مدة القراءة: 7 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح.

مع تبني شارون فكرة الانسحاب أحادي الجانب وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، كانت القناعات الإسرائيلية تتزايد بضرورة تجاوز مشروع “خريطة الطريق” والاتجاه بشكل أكثر وضوحاً وحسماً نحو فرض الحل الأحادي الجانب.

ولم تعد تلك الفكرة خاصة بحزب كاديما الذي أنشأه شارون، وإنما أخذت تجد لها أشكال دعم متفاوتة لدى مختلف التيارات الصهيونية المحسوبة على اليسار والوسط واليمين، وإن كان ذلك بديباجات مختلفة.

خلفية تبنِّي الانسحاب الأحادي

يعترف الإستراتيجيون الإسرائيليون بأن معضلة “إسرائيل” تكمن في التوفيق بين ضرورة وجود دولة يهودية ديمقراطية تتمتع بأغلبية يهودية مريحة وما يعني ذلك من تنازل عن أجزاء مما يسمونه “أرض إسرائيل” وبناء دولة فلسطينية بهدف التخلص من العبء السكاني الفلسطيني؛ وبين الحاجة لحماية وجود اليهود على “أرض إسرائيل” وما يعني ذلك من دعم لمشاريع الاستيطان والتوسع اليهودي واستمرار احتلال أراضي “الدولة الفلسطينية” الموعودة وما يترتب على ذلك من ضرورات أمنية.

ويعترف هؤلاء بأن عامل الوقت يسير ضد تحقيق هدف وجود إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية كما يسير ضد مشروع الدولتين، إذ لا يمكن للأغلبية اليهودية أن تتحقق إذا ما استمرت “إسرائيل” في حكم الفلسطينيين في الضفة الغربية.

فتشير التقديرات إلى أنه في سنة 2010 سيتجاوز عددُ الفلسطينيين في حدود فلسطين التاريخية (الأرض المحتلة سنة 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة) عددَ اليهود.

وقد ينبني على ذلك بالنسبة لهم “مخاطر” أن يتوقف الفلسطينيون عن المناداة بحلِّ الدولتين، ويعودون للمطالبة بالدولة الواحدة وبحقوقهم المدنية والسياسية، وبالسعي لإزالة النظام العنصري الإسرائيلي ربما على طريقة نضال السود في جنوب أفريقيا، مما قد يفتح المجال لإنهاء الطبيعة اليهودية للدولة وفق قواعد واعتبارات جديدة (ربما نحتاج مقالاً آخر لمناقشة مدى جدية هذه المخاطر).

كما تكمن الصعوبات الإسرائيلية في أن الحد الأعلى الذي يعرضه الإسرائيليون لم يصل بعد إلى الحدود الدنيا التي يتوافق عليها الفلسطينيون، وتحديداً حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها سنة 1948، ومستقبل القدس وبالذات منطقة المسجد الأقصى، ومستقبل الكتل الاستيطانية، ومدى سيادة الدولة الفلسطينية على أرضها بما في ذلك تأسيس الجيش والسيطرة على الحدود ومصادر المياه.

ومن جهة أخرى فإن صعود حماس، “الخط” الديمغرافي الفلسطيني، التهديد النووي الإيراني، تزايد قوة الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، تصاعد قوة المقاومة في العراق ولبنان وأفغانستان، انتشار ما يسمى “الإرهاب” المعادي بشكل مطلق لـ “إسرائيل” وأميركا، كل ذلك يشكل تحدياً إستراتيجياً معقداً لـ “إسرائيل”.

وفي الخلاصة، فإن انسحاباً يجب أن يحدث للتخلص من الكثافة السكانية الفلسطينية دونما حاجة لتسوية مشتركة مع الفلسطينيين.

أميركا وكيلاً مفاوضاً عن الفلسطينيين

وفي مطلع 2006 وقبل أن يغط شارون في غيبوبته بيومين، نشر رئيس تحرير جريدة معاريف بالاشتراك مع كبير مراسليها ما أسمياه الخطة السياسية الحقيقية التي كانت تعدُّ في الأشهر الأخيرة استعداداً للولاية المقبلة لشارون (أو لحزب كاديما).

وتقوم الخطة على أساس أنها بديل عن خريطة الطريق، وتستند إلى عدة أفكار أهمها:

– السلطة الفلسطينية ستعجز عن تفكيك البنى التحتية “للإرهاب” وهذا يعني أن المرحلة الأولى من خريطة الطريق لن تتم.

