مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

نريد من محمود عباس رئيس دولة فلسطين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حركة فتح أن يقول لنا ما هي الثوابت الفلسطينية؟!

تحدث عباس لوفد إسرائيلي من حزب ميرتس زاره في رام الله يوم 23 أغسطس/آب 2013 حيث طمأن عباس الإسرائيليين من خلال ما قاله للوفد “أستطيع أن أضمن، عشية نهاية ناجحة للمفاوضات، الالتزام بإنهاء كل الدعاوى، ولن نطالب بالعودة إلى يافا وعكا وصفد”. وهو ما تلقفته وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعرضته القناة العبرية الثانية.

اللافت للنظر أن عباس بينما كان يُلوح بالتنازل عن الثابت الفلسطيني المتعلق بحقّ العودة، كان لا يزال في اللقاء نفسه يتحدث عن الثوابت إذ قال “من الضروري التأكيد أننا نفاوض دون أن نفرط بأي من ثوابتنا”؟!

ولا ندري إن كان عباس يرى أن حقّ الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه التي أخرج منها ليس من الثوابت، وإذا لم يكن حقّ العودة من الثوابت، فأفهمونا ما هي الثوابت؟!

نشرت جريدة الحياة اللندنية يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2013 تقريرا قالت إنه مبني على تقارير صحفية إسرائيلية متطابقة، أن طاقم المفاوضات الفلسطيني قدم لنظيره الإسرائيلي “ورقة موقف” حول القضايا الجوهرية للصراع، وفيها يعرض الوفد المفاوض التنازل عن حقّ اللاجئين في العودة إلى فلسطين المحتلة سنة 1948، ويطلب تخيير اللاجئين في العودة إلى مناطق الضفة والقطاع، أو التعويض، أو الذهاب لدولة ثالثة، أو البقاء حيث هم.

إذا صحت هذه التقارير، فهل يعني ذلك أن أحد أهم الثوابت الفلسطينية وهو حقّ الشعب الفلسطيني في العودة إلى الأرض التي أخرج منها، سيكون الثابت الجديد الذي سيتم التضحية به في مسار التسوية السلمية، بعد أن تمت التضحية بالثابت المتعلق بأرض فلسطين؟

إن المخاوف من احتمالات التنازل عن حقّ العودة هي مخاوف حقيقية، وليست مجرد شائعات. فالتفاهمات التي اشتهرت باسم تفاهمات أبو مازن- يوسي بيلين تعود إلى أواخر سنة 1995، وهي تتضمن تنازلا عن حقّ العودة.

أما وثيقة جنيف المعروفة التي وقعتها سنة 2003 شخصيات فلسطينية نافذة ومقربة من صانع القرار الفلسطيني، فهي تتضمن الطرح نفسه الذي أشار إليه تقرير جريدة الحياة، وهي تتنازل بشكل لا لبس فيه عن حقّ عودة اللاجئين إلى أرضهم المحتلة التي أُخرجوا منها سنة 1948، وتربط العودة بالموافقة الإسرائيلية.

ويستطيع القارئ أن يطلع على الوثيقة وأسماء الموقعين في الموقع الإلكتروني الخاص بها، وسيجد أسماء من رعوا هذه الوثيقة أو وقعوها أمثال عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه، ووزير شؤون الأسرى السابق هشام عبد الرازق، ووزير السياحة السابق نبيل قسّيس، وغيث العمري المستشار السياسي لمحمود عباس، بالإضافة إلى محمد الحوراني، وقدورة فارس، وزهير مناصرة… من قيادات فتح.

وفي الغرف المغلقة، وكما لاحظ كاتب هذه السطور في أكثر من مؤتمر وملتقى، فإن عددا من الشخصيات المنخرطة في مشروع التسوية لا تتردد في الحديث عن ضرورة التنازل عن حقّ العودة، إذا ما أراد الفلسطينيون أن يكونوا “واقعيين” في إنشاء دولتهم في الضفة والقطاع.

إن قضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينية، التي هي قضية الشعب الذي اقتلع من أرضه بعد أن أقام فيها لآلاف السنين، ولم يكن للمشروع الصهيوني أن ينشأ إلا بعد أن دمر النسيج الاجتماعي لهذا الشعب، ودمر أكثر من 400 من قراه ومدنه، وصادر أكثر من 90% من أراضيه، واغتصب ممتلكاته ومبانيه ومصانعه وأوقافه.

ومن بين 11 مليونا و400 ألف فلسطيني في العالم، هناك نحو ستة ملايين و300 ألف من اللاجئين الفلسطينيين من أبناء الأرض المحتلة سنة 1948، أي نحو 55% من أبناء الشعب الفلسطيني، يعيش أربعة ملايين ونصف المليون منهم خارج فلسطين التاريخية، بينما يقيم مليون و800 ألف في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي فحق العودة هو مصير شعب، وليس مجرد ورقة للمساومة.

