مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

هو الذي صاغ البيان الأول لانطلاقة حركة فتح مطلع 1965، وهو الذي تولى مسؤولية طباعة مجلة “فلسطيننا” (الاسم الكامل نداء الحياة: فلسطيننا) في لبنان واستقبال مراسلاتها، وهي المجلة التي عرفت حركة فتح إلى العالم، ووَجَّهت الشتات الفلسطيني للانضمام إليها (1959-1964)، وله دوره الرئيس في تأسيس وتسهيل عمل حركة فتح في لبنان. وكان في الوقت نفسه، نائب رئيس جماعة عباد الرحمن، الوجه المعلن للإخوان المسلمين في لبنان في خمسينيات القرن العشرين.

إنه الأستاذ توفيق راشد حوري، (مواليد 1933) من مواليد بيروت، وابن عائلة بيروتية لبنانية عريقة. وقد سَعِد كاتب هذه السطور بزيارته لأغراض التوثيق التاريخي لقضية فلسطين مرتين، الأولى في بيروت، في4/1/2007؛ والثانية في منزله الصيفي في صوفر، 10/10/2018 (بحضور زوجته الفاضلة ليلى داعوق).

الإسلامي الوطني الناشط لفلسطين:

أنهى توفيق حوري البكالوريا (الثانوية العامة) مبكراً ثلاث سنوات وفق نظام يتيح له عمل اختبارها مع البريفيه (الشهادة الإعدادية / المتوسطة)؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت (إدارة أعمال) 1948- 1952. وأكمل في بريطانيا الماجستير 1952-1954. كان ناشطاً في جماعة عباد الرحمن ومن رواد العمل لفلسطين عندما كان طالباً في الجامعة، حيث نشط مع إخوانه في حملات الدعم وتوفير الغذاء والألبسة للاجئين الفلسطينيين، وتوفير احتياجاتهم؛ كما نشط في التعبئة الشعبية والتوعية الثقافية بالقضية الفلسطينية. وكان له دوره ضمن جماعة عباد الرحمن في الدعوة الإسلامية وسط فلسطينيي لبنان، وكان ممن نسقوا معه الشيخ فضل عباس في مخيم عين الحلوة.

كانت جماعة عباد الرحمن تمثل الوجه المعلن للإخوان المسلمين في لبنان في خمسينيات القرن العشرين، (انتقل هذا التمثيل لاحقاً إلى الجماعة الإسلامية التي كان مؤسسوها هم قادة عباد الرحمن في منطقة طرابلس). وكان توفيق حوري، نائب الأمين العام لجمعية عباد الرحمن منذ الخمسينيات، واستمر في منصبه فترة طويلة، وهو زوج ابنة عمر الداعوق الأمين العام لعباد الرحمن ومؤسسها. وفي الوقت نفسه، كانت لحوري صداقات قوية مع زعماء وشخصيات فلسطينية وعربية، في مقدمتهم مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني الذي أقام في بيروت في سنواته الأخيرة حتى وفاته سنة 1974.

مجلة نداء الحياة: فلسطيننا:

كان لقادة فتح المؤسسين، خصوصاً أبو جهاد خليل الوزير وأبو عمار ياسر عرفات، علاقة قوية بحوري. وفي سنة 1959، زاره أبو جهاد وأبو عمار، وسألاه عن إمكانية إصدار مجلة. وقد كان اختيار الوزير وعرفات له، بسبب خلفيته الإسلامية المعروفة (عباد الرحمن)، ولأنه كان ناشطاً في دعم فلسطين. فعرض عليهما أن يكون الأمر باسمه، ليكون هو في الواجهة ويتحمل المسؤولية. إذ لم يكن من السهل ولا المحتمل الحصول على ترخيص في تلك الفترة. ويتذكر حوري أن صعوبة أو استحالة إعطاء ترخيص لمجلة فلسطيننا كان صدمة بالنسبة لقادة فتح (عرفات وأبو جهاد)، وأنه عندما جلس معهما قال لهما إنه أصدر كتابه “طريقكم يا مسلمون” دون ترخيص، وبالتالي فليس هناك مانع (من الناحية العملية) أن يصدروا المجلة دون ترخيص. وقد صدرت المجلة بالفعل في أكتوبر 1959، واستمرت لخمس سنوات. ووضع حوري على عاتقه عبء المسؤوليات الناتجة عن نشرها، دون ترخيص رسمي لبناني، ولكن مع وجود العنوان عليها في لبنان، حيث تطوع حوري بوضع عنوانه واسمه للمراسلة. وقد نُظر إليها باعتبارها كسراً للحصار المفروض على الفلسطينيين في نشر رؤيتهم وفكرهم. وكانت المجلة تطبع في بيروت، وترسل للكويت حيث يتم التوزيع.

وبحسب شهادة أبي جهاد التاريخية، التي نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية تحت “عنوان حركة فتح: البدايات” في عددها 104، الصادر في خريف 2015، فقد حققت فتح قفزتين نوعيتين في بداياتها عبر “رايتين”، أولاها من خلال مجلة فلسطيننا، وثانيها من خلال مكتب الجزائر. ووفق أبي جهاد فقد “لعبت هذه المجلة دور الشمعة في ظلام النكبة، وكانت تتجه إليها عيون الحيارى فتسير عليها، وذلك حينما ارتفع صوت المجلة، ينادي من أجل كيان ثوري فلسطيني، يواجه ما كان ينادَى به في ذلك الوقت، من كيان سياسي برعاية الأنظمة العربية (….) وكان فرحنا عظيماً حين كنا نرى هذا الصدى الهائل العظيم لندائنا، هذا الصدى الهائل العظيم لرؤيتنا الفاعلة، فتصلنا الرسائل المتوالية تسأل وتستفسر كي تعرف لتشارك (…) وكنا نسارع إلى البدء بهذا الحوار، فما أسرع ما ينضوي هؤلاء الإخوة تحت راية “فتح”. وبسبب ذلك تماماً قلنا إن حركة ” فتح” شكلت نهراً تصبّ فيه، وتلتقي كل جداول العمل التنظيمي الثوري الحقيقي التي تعددت، فأصبح النهر زاخراً بالحياة والمياه، وأصبح نهر حركة “فتح” بكفاحها ونضالها العظيم الخلاق.” انتهى الاقتباس.

دعم لوجيستي وتدريب:

من جهة أخرى، قدم حوري دعماً لوجستياً مهماً لحركة فتح في بداياتها، عندما وفر لها غطاء للتدريب وتهريب السلاح، من خلال مزرعة لتفريخ السمك. وكانت هذه المزرعة مشروعاً تجارياً حقيقياً، معظم المشاركين فيه من غير اللبنانيين، وكان توفيق حوري يتولى إدارته، وقد بدأ حوالي 1960. حيث اشتُريت قطعة أرض في شمال لبنان في منطقة الشيخ زناد على البحر، قرب الحدود السورية بكيلومتر واحد، وعلى مساحة 362 دونماً. وقد استأذن رجال حركة فتح باستخدام أرض المزرعة، وأن يقيموا فيها معسكراً سرياً فوافق حوري، فأصبحت مكاناً للتدريب، كما كان يتم تهريب السلاح إليها عبر البحر، ومن داخل لبنان نفسها. وأحياناً استُخدمت زوجته ليلى الداعوق، دون علمها، لنقل السلاح لأرض المزرعة، في صندوق السيارة الخاصة التي تركبها ومعها طفلتها الصغيرة، وهو ما أكدته لنا بنفسها.

وعندما سأل كاتب هذه السطور توفيق حوري عن سبب دعمه للعمل العسكري، وتوفير غطاء له، بالرغم من كونه نائباً لرئيس عباد الرحمن، الرافض للعمل السياسي والعسكري، قال إنه “كان يقوم بواجبه، وأنه كان يعمل ذلك من منطلق عقيدة”.

دعم مالي:

بحسب الأستاذ إبراهيم المصري (القيادي في عباد الرحمن ثم في الجماعة الإسلامية) في مقابلة معه في 2/10/2018، فقد كان لحوري زملاء في جماعة عباد الرحمن يساعدونه في دعم حركة فتح، وكان من بينهم هاني فاخوري، الذي كان موظفاً في أحد البنوك اللبنانية. وكان إبراهيم المصري وإخوانه عندما تأتيهم تبرعات لفلسطين، يقومون بإيصالها بناء على توجيهات حوري إلى فاخوري، الذي يقوم بدوره بإيصالها لحركة فتح. وقد أكد حوري علاقته وصداقته بهاني فاخوري، وأن التبرعات التي كانت تجمع لصالح حركة فتح كانت تُسلم لفاخوري، ليُدخلها في حساب خاص. وكان يتم عمل سندات الاستلام وكأن المبلغ تم استلامه في سورية، وليس في لبنان، من باب الاحتياط الأمني. وكان حوري يوفر عن طريقه أحياناً ديوناً مالية لفتح ثم تُسددها، غير أنها أحياناً لم تكن ظروفها تسمح بسداد ما عليها (ولعل ذلك كان في مرحلة التأسيس) مما كان يوقع حوري في مشكلة مالية، غير أنه كان يأخذ الأمر بنفس طيبة.

