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم، وهذه المرة شكل فلسطينيو 48 مفاجأة المواجهة، لأن انخراطهم فيها جاء على غير العادة، ولم يكن مقتصراً على مظاهرة أو اعتصام لعدة ساعات كما جرت العادة في مواجهات وعدوانات إسرائيلية سابقة على غزة.

سادساً: سيناريوهات السلوك الإسرائيلي تجاه غزة:

عقب وقف إطلاق النار بين المقاومة والاحتلال الذي أصبح ساري المفعول فجر 21/5/2021، تظهر هناك جملة سيناريوهات محتملة لواقع السلوك الإسرائيلي المحتمل تجاه المقاومة في القطاع، ومن أهمها:

1. تتزايد التقديرات الفلسطينية والإسرائيلية، بل والإقليمية والدولية، بأن وقف إطلاق النار القائم في غزة حالياً يبدو هشاً، وقد لا يصمد أمام أي اختبار، في ضوء غموض طبيعة الاتفاق الذي توصل إليه الجانبان لوقف المواجهة. إذ إن هناك من يقول أنه تمّ بالتزامن بينهما، ومن يقول أنه تمّ من طرف واحد؛ كما يتحدث البعض أنه ربما كانت هناك شروط متفق عليها بينهما لم يتم الإعلان عنها.

2. تبدو الأجواء في قطاع غزة، وبعد أيام من وقف العدوان، أنها تشهد هدوءاً حذراً، مع صدور جملة تهديدات إسرائيلية بشأن إهدار دماء عدد من كبار قادة حماس العسكريين، مما يعني أنه في حال لاح “صيد ثمين” لسلاح الجو الإسرائيلي من هؤلاء، فقد لا يتردد في اغتيالهم، مما يعني العودة مجدداً إلى دائرة المواجهة المسلحة.

3. احتمالية أن يصمد وقف إطلاق النار إلى فترة زمنية محدودة، وإلى أجل مسمى، على اعتبار أن الجانبين، المقاومة والاحتلال بحاجة إلى هذا الهدوء، فالمقاومة تسعى لإعادة إعمار ما هدمته آلة الحرب الإسرائيلية في غزة، والاحتلال قد يتحضر لإجراء انتخابات خامسة في حال فشل الفرقاء في تشكيل حكومة مستقرة طال أمدها.

4. تتحدث محافل إقليمية ودولية أن المباحثات غير المباشرة بين المقاومة والاحتلال، قد تصل إلى حدّ إبرام تهدئة طويلة الأمد، على غرار هدنة تستمر خمس سنوات، يتخللها إنجاز صفقة تبادل أسرى، مما يمنح قطاع غزة هدوءاً يستغرق سنوات طويلة قادمة.

5. البقاء في الدائرة ذاتها القائمة من الهدوء النسبي والجولة الخاطفة، كما جرت العادة منذ سنوات طويلة في غزة، مما يبقي المقاومة والاحتلال معاً في حالة من الاستنزاف المتبادل، وهذا يعطي وصفة واضحة لبدء العد التنازلي للمواجهة العسكرية المقبلة.

الحقيقة أن هناك العديد من العوامل التي قد تدفع باتجاه واحد من السيناريوهات الواردة أعلاه، وفي الوقت ذاته تتوفر جملة من الكوابح التي قد تتسبب بعدم نجاح أي منها، وبالتالي فإن الوضع القائم في غزة لا يحمل كثيراً من الثبات والاستقرار بسبب تداخل مصالح اللاعبين الكثر في الساحة الفلسطينية، وتضاربها في الكثير من الأحيان.

لكن وجود حماس كحركة تقود قوى المقاومة، وخرجت من هذه الجولة ولديها شعور بالانتصار، قد تكون معنية أكثر من سواها بتثبيت حالة الهدوء إلى فترة زمنية تمنح الفلسطينيين في القطاع استراحة محارب، وتفسح المجال لمشاريع إعادة الإعمار، ومن جهة ثالثة توفر القدرة على إعادة ترميم قدراتها العسكرية التي استهدفها جيش الاحتلال خلال العدوان.

كما أن دولة الاحتلال التي تعاني من حالة عدم الاستقرار الحكومي، والاستقطاب الحزبي، الذي أدى إلى عدم وجود حكومة مستقرة منذ عامين، قد يدفع دوائر صنع القرار فيها للتوافق على استمرار الهدوء في غزة، سواء بسبب تنامي التهديدات القادمة من جبهات أخرى، التي تبدو أكثر حرجاً وخطراً من غزة، أم لعدم التأثير سلباً على مستقبل علاقاتها التطبيعية مع الدول العربية، والأهم رغبتها بامتصاص غضب الفلسطينيين في الضفة الغربية وفلسطينيي الداخل، بعد انخراطهم في الهبة الشعبية الأخيرة، ويبقى ذلك مرهوناً بتشكيل حكومة جديدة.