إن حقّ العودة حقٌّ طبيعي وأصيل وإنساني، ويحظى بإجماع دولي، وصدر فيه ما يزيد عن 120 قرارا دوليا، وهو فضلا عن كونه حقا جماعيا، فإنه حقّ فردي لا يملك عباس ولا قيادة المنظمة ولا أي جهة أو فصيل التنازل عنه.

من حقّ الشعب الفلسطيني أن يقلق على ما تبقى لديه من ثوابت بعد أن قامت قيادة المنظمة بتضييع الثابت المتعلق بالأرض.

في 3 مارس/آذار 1965 خطب الرئيس التونسي بورقيبة في الفلسطينيين في أريحا مطالبا إياهم والعرب بقبول قرار الأمم المتحدة رقم 181 لتقسيم فلسطين، وفي 21 أبريل/نيسان 1965 قدم مبادرته للتسوية السلمية على أساس هذا القرار، فثارت ثائرة الشعب الفلسطيني والشعوب والأنظمة العربية، واتهم بورقيبة بأقذع الاتهامات بما في ذلك الخيانة والعمالة.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 ووسط جمع احتفالي حاشد للمجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر، أعلن ما عرف باستقلال فلسطين مع تضمينه اعترافا ضمنيا بقرار تقسيم فلسطين، كمنطلق لإعلان الاستقلال، وعلى أساس أنه يوفر للشرعية الدولية شروطا تضمن حقّ الشعب الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني.

ووقف مناضلو الأمس يصفقون ويهنئون بعضهم، وأضافوا في المؤتمر نفسه اعترافا بقرار 242 الذي طالما رفضوه، لأنه يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين، وليس كقضية شعب، وأصبح ما كان يُسمى خيانة بورقيبة واقعية نضالية ثورية تراعي متطلبات المرحلة؟!

عندما انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 لتحرر أرض فلسطين المحتلة سنة 1948 (غرب الضفة الغربية) اتهمتها فتح وبعض الفصائل بأنها مرتبطة بالأنظمة العربية وأنها ليست ثورية بما يكفي، ودخلت فتح المنظمة في صيف 1968 لتقودها ولتقوم بـ”تثويرها”.

وفي 13 سبتمبر/أيلول 1993 كانت قيادة المنظمة (التي هي قيادة فتح) تقوم بالتوقيع على اتفاق أوسلو لإنشاء حكم ذاتي محدود في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لم تكن محتلة أصلا عندما نشأت فتح والمنظمة، ولتعترف هذه القيادة بأن الأرض التي تأسست لتحريرها (فلسطين المحتلة 1948) أصبح اسمها “إسرائيل”.

وهكذا لم تعد فلسطين (الـ 27.009 كلم2) هي فلسطين التي نعرف، فقد انتزع منها 20.770 كلم2 (77% من مساحتها)، أما فلسطين فقد أصبحت الضفة والقطاع. وأصبح يحلو للمتفذلكين من السياسيين والكتاب والإعلاميين استخدام مصطلح “الأراضي الفلسطينية” للإشارة للضفة والقطاع.

لم تعد الأرض ثابتا من الثوابت، وأصبحت فلسطين التي نعرف هي فلسطين التاريخ، وليس فلسطين الحاضر والمستقبل، وتوارت عن الأسماع الأغنية الفدائية الثائرة “ما بنتخلى عن حبة رملة… إن كنا بنحب اللد وبنحب الرملة”، واختنق صوت الشاعر” من باع شبرا من بلادي بعته وبلا ثمن”.

رسام الكاريكاتير الشهير المرحوم ناجي العلي رسم كاريكاتيرا ذات يوم استخدم فيه اللعب بالألفاظ، فأشار كيف كان ثوار الأمس يرفضون الحلول المرحلية وكيف أصبحت بعد ذلك هذه الحلول مستساغة، فكتب على الرسم “الحلّ المُرُّ حلي”، أي أن الحل المَرحلي أصبح حلوا!! لم يطل الأمر بناجي العلي الذي اغتالته رصاصة غادرة، قيل إنها إسرائيلية وقيل إنها فلسطينية، غضبت من انتقاداته المرّة.

والآن إذا ضُرب الثابتان الرئيسيان للقضية المتعلقان بالأرض والشعب! فما هي الثوابت الفلسطينية المتبقية؟ وما الذي بقي مما لا يمكن التنازل عنه؟!

إذا كنا نتوافق على أن القدس أحد الثوابت، فإنه يجري الآن تكييف هذا الثابت وإفراغه من محتواه، بعد إخراج غربي القدس ابتداء من الموضوع واعتبارها منطقة إسرائيلية، ووجود إشارات فلسطينية إلى إمكانية التنازل عن حائط البراق وحيّ المغاربة وما يسمى حيّ اليهود (حيّ الشرف) في البلدة القديمة، وكذلك المقبرة اليهودية في جبل الزيتون، بالإضافة إلى عدم إحداث أي تغيير في منطقة المسجد الأقصى دون موافقة إسرائيلية كما تشير وثيقة جنيف. هذا فضلا عن طرح جون كيري لفكرة القدس عاصمة مشتركة لـ”إسرائيل” وفلسطين.

وإذا كنا نتحدث أن سيادة الفلسطينيين على أرضهم كأحد الثوابت، فإن هناك مؤشرات شبه مؤكدة على أن المفاوضين الفلسطينيين وافقوا على دولة منقوصة السيادة (في دولتهم المنقوصة الأرض) في الضفة والقطاع، تكون منزوعة السلاح، وليس فيها جيش يحميها.

وإذا كنا نتحدث عن حقّ الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة لتحرير أرضه كثابت من الثوابت، فإن هذا الثابت قد تمّ تجاوزه منذ أن أعلنت منظمة التحرير “نبذ الإرهاب”، والتزمت بعدم اللجوء للقوة لفض نزاعها مع الاحتلال الإسرائيلي.

ثم قامت قيادة السلطة باستفراغ جزء كبير من طاقة أجهزتها الأمنية في ضرب وسحق قوى المقاومة المسلحة الفلسطينية، وفي التنسيق الأمني من الطرف الإسرائيلي، بحجة أن عمليات المقاومة تُعطِّل مسار التسوية باتجاه إنشاء الدولة الفلسطينية الموعودة.

وإذا كنا نتحدث عن ميثاق وطني فلسطيني يجمعنا، فقد جرى إلغاء معظم بنوده استجابة للشروط الإسرائيلية، في الجلسة الاحتفالية للمجلس الوطني التي انعقدت في غزة يوم 22 أبريل/نيسان 1996، وتضررت نحو 25 مادة من أصل 32 مادة هي مجموع بنود الميثاق.

ومن بنود هذا الميثاق مثلا أن فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني، وأنها بحدودها التي كانت قائمة أيام الاحتلال البريطاني هي وحدة لا تتجزأ، وأن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحقّ في أرضه، وأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأن قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 هو قرار باطل، وأن قيام “إسرائيل” باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن، وأن الحركة الصهيونية حركة عنصرية عدوانية توسعية غير مشروعة، و”إسرائيل” هي أداتها، وهي مصدر دائم لتهديد السلام.. وغير ذلك.

ألا يلاحظ محمود عباس وقيادة منظمة التحرير والسلطة أن الفصائل الفلسطينية التي حُرمت أو لم تشارك في المنظمة، وخصوصا حماس والجهاد الإسلامي (ومعهما قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني) هي أقرب لثوابت الميثاق الوطني الفلسطيني من قيادة المنظمة وفصائلها المتنفذة؟!

إن منظمة التحرير التي يفترض أن تمثّل الشعب وأن تحمي الثوابت، تضاءلت وانقرضت معظم دوائرها ومؤسساتها منذ أمد طويل، وانزوت لتصبح وكأنها دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية بدل أن تكون السلطة هي إحدى أدوات المنظمة النضالية، ووُضعت المنظمة في غرفة الإنعاش ليتم إيقاظها عند الحاجة لأخذ “الختم”، وإعطاء الغطاء لقادة فتح والسلطة لتمرير سياساتهم وتوجهاتهم.

إن إلغاء قضية اللاجئين هو إلغاء للقضية نفسها، وإن شعبا عاش على أرضه أكثر من 4500 سنة لا تملك واقعية وبراغماتية قيادة المنظمة والسلطة أن تلغي حقّه الإنساني الطبيعي في العودة إلى أرضه. فليس هناك وسط الشعب الفلسطيني إجماع كما هو الإجماع على حقّ العودة.

إن من حقّ الفلسطيني الذي ضُربت ثوابته، ورأى التيار المتفاوض يُفرغ الأرض والشعب والسيادة والقدسية والمواثيق الوطنية ومؤسسات التمثيل… من معناها، أن يقف صارخا ويقول كفى!!

باختصار، فإن الثوابت ليست بضاعة تُعرض في السوق، وإن من يتنازل عن حقّي في أرضي، وعن حقّي في العودة إليها… لا يمثلني كائنا من كان.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 8/12/2013