– تبقى خريطة الطريق مجرد “ورقة توت” تستعملها القيادة الإسرائيلية كما تريد.

– تشرع “إسرائيل” والولايات المتحدة في مباحثات سرية للاتفاق على الحدود الشرقية لـ “إسرائيل” حيث تتولى أميركا دور الوصي أو الوكيل عن الفلسطينيين الذين سيتم تقديمهم على أساس أنهم عاجزون عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، وحيث لا توجد فرص تحقيق إنجاز عملي في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

– لا يتوقع أن يزيد الخلاف بين تل أبيب وواشنطن على 8 إلى 12% من مساحة الضفة التي ستضمها “إسرائيل” إلى أراضيها.

– ستنال “إسرائيل” من أميركا إقراراً بالسيادة في القدس القديمة كلها مع نقل جميع الأحياء العربية في القدس للسيادة الفلسطينية، كما ستنال إقراراً أميركياً بالرفض التام لحق الفلسطينيين بالعودة إلى الأرض التي هُجِّروا منها سنة 1948.

– إتمام بناء الجدار العازل، وإخلاء تدريجي للمستوطنات (مع الإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبيرة الست).

– تُقدِّم أميركا مساعدة مالية سخية لـ “إسرائيل”.

– يتم الإعلان عن الاتفاق باعتباره إنجازاً أميركياً تاريخياً، وباعتبار أميركا الوحيدة التي نجحت في دفع “إسرائيل” للانسحاب من أكثر مناطق الضفة، أو السماح بإقامة دولة فلسطينية ذات امتداد جغرافي في الضفة.

أي أن جوهر المشروع يتمحور حول انسحاب أحادي الجانب وبغياب أي شريك فلسطيني، وفق ترتيبات تتم مع أميركا وتحظى بموافقتها الرسمية واعترافها بالحدود الجديدة لـ “إسرائيل” بحيث يتم السعي لتوفير دعم وغطاء دولي لها.

وأشارت معاريف إلى أن كبار المسؤولين الأميركيين سمعوا الخطة باهتمام. وكان عرَّاب السياسة الأميركية الكبير ووزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر من أوائل المؤيدين لها.

وقد أوصى بالمحافظة على سرية الاتصالات الإسرائيلية الأميركية، وعرض المسألة في النهاية وكأنها حدثت بإملاء وإكراه أميركي لـ “إسرائيل”.

تجاهل الفلسطينيين
الخطة إذن كانت مصمّمة للتنفيذ في غياب المفاوضات مع الفلسطينيين سواء فازت فتح أم حماس في الانتخابات، ولم يكن الحديث عن التعاطف مع أبي مازن أو عن تعويق الفلسطينيين لخريطة الطريق سوى نوع من البهارات والتوابل اللازمة لتجهيز “طبخة” الانسحاب الأحادي الجانب.

وكان محمود عباس قد سعى منذ انتخابه رئيساً للسلطة ولمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) إلى إظهار استعداد القيادة الفلسطينية لإجراء المفاوضات، وإثبات أنها شريك مناسب للوصول إلى التسوية النهائية.

وكان أحد أهدافه من إجراء الانتخابات التشريعية استيعاب حماس في النظام السياسي الفلسطيني، ونزع سلاحها بعد الانتخابات، وضبط إيقاع عملها ضمن الدور المهيمن للسلطة الفلسطينية ولـ م.ت.ف. خصوصاً وأن التوقعات كانت تشير إلى فوز فتح في الانتخابات.

ولذلك كان عباس يؤكد قبل نحو شهرين من الانتخابات التشريعية أن التوصل إلى اتفاق مع “إسرائيل” ممكن، وأنه إذا كان هناك طرف إسرائيلي راغب في المفاوضات فلن يتطلب الأمر أكثر من ستة أشهر لإبرام معاهدة الوضع النهائي.

لكن القيادة الإسرائيلية اختارت تجاهل عباس، والمضي في الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة وفي خطة الانطواء.

وفي النصف الأول من سنة 2006 تتابعت التصريحات والتسريبات الإسرائيلية حول هذا المشروع، مؤكدة أن “إسرائيل” سترسم حدودها الدائمة بنفسها، وأنها ستضطر إلى فرض تسوية من دون استشارة الفلسطينيين.

وذكر أولمرت أن “إسرائيل” ستظهر بصورة أخرى بعد أربع سنوات، وستعيش في حدود أخرى والتي وإن لم يتم الاعتراف بها رسمياً “فستلقى الدَّعم الفعلي من قبل الأطراف المهمة الحقيقية في العالم”.

وقال أولمرت إن “إسرائيل”على عجلة من أمرها للانفصال عن الفلسطينيين، وإنها لا تملك الانتظار عشرين سنة “لكي تنضج حماس” وإنه في حالة عدم وجود شريك فلسطيني “فسنتخذ مبادرات جانبية بالتنسيق مع الولايات المتحدة والأوروبيين”.

أقرِّت الحكومة الإسرائيلية الجديدة يوم 5 مايو/أيار 2006 برنامجها السياسي، حيث أكدت سعيها إلى بلورة الحدود النهائية للدولة كدولة يهودية، وأنه إذا لم يتم الوصول إلى اتفاق من خلال المفاوضات مع الفلسطينيين فستقوم الحكومة بتحديد حدودها.

وبعد أقل من ثلاثة أسابيع من تشكيل حكومته كان أولمرت قد وصل إلى واشنطن لتسويق نفسه ووزارته وخطته في التجميع والانطواء، وهناك التقى الرئيس الأميركي بوش الذي أظهر نوعاً من الإعجاب بالخطة الإسرائيلية عندما وصفها بالشجاعة وأنه لا يمكن الانتظار إلى ما لا نهاية.

غير أن بوش من جهة أخرى لم يُعط وعداً بالاعتراف بالحدود المقترحة باعتبارها حدوداً نهائية، كما أكد على رؤيته بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وبضرورة إجراء مفاوضات جدية مع محمود عباس باعتباره شريكاً حقيقياً في السلام وعدم عرقلة مهامه أو إضعافه.

الإحباط وتعليق تنفيذ الخطة
في النصف الثاني من سنة 2006 بدأ الإحباط يَدبُّ بشكل سريع تجاه تنفيذ خطة الانطواء أو التجميع، وأخذت تتراجع عن سلم أولويات الحكومة. ولعل من أهم أسباب فقدانها للبريق وقوة الاندفاع:

1- فوز حماس، وتشكيل حكومتها والفشل في إسقاطها. وعلى الرغم من أن ذلك قد عزز من فكرة عدم وجود شريك فلسطيني وبالتالي زاد من مبررات الحل أحادي الجانب؛ فإن الانسحاب من مساحات واسعة من الضفة كان سيعدّ انتصاراً لحماس وتثبيتاً لنفوذها على الأرض، وسيكون من الصعب جداً تسويقه خصوصاً وأن صعود حماس جعل من احتمالات إنشاء دولة فلسطينية بحدود آمنة أمراً أكثر صعوبة.

2- فشل الهجوم على حزب الله ولبنان في صيف 2006، وتزايد القناعات بأن الانسحاب من الجنوب اللبناني سنة 2000 زاد من قوة حزب الله ومن قدرات المقاومة مما زاد مخاوف تكرار مثل هذا السيناريو في الضفة الغربية.

3- تراجع شعبية أولمرت وحزب كاديما، وضعف ثقة الناخب الإسرائيلي فيه وفي التحالف الحاكم مع تصاعد شعبية قوى اليمين الإسرائيلي؛ وهو ما أضعف قدرة أولمرت على المناورة والحركة.

4- ظهور قناعات بضرورة دعم محمود عباس ورئاسة السلطة، والتنسيق معه في مواجهة حماس ومحاولة إسقاطها.

5- انشغال الداخل الإسرائيلي بفضائح الفساد، وفي ملفات التحقيق في ضعف أداء وفشل الجيش الإسرائيلي في الحرب ضد حزب الله ولبنان.

6- ظهور صعوبات عملية أمنية واقتصادية وقانونية عند دراسة تطبيقات الخطة على الأرض. وهذا ما أشارت إليه “لجنة التجميع” التي درست الانسحاب أحادي الجانب وقدمت تقديرها منتصف أغسطس/آب 2006، كما أشارت اللجنة إلى مخاطر إطلاق الصواريخ من الضفة وإلى أن إسرائيل لن تتمكن من الحصول على اعتراف دولي بإنهاء الاحتلال لأنها تنوي الاحتفاظ بأجزاء من الضفة الغربية.

ومع نهاية الحرب على لبنان كان قد ظهر تفكك واضح في أوساط حزب كاديما تجاه خطة الانسحاب، حيث أشارت تقارير إسرائيلية إلى أن عدداً كبيراً من وزراء كاديما وأعضائه في الكنيست يعارضونها. وهو ما أضعف القوة الرئيسية الدافعة لها.

وبعد بضعة أيام من انتهاء حرب لبنان أخبر أولمرت عدداً من وزرائه أن خطة التجميع لم تعد تقف على سُلّم أولوياته. أما شمعون بيريز نائب رئيس الوزراء فصرح ليديعوت أحرونوت يوم 8/9/2006 أن فكرة الانطواء والتجميع قد “انتهت سياسياًً ونفسياً وعملياً” محذراً من أن كاديما سيختفي من المشهد السياسي إذا لم يبلور أجندة سياسية جديدة.

وفي مثل هذه الأجواء، بدا أن التحالف الإسرائيلي الحاكم يعاني من فقدان الرؤية والاتجاه. وأخذت تظهر على السطح دعوات تنسيق الانسحاب مع أبي مازن وتسليم مناطق محدودة من الضفة إلى حرسه الرئاسي.

وفي أواسط نوفمبر/تشرين الثاني 2006 ظهرت طروحات سياسية (نشرتها صحيفة الحياة يوم 19/11/2006) منقولة عن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني تقترب من تلك التي طرحت في مفاوضات كامب ديفيد صيف 2000، وتحدثت عن انسحاب من حوالي 90% من الضفة الغربية مع انسحابات وتعديلات حدودية تالية، وانسحاب من الأحياء العربية في القدس باستثناء المسجد الأقصى الذي يتم تسليمه في المرحلة الثالثة، وصدور قرار من الأمم المتحدة يتحدث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 تعيش بسلام وأمان مع جيرانها حيث وضع هذا الاصطلاح بديلاً عن الاعتراف.

وتقول الطروحات إن “اسرائيل” لن تشترط التنازل عن حق اللاجئين بالعودة، لكنها ستقول إنها لن تسمح لهم بالعودة إلى “أراضيها” حيث يعودون فقط للدولة الفلسطينية، بينما يبقى حق العودة حيّاً ولو من الناحية النظرية. وفي نهاية المطاف يتم الاعتراف بين دولتين كاملتي السيادة. وتوضح الخطة أنه سيتم تطبيق ما يتم الاتفاق عليه من دون ربطه بالقضايا الأخرى.

تشكل أفكار ليفني -لو صحَّت- تغييراً كبيراً في فكر كاديما أو القيادة الإسرائيلية فيما يتعلق بالتراجع عن الانسحاب أحادي الجانب، والموافقة على إمكانية إنشاء دولة فلسطينية على معظم الضفة والقطاع دون الحاجة إلى اشتراط الاعتراف أو التنازل الرسمي عن حق اللاجئين بالعودة، أو ربط الاتفاق بقضايا أخرى كانت عادة ما تستخدم وسيلة لتعطيله أو إفشاله.

وهو ما يعني أيضاً أن هناك مِن الإسرائيليين مَن صاروا أكثر استعداداً للتعامل مع تيارات فلسطينية غير مستعدة للاعتراف بكيانهم الصهيوني، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرها.

على أنه من السابق لأوانه القول إن الإسرائيليين تراجعوا تماماً عن تطبيق خطة الانسحاب أحادي الجانب، لكنهم بالتأكيد أخذوا يدركون مدى الصعوبات العملية في تنفيذها. وإذا كان استعجال الإسرائيليين في إيجاد حلٍّ لمشكلتهم (وليس للقضية الفلسطينية) وانعدام وجود من يقبل “البضاعة المزجاة” التي يقدمونها، يدفعهم للسير في محاولة فرض الحلول المنفردة، فإنهم يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا فرض إرادتهم على شعب لا يتنازل عن حقوقه ومستعد للتضحية في سبيلها.

ولا يزال الإسرائيليون قادرين فقط على الحوار أو التفاوض مع أنفسهم، ولكنهم لا يملكون الإرادة ولا الجدية اللازمة للتفاوض مع الفلسطينيين أو العرب حتى وفق قرارات “الشرعية الدولية”. ولم يستوعب الوعي الإسرائيلي حتى هذه اللحظة أن الفلسطيني إنسان يستحق أن يمارس إنسانيته في العودة إلى أرضه والعيش فيها بحرية وكرامة، ويستحق أن يقرر مصيره ويبني دولته. وأخيراً فليس مطلوباً من الفلسطينيين والعرب والمسلمين انتظار “صحوة وعي أو ضمير إاسرائيلية!! وإنما مواصلة الجهاد والتضحيات لانتزاع حقوقهم.

المصدر: الجزيرة نت 15/5/2007