مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.English_Version

استعصى قطاع غزة على مسار التسوية، وهو من باب أولى يستعصي على صفقة القرن. وقد أدى الصمود والإبداع الفلسطيني عبر المسيرات إلى إرباك البيئة الساعية لإنفاذ التسوية أو الصفقة.

بالرغم من مرور نحو عامٍ على التسريبات، حول ما أصبح يعرف بـ”صفقة القرن”؛ إلاَّ أن الولايات المتحدة لم تطرح حتى الآن هذه “الصفقة” بشكل رسمي. في الوقت نفسه، تركت المجال لانتشار التسريبات و”الشائعات” عن بنود الصفقة ومعالمها؛ بناء على حوارات ولقاءات يجريها المسؤولون الأمريكيون المعنيون مع قادة ومسؤولين فلسطينيين وعرب وإسرائيليين، وما يصل بشكل أو بآخر لمراكز الدراسات والإعلام.

ضغوط وفرض حقائق:

ويظهر أن السياسة الأمريكية تتعمد قدراً من الغموض والتأخير، سعياً لمتابعة الضغوط وتحقيق قدرٍ من التهيئة النفسية، ومحاولة إيجاد بيئة قبول مناسبة. في الوقت نفسه، تحاول الحصول على قبول الأطراف المعنية بالخطوط الرئيسية للصفقة، قبل الإعلان الرسمي عنها، قطعاً للطريق على احتمال الإعلان المبكر لفشلها. وتحاول عزل الجانب الفلسطيني وإضعافه، من خلال نزع ورقة القوة العربية من يده، بحيث تتحول موافقة الدول العربية على الصفقة إلى ورقة ضغط على الفلسطينيين أنفسهم. كما أن روح الأداء الأمريكي مبني على فرض “الإملاءات” وبناء الحقائق على الأرض، أكثر من إدارة مفاوضات تنتهي بتوافق الأطراف الأساسية. ولذلك سعى الأمريكان لحسم مصير القدس من خلال اعترافهم بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، ونقل سفارتهم إليها؛ وكذلك سعوا لإضاعة حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة، من خلال إغلاق الأونروا ومشاريع التوطين.

معالم الصفقة:

أما أبرز ما تمّ تسريبه عن الصفقة، فهو يتحدث عملياً عن حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة (يمكن أن يُسمى دولة من الناحية الرسمية أو الشكلية) لا سيادة كاملة له على الأرض، ولا على الجو، ولا على الحدود، ولا يملك جيشاً. وهو حكم على أجزاء من الضفة الغربية (لم تحدَّد مساحتها النهائية) وعلى قطاع غزة؛ وستبقى المستوطنات وما وراء الجدار تحت “السيادة” الإسرائيلية. وستُضم القدس وخصوصاً البلدة القديمة، للكيان الإسرائيلي؛ مع اصطناع “قدس جديدة” للفلسطينيين في أبو ديس وبعض أحياء شرقي القدس. وسيحرم الفلسطينيون من حقّ العودة إلى الأرض التي أخرجوا منها سنة 1948. ويسعى الأمريكان إلى تحقيق “التطبيع” العربي مع “إسرائيل” قبل إتمام مشروع التسوية، كما يسعون إلى حرف بوصلة الصراع مع العدو الصهيوني، عبر إنشاء تحالف عربي – إسرائيلي، في مواجهة إيران، وما يسمى “التطرف الإسلامي”، وتيارات الإصلاح والتغيير في المنطقة، بما يضمن بقاء واستقرار الأنظمة السياسية المتوافقة مع السياسة الأمريكية.

وبشكل عام، فإن ما أشيع عن الصفقة هو أقرب للرؤية الإسرائيلية للتسوية. ولعل ثمة تعمُّد في البدء بالسقف الإسرائيلي، حتى يبدو الاقتراب إلى التصور العربي – الفلسطيني بعد ذلك “مرونة” وعملية “تنازلات مؤلمة” و”تضحيات” قدمها الإسرائيليون، بينما يتم تضييع ما كان يُعدُّ عقبات كبرى في طريق التسوية مثل حقوق اللاجئين، ومستقبل القدس، والسيادة الكاملة على الأرض.

تعثُّر الصفقة:

غير أن صفقة القرن تعاني في هذه الأيام من مصاعب حقيقية، ومن حالة تَعثُّر، جعلت الأمريكان يؤجلون الإعلان عنها عدة مرات خلال هذا العام، كان آخرها قول ترامب يوم 26/9/2018 أنه سيؤجل إعلانها لعدة أشهر. ويعود ذلك إلى حالة الإجماع الفلسطيني على رفضها، وإلى تراجع الحماسة العربية تجاهها، وربط الدول العربية موافقتها بموافقة الفلسطينيين، وسحب الملك سلمان ملف “الصفقة” وقضية فلسطين من يد ابنه محمد. هذا، بالإضافة إلى ارتباك السياسة الأمريكية الخارجية.

