مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

هناك بعض الباحثين والمعنيين بالشأن الفلسطيني ممن يجادلون بأن حماس صعدت واستمدت قوتها، عندما كانت على تفاهم وتنسيق مع فتح، وعندما كانت متناغمة مع البيئة السياسية الفلسطينية “الرسمية” الحاكمة؛ مما أتاح لحماس فرصة أفضل للعمل المقاوم والانتشار في الوسط الفلسطيني.

والحقيقة أن هذه الفرضية غير صحيحة؛ إذ إن جوهر صعود حماس الشعبي والعسكري المقاوم، والقفزات النوعية التي حققتها، كان عندما كانت حماس تسير عكس التيار، وعندما كانت خارج المنظومة الرسمية، التي تقودها فتح؛ وعندما كانت حماس متحررة منها ومن قيودها وضوابطها ومعاييرها. ذلك أن حماس كانت تسعى إلى تطبيق نموذجها الإسلامي، وترفض مسار التسوية الذي بدأت منظمة التحرير وفتح بتبنِّيه، وترفض خفض سقفها المقاوم تحت بيئات وشروط الآخرين.

ولهذا، رضيت حماس بأن تدفع الأثمان الباهظة للسير عكس التيار الفلسطيني “المتنفذ”، وعكس البيئات العربية والدولية. ولم تكن تبالي كثيراً إن كان هذا يخالف منظومات تلك البيئات أو يُفشل عملها. كما أنها لم تتكيف ولم تسْعَ للتكيّف إلا ضمن شروطها، وبما يخدم بشكل واضح برنامجها. مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت في الوقت نفسه، تتمتع بدينامية عالية، وبقدر عالٍ من المرونة والانفتاح والثقة بالنفس، بما يجعلها مستعدة للحوار والوصول إلى قواسم عمل مشتركة، وإلى تخفيف الضرر، وإلى السعي لجر “الآخر” باتجاه معاييرها.

هذه المرحلة من الصعود هي التي تميزت بها الفترة من 1987 وحتى 2005. ولذلك عندما دخلت حماس في المنظومة سنة 2006، كان دخولها صادماً للمنظومة السياسية الرسمية الفلسطينية، بل ومفاجئاً لحماس نفسها إلى حدّ ما، لأنه كان دخولاً مباشراً من خارج المنظومة إلى قيادة المنظومة، دون التدرج في ذلك؛ ومن منظومة سياسية تعارضها وتسعى إلى إسقاطها أو إسقاط منهجها إلى منظومة تقودها، دونما تغيير في هياكلها ولا في شروط عملها وأسسه.

وقد كان فوز حماس تتويجاً لمسار صعود شعبي وعسكري قطفت ثماره بنتائج الانتخابات. غير أنها بعد قليل من تذوقها “عُسيلة” الانتصار؛ عادت لتدفع فواتير كبيرة مرتبطة بتحديات الجمع بين السلطة والمقاومة، وخسارة الضفة الغربية، وحكم غزة تحت الحصار، في بيئة عمل منهجية من قيادة السلطة وفتح لتهميشها أو لإخراجها من “الشرعية” الفلسطينية، تكللت بحلِّ المجلس التشريعي في كانون الأول/ ديسمبر 2018.

ولسنا في هذا المقال بصدد دراسة “الشراكة المشاكسة” التي وجدت حماس نفسها بها منذ 2006 وحتى الآن؛ ومراوحتها بين محاولة تكييف المنظومة بناء على برنامج المقاومة، وبين محاولة المنظومة نفسها تكييف حماس بناء على شروط برنامج التسوية ومعاييره. غير أننا سنحاول تسليط الضوء على نقطة واحدة مرتبطة بـ”الصعود”.

* * *

في البداية، لم تسعَ جماعة الإخوان المسلمين، التي خرجت حماس من رحمها، أن تكون جزءاً من منظمة التحرير، حتى بعد أن أخذت تتمتع بثقل نوعي في الوسط الشعبي والطلابي والنقابي منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وظلت على نقدها القاسي المبدئي والسياسي للمنظمة.

وكان إطلاق “الانتفاضة المباركة” في كانون الأول/ ديسمبر 1987 الذي ترافق مع انطلاقة حركة حماس قفزة نوعية للعمل الإسلامي الفلسطيني. إذ وجدت حماس نفسها مباشرة في وضع شعبي منافس لفتح، أو على الأقل الفصيل الثاني بعد فتح في الساحة الفلسطينية. وتابعت حماس إدارتها لفعاليات الانتفاضة التي تدعو لها بطريقتها، وتمكنت من فرض برنامجها دون أن تكون جزءاً من “القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة”. ورفضت حماس المشاركة في المجلس الوطني التاسع عشر (الجزائر 12-15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988)، ورفضت ادعاءات عرفات بإدخال أربعة أعضاء باسمها في المجلس (من أصل 445 عضواً).

وقد تجاوزت حماس محاولات قاسية لتهميشها من قبل فتح وأنصارها، سواء بمحاولات التجاهل أو التشويه الإعلامي، أم بالهجمات المنظمة على أنصارها خصوصاً في قرى الضفة الغربية، أم في معاناة شبابها داخل سجون الاحتلال (وكانت الأقسى)، حيث لم تتوقف محاولات تطويعهم وكسر إرادتهم إلا بعد “اتفاق الشرف” في أيلول/ سبتمبر 1990.

