مدة القراءة: 7 دقائق

تقدير استراتيجي (61) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2013. 

ملخص:

كان للإجراءات القاسية وغير المسبوقة التي قام بها الجيش المصري، بعد الانقلاب العسكري، لتدمير الأنفاق وتشديد الحصار على قطاع غزة، آثار كبيرة في زيادة معاناة أبناء القطاع. وهي إجراءات لا يظهر أنها تستهدف فقط حماية الأمن المصري، ولكنها تأتي في سياق أجندة تستهدف “الربيع العربي” ومخرجاته، وتستهدف إضعاف الحكومة التي تقودها حماس في غزة، باعتبارها أحد تجليات “الإسلام السياسي” الذي برز إثر الثورات والتغيرات في المنطقة.

من المستبعد في المرحلة الحالية أن تحدث اجتياحات عسكرية مصرية أو إسرائيلية للقطاع، غير أنه على ما يبدو فإن سياسة خنق القطاع ستستمر، سعياً لتفجير الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في وجه حماس، ومحاولة تأليب الجماهير ضدها، وصولاً إلى إسقاطها.

إن المصالح الوطنية والقومية والإنسانية تقتضي رفع الحصار عن قطاع غزة، وألا تستخدم معاناة الناس لفرض أجندات سياسية. وكما أن على قيادة حماس تأكيد عدم تدخلها في الشأن الداخلي المصري؛ فإن على قيادة السلطة في رام الله العمل الإيجابي لرفع الحصار، وعلى الطرفين تغليب المصالح العليا، من خلال تسريع إجراءات المصالحة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.

مقدمة:

بدأت ظاهرة الأنفاق على الحدود المصرية الفلسطينية منذ عام 1982، إذ كانت تستخدم لإدخال مواد وبضائع متنوعة من مصر إلى قطاع غزة. لكن الظاهرة تعاظمت بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير 2006، وعلى إثر فرض الحصار الكامل على الحكومة الفلسطينية في غزة بهدف إسقاطها من قبل دولة الاحتلال، وأطراف دولية وإقليمية، وبالذات بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عقب الأحداث التي جرت في منتصف عام 2007.

أضحت شبكة الأنفاق على الحدود المصرية الفلسطينية شريان حياة للقطاع المحاصر برياً وبحرياً وجوياً منذ حوالي سبع سنوات. ولضبط عمل هذه الشبكة من الأنفاق باعتبارها قنوات رئيسية للاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة؛ قامت الحكومة الفلسطينية في غزة بإنشاء هيئة خاصة لتنظيم عمل هذه الأنفاق؛ أتبعتها لوزارة الداخلية والأمن الوطني.

على إثر الانقلاب العسكري في مصر، قام الجيش المصري بتشديد الحصار على قطاع غزة؛ بإجراءات غير مسبوقة. فدمر ما يقرب من 90% من الأنفاق على الحدود، وقد أعلن المتحدث العسكري المصري أحمد محمد علي في بداية أيلول/ سبتمبر 2013، أن الجيش المصري دمر 343 نفقاً بين مصر وقطاع غزة. وفي خطوة متقدمة شرع الجيش المصري بإقامة منطقة عازلة على طول الحدود مع غزة بعرض 500 متر، بهدف زيادة الضغط على القطاع المحاصر. كل ذلك بمبررات وحجج أمنية، مما تسبب في تهجير كبير للتجمعات السكانية المتاخمة للحدود، في مناطق صلاح الدين، والبراهمة، وكندا، والبرازيل، والصرصورية وغيرها. علاوة على غلق المنطقة البحرية بين مصر وقطاع غزة، وملاحقة الصيادين الفلسطينيين في المنطقة، عبر استهدافهم بشكل مكثف من قبل خفر السواحل المصرية.

وبالرغم من أن الطرفين الإسرائيلي والمصري يحاولان خفض الاهتمام الإعلامي بحجم وعمق التعاون الأمني بينهما في الوقت الراهن، إلا أن التقارير تشير أن التنسيق والتعاون الأمني بين الجانبين لم يكن من العمق والاتساع كما هو عليه الحال الآن.

الآثار الاقتصادية لهدم الأنفاق على قطاع غزة:

أدى الحصار الخانق بسبب تدمير الأنفاق إلى ارتفاع معدلات البطالة ومستوى الفقر إلى ما يزيد عن 40% في قطاع غزة. وفقد عشرات الآلاف من العمال أعمالهم، وفي تصريح لوزير الاقتصاد الفلسطيني “علاء الرفاتي” أفاد فيه أن الخسائر الاقتصادية في قطاع غزة بلغت 460 مليون دولار حتى مطلع أيلول/ سبتمبر 2013.

الانعكاسات السياسية لهدم الأنفاق على المشهد الفلسطيني:

لا شكّ أن هدم الأنفاق وما له من تأثيرات اقتصادية واجتماعية على قطاع غزة على مستوى الشعب والفصائل والحكومة، سيفرز تأثيرات سياسية بالغة على الواقع السياسي الفلسطيني، وقد بدت آثاره على المشهد الفلسطيني برمته، ومن أبرز هذه الآثار المحتملة:

– استخدام الحصار الناتج عن هدم الأنفاق حالياً من قبل السلطة الفلسطينية في الضغط على حماس، لمحاولة منعها من تصعيد معارضتها لمسار التفاوض، المرفوض من قبل شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني.

الضغط على برنامج المقاومة في قطاع غزة، لتكريس مفهوم عدم فاعليته كخيار منجز للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.

هدم الأنفاق هو انعكاس ميداني للتغيير الذي حدث في مصر على الواقع الفلسطيني، وقد ينعكس على خريطة القوى الفلسطينية، التي كانت قد انقلبت إيجاباً لصالح حركة حماس على إثر الربيع العربي.

يُتيح للسلطة الفلسطينية في رام الله المجال لرفع مكانتها لدى الشعب الفلسطيني، من خلال تدخلات عباس لدى سلطة الاحتلال، والقيادة المصرية الحالية لتخفيف الحصار عن غزة؛ لتعزيز الانطباع بشأن قدرة السلطة في رام الله وفاعلية دورها، مقابل عجز حماس والحكومة الفلسطينية في غزة.

ترى قيادات فتحاوية أن تشديد الحصار، ووجود نظام مصري جديد معادٍ لحماس، يتيح لفتح وللسلطة في رام الله أدوات ضغط جديدة، لفرض رؤية فتح على طريقة تنفيذ المصالحة، وعلى تنازل حماس عن إدارة قطاع غزة.

لماذا تُهدم الأنفاق على الحدود المصرية الفلسطينية:

المعلن بحسب تصريحات المسؤولين المصريين أن الأسباب أمنية محضة بهدف ضبط الأمن في سيناء، ومنع تسرب السلاح والمقاتلين من قطاع غزة إلى مصر. وتُردد قيادة الجيش المصري اتهامات لقوى سلفية في غزة، بل ولحركة حماس أحياناً، بأنهما تشاركان في الهجمات ضدّ الجيش المصري، بشكل أو بآخر.

لكن القراءة الفاحصة لإجراءات الجيش المصري على الحدود المصرية الفلسطينية ومستوياتها غير المسبوقة، وما يرافقها من حملة إعلامية مكثفة تجهد لشيطنة حركة حماس، والشعب الفلسطيني في غزة، كل ذلك يؤكد أن الحملة لها أجندة سياسية خاصة.

وواضح أن أعمال الجيش المصري تجاه قطاع غزة ليست أحادية، وإنما تأتي في سياق أجندة سياسية دولية وإقليمية يجري تنفيذها في المنطقة. في إطارها العام تستهدف الانقلاب على الربيع العربي ومخرجاته، وفي الإطار الخاص تهدف لمحاصرة الحكومة الفلسطينية في غزة باعتبارها أحد تجليات تجارب “الإسلام السياسي” الذي تغلب في المنطقة على إثر الربيع العربي، وباعتباره العمود الفقري لثورات التغيير العربية.

أما أبرز الأهداف فهي:

زيادة الضغط الاجتماعي على الحكومة الفلسطينية في غزة بهدف إسقاطها، بتأليب الجماهير عليها.

تكريس مقولة فشل “الإسلام السياسي”، من خلال إسقاط تجربة “حكم حماس” في غزة باعتبارها أحد تجليات الظاهرة الإسلامية.

ولحاجات مصرية داخلية، فالقيادة المصرية المؤقتة تريد من هذه الحملة على غزة تصدير الأزمة إلى الخارج، للتغطية على مآزق الوضع المصري الراهن.

جهود الجيش في سيناء ومحاصرة غزة، يأتي ضمن عودة النظام المصري إلى “محور الاعتدال” العربي، وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

ولدى  الجهات التي تستهدف قطاع غزة، وهي أطراف محلية فلسطينية وإقليمية ودولية، وجهات نظر متعددة من أجل إسقاط “حكم حماس” في غزة، وهي:

وجهة نظر ترى أن الطريقة الأنسب لإسقاط الحكومة الفلسطينية في غزة هي الخنق تدريجياً والانتظار كي يؤتي الحصار أكله. والهدف صناعة سخط شعبي في قطاع غزة من خلال الضغط الاقتصادي، لتثوير الناس على الحكومة.

الرأي الثاني، يدعو إلى الذهاب بعيداً؛ باستهداف غزة عبر اجتياحها عسكرياً سواء من خلال الحدود المصرية بهجوم يقوم به الجيش المصري، بشكل أو بآخر، أم عن طريق اجتياح عسكري إسرائيلي شامل.

والرأي الثالث يرى أن الحل الأمثل لإضعاف قبضة حماس في قطاع غزة يتأتى من خلال خطة ناعمة، عبر تمرير المصالحة الفلسطينية وربط الضفة بالقطاع ثانية، وتشغيل الممر الآمن لتشجيع التبادل الاقتصادي بين الضفة والقطاع، لتفكيك سيطرة حماس الاقتصادية والسياسية والشعبية على قطاع غزة، وبالتالي إزاحة حكومتها منه.

إسقاط العوامل المؤثرة في اختيار الأطراف للمسار المناسب لإسقاط الحكومة في غزة:

لا شك أن عدة عوامل ستلعب دوراً في تحديد الطريقة الأنسب لدى الجهات المحلية والإقليمية والدولية التي تسعى لإسقاط الحكومة في غزة، من بينها:

مستوى نجاح الانقلاب العسكري في مصر وقدرته على تثبيت أركانه، فمن المستبعد أن يلجأ الجيش المصري لخيارات تصعيدية ضد غزة في ظل انشغال الحكم الحالي بالشأن الداخلي، لكنه سيضغط إلى أقصى درجة ممكنة. ومن المحتمل أن الضغط الشديد سيواجه برفض إسرائيلي خشية أن تنفجر غزة في وجه دولة الاحتلال.

ستعتمد طبيعة الخيار على درجة توافق السلطة في رام الله مع الحكم الجديد في القاهرة، وعلى مدى قدرة القاهرة على التقريب بين عباس ودحلان، لأن الأخير يملك قدرة تأثير لا يستهان بها على الوضع في غزة.

قدرة حماس على ضبط الوضع في قطاع غزة سيكون له أثر حاسم على مخرجات هذه المواجهة، سواء على صعيد المقاومة؛ بضبط أدائها واحتكاكها مع قوات الاحتلال، ومنع استفزاز جيش الاحتلال، أم على صعيد الجبهة الداخلية؛ بتعزيز اللحمة الوطنية، وتكثيف الحوار بين المكونات السياسية للشعب الفلسطيني.

العامل الإسرائيلي هو محددٌ رئيسي في التعامل مع قطاع غزة، ولا شك أن الأطراف الخارجية يصعب عليها تجاوز المحددات الإسرائيلية، ويبدو أن دولة الاحتلال لا تفضل الاجتياح الآن، ولا الخنق الشديد، ريثما تستقر حالة الانقلاب في مصر، وخشية من أن تنفجر غزة في وجهها.

إن الاستقراء للواقع الميداني في الوقت الراهن يُظهر أن الخيار الذي يجري تنفيذه على الأرض حتى الآن هو الضغط بالحصار بدرجة محسوبة، لتجنب التأثيرات الكبيرة التي ستحدث فيما لو انفجر الوضع في غزة. لكن هناك من يرى أن الجيش المصري قد يتجاوز ذلك باستهداف غزة موضعياً، في حال شعرت القيادة المصرية بتصاعد المأزق الداخلي، كأسلوب للهرب من الأزمة الداخلية، غير أن ذلك ما زال أمراً مستبعداً.

السيناريوهات المحتملة لحملة هدم الأنفاق:

1. سيناريو الانفراج: ويتفرع إلى فرعين:

التوصل عبر حوار فلسطيني لإدارة مشتركة لمعبر رفح بالتوافق مع القاهرة، وبالتالي تنحل الأزمة بوجود أفراد من حرس الرئاسة الفلسطينية على معبر رفح.

العودة للصيغة القديمة ما قبل عزل الرئيس مرسي، بسبب ضغوط شعبية أو رسمية دولية وإقليمية على الحكم الجديد، فتضطر القاهرة إلى فتح معبر رفح بشكل طبيعي.

2. سيناريو الفوضى:

تولد سخط شعبي عارم بسبب الحصار الخانق، ونجاح حركة تمرد غزة بخلق فوضى في قطاع غزة، قد يجبر قوى الأمن الفلسطيني في غزة على استخدام قوة مفرطة ضد الجماهير، مما يؤدي لانفجار الوضع العام، وبالتالي تفقد الحكومة سيطرتها على القطاع.

3. سيناريو التصعيد العسكري: ويتفرع إلى فرعين:

اجتياح عسكري محدود عبر الحدود المصرية بهجوم من قبل الجيش المصري، بقصد الضغط على الحكومة في غزة لإسقاطها، وإدخال مجموعات فلسطينية من سيناء لقطاع غزة من القوى التي يديرها محمد دحلان.

–  اجتياح عسكري إسرائيلي شامل بهدف اقتلاع حكم حماس من غزة، وإعادة السلطة الوطنية لقطاع غزة ثانية.

4. سيناريو الخنق والانتظار:

أن تزداد درجة الحصار تدريجياً لخنق حكومة غزة ولكن بدرجة محسوبة، لتأليب الشعب عليها، وخلق المتاعب لها، بانتظار أن تستقر الأمور للحكم الجديد في مصر، للنظر في خيار حاسم فيما بعد.

ولعل السيناريو الأخير هو الأرجح، لأنه الأقل كلفة، والأنسب حتى الآن في ظل التحديات والعقبات الكبيرة التي تواجه السيناريوهات الأخرى، ولأن العامل الإسرائيلي وهو المرجح في المعادلة الحالية القائمة ربما يفضل ذلك، ولا يمنع أن يحدث مزج بين السيناريوهات المتقاربة في حال نضوج الظروف المناسبة لذلك، كالتقاء السيناريو الثاني مع الرابع.

العوامل المؤثرة على تولد السيناريو المحتمل وتطوره:

طبيعة مسار الانقلاب العسكري المصري ومخرجاته، ومسار التحولات الديموقراطية في مصر.

تقدير “إسرائيل” لكلفة السيناريو المحتمل وقدرتها على تحمله، وقدرتها على التنسيق مع واشنطن بشأنه.

مدى تطور البيئة الإقليمية على إثر الموجة الحالية المرتدة التي تسعى لإنهاء “الربيع العربي” وترتيب الأوضاع، بما يحفظ المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وبما يحفظ مصالح الأنظمة التي لا تحظى بالشرعية الشعبية.

مدى صمود الحكومة الفلسطينية في قطاع غزة وقدرتها على السيطرة على الوضع الداخلي، وضبط إيقاع الجبهة الداخلية.

التوصيات:

على الأطراف الفلسطينية تغليب المصلحة الوطنية بالإسراع للتوصل لتوافق فلسطيني لإدارة معبر رفح وبالتنسيق المشترك مع مصر لإنهاء مأساة غزة إنسانياً، على أقل تقدير.

على الأمانة العامة بالجامعة العربية أن تدعو لاجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب لبحث حصار غزة، ولإيجاد صيغة توافقية لفتح معبر رفح.

ينبغي لمؤسسات حقوق الإنسان العربية والدولية أن تتبنى حملة واسعة منسقة، في إطار إنساني على مستوى إقليمي ودولي، من أجل الدعوة لفتح معبر رفح وإنهاء الحصار الخانق عن غزة.

على الحكومة الفلسطينية في غزة أن تجهد لإقناع كافة الأطراف الفلسطينية لإدارة قطاع غزة على قاعدة الشراكة الوطنية، وأن تعمل على تعميق الحوار بين كافة المكونات السياسية لتمتين اللحمة الوطنية. وأن تضبط أداء المقاومة بالتوافق مع الفصائل الأخرى.

على القوى السياسية الرسمية والشعبية، وجميع الأحزاب والمؤسسات والمنظمات المعنية أن تتواصل مع السلطات المصرية لدفعها باتجاه فتح معبر رفح، بناء على المنطلقات الوطنية والقومية والإنسانية.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ عبد الرحمن فرحانة  بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 26/10/2013