ولعل مسيرات العودة الكبرى التي نفذتها القوى الإسلامية والوطنية في قطاع غزة، على مدى أسابيع متواصلة، منذ 30/3/2018 قد أسهم بشكل مهم في إيجاد بيئة غير مواتية لتمرير “الصفقة”. إذ إن حالة الغضب والإحباط والمعاناة في القطاع قد وُجِّهت نحو العدو الإسرائيلي؛ ولم تنفجر في وجه حماس ومشروع المقاومة، بعكس رغبة الأطراف المشاركة في الحصار، التي كانت تضغط باتجاه انهيار “حكم حماس”. وكما كانت هذه المسيرات رافعة شعبية وإعلامية لقوى المقاومة؛ فقد تحولت إلى أَرَقٍ ومخاوف إسرائيلية من اختراق فلسطيني شعبي للحدود، فضلاً عن الحرائق والخسائر التي تسببت بها الطائرات الورقية والبلالين الحارقة. هذا بالإضافة إلى ظهور الوجه الإسرائيلي بأبشع صورة، نتيجة عمليات القتل المتعمد وإطلاق الرصاص على المدنيين.

وبالتأكيد، فإن السلوك الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية للقدس، أوجد أجواء شعبية واسعة معادية للسياسة الأمريكية، وغاضبة على حالة الضعف العربي والإسلامي، التي لم تفعل شيئاً جاداً لمواجهتها.

كل ذلك أسهم في إيجاد أجواء محرجة وغير مناسبة للبلاد العربية، للسير قُدُماً في موضوع الصفقة؛ وهو ما دعا دولاً كالسعودية ومصر والأردن أن تطلب من الأمريكان تأجيل الإعلان عن الصفقة، (حسب تسريبات لصحيفة إسرائيل هايوم في 2018/8/3).

قطاع غزة وصفقة القرن:

عند محاولة استقراء ما يُخطط لقطاع غزة في ضوء تطورات صفقة القرن، فإن المعطيات لا تقدم لنا صورة حاسمة. ويظهر أن حالة “التدافع” التي تشهدها المنطقة، وتداخل القوى والعوامل المؤثرة في مستقبل القطاع، أسهمت في إبقاء عدد من النقاط في “المنطقة الرمادية” حتى الآن.

مع نهاية السنة الماضية وبداية هذه السنة، ظهرت “إشاعات” تتحدث عن أن صفقة القرن تتضمن تبنياً لأفكار كان قد طرحها جيورا آيلاند مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق سنة 2010. وكان من بينها أن يتم ضمّ نحو 12% من مساحة الضفة الغربية (نحو 720 كم مربع) للكيان الإسرائيلي تحوي منطقة ما وراء الجدار العنصري بما في ذلك الكتل الاستيطانية والقدس. وفي مقابل ذلك يتم تعويض الفلسطينيين بمساحة 720 كم مربع من سيناء، على أساس توسيع قطاع غزة في المنطقة الواصلة بين رفح والعريش. وعلى أن يتم تعويض الطرف المصري بأراضٍ بالمساحة نفسها من النقب (فلسطين المحتلة 1948) في منطقة أم الفيران. وبذلك، يمكن انتقال “توطين” فلسطينيين من قطاع غزة المكتظ إلى المناطق المضمومة من سيناء؛ كما يمكن بناء مطار وميناء للفلسطينيين في تلك المناطق. وسيتم توفير ممر بين الضفة والقطاع، وممر بين مصر والأردن لتنشيط الحياة الاقتصادية والتبادل التجاري والسياحة عبر الميناء والمطار. غير أن السلطات المصرية نفت علمها بتفصيلات الصفقة، ورفضت التنازل عن أي جزء من مصر. كما أن الفلسطينيين من جهتهم يرفضون التوطين.

من جهة أخرى، تظهر حقيقة أن سيطرة قوة مقاومة إسلامية (حماس) على القطاع، تفرض نفسها على أي حسابات أو ترتيبات راهنة وتعطّل أي مسار للتسوية السلمية، سواء وفق رؤية السلطة في رام الله أو وفق الرؤية الأمريكية حسب صفقة القرن. إذ إن هذه القوة ليست مجرد قوة شعبية مدنية، ترى أنها تمثل إرادة الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة بناء على انتخابات المجلس التشريعي؛ وإنما تملك قوة عسكرية على الأرض، تمكنت من خوض ثلاثة حروب كبيرة مع الاحتلال حققت فيها صموداً وإنجازاً نوعياً، كما تمكنت من الصمود في وجه الحصار الخانق نحو 11 عاماً. وهي في الوقت نفسه ترفض التسوية السلمية والاعتراف بـ”إسرائيل”، وتسعى لتحرير كل فلسطين.

وعلى ذلك، فإن حماس بالنسبة للاعبين الكبار جمعت “إشكاليتين”؛ الأولى: أنها تتبنى المقاومة المسلحة، والثانية أنها محسوبة على تيار “الإسلام السياسي”. ولذلك، كان هناك تقاطعاً للمصلحة في حصارها وخنقها لدى الإسرائيليين والأمريكان، ولدى دول “الاعتدال” العربي، وحتى لدى قيادة السلطة في رام الله. ولذلك، فلعله في الأشهر الأولى للتسريبات حول الصفقة، كان ثمة أمل بتسليم حماس للسلطة (فوق الأرض وتحت الأرض، ومن الباب إلى المحراب!!) تحت وقع العقوبات القاسية لأبي مازن على القطاع، التي أُضيفت لحالة الحصار الخانق المستمرة منذ سنوات.

غير أن صمود قوى المقاومة في القطاع، وفشل العقوبات والحصار، وانطلاق مسيرات العودة الكبرى، أوجد أجواء جديدة في محاولة مقاربة إدارة الوضع في قطاع غزة؛ خصوصاً منذ أيار/ مايو 2018. إذ وجد الطرف الإسرائيلي أن اتجاه الأوضاع نحو الانفجار والفوضى والانهيار، أو اجتياز حدود الـ 48، أو الدخول في الحرب لا يخدمه. كما أن الطرف المصري لم يجد مصلحة إطلاقاً في انفجار أو انهيار الأوضاع لانعكاسها السلبي على أمنه القومي؛ ووجدت الأطراف الأمريكية والعربية “المعتدلة” مصلحة في تهدئة الأوضاع حتى لا تفسد أجواء “التطبيع” وأجواء “الصفقة”. ولذلك، ظهرت رغبات (لأسباب مختلفة) بفصل الملف السياسي عن الملف الإنساني في قطاع غزة، ومحاولة تلبية الاحتياجات الإنسانية للقطاع دون التمادي في حصار غزة لإسقاط حماس وبرنامج المقاومة. وبناء على هذا، تمّ تخفيف بعض أشكال الحصار عن القطاع، من حيث حركة الأفراد والبضائع، وتوفير الكهرباء، والحديث عن تهدئة بين القطاع و”إسرائيل” لبضع سنوات، يرافقها تخفيف كبير للحصار، والعمل على فتح ميناء ومطار لقطاع غزة. وهو ما عدَّته المقاومة إنجازاً لها ولأهل القطاع، دون دفع أثمان سياسية.

بيد أن قيادة السلطة في رام الله رأت أن مسار التهدئة هذا، سيفرغ عقوباتها من معناها، ويقطع عليها الطريق على فرض رؤيتها لمسار المصالحة في القطاع. وهي رؤية ترفضها قوى المقاومة باعتبارها تقوم على تطبيق انتقائي للمصالحة، قائم على تكريس هيمنة فتح ومسار التسوية على قطاع غزة، دون سير حقيقي باتجاه إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس راسخة، ووفق اتفاق المصالحة 2011، وتفاهمات بيروت 2017.

وهكذا، فقد أصرت سلطة رام الله على استمرار العقوبات، وعلى ربط التهدئة بالمصالحة على طريقتها؛ وهو ما جعل الأطراف الأخرى تتريث في محاولة لاستيعاب مطالب عباس، مع السعي في الوقت نفسه لعدم وصول الأوضاع في القطاع لدرجة الانفجار.

خلاصة:

وأخيراً، فقد استعصى قطاع غزة على مسار التسوية، وهو من باب أولى يستعصي على صفقة القرن. وقد أدى الصمود والإبداع الفلسطيني عبر المسيرات إلى إرباك البيئة الساعية لإنفاذ التسوية أو الصفقة. ويبدو واضحاً أن الصفقة لن تمر في القطاع، طالما بقيت القوى الإسلامية المقاومة تقوده. غير أنه في المقابل، لا يتوقع أن يرفع الحصار تماماً عن القطاع، طالما بقيت هذه القوى تقوده أيضاً، وطالما بقيت البيئة الفلسطينية المنقسمة على حالها، والبيئة العربية محكومة بأنظمة تربط مصالحها بالأمريكان أو معادية لقوى المقاومة وتيارات الإسلام السياسي. وهو ما يعني أن حالة ” التدافع” ستستمر في القطاع في المدى المنظور.

المصدر: الموقع الرسمي لمؤسسة الإذاعة و التلفزيون التركية (TRT عربي)، 1/10/2018