وعندما دُعيت حماس للمشاركة في اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني العشرين، اعتذرت وقدمت شروطاً بسقوف عالية جداً، ليست مرتبطة فقط بالنسبة التي طالبت بها (40 في المئة إلى 50 في المئة)، وإنما أيضاً بإعادة النظر بمسارات وسياسات المنظمة نفسها، مما اعتبرته فتح “شروطاً تعجيزية”.

وعندما دخلت قيادة فتح والمنظمة في اتفاقيات أوسلو، قادت حماس تحالفاً فلسطينياً من عشرة فصائل ضدّ مسار التسوية السلمية؛ وتابعت عملها العسكري غير آبهة باتهامات قيادة المنظمة وفتح لها بالسعي لإفشال حلم إنشاء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فكانت عمليات المقاومة التي برز فيها رموز حماس، أمثال عماد عقل ويحيى عياش وعادل وعماد عوض الله ومحيي الدين الشريف.

واضطر “رعاة السلام” لعقد مؤتمر دولي لدعم مسيرة التسوية، بمشاركة الدول الكبرى وبالتعاون مع الدول العربية المطبِّعة، في نيسان/ أبريل 1996، بعد عمليات الانتقام لاستشهاد عياش. وقامت السلطة الفلسطينية بتوجيه ضربات قاسية لحماس في الضفة والقطاع، لم تترك فيها حجراً على حجر. غير أن حماس المثخنة بجراحها ظلت طوال التسعينيات، على مسارها العسكري والسياسي الذي اختطه، ولم تؤد اللقاءات مع قيادة فتح في اليمن 1990، والخرطوم 1991، وتونس 1992، والخرطوم 1993، والقاهرة 1995 إلى وصول فتح لما تريد؛ كما قاطعت حماس الانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية 1996.

من جهة أخرى، تعرضت قيادة حماس في الخارج لضغوط قاسية، فاعتقل رئيس مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق على مدى عامين في الولايات المتحدة (1995-1997)، وتعرض قائدها خالد مشعل الذي خلف أبو مرزوق لمحاولة اغتيال، كما أغلقت مكاتب الحركة وطُردت من الأردن 1999.

ومع فشل محادثات كامب ديفيد (تموز/ يوليو 2000)، ومع التصعيد الإسرائيلي باقتحام شارون للمسجد الأقصى (28 أيلول/ سبتمبر 2000) انطلقت انتفاضة الأقصى (2000-2005) لتشكل رافعة كبرى لحماس ولمسار المقاومة، الذي فرض نفسه فرضاً من جديد. كان نحو 400 شاب من أبناء الحركة الإسلامية (فلسطين المحتلة 1948) قد سبقوا ترتيبات اقتحام شارون للأقصى، حيث اعتكفوا هناك، ثم قادوا المواجهات الفلسطينية ضدّ الاقتحام، والتي فجَّرت الانتفاضة، واتّسعت بشكل هائل بعد استشهاد محمد الدرة في 30 أيلول/ سبتمبر 2000.

حاول عرفات وقيادة السلطة في البداية التعامل مع الانتفاضة في إطار تكتيكي لتحقيق مكاسب في مسار التسوية الذي كان ما يزال قائماً، ووصل إلى مداه بمشروع كلينتون في كانون الأول/ ديسمبر 2000. كما أعلن عرفات وقف الانتفاضة أكثر من مرة دون جدوى. أما حماس فتعاملت مع الانتفاضة في إطار استراتيجي، واستعادت عافيتها الشعبية والجهادية بسرعة، وتولّت ريادة العمل المسلح، وأخذت القسط الأكبر بين الفصائل في العمل العسكري وخصوصاً “العمليات الاستشهادية”. وضحّت في أثناء الانتفاضة بأبرز قياداتها، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب وجمال منصور وجمال سليم وصلاح شحادة.

نجحت حماس في جر فتح إلى مربع المقاومة المسلحة، وظهر لعرفات الذي وصل إلى طريق مسدود في مسار التسوية، وإثر قيام الصهاينة باحتلال مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية (مناطق أ)، وبعد تولي الليكود بقيادة شارون قيادة الحكومة الإسرائيلية، وفي ظروف الدعم الشعبي والعربي والإسلامي الواسع للانتفاضة مصحوباً بالتعاطف الدولي، أنه لا بد من الاستثمار بشكل أكبر في الانتفاضة، حيث دعم مسار المقاومة المسلحة، وهو ما انتهى بحصاره في مقره في رام الله، وتدبيره عملية اغتياله.

وخلال انتفاضة الأقصى، جرت حوارات بين فتح وحماس، خصوصاً في 2002 و2003، غير أن حماس ظلت مُصرَّة على إيجاد البيئة الحقيقية اللازمة لإصلاح البيت الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير، ولم توقف عملها الانتفاضي إلا مؤقتاً بعد إعلان القاهرة في 17 آذار/ مارس 2005، بناء على موافقة قيادة المنظمة وفتح على ذلك.

وهكذا، فإن حماس وصلت إلى أفضل حالاتها وأَلَقها مع ذروة تضحياتها، وهي خارج المنظومة السياسية “الرسمية”، وجاءت بعد ذلك لتقطف انتصاراً سياسياً سنة 2006 ثمرة لجهادها، ولتسعى من خلال الدخول للمنظومة إلى وقف أو تعطيل محاولة تصفيتها، التي كانت تتم في ذلك الوقت، وفق “خريطة الطريق”، وإلى إعادة بناء المنظمة بما يعيدها إلى مهمتها الأصلية في التحرير الكامل لفلسطين وإنهاء المشروع الصهيوني.. ولهذا “قصة” أخرى.

المصدر: موقع عربي 21، 2021/1/15


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: