مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

كان يوماً استثنائياً عندما أصبح لديّ من المدّخرات ما يُمكِّنني من شراء أشرطة الكاسيت التسعة التي تحوي أناشيد أبي مازن. كان ذلك في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وكنت ما زلت طالباً في المدرسة، حيث حثثت الخطى إلى مكتبة المنار في منطقة حولّي بالكويت، وعندما اشتريتها شعرت “وكأنما حيزت لي الدنيا”!!

رحم الله أبا مازن (رضوان خليل عنان) الذي تُوفي في 15 آذار/ مارس 2023، ابن دمشق الذي تُوفي في القاهرة عن عمر يناهز 71 عاماً.

بالنسبة لنا أبناء ذلك الجيل، كان أبو مازن منشد الصحوة الإسلامية الأول؛ وكان في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بالنسبة للكثيرين متربعاً على “عرش” النشيد الإسلامي. وما زلتُ حتى الآن أرى أنه رائد مدرسة الإنشاد الإسلامي الرسالي التربوي التعبوي الحركي.

وما زلت أذكر كيف أن أحد “مشايخنا الشباب” أراد أن يُسمعنا آخر شريط وصله لأبي مازن، فأركبنا في سيارته البيجو 404 وانطلق بنا، حيث فتح جهاز التسجيل على “ملحمة الدعوة” (الشريط السابع) فسمعنا صوتاً “ملائكياً” عميقاً يقتحم قلبك ويهز مشاعرك وكيانك، ويسمو بك، في الوقت الذي يغرس فيك معاني الإيمان والصبر والتضحية والثبات. شعرتُ في تلك اللحظة كيف يمكن أن تتحول الأنشودة إلى وسيلة تربوية، وأداة ارتقاء نفسي ومعنوي، ورافعة لمعاني العزة والكرامة والثقة بالله سبحانه، وبنصره للمؤمنين.

بماذا تميّز أبو مازن؟

تميّز أبو مازن رحمه الله بـ:

1. جمال الصوت وروعته وتأثيره، وبطريقة تلامس القلوب وتأسرها؛ ولعل ذلك كان من علامات إخلاصه وصدقه.

2. القدرة الإبداعية على التعامل مع النصوص وتحويلها إلى أناشيد، يتوافق فيها اللحن والمعنى وينسجمان، بحيث يُخرج من النص أجمل ما فيه تَرنّماً ونشيداً.

3. عدم الحاجة إلى أدوات موسيقية في النشيد، وحتى الطبل والدّف لم يستخدمهما. وربما يعود ذلك إلى نقاشات الإسلاميين وجيل الصحوة في تلك الفترة حول شرعية استخدام الموسيقى في الأناشيد، حيث كانت الأغلبية لا تميل لذلك. وحتى استخدام الدّف كان الاتجاه العام هو قصر استخدامه على الأعراس والأفراح. ولكن اللافت هنا، هو القدرة الاستثنائية لأبي مازن على أن يوفر لجيل الصحوة عشرات الأناشيد الحماسية والدعوية والتربوية، وأن يكون صوته الجميل وطريقة لحنه كافية لأن تملأ الفراغ، الذي يقوم معظم المنشدين و”المُغَنِّين” بملئه من خلال الموسيقى.

4. القدرة المتميزة على انتقاء النصوص والأناشيد، التي تحمل معاني إيمانية وتربوية ودعوية راقية، ومن بين الشّعر القوي الرصين. واستفاد كثيراً من أشعار إبراهيم عزت، كما استفاد من أشعار يوسف العظم ويوسف القرضاوي وغيرهما.

منشد الصحوة.. لا منشد المحنة والسجون:

ظَلَم بعض الكتّاب أبا مازن بوصفهم إياه منشد المحنة والسجون، لتركيزه كما يقولون على أناشيد الابتلاء والمحنة التي أصابت الإسلاميين، والتي كُتبت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. غير أن هذا التعميم غير صحيح ومبالغ فيه، إذ إنّ أناشيد الصحوة الإسلامية احتوت قدراً من هذه الأناشيد، ليس فقط بسبب ما تعرضت له الحركة الإسلامية من مطاردات وسجون وظلم ومحاولات تهميش وإلغاء، وإنما أيضاً لاعتبار تربوي دعوي مرتبط بسنن الله سبحانه في الدعوات من ابتلاء وتمحيص، والحض على الصبر والثبات وحسن الثقة بالله، وهو معنى جوهري ومهم ركّز عليه القرآن الكريم كما ركّزت عليه السنة النبوية. وربما لم يلاحظ بعض من وصفوا أبا مازن هذا الوصف أن هناك شريطين فقط هما السادس والسابع ركّزا على الابتلاء والمحنة، من بين أشرطته التسعة.

وحتى عندما يعرض المحنة والمعتقلات والسجون في أناشيده، فإن الأناشيد كانت تحمل مضامين إيمانية تعبوية تربوية راقية لتحصين الداعية وتقوية عزيمته، ورفع معنوياته؛ ولا تجنح إلى معاني الإحباط واليأس. وتجد ذلك بقوة في أناشيده “ملحمة الدعوة”، و”أرملة الشهيد تهدهد طفلها”، و”قصة شهيد” وغيرها. ففي خاتمة ملحمة الدعوة تنطلق حنجرته الذهبية بصوت عميق مؤثر ليعلن:

عرفت قصة الطريق كلها الموت أول المطاف

لكن خضرة الطريق لا يصيبها الجفاف

قادم وقادم وقادم

إشراقة مضيئة تجيء في الختام…

عائد أنا من حيث أتيت عائد أنا إلى مسجدي

عائد إلى الصلاة والركوع والسجود

عائد إلى الطريق خلف أحمد الرسول

أطلق الخطى حثيثة في إثره

عرفت قصة الطريق كلها وعائد أنا برغمها

كالفجر كالصباح مغدقٌ وباسم

والخطو كالرياح عاصف وعارم

وبشكل عام، يمكن تصنيف أناشيد أبي مازن إلى خمسة خطوط، بما يجعله بلا شك منشد الصحوة الإسلامية والدعوة الإسلامية بكافة مجالاتها:

1. أناشيد تُعرِّف بالرؤية الإسلامية ومزاياها ومواصفاتها وتجربتها؛ منها مثلاً: الصين لنا، مسلمون، ملكنا هذه الدنيا قرونا، أحباب ديني، أنا عالمي، أنا مسلم، بعقيدتي، دعوة لله وحده، دستورنا القرآن… وغيرها.

2. أناشيد إيمانية وجدانية ترتقي بمشاعر المؤمن وعلاقته بربه ودينه، ومنها مثلاً: أحزان قلبي، يا إلهي، أسبح ربي، ببابك لله أغادره، قلبي مجيب، ربنا الله، آنست نور الله، ربنا إياك ندعو، وكان مصعب معطراً… وغيرها.

3. أناشيد جهادية تعبوية، ومنها مثلاً: هو الحق يحشد أجناده، حطموا ظلم الليالي، نحن جند الله، جدد العهد، حطين، الباطل مهزوم العسكر… وغيرها.

4. أناشيد متعلقة بالصبر والثبات على الابتلاء ومصاعب الطريق، ومنها مثلاً: ملحمة الدعوة، أرملة الشهيد، قصة شهيد، أخي أنت حر وراء السدود… وغيرها.

5. أناشيد للأطفال، وقد أخذ أبو مازن معظمها من أشعار يوسف العظم رحمه الله، وهي تحوي كافة المعاني الإيمانية والتربوية والجهادية، ومنها مثلاً: نحن زهر الياسمين، الريحان، زلزل يا سعد الإيوانا، في بدر، روض الأقصى، وجاءت التتار… وغيرها.

وسيلاحظ المستمع لأناشيده، أن الأشرطة الثلاثة الأولى والخامس والتاسع تركز على الدعوة الإسلامية ومزاياها والأناشيد الإيمانية الوجدانية والجهادية؛ في الوقت الذي يركز فيه الشريطان الرابع والثامن على أناشيد الأطفال، بينما يتخصص الشريطان السادس والسابع، كما ذكرنا، بمواضيع الابتلاء والمحنة ومواجهة الظالمين وأدب السجون.

* * *
وفي الخلاصة، فإن أبا مازن كان داعية وظَّف إمكاناته الفنية في خدمة دينه ودعوته، ولم يكن فناناً يوظف الدعوة لظهوره وشهرته.

وبالتأكيد فقد كان إلى جانب أبي مازن عدد من القامات الكبيرة في النشيد، أمثال أبو الجود والترمذي وأبو دجانة وأبو راتب وأبو أحمد وأحمد عبد الجبار وفريد سرسك، وغيرهم ممن كانت لهم آثار طيبة على جيل الصحوة.

وعلى منواله، ظهرت أشرطة أناشيد في عدد من البلدان، وعايشنا صدور بعضها وكان منها سلسلة الأناشيد الكويتية، وسلسلة أناشيد الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين في الكويت، وأناشيد الحركة الإسلامية في فلسطين 1948، وأناشيد اليرموك في الأردن وغيرها.

رحم الله المنشد الكبير أبا مازن، الذي كان مُلهماً للملايين من مستمعيه ومتابعيه من جيل الصحوة الإسلامية.

المصدر: موقع ”عربي 21“، 18/3/2023


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: