مدة القراءة: 7 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

يستغرب عديدون انغماس الإسلاميين -الذين يقودون حركات التغيير في عالمنا العربي- بالشأن القُطري المحلي، وعدم حضور القضية الفلسطينية بشكل واضح في خطابهم السياسي، وعدم اتخاذهم مواقف حاسمة تجاه “إسرائيل” وتجاه القوى الغربية المساندة لها وخصوصاً الولايات المتحدة.

ويقارن البعض البيانات الأولى للانقلابات العربية في أواسط القرن الماضي، والتي جعلت فلسطين إمّا سبباً لانقلاباتها أو في أولويات عملها، وبين الثورات الحالية التي ركزت على أولويات محاربة الفساد وتحسين الاقتصاد والديمقراطية، وإعادة هيكلة المؤسسات، وأعطت الجهد الأكبر للهمّ المحلي، بينما تحدثت على استحياء عن قضايا الأمة وتحديداً فلسطين. بل ويزداد التشكّك في بعض الأوساط التي ما زالت تحسب نفسها على ما يُعرف بـ”محور الممانعة”، والتي تدّعي أن هناك صفقة ما بين الإخوان المسلمين وأميركا للقيام بعملية التغيير واستيعاب الإخوان في النظام السياسي العربي الجديد، دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على الصراع مع “إسرائيل”.

يحاول هذا المقال فهم مواقف ومبررات الإسلاميين العرب، خصوصاً تيار الإخوان المسلمين في مصر وتونس، حيث يمكن تلخيصها في الاعتبارات التالية:

1- الثورات أو التغيّرات التي حدثت في عدد من البلدان والتي تصدَّر عمليات التغيير فيها الإسلاميون، هي ثورات أو تغيّرات غير ناجزة أو غير مكتملة، فقد كان يزول رأس النظام وتبقى معظم مكوناته، أو تتسع مساحة الحريات دون تغيير النظام من رأس هرمه إلى أدناه. فهي لم تأتِ (كما في حالة الانقلابات العسكرية) على ظهور الدبابات، ولم تمسك بعدُ بمفاصل الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والإعلامية. حيث آثر الإسلاميون التغيير الديمقراطي المتدرج من خلال المؤسسات الدستورية ومن خلال التداول السلمي للسلطة. وبالتالي فمن السابق لأوانه محاسبة الإسلاميين على صلاحيات وسلطات لم يملكوها حتى الآن.


2-
في الأنظمة الجديدة التي لا تعتمد على قرارات قادة الانقلاب الجدد، ولا على ما يمليه “الزعيم الجديد المُلهم”، لم يفز لون واحد من الإسلاميين بأغلبية المقاعد، فاحترموا قواعد اللعبة الديمقراطية، ولم يفرضوا آراءهم فرضاً وإنما سعوا إلى الشراكة مع القوى السياسية المختلفة في إدارة المرحلة الانتقالية، بل وفي إدارة الحكم…، وبالتالي فإن ناتج السياسات لم يُعبِّر بالضرورة عن الآراء الخاصة بهم، وإنما ركز على القضايا الأساسية المتفق عليها.


3-
لعب هاجس الخوف من تكرار “النموذج الجزائري” في التعامل مع الإسلاميين عندما فازوا في الانتخابات أوخر 1991، وهاجس احتمالات التعامل الغربي بالحصار والإسقاط والإفشال، كما حدث ويحدث مع حماس في فلسطين ومع السودان ومع إيران…؛ لعب دوراً كبيراً في وعي ولا وعي القوى الإسلامية الصاعدة، للسعي لتجنب إثارة القوى المضادة للثورة والتي ما تزال تملك أوراق ضغط هائلة، تمكنها من إسقاطهم أو إفشال تجربتهم، أو زجّ البلاد في حمامات دم داخلية وحروب أهلية. كما لعب النموذج التركي، من جهة أخرى، دوراً جذاباً في أسلوبه التدريجي ونجاحاته الاقتصادية والسياسية.

وبانتظار استكمال عملية التغيير وبنيتها، واستكمال التحولات المؤسسية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وتقوية الجبهة الداخلية، فإن القوى الإسلامية الصاعدة آثرت تقديم أكبر قدر من المرونة، وطمأنة الآخرين أو تحييدهم، وعدم الدخول في معارك خاسرة أو سابقة لأوانها، وهي غير جاهزة لها.

وبالتالي فإن الخوف على التجربة من أن يتم وأدها، وإجهاضها قبل أن يشتد عودها، كان واضحاً في سلوك الإسلاميين؛ وهكذا، فلم يرَ الإسلاميون مصلحة في استعجال استعداء القوى المختلفة، ولا في إعطاء المبررات للتدخل الخارجي.

4-
وجد الإسلاميون أنفسهم أمام جبهة داخلية مضعضعة ومفككة ومخترقة من الأجنبي، وتعشعش فيها العديد من مافيات الفساد. وأمام واقع مليء بمئات الألغام المحتملة في الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد وفي التكوينات العرقية والطائفية. وفي مقابل الإنسان الثائر في ميادين الحرية وجدوا أنفسهم أيضاً أمام إنسان جرى تشويه إنسانيته وإذلاله، وتغريبه، وإبعاده عن دينه وتراثه وحضارته، وعن مكونات عزته وكرامته.

وبالتالي فقد رأوا أن تقوية الجبهة الداخلية وتماسكها ومناعتها من الاختراق، وأن بناء عناصر القوة، وتحرير الإنسان من براثن الفساد والتخلف، ومن عُقد الإذلال والتغريب والتبعية هي شروط سابقة لأي مشروع جاد لتحرير الأرض والمقدسات. وأن فقه الأولويات يقتضي التركيز على هذه الجوانب أولاً.

5- يرفض الإسلاميون الادعاء بأن فلسطين لم تكن حاضرة في خطابهم السياسي، ولكن ربما كان انشغالهم الهائل بتغيير النظام، واستهلاك طاقتهم السياسية والإعلامية في هذا المجال، مع تركيز وسائل الإعلام العالمية والمحلية على القضايا المرتبطة بالثورات، جعل الحديث عن فلسطين يبدو هامشياً، أو غير حاضر حضور القضايا الساخنة الأخرى. فأعلام فلسطين والدعوة لنصرتها كانت حاضرة بدرجات مختلفة في ميادين مصر وتونس واليمن وليبيا، وترددت جُمل “اليوم هنا وغداً في القدس” في هذه البلدان وغيرها. وفي مصر، أقيمت جمعة للقدس في ميدان التحرير بمشاركة مئات الآلاف، وهوجمت السفارة الإسرائيلية حتى كادت تُقتحم.

وعلى سبيل المثال، فإن تصريحات مهمة جداً لقادة الإخوان المسلمين في مصر بشأن “إسرائيل” وأميركا، لم تلقَ اهتماماً إعلامياً بقدر ما لقيت بعض التصريحات المبهمة المنتزعة من سياقها في الشأن نفسه. فمثلاً قال المرشد العام للإخوان المسلمين محمد بديع في رسالته الأسبوعية التي نُشرت في 19/5/2011، إن “إسرائيل لن تهنأ بالنوم بعد اليوم، ولن تعرف طريق الأمن والاستقرار ما دامت تستهين بحقوق الفلسطينيين”، وأكد أن الكيان الصهيوني وفي ظلّ الثورات الشعبية العربية سوف “يشرب من نفس الكأس التي طالما أذاقها للآخرين” (جريدة الخليج، الشارقة، 20/5/2011).

وقال بديع في تصريح نُشر في منتصف سبتمبر/أيلول 2011 “أن جماعة الإخوان المسلمين تعتبر فلسطين قضيتها الأولى”، وأوضح أن النظام المصري السابق ظلم القضية الفلسطينية، وتخلى عنها لصالح المشروع الصهيوني الأميركي”، وأن ذلك كان أحد أسباب قيام الثورة المصرية التي غيَّرت الأوضاع لصالح نصرة الشعب الفلسطيني (وكالة سما الإخبارية، 18/9/2011). وفي رسالته الأسبوعية التي نشرت مقتطفات منها جريدة الرأي الكويتية في 17/9/2011، شنّ المرشد العام للإخوان هجوماً حاداً على أميركا مؤكداً أن “أفول نجمها قد بدأ، وأنها ستسقط سريعاً مثل سقوط قوم عاد”. وطالب بديع الإدارة الأميركية بأن تعترف بأن هناك احتلالاً صهيونياً لفلسطين، وأن هناك اغتصاباً لأرضها وتهجيراً لأصحابها الشرعيين. وأضاف بأن أميركا إذا كانت معنية حقاً بالقضاء على الإرهاب فعليها أن تبحث عن دوافعه ومسبباته، وأنها كامنة دون شكّ في “قهر الشعوب، والتعالي عليها، والكيل لها بمكيال خاص، وهي تحديداً متجذرة في النكبة الفلسطينية”، وقال المرشد العام للإخوان إن “الثورات العربية قامت لصدّ تلك الهجمة الصهيوأميركية”.

أما محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة الذي يمثل الإخوان في مصر فذكر في تصريح نُشر في 23/1/2012 أن “القضية الفلسطينية كانت وما زالت وسوف تظل في قلب الشعب المصري، وفي القلب منه حزب الحرية والعدالة، خاصة وأنها كانت إحدى المحركات الأساسية لثورة الشعب المصري”.

وفي تونس أهدى راشد الغنوشي فوز حركة النهضة في الانتخابات إلى “فلسطين والقدس وغزة والشعب الفلسطيني” معتبراً أن “الصمود البطولي لغزة كان له أثر على أبناء الأمة في كل مكان” (جريدة القدس العربي، لندن، 27/10/2011).

وقال الغنوشي في مناسبة أخرى إن قضية فلسطين هي قضية الأمة وليست قضية شعب بمفرده، وإنه لا يمكن أن نستعيدها إلا بالوحدة، وأكد أن “الاهتمام بالقضية الفلسطينية يصل إلى مستوى العقيدة والقداسة، وأن من خان القدس فقد أنكر القرآن، وأننا لن نقصر في دعم هذا الشعب العظيم” (وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، 4/11/2011). لم تحظَ هذه التصريحات القوية الواضحة للغنوشي، بما حظيت به تصريحات أخرى له ملتبسة نُزع بعضها من سياقه، خلال ندوة “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” في 11/30/2011 وجرى التشهير به على أساسها.

أما حمادي الجبالي رئيس الوزراء التونسي الذي أخذته الحماسة عندما رأى ضيفة فلسطينية في أحد الاجتماعات الشعبية في مدينة سوسة فقد قال إن “حضور الأخت من فلسطين إشارة ربانية، من هنا ينطلق بعون الله فتح القدس، من هنا بدأت الثورة العربية، ومن هنا الفتح بعون الله.” (جريدة الحياة، لندن، 16/11/2011).

ولا يتسع حجم المقال للمضي في الاستشهادات والنقولات، ولكن من المهم عدم الاستعجال في توجيه الاتهامات للإسلاميين بسبب تصريحات مجتزأة ومبسترة وخارجة عن سياقها، ودون الأخذ في الاعتبار مجموع مواقفهم الرسمية وتصريحاتهم التي تعبر عنها قيادتهم.

6- هناك خلط واضح، ومتعمد أحياناً، بين موقف الإسلاميين أنفسهم كأحزاب، والطريقة التي يرونها لتنفيذ مواقفهم بشكل عملي في مؤسسات الدولة الدستورية والسياسية. فمثلاً هناك رفض قاطع من قِبَل الإخوان المسلمين جرى تكراره مراراً لاتفاقية كامب ديفد وللحوار مع الإسرائيليين، ولكنهم يرون أن إلغاء هذه المعاهدة يجب أن يمر عبر المؤسسات الدستورية المصرية، بحيث يقول الشعب كلمته فيها. وهم يريدون بذلك أن يفهم الآخرون أن الموقف المصري ليس مجرد موقف الإخوان وإنما هو موقف الشعب، وأن تحمّل تبعات هذا القرار، بما قد يحمله من انعكاسات سياسية واقتصادية وأمنية، ستكون على عاتق الشعب كله وليس فقط أحد أحزابه وتياراته.

7- إن الإسلاميين كانوا  وما زالوا في طليعة القوى الشعبية التي دعمت المقاومة، ورفضت التنازل عن أي شبر من فلسطين، والتي رفضت التسوية السلمية ونادت بالجهاد وقاومت التطبيع، وسعت إلى كسر الحصار عن غزة، ودفعت أثمانا غالية من بطش الأنظمة في سبيل ذلك طوال السنوات الماضية، فضلاً عن أن الإسلاميين أنفسهم هم أبرز قوى المقاومة في فلسطين. فلا ينبغي الاستعجال في الاتهام، وإنما الاستماع إليهم، ومحاولة تفهُّم ظروفهم.

8- إن عدداً من القوى الإسلامية وهي تلج أبواب القيادة السياسية لأول مرة، ربما تنقصها الخبرة والمهارة في استخدام التعبيرات السياسية المناسبة، وفي تقديم أطروحات سياسية متماسكة. والأصل في أحوال مثل هذه أن يتم استقراء خريطة المواقف والتصريحات كلها، وأن تتم العودة للطروحات الرسمية التي تطرحها القيادات الممثلة لهذه التيارات، وأن يتم مراقبة ما يتم تنفيذه حقيقة على الأرض، وألا يتم تصيُّد بعض الهفوات والثغرات هنا أو هناك، بشكل غير بريء يشوه الصورة ولا يعكس الحقيقة.

كما أن الإعلام العالمي وحتى العربي -الذي يكون في كثير من الأحيان خصماً لهم- كثيراً ما يلجأ إلى تشويه صورتهم في أعين جماهيرهم، وإلى التركيز على الثغرات وعلى فلتات اللسان، أكثر مما يعكس صورة صادقة لحقيقة مواقفهم.

ومن المهم الانتباه إلى مصدر المعلومة والتأكد من مصداقيتها فالإعلام الإسرائيلي والغربي بالرغم من مهنيته ليس بريئاً دائماً في نقل الأخبار وصياغتها. وقد سبق للإخوان في مصر أن نفوا بشكل قاطع ما نشرته جريدة معاريف من أن “إسرائيل” تجري اتصالات بجماعة الإخوان لإقامة حوار معها، وقال محمود غزلان -عضو مكتب الإرشاد والناطق الرسمي باسم الجماعة- بأن “الإخوان يرفضون رفضاً تاماً أي لقاءات أو حوارات أو تواصل مع الكيان الصهيوني”، وأن نشر هذه التقارير هدفه التشويه المتعمد لصورة الإخوان.

وأضاف غزلان أن الإخوان يرفضون بشكل قاطع “الوجود الصهيوني في فلسطين، ويؤكدون على مطالبهم الثابتة بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر” (جريدة الرأي، الكويت، 20/12/2012). وينطبق على ذلك نفي قيادة الإخوان نفياً قاطعاً لتصريحات رسمية أميركية من أنهم تعهدوا لأميركا بالالتزام باتفاقية كامب ديفد.

ربما أوضحت النقاط السابقة بعض الظروف الموضوعية لعدم أخذ فلسطين مكانتها البارزة في طروحات التيار الإسلامي في الوقت الحالي، ولكن هذه المبررات ليست كافية تماماً في نظر العديدين، حيث يرون أن صدر الإسلاميين يجب أن يتسع للملاحظات التالية:

1- إن المشروع الإسلامي للتغيير هو بطبيعته مشروع نهضوي وحدوي يستجيب لتطلعات الأمة وقضاياها. وإن الطرح الإسلامي يجب أن يكون واضح المعالم والأطر والرؤية، ولا ينبغي أن يقع في أسر القطرية والمحلية، ولا في أسر التعبيرات الملتبسة والمواقف الضبابية، التي لا تُقربه من الآخرين، بقدر ما تبعده عن جماهيره التي اختارته بسبب التزامه الإسلامي.

2- إن الإسلاميين قد مضوا في عملية الطمأنة للغرب أكثر مما ينبغي، فيما يتعلق بقضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين. ولا ينبغي أن تكون نتيجة الطمأنات هي إثارة القلق لدى محبي ومؤيدي التيار الإسلامي، وإفقاد الثقة به وبمصداقيته. ثم إن هناك العديد من الإجراءات والمواقف التي يمكن اتخاذها لنصرة فلسطين، دون أن يعني ذلك بالضرورة استعجالاً للمواجهة مع أميركا و”إسرائيل”.

3- إن الجماهير التي أحدثت عملية التغيير وأسقطت الأنظمة، لا تقتصر تطلعاتها على العموم على المحلية وقضايا المأكل والمشرب ومكافحة الفساد، وإنما ثارت أيضاً لعزتها وكرامتها ومقدساتها التي امتُهنت في فلسطين والعراق وغيرها، كما ثارت راغبة في استعادة مجدها ودورها الحضاري والإنساني، الذي لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال كسر الأطر القطرية الضيقة، والاهتمام بقضايا الأمة بشكل لا لبس فيه.

4- إن تقوية وضع الإسلاميين في أقطارهم لا تتم فقط من خلال تخذيل خصومهم وأعدائهم عنهم، وعدم استفزازهم، وإنما بالالتصاق أكثر بالجماهير التي قامت بالتغيير والاستجابة لتطلعاتها. وإن المواقف المرتبطة بنصرة فلسطين والقدس، وعدم الاعتراف بـ”إسرائيل”، ودعم المقاومة، وكسر الحصار، هي مواقف تجد شعبية، ودعماً هائلاً من الجماهير، وهي رافعة حقيقية للإسلاميين، وشبكة أمان شعبية في تنفيذ برامجهم الأخرى والصبر على إنجازها، وهي لا تقل شعبية عن إجراءات مكافحة الفساد والتنمية الاقتصادية والمجتمعية، وهي نفسها محك مصداقية الإسلاميين.

المصدر: موقع الجزيرة نت، الدوحة، 1/3/2012