خاتمة:

لقد شكلت معركة سيف القدس والعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة استمراراً لمواجهات سابقة شهدها القطاع في الأعوام 2008، و2012، و2014، على الرغم من أن المواجهة الأخيرة حملت دلالات كبيرة قد لا تقل خطورة وأهمية عن سابقاتها، إن لم تكن تفوقت عليها في الدافع الحقيقي نحو هذه المواجهة وهو الدفاع عن القدس.

وشهدت المعركة التي رافقها العدوان الإسرائيلي في أيامه الـ 11 ربطاً فلسطينياً بين المكونات الجغرافية لانتشار الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، مما أفشل المخططات الإسرائيلية التي عملت لسنوات وعقود على تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، وتفتيت المفتت.

كما شكلت هذه الحرب انكشافاً للجبهة الداخلية الإسرائيلية أمام جبهة غزة، التي تعد متواضعة في قدراتها العسكرية أمام جبهات أخرى أكثر قوة وأشد فتكاً، مما طرح تساؤلات كبيرة على صناع القرار الإسرائيلي عن طبيعة الاستعدادات التي تجريها المؤسسة العسكرية طوال العام، وفي لحظة الاختبار الحقيقي جاءت النتائج مدوية، مما أثار جملة انتقادات واتهامات متبادلة بين الإسرائيليين حول المتسبب بهذه الانتكاسة مثلثة الأضلاع: سياسياً، وأمنياً، وعسكرياً.


[1] أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة، قطاع غزة، فلسطين. حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ السياسي من جامعة دمشق. متخصص في الدراسات الإسرائيلية. نشر عدداً من الكتب حول السياسة الفلسطينية المعاصرة والصراع العربي الإسرائيلي. يعمل باحثاً ومترجماً لدى عدد من المراكز البحثية العربية والغربية. ويكتب بصفة دورية في عدد من الصحف والمجلات العربية.
[2] غال بيرغر، حارس الأسوار يواجه سيف القدس، هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني (كان)، 11/5/2021، انظر: https://www.kan.org.il/Item/?itemId=105569 (باللغة العبرية)
[3] عاموس يادلين، المشكلة الإسرائيلية في القدس عادت من جديد، موقع القناة 12، 10/5/2021، انظر:https://www.mako.co.il/news-columns/2021_q2/Article-0f01c6f2e115971027.htm?partner=lobby (باللغة العبرية)
[4] إيهود أولمرت، الفلسطينيون ليسوا هم السبب الرئيسي في أحداث العنف في القدس، موقع صحيفة معاريف، 30/4/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/journalists/Article-837329 (باللغة العبرية)
[5] جاكي خوجي، إسرائيل ستدفع ثمناً باهظاً على معارضتها إجراء الانتخابات الفلسطينية، معاريف، 23/4/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/journalists/Article-835632 (باللغة العبرية)
[6] شمريت مائير، إسرائيل تضبط نفسها، وتتراجع، موقع يديعوت أحرونوت، 11/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/H1qTO6vdd (باللغة العبرية)
[7] موشيه نوسباوم، قرار الشرطة بإغلاق المسجد الأقصى أمام المستوطنين، القناة 12، 13/5/2021، انظر: https://www.mako.co.il/news-columns/2021_q2/Article-d53a6ee7c565971026.htm?partner=lobby (باللغة العبرية)
[8] أليشع بن كيمون، مخاوف أن تتسبب حرب غزة بإشعال الضفة الغربية، يديعوت أحرونوت، 17/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/HyzZWjR00O#autoplay (باللغة العبرية)
[9] عامي روحكس دومبا، القدس تحترق، لكن من أشعلها؟، مجلة يسرائيل ديفينس، 10/5/2021، انظر: https://www.israeldefense.co.il/node/49791 (باللغة العبرية)
[10] يوآف ليمور، يجب إضعاف حماس عسكرياً وسياسياً، موقع إسرائيل اليوم، 22/5/2021، انظر: https://www.israelhayom.co.il/magazine/hashavua/article/929566 (باللغة العبرية)
[11] عميره هاس، حماس دخلت نادي الكبار، موقع صحيفة هآرتس، 18/5/2021، انظر: https://www.haaretz.co.il/opinions/.premium-1.9815798 (باللغة العبرية)
[12] نفتالي بينت، حكومة التغيير لم تعد على الأجندة، موقع والا، 15/5/2021، انظر: https://news.walla.co.il/item/3435510 (باللغة العبرية)
[13] داني زاكين، ما الذي دفع حماس لإنشاء محور غزة – رام الله – القدس، مجلة غلوبس، 11/5/2021، انظر: https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001370624 (باللغة العبرية)
[14] ميراف أرلوزوروف، المدن المختلطة تدمي من الاشتباكات بين العرب واليهود، صحيفة ذي ماركر، 20/5/2021، انظر:https://www.themarker.com/opinion/.premium.HIGHLIGHT-1.9823976
[15] ران أدليست، مطلوب تشكيل لجنة تحقيق في أخطاء حرب غزة، معاريف، 29/5/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/journalists/Article-843379 (باللغة العبرية)
[16] آفي يسسخاروف، حماس تسيطر على الحريق في المنطقة، موقع والا، 9/5/2021، انظر: https://news.walla.co.il/item/3434202 (باللغة العبرية)
[17] نير دفوري، مئات الصواريخ تسقط على إسرائيل، وما زالت تضبط نفسها، القناة 12، 12/5/2021، انظر: https://www.mako.co.il/news-columns/2021_q2/Article-c607353d4e95971027.htm?partner=lobby (باللغة العبرية)
[18] نيتسان سدان، كيف أخطأت القبة الحديدية أمام صواريخ حماس، مجلة كالكاليست، 15/5/2021، انظر: https://www.calcalist.co.il/internet/articles/0,7340,L-3907646,00.html (باللغة العبرية)
[19] أوري جوردون، صواريخ غزة هي الأكثر التي تعرضنا لها من قبل، موقع والا، 17/5/2021، انظر: https://news.walla.co.il/item/3436012 (باللغة العبرية)
[20] الناطق العسكري الإسرائيلي، ربما أخطأنا في الترجمة للإنجليزية، هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني (كان)، 14/5/2021، انظر: https://www.kan.org.il/item/?itemid=105713 (باللغة العبرية)
[21] تال ليف رام، عملية تدمير “مترو حماس” لم تحقق أهدافها، معاريف، 14/5/2021، انظر: https://www.maariv.co.il/news/military/Article-840816 (باللغة العبرية)
[22] نفتالي بينت يشن هجوماً على ضعف حكومة نتنياهو خلال حرب غزة، صفحة نفتالي بينت على موقع تويتر، 23 /5/2021، انظر: https://t.me/naftalibennett1/1059 (باللغة العبرية)
[23] أمير بوخبوط، الجيش يسعى لتحقيق مزيد من الإنجازات قبيل وقف إطلاق النار، موقع والا، 18/5/2021، انظر: https://news.walla.co.il/item/3436038 (باللغة العبرية)
[24] أليئور ليفي، تأثير غزة: آن أوان الخروج من العملية، يديعوت أحرونوت، 16/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/BJ62MDROd#autoplay (باللغة العبرية)
[25] رون بن يشاي، الإنجازات والإخفاقات للجيش الإسرائيلي في غزة، يديعوت أحرونوت، 20/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/B11Np44YO#autoplay (باللغة العبرية)
[26] عراد نير، ساعة الشرعية الدولية لإسرائيل آخذة في النفاذ، القناة 12، 17/5/2021، انظر: https://www.mako.co.il/news-columns/2021_q2/Article-273a5f436057971027.htm?partner=lobby (باللغة العبرية)
[27] نحمان شاي، مشاهدة التلفاز من نيويورك عن أحداث القدس، يديعوت أحرونوت، 15/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/rJdKA7Cd00#autoplay (باللغة العبرية)
[28] إيتمار آيخنر، احتجاج إسرائيلي على السودان والبحرين، يديعوت أحرونوت، 1/6/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/BknYbvM5O#autoplay (باللغة العبرية)
[29] تال شاليف، غبار المعركة انقشع، وبدأت التصفيات السياسية، موقع والا، 21/5/2021، انظر: https://news.walla.co.il/item/3436947 (باللغة العبرية)
[30] عومر دستروي، حماس تحقق إنجازات أكثر مما ينبغي، يديعوت أحرونوت، 12/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/S1MFhjt00O (باللغة العبرية)
[31] نداف إيال، غياب الإجماع الإسرائيلي حول غزة، يديعوت أحرونوت، 11/5/2021، انظر: https://www.ynet.co.il/news/article/SkrYI3Pd00#autoplay (باللغة العبرية)
[32] تالي حوريت-سوفير، انفجار المدن المختلطة كان متوقعاً، ذي ماركر، 13/5/2021، انظر: https://www.themarker.com/news/.premium-1.9803974 (باللغة العبرية)
[33] ريكي شيفرنسكي، الحرب الأهلية في الطريق، هآرتس، 12/5/2021، انظر: https://www.haaretz.co.il/blogs/rikkisprinzak/BLOG-1.9797350 (باللغة العبرية)


للاطلاع على ورقة العمل بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: قراءة إسرائيلية في معركة سيف القدس والعدوان على غزة: الأسباب والنتائج والسيناريوهات … د. عدنان أبو عامر (25 صفحة، 6.5 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 10/6/2021



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من الأوراق