البيان الأول لفتح:

عندما قررت قيادة فتح إطلاق “الثورة الفلسطينية المعاصرة”، وجدت في توفيق حوري خير من يُعرِّفها للعالم من خلال بيان انطلاقتها؛ فقام حوري بصياغة البيان الأول لانطلاقة حركة فتح مطلع 1965. وتبنت قيادة فتح صياغته للنص؛ غير أن أبا عمار أضاف إليه جملة فقط متعلقة بأحرار وشرفاء العالم.

افتراق لا يقطع الود:

بحسب توفيق حوري، فقد اختلف مع قادة فتح، خصوصاً بعد دخول عناصر ذات أيديولوجيات مختلفة، كالبعثيين واليساريين وغيرهم، ولكن حوري ظل يتعاون مع زملائه في فتح كلما احتاجوا.

وقد اتخذت صلة عرفات بعائلة حوري شكلاً اجتماعياً قوياً، فبادلهم عرفات وفاء بوفاء. وتذكر الفاضلة ليلى الداعوق زوجة توفيق حوري (منذ 1960) صلة العائلة القوية بياسر عرفات، واحترامها وتقديرها له، وكيف أنه ظلّ على صلة بهم. وكان عرفات يزورهم ويتناول معهم الطعام، عندما كانوا يقيمون في الصيف في منطقة سير الضنية بشمال لبنان. وتتذكر أنها كانت عندما تسأله عن زواجه، يقول لها أنه متزوج من “القضية”!! كما تذكر بالتقدير دعمه المالي للعائلة عند اضطرارها للخروج من منزلها في الطريق الجديدة ببيروت، وقت الاجتياح الإسرائيلي، ونقل سكنها إلى شارع أستراليا قرب الروشة. وتذكر بالتقدير أيضاً اتصال عرفات بها، بمبادرة منه، بعد أيام من تعرُّض ابنها البكر راشد لاعتداء بالرصاص، تسبب بإصابته إصابة خطيرة سنة 1984، حيث عرض عرفات علاجه، وقام بالفعل بتحمّل تكاليف هذا العلاج في الخارج.

أياد بيضاء:

توفيق حوري هو ابن رجل الأعمال ورجل الخير الحاج راشد الحوري (توفي 1973) الذي كان له دور رئيس في إنشاء جامعة بيروت العربية، برعاية مصرية، والتي افتتحت سنة 1960. وقد تابع توفيق دور والده من بعده في رعاية الجامعة من خلال جمعية البر والإحسان، ومن خلال عضويته في مجلس الجامعة، وذلك في الفترة الممتدة من 1960 وعلى ما يزيد عن خمسين عاماً.

كما أسس توفيق حوري أيضاً بالتعاون مع عدد من زملائه المركز الإسلامي للتربية سنة 1979، القيِّم والمسؤول عن كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية، وكلية إدارة الأعمال الإسلامية. وقد اجتذبت الآلاف من الطلاب من جنسيات عربية وإسلامية وأجنبية من أنحاء العالم.

التكريم والوفاء الواجب:

ربما لا يعرف كثيرون توفيق حوري، حتى من أولئك المعنيين بالشأن الفلسطيني، وحتى من المحسوبين على فتح أو من المحسوبين على الإسلاميين كحماس والجهاد الإسلامي. وهو أصلاً كان من الناشطين الذين يعملون بصمت، ولا يبحثون عن شهرة ولا عن مديح الناس. لكن دوره في التاريخ الفلسطيني الحديث يجب أن يسجل؛ خصوصاً أنه لعب أدواراً مهمة في مرحلة مفصلية من هذا التاريخ؛ سواء بخلفيته الإسلامية وعمله في مجالات الدعوة والتربية والتعليم والإغاثة، ووسط اللاجئين الفلسطينيين؛ أم من خلال دوره في نشوء فتح وانطلاقتها، عندما كانت فتح تمثل تطلعات جماهير واسعة في تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها. هذا بالإضافة إلى دوره الرائد في لبنان في مجال الدعوة والتعليم والثقافة. إن حوري وأمثاله يستحقون منا كلمة وفاء وشكر، وهو شكر لن يوفيه حقّه إلا الله سبحانه وتعالى.

المصدر: موقع عربي21، 6/12/2019


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: