مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

دخل النظام السياسي في الكيان الإسرائيلي في أزمة سياسية كبيرة، مع فشل الأحزاب الإسرائيلية في تشكيل حكومة تحظى بأغلبية النصف زائد واحد في الكنيست (61 مقعداً). وهو الفشل الثاني خلال بضعة أشهر، مما يرجح الذهاب إلى انتخابات عامة ثالثة خلال أقل من عام لأول مرة في تاريخ الكيان الإسرائيلي. ويترافق ذلك مع توجيه اتهامات رسمية لنتنياهو بالفساد وخيانة الأمانة؛ وهي المرة الأولى في تاريخ الكيان التي توجه فيها اتهامات لرئيس وزراء إسرائيلي في أثناء قيامه بهذه الوظيفة؛ وهو ما يزيد المشهد الإسرائيلي الداخلي تعقيداً وتأزيماً.

إشكالية المنظومة السياسية:

يعود جانب من أسباب هذه الأزمة إلى النظام السياسي الإسرائيلي، الذي ينظم الانتخابات التشريعية (البرلمانية) على أساس النسبية الكاملة، وعلى أساس التعامل مع “إسرائيل” كدائرة انتخابية واحدة. وهو نظام يعكس تمثيلاً أدق لمختلف المكونات والقوى الحزبية؛ لكنه يُضعف من إمكانية أي حزب من الحصول على الأغلبية المطلقة؛ ويجعل الأحزاب الكبيرة عرضة لابتزاز الأحزاب الصغيرة، التي كثيراً ما تتمكن من فرض بعض شروطها حتى يتمكن أي حزب كبير من استكمال النصاب المطلوب. وهذا ما يُضعف الاستقرار السياسي لأي بلد.

ومن الناحية التاريخية فلم يتمكن أي حزب إسرائيلي من الحصول على أغلبية مطلقة منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي قبل أكثر من 71 عاماً. غير أن هذه الأحزاب لكونها كلها منتمية إلى الحركة الصهيونية سواء أكانت يسارية أم يمينية أم دينية؛ ولكون التوجهات الحزبية مجرد أدوات أو وسائل ضمن المشروع الصهيوني (الحزب الكبير الذي يضم الجميع)؛ فإن صهيونيتها عادة ما تكون “صهيونية توفيقية” لا يصعب عليها إقامة تحالفات وائتلافات يبدو ظاهرها متناقضاً كما في البلدان الأخرى، كتشكيل حكومات من أحزاب يسارية ودينية مثلاً. ولذلك، نادراً ما وجدت أزمات من هذا النوع الذي تجد المنظومة السياسية الإسرائيلية نفسها فيه هذه المرة.

لم تؤدِّ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة للكنيست الثاني والعشرين، التي عقدت في 17/9/2019، إلى نتائج حاسمة. ولم تختلف كثيراً عن نتائج انتخابات الكنيست السابق التي عُقدت في 9/4/2019. فأصبح حزب الليكود يملك 32 مقعداً مقارنة بـ 35 مقعداً، وأصبح حزب أزرق أبيض يملك 33 مقعداً مقارنة بـ 35 مقعداً. وأصبح حزب “الجنرالات” أزرق أبيض بقيادة بيني جانتس يملك من الناحية الرسمية الشكلية حق تشكيل الحكومة؛ غير أن الكتلة التي كان يستطيع ضمها إلى تحالفه (يسار الوسط) لم تزد عن 44 مقعداً (أزرق أبيض 33، والعمل – جيشر 6، والمعسكر الديموقراطي 5). وكان هناك عشرة نواب من القائمة العربية المشتركة مستعدون لإسناد هذا الائتلاف، دون ضرورة الدخول في حكومته، ليصبح لديه 54 مقعداً. أما الليكود بقيادة نتنياهو فالكتلة اليمينية التي تدعمه يبلغ مجموعها 55 مقعداً (الليكود 32، شاس 9، يهدوت هتوراة 7، يمينا 7) ولذلك حظيَ أولاً بفرصة تشكيل الحكومة.

أما حزب “إسرائيل بيتنا” بقيادة ليبرمان فقد عزّز موقعه بعد أن زاد مقاعده إلى ثمانية مقاعد بعد أن كانت خمسة في الانتخابات السابقة. وقد جعل هذا الحزب من نفسه “بيضة القبّان”؛ فبالرغم من طبيعته اليمينية المتعصبة إلا أنه تسبب في إفشال تشكيل نتنياهو لحكومة يمينية بعد الانتخابات السابقة. والسبب أن يمينيته القومية الليبرالية تعارضت مع يمينية الأحزاب الدينية، وتحديدياً في إصراره على التجنيد الإجباري للحريديم (المتدينين اليهود) الذي ترفضه الأحزاب الدينية؛ بالإضافة إلى مطالبه الأخرى التي يصعب الالتزام بها، وإن كان يمكن التفاوض عليها، كتشديد الحصار على قطاع غزة، ومحاولة إنهاء سيطرة حماس على القطاع بالقوة.

لماذا فشل تشكيل الحكومة:

لم ينجح نتنياهو في فترة الشهر التي مُنحت له في تشكيل الحكومة، فأعاد الأمر لرئيس الكيان الذي كلف جانتس بتشكيلها، غير أنه أعاد التكليف للرئيس في 20/11/2019 معلناً فشله في تشكيل الحكومة. فلماذا فشلت عملية التشكيل؟

أولاً: كان هناك إصرار من نتنياهو على رئاسة الوزراء، وأنه في حالة تشكيل ما يسمى حكومة “وحدة وطنية” بالشراكة مع أزرق أبيض، فيجب أن يبدأ هو أولاً للسنتين الأوليين؛ بحجة أنه يملك تكتلاً أكبر؛ ولأنه يريد أن يوفر لنفسه شبكة أمان من احتمال إحالته للمحاكمة بتهم الفساد وخيانة الأمانة.

ثانياً: كان هناك إصرار من جانب جانتس (أزرق أبيض) أن يكون أولاً في حالة تشكيل ما يسمى حكومة “وحدة وطنية”، باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات، ثم إن مبرراً أساسياً لإنشاء هذا الحزب كان إزاحة نتنياهو عن الحكم. وكان ثمة رغبة قوية لدى شريكَي جانتس الأساسيين (يائير لابيد وموشيه يعلون) بعدم العمل تحت قيادة نتنياهو.

ثالثاً: لم ينجح نتنياهو في ضم ليبرمان إلى تكتله اليميني، وذلك بسبب الفجوة الواسعة في التفاهم حول علاقة الدين بالدولة، وتحديداً تجنيد المتدينين اليهود (الحريديم)؛ وكان ذلك شرطاً أساسياً لليبرمان خاض على أساسه الانتخابات.

رابعاً: لم ينجح جانتس في ضم ليبرمان إلى تكتله، بالرغم من حصول تقدم كبير في المفاوضات بينهما. إذ إن تجاوز حاجز الـ 61 صوتاً، كان بحاجة إلى شبكة إسناد تقدمها القائمة العربية المشتركة. وهو ما يصعب على ليبرمان اليميني المتطرف قبوله والذي اعتبر القائمة العربية “طابوراً خامساً” أو جهة معادية. كما أن ذلك كان سيضعه تحت “قصف” القوى اليمينية الأخرى لو رضي بهكذا شراكة. بالإضافة إلى أن حزب “الجنرالات” ليس ميالاً إلى الاعتماد في تشكيلته على الإسناد العربي، ويَعدُّه إما خياراً مؤقتاً، أو أنه يستخدم الإعلان عن احتمال قبوله كأداة للضغط على نتنياهو للقبول باشتراطاته.

خامساً: لم تنجح فكرة تشكيل حكومة أقلية، تدير الحكم بدعم أقل من 61 عضواً في الكنيست ولكن مع صعوبة إسقاطها من الكتلة المنافسة. وسبق لحكومات إسرائيلية أن أديرت بحكومات أقلية، مثل حكومة اسحق رابين التي عملت سنتين كحكومة أقلية، وحكومة شارون التي عملت في أثناء فترة فك الارتباط مع قطاع غزة؛ كما أدت حكومة بيريز اليمين كحكومة أقلية بعد مقتل رابين (تشرين الثاني/ نوفمبر 1995).

عندما أخذ جانتس يناقش خيار تشكيل حكومة أقلية، تعرض لهجوم كبير من أطراف صهيونية مختلفة وعلى رأسها نتنياهو، الذي قال إنه إذا تشكلت هكذا حكومة فسيحتفلون في طهران وغزة ورام الله؛ وذكر إن عقد انتخابات ثالثة كارثة لكن تشكيل حكومة أقلية بدعم القائمة العربية كارثة أكبر. وعقد نتنياهو مؤتمراً طارئاً لحزبه هاجم أزرق أبيض لأنهم سيعتمدون على “العرب الإرهابيين” لتشكيل الحكومة. وبالنسبة للمعترضين فإن حكومة أقلية لا تقدر على مواجهة تحديات “الأمن القومي” التي يمر بها الكيان الإسرائيلي في هذه المرحلة.

سادساً: لم ينجح اقتراح الرئيس ريفلين في تشكيل حكومة “الرأسين” بحيث يكون أحدهما فعالاً والآخر معطلاً، ويكون فيها نتنياهو أولاً إلى حين انتهاء محاكمته؛ وبعد مئة يوم إذا لم يُبَّرأ يحق لجانتس أن يصبح الرئيس الفعلي للحكومة. حيث حالت اعتراضات قوية داخل أزرق أبيض دون ذلك.

محاكمة نتنياهو:

بعد نحو ثلاث سنوات من التحقيقات، وفي 21/11/2019 أعلن أن المستشار القضائي للحكومة مندلبليت قرر تقديم ثلاث لوائح اتهام ضد نتنياهو بتهم الرشوة والنّصب وخيانة الأمانة (الملفات 1000 و2000 و4000). وبذلك تحول نتنياهو من مشتبه به إلى متهم؛ وصار أمامه مئة يوم لإثبات براءته وإلا سيتعرض للمحاكمة. رد نتنياهو على الاتهام بغضب واعتبر ذلك محاولة انقلاب، واتهم المحققين بأن تحقيقاتهم زائفة، وطالب بالتحقيق مع المحققين، وبإنشاء لجنة خارجية مستقلة للنظر في الاتهامات. وفي الوقت نفسه قرر نتنياهو الاستمرار في ممارسة عمله كرئيس للوزراء، إذ إنه ليس ثمة ما يلزمه بالاستقالة إلا إذا صدر حكم نهائي غير قابل للاستئناف بإدانته؛ وهو ما قد يأخذ وقتاً طويلاً يصل لسنوات.

وبالرغم من العديد من مظاهر التضامن مع نتنياهو داخل الليكود وأحزاب اليمين؛ إلا أن صورته أخذت بالاهتزاز. ورأى 56% من الجمهور الإسرائيلي أن نتنياهو يجب أن يستقيل من منصبه بعد توجيه الاتهامات. كما أن ذلك منح منافسي نتنياهو في الليكود فرصة للحلول مكانه في الزعامة، فهاجمه جدعون ساعر داعياً إياه للاستقالة. واضطر نتنياهو في 24/11/2019 للموافقة على إجراء انتخابات داخلية لحزب الليكود خلال ستة أسابيع. غير أن ساعر لا يشكل منافساً قوياً، وما زالت حظوظ نتنياهو بالاستمرار بقيادة الليكود الكبيرة.

المسارات المحتملة:

حسب القانون الأساسي الإسرائيلي، وبعد فشل نتنياهو وجانتس في تشكيل الحكومة، أعاد الرئيس التفويض بتشكيلها إلى للكنيست، حيث يمكن لأي عضو كنيست خلال 21 يوماً أن يشكل حكومة تحظى بتأييد 61 نائباً أو أكثر. وهو أمر مستبعد جداً. وهذا يعني أن الكيان الإسرائيلي يتجه نحو انتخابات ثالثة في 3/3/2020.

تشير استطلاعات الرأي في هذه الأيام إلى تحسن محدود في فرص أزرق أبيض بالفوز ليحصل على نحو 37 مقعداً، وتراجع ضئيل في فرص الليكود ليحصل على نحو 30 مقعداً. وهذا ما قد يوصل كتلة يسار الوسط إلى نحو 58 مقعداً. وهذا لا يكفي أيضاً لتشكيل حكومة بأغلبية المقاعد. مما يفتح المجال لاستمرار الأزمة السياسية، بعد الانتخابات الثالثة، وهذا قد يدفع الأحزاب السياسية في نهاية المطاف للاستسلام والدخول في توافقات تؤدي لتشكيل حكومة.

أما الاحتمال الثاني فهو الذهاب إلى انتخابات رابعة إن لم يتم التوافق.

ويلوح في الأفق احتمال ثالث مرتبط بتغير مزاج وموقف الناخب الإسرائيلي باتجاه إزاحة نتنياهو وتراجع حظوظ الليكود بشكل أكبر إذا لم ينجح نتنياهو في تبرئة نفسه خلال المئة يوم المحددة. وبالتالي تعاظم حظوظ أزرق أبيض في تشكيل الحكومة.

كما أنه ليس من المستبعد في احتمال رابع أن ينجح نتنياهو إما بتبرئة نفسه، أو بمحاولة تحقيق “منجزات” على الساحة الإسرائيلية تدفع باتجاه إعادة انتخابه. وهنا يبرز احتمال سعيه لتحقيق “بطولات” من خلال شنّ عدوان واسع على قطاع غزة أو الجبهة الشمالية، أو تنفيذ اغتيالات نوعية لقيادات المقاومة.

أما الاحتمال الخامس، فهو تعترف الأحزاب بفشل منظومتها السياسية، وتتداعى إلى تغيير شروط العملية الانتخابية، لتجاوز مُعضلات التعطيل الناشئة عنه؛ كالانتخاب المباشر لرئيس الوزراء، أو إعطاء مزايا خاصة للحزب الفائز… وغيرها.

***

وأخيراً، فلا ينبغي المبالغة في توصيف أزمة المنظومة السياسية الإسرائيلية، إذ ما زالت البنية المؤسسية الداخلية قوية نسبياً، وما زالت الأطراف الصهيونية قادرة على إدارة خلافاتها كما فعلت على مدى السبعين سنة الماضية. كما أن الاهتزاز الحاصل بسبب محاكمة نتنياهو له جانبه الإيجابي في الكيان باعتبار أن المنظومة الرقابية والقضائية ومكافحة الفساد ما زالت قوية وفعالة حتى في مواجهة أقوى رجال الحكم. وفي المقابل، فإن هناك شرخاً إسرائيلياً داخلياً يمكن أن يتسع، إذا لم تتعامل معه أطراف الخلاف وفق ما يسمى “المصالح العليا” للكيان الإسرائيلي.

هذا المقال هو نسخة موسعة عن النص الذي نشر في موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 29/11/2019


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: