مدة القراءة: 31 دقائق

إعداد: أ. وائل المبحوح.[1]
(خاص بمركز الزيتونة).

ملخص الدراسة:

هدفت هذه الدراسة إلى بيان ماذا يعني فشل حلّ الدولتين بالنسبة للفلسطينيين؟، وعرض خيارات وبدائل الفلسطينيين في ظلّ فشل حلّ الدولتين، إضافة إلى مناقشة وتحليل كلِّ بديلٍ من البدائل المتوقعة، مستخدماً الباحث أداة التحليل سوات SWOT analysis، حيث خرج الباحث بخمسة بدائل؛ من الممكن أن تكون محط أنظار القيادة الفلسطينية في ظلّ فشل حلّ الدولتين. وقام الباحث بعرض نقاط القوة، ونقاط الضعف، التي يحملها كلُّ بديل، إضافةً إلى عرض فرص نجاح أو عوامل تهديد نجاح كلٍّ من البدائل المتوقعة، حيث لجأ الباحث إلى الاستعانة بمجموعة من الباحثين؛ المهتمين في قضايا الأمن القومي؛ كانوا أتموا دورة تدريبية خاصة قوامها مئة ساعة تدريبية بعنوان: إصلاح القطاع الأمني وإدارة الحكم الرشيد؛ بتنظيم من مؤسسة مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة Geneva Centre for the Democratic Control of Armed Forces (DCAF)، وذك عبر تنظيم ورشة عمل لهؤلاء الباحثين، من خلال مؤسسة بيت الحكمة للدراسات والاستشارات وحلّ النزاعات بغزة؛ من أجل مناقشة البدائل المقترحة، خصوصاً في مجال تحليل البيئة الداخلية والخارجية.

وخلصت الدراسة إلى أن تلك البدائل؛ هي خياراتٌ صعبةٌ، وتحمل في طياتها العديد من نقاط القوة، ونقاط الضعف، وعليه لا يمكن تحديداً الإشارة إلى أيٍّ منها بأنه البديل الأقوى، وتبقى كافة الاحتمالات مفتوحة أمام القيادات الفلسطينية، وذلك حسب المتغيرات المحلية، والإقليمية، والدولية، وإن بدا أن خيار المقاومة بكافة أشكالها وأنواعها هو الخيار الذي ينسجم بالطبع مع فكرة التحرير ومواجهة الاحتلال، ومع ذلك فهو بحاجة ماسة إلى توافق فلسطيني كامل، لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيقه حتى الآن لأسباب متعددة. كما يبرز بديل الكونفدرالية مع الأردن حلاً مقبولاً لدى قيادة السلطة الفلسطينية، حتى في ظلّ عدم الإعلان عن دولة فلسطينية في حدود 1967، كما يبقى وضع قطاع غزة هو أبرز التحديات في أغلب البدائل المتوقعة.

وأوصى الباحث القيادات الفلسطينية بضرورة تحقيق المصالحة الفلسطينية؛ فهي الأساس والمنطلق لاختيار أيّ بديلٍ من البدائل الموجودة، وضرورة إعادة بناء، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية؛ ككيانٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ جامعٍ، يمسك بزمام الأمور، ويكون صاحب القرار في اختيار البديل الممكن، كما أوصى بضرورة الصبر والتروّي، ودراسة كلّ بديلٍ بتأنٍ، ومن كافة جوانبه، وتأثيراته، وفهم انعكاساته على الخريطة الإقليمية والدولية.



للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: بدائل القيادة الفلسطينيّة في ظلّ فشل حلّ الدولتين … أ. وائل المبحوح (44 صفحة، 2.9 MB)


الكلمات المفتاحية:

فشل حلّ الدولتين بدائل القيادة الفلسطينية حل الدولة الواحدة
حل الدول الثلاث حل السلطة الفلسطينية الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية
التعايش السلمي المقاومة الفلسطينية إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية

المقدمة:

يمكن القول إن مشروع حلّ الدولتين المتجاورتين لشعبين في أرض واحدة؛ كان بمثابة الأساس لكل جهود السلام المبذولة، إن لم نقل الخيط الناظم لسائر المبادرات والمساعي الديبلوماسية المبذولة على هذا الصعيد، لا سيّما من جانب الرباعية الدولية Quartet؛ الولايات المتحدة، وروسيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي European Union (EU) والأمم المتحدةUnited Nations، حيث كان أول من اشتق هذا المصطلح السياسي وروّج له بقوة، الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن George W. Bush، ووزير خارجيته الجنرال كولن باول Colin Powell، ومستشارة الأمن القومي حينذاك كونداليزا رايس Condoleezza Rice بعد مرور أقل من عام واحد على واقعة 11/9/2001، التي غيّرت وجه العالم.

حلُّ الدولتين إذاً هو حلّ مقترح للصراع العربي الإسرائيلي بشأن القضية الفلسطينية، وهو المقابل لمحاولات تتمحور حول حلّ الدولة الواحدة، والذي لا يحظى بتأييد معظم الدول. يقوم هذا الحلّ على أساس دولتين في فلسطين التاريخية؛ تعيشان جنباً إلى جنبٍ هما: دولة فلسطين (العربية)، إلى جانب “دولة إسرائيل” (اليهودية)، وهو ما عُرض في القرار الأممي 181، وأشير إليه في القرار الأممي 242 بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، وسيطرة “إسرائيل” على باقي أراضي فلسطين التاريخية.

وفيما تمّ تلقي هذا المشروع من جانب بعض الفلسطينيين والعرب، باعتباره حلاً معقولاً يكتسب قيمته الأساسية من كونه حلاً وسطاً بين المواقف المتصارعة، من وجهة نظر البعض، ومبادرة أمريكية خالصة، جرى التنويه بها والثناء عليها من مختلف القوى والعواصم النافذة. كانت “إسرائيل” في عهد أريل شارون Ariel Sharon تتعامل مع هذه المبادرة الأمريكية التي لا يمكن لها رفضها، بسلسلة من التحفظات، والمراوغات المعهودة؛ تقبل بها لفظياً، وتعمل في الوقت ذاته على وأدها؛ من خلال الاستمرار في تصعيد عملية إيجاد الحقائق الاستيطانية؛ التي تتكفل وحدها بإفشال حلّ الدولتين من أساسه، ناهيك عن سياسة تهويد القدس، وطمس معالمها التاريخية الإسلامية.

كان مشروع حلّ الدولتين هذا موضع البحث الأساسي في مؤتمر أنابوليس Annapolis Conference الذي عقد في 27/11/2007، في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش الابن الثانية، ومثّل هذا المشروع أيضاً الأرضية السياسية التي انعقد عليها ذلك المؤتمر؛ بحضور نحو خمسين دولة ومنظمة دولية، وشكّل قاعدة التفاهمات العريضة التي جرت في فضائها المفاوضات الثنائية لنحو عامٍ لاحق، دون التوصل إلى نتيجة حاسمة، تقرّب خطوة يعتد بها على طريق وضع حلّ الدولتين موضع التطبيق على الأرض، إن لم نقل عدم التمكن من إغلاق أيٍّ من الملفات المطروحة على مائدة التفاوض.

لقد كان حلّ الدولتين في نظر البعض فرصة أخرى بين سلسلة طويلة من الفرص الضائعة في تاريخ الشرق الأوسط، تولّت “إسرائيل” هذه المرة، وبمفردها، تبديد هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر من جديد، ومن خلال سياستها العنصرية من الفصل، والعزل، وتمكّنت من جعل مثل هذا الحلّ، على حدود ما قبل سنة 1967، أمراً غير واقعي.

مشكلة الدراسة:

في ظلّ الواقع الحالي الفلسطيني العربي والدولي؛ الانقسام السياسي الفلسطيني، والحراك الذي ما زال مستمراً في البلدان العربية، والتعنت الإسرائيلي، والعجز الأمريكي الأوروبي الأممي عن فرض الحلول، أو حتى ثني “إسرائيل” شيئاً قليلاً عن تعنتها، وصلفها، وعنجهيتها؛ يبرز السؤال البحثي الرئيسي التالي: ماذا يعني فشل حلّ الدولتين بالنسبة للفلسطينيين؟

ومن خلاله، تبرز أسئلة بحثية أخرى من المفترض الإجابة عليها على الوجه الأمثل قبل فوات الأوان.

1. ما بدائل القيادة الفلسطينية إزاء هذا الفشل؟
2. هل يعود الحديث عن حلّ الدولة الواحدة؛ دولة ديموقراطية لجميع مواطنيها، الذي ربما يلقى قبول حتى بعض الفلسطينيين؟
3. أم هل تلجأ القيادة الفلسطينية إلى حلّ السلطة الفلسطينية لتخلط الأوراق؟
4. أم أن الكونفدرالية مع الأردن يمكن أن تكون خياراً أفضل، وخصوصاً لحالة الضفة الغربية؟
5. هل تعود “إسرائيل” لاحتلال كافة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة؟
6. هل يعود خيار المقاومة المسلحة ليفرض نفسه حلاً وحيداً من وجهة نظر كافة الأطراف الفلسطينية؟
7. وفي كل الأحوال ماذا عن قطاع غزة؟!

هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه، وفق رؤية تحليلية خاصة؛ عبر عرض سيناريوهات أو بدائل محتملة للحل، مع الإشارة إلى إمكانية تطبيق هذه البدائل، وبيان نقاط القوة، ونقاط الضعف، والفرص، والمخاطر والتهديدات، التي يحملها كلُّ واحدٍ من هذه البدائل.

أهمية الدراسة:

تتمثل أهمية الدراسة في كونها تقدم وجهة نظر جديدة قائمة على الاجتهاد الفكري في علم الاجتماع السياسي وعلوم المستقبل، وتهدف إلى تقديم رؤية متكاملة ما أمكن حول البدائل والخيارات المتوقعة أو الممكنة أمام الشعب الفلسطيني وقياداته في ظلّ فشل حلّ الدولتين.

كما أن الدراسة باستخدامها هذا النوع من التحليل (swot) تعد حديثة في نوعها ومجالها؛ كونها تناقش بدائل القيادة الفلسطينية وخياراتها مجتمعة في ظلّ فشل حلّ الدولتين، مع التركيز على بيان عناصر القوة، وعناصر الضعف التي تكمن في كل واحد من تلك السيناريوهات، أو الخيارات، وكذلك الفرص والتهديدات التي تعترض كلاً منها.

وقد تفيد نتائج الدارسة الباحثين في مجال القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، والباحثين في مجال الصراع العربي الإسرائيلي، والباحثين والمهتمين في مسألة الدولة الفلسطينية.

أهداف الدراسة:

تهدف هذه الدراسة إلى:

1. بيان ماذا يعني فشل حلّ الدولتين بالنسبة للفلسطينيين.
2. عرض خيارات وبدائل الفلسطينيين في ظلّ فشل حلّ الدولتين.
3. مناقشة وتحليل كلّ خيار من الخيارات والبدائل المحتملة.

منهجية الدراسة:

استخدم الباحث الأسلوب الوصفي، والمنهج التحليلي، مع استخدام تحليل سوات؛ الذي يركز على عرض نقاط القوة، ونقاط الضعف، وكذلك التهديدات والفرص للسيناريوهات أو البدائل المتوقعة،[2] حيث حاول الباحث إسقاط عناصر هذا التحليل على البدائل المقترحة، كما اعتمد على مراجعة الأدبيات المنشورة في مجال مستقبل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، ولجأ الباحث إلى إجراء بعض المقابلات بهذا الخصوص مع باحثين وأكاديميين ومهتمين بالشأن الفلسطيني، إضافة إلى الاستعانة بمجموعة من الباحثين المهتمين في قضايا الأمن القومي (مجموعة بؤرية)؛ كانوا أتموا دورة تدريبية خاصة قوامها 120 ساعة تدريبية بعنوان: إصلاح القطاع الأمني وإدارة الحكم الرشيد؛ بتنظيم من مؤسسة مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، وذك عبر تنظيم ورشة عمل لهؤلاء الباحثين من خلال مؤسسة بيت الحكمة للدراسات والاستشارات وحلّ النزاعات بغزة؛ من أجل مناقشة البدائل المقترحة خصوصاً في مجال تحليل البيئة الداخلية والخارجية وفق تحليل (سوات).

أولاً: الإطار النظري:

1. حلّ الدولتين: إطار مفاهيمي (الفكرة):

يمكن التأريخ لمشروع حلّ الدولتين بتقرير اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل)، وهي لجنة تحقيق ملكية برئاسة ويليام بيل William Bale، كانت أرسلت للتحقيق في الاضطرابات والممارسات والأنشطة النضالية الفلسطينية المتعاقبة منذ بدء تنفيذ الانتداب البريطاني على فلسطين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1918، وصولاً إلى ثورة سنة 1936؛ وذلك بغرض تقييم الأوضاع وبلورة سياسة محددة تجاهها، ووضع توصياتها بالخصوص.

قامت اللجنة بمناقشة الموقف السياسي في فلسطين من خلال فصل كامل اعترفت من خلاله أنه لا يمكن تنفيذ نصوص صكّ الانتداب؛ والذي تضمن تصريح بلفور، إلا بالقوة، وهذا غير مضمون التحقيق، وذلك لوجود نزاعٍ صعب الحل بين شعبين مختلفي القومية يعيشان ضمن حدود بلد واحدٍ صغير. وفي تموز/ يوليو 1937، توصَّلت اللجنة إلى أن التعايش بين الإثنيتين مستحيل، وقدمت تقريرها إلى الحكومة البريطانية، والذي كان بمثابة أول وثيقة رسمية بريطانية تطرح إمكانية قيام دولتين في فلسطين؛ واحدة عربية وأخرى يهودية، وعلى أساس مبدأ التقسيم.[3]

لخصت اللجنة أسباب الثورة الفلسطينية بما يلي:[4]

• رغبة العرب في الحصول على الاستقلال.
• الخوف من إقامة وطن قومي لليهود في بلادهم.
• ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وسياسة مصادرة الأراضي.
• عدم ثقة العرب في نوايا بريطانيا.
• عدم وضوح مقاصد الانتداب البريطاني في فلسطين.

كما تضمن تقرير اللجنة مشروعاً لتقسيم فلسطين إلى دولتين، على أن تكون القدس تحت الوصاية البريطانية وفق الأسس التالية:[5]

• دولة يهودية: وتضم القسم الشمالي والغربي من فلسطين، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوب يافا، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبرية والناصرة وتل أبيب، وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا.
• دولة عربية: وتشمل غرب نهر الأردن وغزة وبئر السبع وصحراء النقب والخليل ونابلس والجزء الشرقي من طولكرم وجنين وبيسان ويافا.
• القدس: وتضم القدس وبيت لحم والناصرة وشواطئ طبريا، على أن تكون مرتبطة بساحل البحر المتوسط عن طريق ممر يربط بين القدس ويافا ويشمل كلاً من اللد والرملة وتبقى هذه المنطقة تحت الانتداب البريطاني.

صحيح أن الحكومة البريطانية تخلت بعد ذلك عن توصيات لجنة بيل، لكن فكرة حلّ الدولتين أصبحت بعد ذلك أساساً للكثير من الأفكار التي تطرح بين الفينة والأخرى، وصولاً إلى قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947،[6] والذي نصّ على قيام دولتين؛ يهودية وعربية في فلسطين، على أن تكون حدود مدينة القدس ضمن توصيات خاصة بها تجعل لمدينة القدس كياناً منفصلاً (Corpus Sepratum) خاضعاً لنظام دولي خاص، وتتولى الأمم المتحدة إدارتها، ويعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابة عن الأمم المتحدة.[7] وهو ما رفضه العرب والفلسطينيون حينها.

أعلنت الحركة الصهيونية “دولة إسرائيل” في مساء 14/5/1948، وتمكّنت مع نهاية حرب 1948 من هزيمة الجيوش العربية، ومن الاستيلاء على نحو 77% من أرض فلسطين. أما من الناحية الفلسطينية، فقد كانت الهيئة العربية العليا قد قررت إنشاء حكومة فلسطينية لملء الفراغ الناتج عن انسحاب بريطانيا من فلسطين، وسعت لإقناع الحكومات العربية بذلك خلال آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل، والنصف الأول من أيار/ مايو 1948، ولكن دون جدوى. وفي 23/9/1948 قامت الهيئة بإعلان حكومة عموم فلسطين في غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، وقد أقرت الحكومات العربية (ما عدا الأردن) ذلك واعترفت بالحكومة. وتأكيداً لشرعيتها، قامت حكومة عموم فلسطين والهيئة العربية العليا بالدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني في غزة في 1/10/1948 برئاسة الحاج أمين الحسيني. وقد أعلن المؤتمر استقلال فلسطين، وإقامة دولة حرة ديموقراطية ذات سيادة، بحدودها الدولية المتعارف عليها في أثناء الاحتلال البريطاني، ومنح المجلس الثقة لحكومة عموم فلسطين المكوَّنة من عشرة وزراء برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي.[8] ولم تتمكن حكومة عموم فلسطين من ممارسة صلاحياتها بسبب تدخل السلطات المصرية التي نقلت الحاج أمين الحسيني بالقوة إلى القاهرة، وأجبرت عدداً من أعضاء المجلس الوطني على مغادرة غزة إلى القاهرة، ثم ما لبثت أن أكرهت رئيس حكومة عموم فلسطين وأعضائها على الانتقال إلى مصر، ولم تعترف الحكومات العربية بالجوازات التي أصدرتها حكومة عموم فلسطين، كما تمّ حلّ قوات الجهاد المقدس التابعة للهيئة العربية العليا وإنهائها، وانتهى الأمر بتعيين السلطات المصرية حاكماً إدارياً على قطاع غزة.[9]

وأُعلن لاحقاً عن قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 15/11/1988، كما أُعلن عن قيام السلطة الفلسطينية استناداً إلى اتفاقية أوسلو 1993، وذلك في أيار/ مايو 1994.

يمكن القول بأن دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ 12 في حزيران/ يونيو سنة 1974، تعدّ نقطة انعطاف في مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية، وتوجهاتها نحو التسوية السياسية، حيث أقرت الدورة برنامج النقاط العشر؛ “البرنامج السياسي المرحلي” لـ م.ت.ف، وهي التي فتحت المجال من جديد للعودة إلى خيار حلّ الدولتين، وفقاً لما قرره قرار التقسيم 181، ولكن هذه المرة على أرضٍ أقل؛ إذ قبلت القيادة الفلسطينية أن تكون الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية، وقطاع غزة، وشرقي القدس فقط. وتنصُّ النقطة الثانية على أن م.ت.ف تناضل بكافة الوسائل؛ وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها.[10] ويشير رفيق المصري إلى ذلك بالقول: أنه تم التنظير لهذه السلطة والعمل على إقامتها منذ سنة 1974، “حينما أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر بالقاهرة برنامج النقاط العشر بعد حوار وجدال فلسطيني صاخب وحاد، حتى تمّ إقراره والتعامل معه باعتباره الأساس الذي بني عليه لاحقاً البرنامج المرحلي الفلسطيني، حيث أقرت النقطة الثانية من النقاط العشر، بأن “منظمة التحرير الفلسطينية تناضل بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية””.[11]

تشمل عبارة “بكافة الوسائل”؛ الوسائل السياسية والديبلوماسية، خلافاً لما كان عليه في الماضي؛ باعتبار الكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، ولا تعني عبارة الأرض الفلسطينية من وجهة نظر القيادة الفلسطينية—آنذاك—والولايات المتحدة، فلسطين كلها، كما نصّ عليها الميثاق الوطني، وإنّما الأراضي الفلسطينية التي احتلتها “إسرائيل” في حرب حزيران/ يونيو سنة 1967؛ أي الضفة والقطاع، وبالتالي استبدلت النقطة الثانية من البرنامج المرحلي تحرير فلسطين بعبارة تحرير الأراضي الفلسطينية؛ وذلك لتسهيل الطريق أمام قيادة عرفات للانخراط في التسوية السياسية.[12] وتضمنت النقطة الثانية أيضاً عبارة “إن المنظمة تناضل من أجل إقامة السلطة الوطنية المستقلة، المقاتلة، على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها”، وتعني هذه العبارة، أن قيادة منظمة التحرير قبلت بأقل من هدف تحرير فلسطين، مما يجعل هذه العبارة من أخطر العبارات التي وردت في النقاط العشر التي رسختها قيادة عرفات، بعد أن رفضها المجلس الوطني، وذلك بإضافة كلمة “المقاتلة” عليها؛ لترضي، وتموّه على، وتضلل الفصائل المتمسكة بالميثاق الوطني، وتحرير كامل التراب الفلسطيني؛ لأنه بمجرد الاتفاق على إقامة السلطة عن طريق المفاوضات المباشرة، فلن تكون مقاتلة، في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، والهزيمة العربية، والانحياز الأمريكي.[13]

وأسقطت النقطة الثالثة عبارة “لا للمفاوضات”؛ وذلك لفتح الطريق أمام الاتصالات السرية مع “إسرائيل”، ثم الانتقال من السرية إلى العلن؛ كما حدث بالفعل فيما بعد.[14]

ومنذ تلك اللحظة، تابعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية طريقها في اتجاه إقامة دولة فلسطينية في حدود الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وصولاً إلى اتفاقية أوسلوOslo Agreement أيلول/ سبتمبر 1993؛ التي منحت الفلسطينيين إدارة حكمٍ ذاتيٍّ في بعض مناطق الضفة الغربية، وقطاع غزة، وهو ما اصطلح على تسميته لاحقاً: السلطة الفلسطينية.

من جهة أخرى، تحدّث ميثاق حركة المقاومة الإسلامية حماس؛ الذي صدر في 18/8/1988، أي بعد عدة أشهر من الإعلان عن تأسيس الحركة في 14/12/1987، عن تحرير كامل التراب الفلسطيني، وأن فلسطين من النهر إلى البحر؛ هي أرض إسلامية لا يجوز التنازل أو التفريط عن شبرٍ واحد منها.

جاء في المادة الـ 11: تعتقد حركة المقاومة الإسلامية أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها، ولا تملك ذلك دولة عربية أو كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك أو رئيس، أو كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة أو كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية، لأن فلسطين أرض وقف إسلامي على الأجيال الإسلامية إلى يوم القيامة.[15]

وجاء في المادة الـ 13: تتعارض المبادرات، وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية جزء من دينها، على ذلك تربي أفرادها، ولرفع راية الله فوق وطنهم يجاهدون، وتثار من حين لآخر الدعوة لعقد مؤتمر دولي للنظر في حلّ القضية، فيقبل من يقبل، ويرفض من يرفض لسبب أو لآخر، مطالباً بتحقيق شرط أو شروط، ليوافق على عقد المؤتمر والمشاركة فيه. وحركة المقاومة الإسلامية؛ لمعرفتها بالأطراف التي يتكون منها المؤتمر، وماضي وحاضر مواقفها من قضايا المسلمين، لا ترى أن تلك المؤتمرات يمكن أن تحقق المطالب أو تعيد الحقوق، أو تنصف المظلوم، وما تلك المؤتمرات إلا نوع من أنواع تحكيم أهل الكفر في أرض المسلمين، ومتى أنصف أهل الكفر أهل الإيمان؟! ولا حلّ للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد، أما المبادرات والطروحات والمؤتمرات الدولية، فمضيعة للوقت، وعبث من العبث. والشعب الفلسطيني أكرم من أن يعبث بمستقبله، وحقه ومصيره.[16]

وعلى الرغم من ذلك، فقد تحدث مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، في أكثر من مناسبة، عن إمكانية عقد هدنة طويلة الأمد مع “إسرائيل”، ضمن شروط محددة؛ ومن أجل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وما تزال حماس تعلن موافقتها على إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، كحلٍّ مرحليٍّ مؤقتٍ، دون اعتراف بـ”إسرائيل”، ولعل أبرزها تلك التصريحات التي صدرت عنه خلال فترة وجوده في سجون الاحتلال سنة 1994. ومن يومها يمكن القول: إن فكرة دولة فلسطينية في حدود سنة 1967، أصبح أمراً مقبولاً في أوساط حركة حماس، لكنها مقيدةٌ ببعض الشروط؛ أبرزها عدم الاعتراف بـ”إسرائيل”.

في المقابل، فإن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، مثلاً، وبعض المستقلين، يرفضون رفضاً تاماً مسألة إقامة دولة فلسطينية في حدود سنة 1967، سواءً باعترافٍ بـ”إسرائيل”، أم مقابل هدنة طويلة الأمد.[17] وهو ما أشار إليه عبد الله الشامي أحد قادة الجهاد الإسلامي في فلسطين بالقول: “يمكن إيجاز عدد من الثوابت التي لا يمكن أن نقبل المساومة عليها بالمطلق؛ حقنا في المطالبة بكل فلسطين، وحقنا في عدم الاعتراف بشرعية دولة الاحتلال، وحقنا في مقاومته بكل الوسائل الممكنة طالما هو قائم على أي جزء من أرضنا، وحقّ اللاجئين بالعودة إلى ديارهم التي أخرجوا منها”.[18]

يشير ناثان براون Nathan Brown إلى مجموعة من المحددات التي يجب مراعاتها للإبقاء على فرص تطبيق حلّ الدولتين بما يلي:[19]

أ. التوقّف عن وضع العقبات بوجه اتفاق مشاطرة السلطة بين حماس وفتح، وهو المسار الأفضل على المدى القصير لإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية.
ب. السعي إلى وقف لإطلاق النار بين “إسرائيل” وحماس بدعم جهود الوساطة المصرية.
ج. مبادرة الاتصال غير المباشر مع حماس عبر الرئيس عباس. إن فوائد الاتصال المباشر بحماس، إضافة إلى كلفته، مبالغ فيها إلى حدّ كبير.
د. بناء مؤسسات فلسطينية قادرة على اتخاذ قرارات ذات نفوذ وليس وضع كل الرهانات على قادة معينين.
هـ. تأييد إصلاح حركة فتح؛ آخر أمل لإدخال روح جديدة إلى الحزب وإضفاء المصداقية عليه.
و. دعم تجديد الحكم الديموقراطي في فلسطين عن طريق استعادة شروط القانون الأساسي الفلسطيني، أو الدستور المؤقت.

2. عوامل فشل حلّ الدولتين:

لا يمكن لعاقل هنا أن يتحدث عن مسألة فشل حلّ الدولتين، بموضوعية وشفافية، دون الإشارة بأصابع الاتهام إلى “إسرائيل”؛ بأنها من سعى لإفشال مثل هذه الفكرة، أو المقترح، منذ اللحظة الأولى؛ عبر العديد من الممارسات الميدانية على الأرض، وهو ما سيتم الإشارة إليه لاحقاً. في المقابل، لم تفوِّت قيادة السلطة الفلسطينية؛ ممثّلة بوفدها التفاوضي، أيّ فرصةٍ لتقديم تنازلات بشأن هذا الموضوع؛ رغبة منها في إقامة الدولة الفلسطينية، وليس أدلّ على ذلك من الموافقة الكاملة على بنود المبادرة العربية 2002، والتعديلات عليها لاحقاً، فيما يتعلق بمبدأ تبادل الأراضي، أضف إلى ذلك، فإن مجرد موافقة حركة حماس، وقبولها بفكرة إقامة دولة فلسطينية في حدود سنة 1967، هي أيضاً خطوة متقدمة في اتجاه الحل السياسي للقضية الفلسطينية، كيف لا؟ وقد أدرجت في النظام السياسي الفلسطيني! بل ووافقت على أن يأخذ المسار التفاوضي مع الاحتلال فرصة أخرى؛ للوصول إلى حلّ يقضي بإنشاء الدولة الفلسطينية، ومباركة خطوة رئيس السلطة محمود عباس بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ للحصول على دولة بصفة مراقب، تلك التي أنجزت نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2012.

فكيف أفشلت “إسرائيل” إذاً، عن عمد وسابق ترصد، فكرة حلّ الدولتين، وأفرغتها من مضمونها؟ بل وجعلتها أمراً غير قابل للتطبيق على أرض الواقع؟ بهذا الخصوص، أفاد تقرير إسرائيلي[20] بأن أرقام الاستيطان في الضفة الغربية تجعل من حلم حلّ الدولتين أمراً غير واقعي، وشبه مستحيل، مع ظهور إحصاءات أكدت وجود أكثر من نصف مليون مستوطن يعيشون ضمن الدولة الفلسطينية التي هي دولة غير عضو في الأمم المتحدة (مراقب)، ووصل عدد الإسرائيليين الذين يعيشون خارج الخط الأخضر—الخط الفاصل بين الأراضي المحتلة سنة 1948 والأراضي المحتلة سنة 1967، حددته الأمم المتحدة بعد سنة 1948—في الضفة الغربية، نحو 550 ألفاً، سنة 2013، ويزيدون مع نهاية سنة 2020 عن 660 ألف مستوطن بينهم أكثر من 220 ألفاً يعيشون في شرقي القدس، كما جاء في تقرير مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان بالأراضي المحتلة (بتسيلم B’Tselem) وكيرم نابوت Kerem Navot؛ وهما منظمتان إسرائيليتان حقوقيتان غير حكوميتين، حمل اسم “هذه لنا، وهذه أيضاً لنا: سياسة الاستيطان الإسرائيليّ في الضفة الغربية”.[21]

تعني هذه الأرقام، أن اليهود الذين يعيشون في الضفة يشكلون معدلَ واحد من كل عشرة يهود في “إسرائيل”، وفي سنة 2012 فقط، زاد عدد المستوطنين بنسبة 7.4%، في الضفة، وتوسعت مناطق نفوذ المستوطنات بمساحة 8 آلاف دونم. ويشير التقرير أيضاً إلى أنهم يعتقدون في “إسرائيل” أن 70 ألف مستوطن، سيضطرون إلى مغادرة منازلهم في حال اتفاق شامل، وهو ما سيكلف خزينة “إسرائيل” 42 مليار شيكل بما يقارب 11.35 مليار دولار أمريكي، أي أكثر من 10% من حجم ميزانيتها.

بهذا الصدد أيضاً، يشرح ناثان براون مجموعة من العوامل التي ساعدت في فشل حلّ الدولتين، وهي كما يلي:[22]

أ. عدم اقتران هذه الرؤية بأي عملية واقعية لإنجازها، فالمقاربات المختلفة التي اتبعت مثل إهمال المسألة، وإجراء إصلاحات فلسطينية، وخريطة الطريق، ومؤتمر أنابوليس؛ لم تقرب الوضع من بلوغ هدفه المنشود على الإطلاق، والحقيقة أن التغيرات الحادثة على الأرض، والتفتت المؤسساتي الفلسطيني؛ أعاقت قيام أي فرصة واقعية للتحرك نحو حلّ الدولتين.
ب. إن شبكة المستوطنات الإسرائيلية، وتطويق المدن الفلسطينية، وإنشاء الطرق الجديدة، وبناء الجدار الفاصل داخل الضفة الغربية؛ كلها تشكل عقبات مادية بوجه إنشاء دولة فلسطينية يمكنها العيش جنباً إلى جنب مع “إسرائيل”، وقد نبّه النقّاد طيلة جيل من الزمان بأن صيغة “الأرض مقابل السلام”، التي كانت تذكر عندما كان من المستحيل ذكر عبارة الدولة الفلسطينية، بدأت تتحول بدورها إلى أمر يستحيل تحقيقه. وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على إطلاق تلك الصيغة، حان وقت الاعتراف بصعوبة دحض نظرية هؤلاء النقاد حول استحالة تحقيق صيغة “الأرض مقابل السلام”.
ج. ليست العقبات المؤسساتية أقل صعوبة من العقبات المادية، فطيلة عقد من الزمان كانت هناك قيادات فلسطينية تلتزم علناً بحل الدولتين، ما زالت بعض تلك القيادات تحتل المناصب، لكنها لا تملك الكثير من السلطة، فحركة فتح مثلاً؛ وهي أقوى الأحزاب الفلسطينية السياسية التي تناصر حلّ الدولتين، تعاني من فقدان الثقة والانقسام على نفسها، وعلى المستوى الرسمي أيضاً، تشهد الحالة الفلسطينية تواجداً لحكومتين؛ واحدة في رام الله، والأخرى في غزة، تشرف حكومة رام الله على جهاز بيروقراطي يتسم بالانحلال المتردي، وتعتمد هذه الحكومة بالكامل على الدعم الدولي المالي، والديبلوماسي؛ لدرجة جعلت من الفلسطينيين من ينظر إلى أعضاء تلك الحكومة على أنهم بمثابة أوصياء دوليين، وليسوا قادة محليين، أما الحكومة الأخرى في غزة فترفض كلتا العمليتين الديبلوماسيتين اللتين نشأتا خلال العقدين الماضيين (منذ اتفاقية أوسلو 1993)، علاوة على الرؤية التي تستندان إليها، وفي مثل هذا الوضع، ليس هناك مكان لأي حلّ تفاوضي فيما بين الحكومتين من أي نوع كان.[23]

يمكن القول هنا إنه وبعد تولّي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump السلطة مطلع سنة 2017، ومبادرته بالإعلان عن خطته لـ”السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين فيما عرفت لاحقاً بـ”صفقة القرن”، فقد أصبح حلم حلّ الدولتين أبعد منالاً من ذي قبل، خصوصاً وهو يقتلع الركائز التي بُني عليها حلّ الدولتين؛ إذ يعترف بسيادة “إسرائيل” على القدس بوصفها عاصمة أبدية لها، والسماح لها بضم منطقة غور الأردن كاملة، بالإضافة إلى جميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ومناطق أخرى مما يعرف بمناطق ج C التي احتفظت “إسرائيل” بالجانب الأمني فيها حسبما نصّ عليه اتفاق أوسلو، أي ما مجموعه قرابة 30% من مساحة الضفة الغربية. بالمقابل، تسمح الخطة للفلسطينيين بتأسيس دولة منزوعة السلاح بعد أربع سنوات، تكون عاصمتها شرقي القدس، وتحديداً في مدينة أبو ديس، حسبما صرَّح به بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu لاحقاً، إذا ما استجاب الفلسطينيون لقائمة طويلة من الشروط؛ من ضمنها تجريد حماس، وبقية فصائل المقاومة من السلاح في غزة، وتعهد السلطة الفلسطينية بـ”محاربة الإرهاب”، والتنازل عن حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بـ”يهودية الدولة” في “إسرائيل”، والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لـ”إسرائيل”، والتوقف عن دفع مخصصات لأسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين. كما تعرض الخطة على الفلسطينيين مشاريع اقتصادية بقيمة 50 مليار دولار وضمّ أراضٍ من صحراء النقب للدولة الفلسطينية.[24]

ثانياً: بدائل القيادات الفلسطينية في ظلّ فشل حلّ الدولتين:

إذا وصلت القيادة الفلسطينية إلى قناعة تامة بصعوبة التوصل إلى حلّ الدولتين، وفقدان فرصة إقامة دولة فلسطينية في حدود سنة 1967، وهو بالمناسبة غاية ما تسعى إليه قيادة السلطة الفلسطينية، ووصول المفاوضات بهذا الشأن إلى طريق مسدود؛ بسبب التعنت الإسرائيلي من جهة، وضعف أدوات المفاوض الفلسطيني، وتأزم موقف فصائل المقاومة من جهة أخرى، إضافة إلى ضعف المحيط العربي، وانشغاله بقضاياه الخاصة المحلية، وتسارع وتيرة التطبيع العربي مع الاحتلال، فإن القيادة الفلسطينية ربما تفكر في مجموعة من الخيارات البديلة؛ من أجل تحريك المياه الراكدة في الحالة الفلسطينية، مع التأكيد هنا على أننا لا نبحث في احتمالية تحقيق هذه الخيارات من عدمها، وإذا ما كانت قراراً سليماً أم لا؟ وإنما ننوي التعرض إلى عناصر القوة وعناصر الضعف، والصعوبات والتحديات؛ التي تحول دون ترجمة أي من هذه البدائل على الأرض، وغاية هذه الدراسة قراءة السيناريوهات المحتملة المترتبة على فشل خيار حلّ الدولتين، دون التوجيه إلى خيار بعينه دون غيره من الخيارات المتوقعة.

وعليه، فإن الباحث يورد هنا مجموعة من البدائل التي قد تجدها القيادة الفلسطينية على طاولتها، بدوافع ورغبات متعددة؛ سواءً بحكم الواقع، أم بدافع المجازفة؛ من أجل تغيير ما يمكن تغييره، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظلّ ظروفٍ موضوعيةٍ معقدةٍ، وبيئةٍ سياسيةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ؛ لا تخدم الحالة الفلسطينية على الشكل المأمول.

ومن الممكن اختصار هذه الخيارات، أو السيناريوهات، أو البدائل المتوقعة على النحو التالي:

1. البديل الأول: بقاء الوضع على ما هو عليه (الوضع القائم أو المراوحة الدائرية)، تحت قاعدة أن ليس بالإمكان أحسن مما كان:

توصيف الحالة الراهنة:

فلسطينياً: تعاني الحالة الفلسطينية من انقسامٍ سياسيٍ فلسطينيٍ داخليٍ، وحالةٍ من العداء والتراشق الإعلامي، وكَيل وتبادل الاتهامات، وإغراقٍ في التفاصيل، بين حركتي فتح وحماس، مع تمترس حماس في غزة، وتمترس فتح في الضفة الغربية، في انتظار حلم يسمى المصالحة؛ أصبح بحكم الأيام، واختلاف وجهات النظر، وشروط أمريكا وأوروبا و”إسرائيل” بعيد المنال.

إسرائيلياً: تمعن “إسرائيل” في ابتلاع الأرض في الضفة الغربية؛ عبر توسيع المستوطنات، وإنشاء تجمعات جديدة، والمضي قدماً في تهويد القدس، وإكمال الحفريات تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة، مستفيدة من حالة الانقسام السياسي الفلسطيني من جهة وانشغال العرب بأنفسهم من جهة أو بمحاولات التطبيع من جهة أخرى، وتداعيات ذلك على الحالة الفلسطينية.

أمريكياً: أضف إلى ذلك، فإن انشغال أمريكا عن الوضع في الشرق الأوسط؛ لأسباب خاصة بها، خصوصاً في عهد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن Joe Biden، ربما لأمور تتعلق بترتيباتها الاقتصادية في منطقة شرق آسيا وعلاقاتها بالصين؛ يجعل من بقاء الأوضاع على ما هي عليه (الوضع القائم) أمراً مقبولاً.

عربياً: لا تبدو أمور العرب أحسن حالاً من أمور الفلسطينيين، فبعد انشغالهم بما عرف بالربيع العربي؛ وما أحدثه من شروخ اجتماعية، وفرقة سياسية، واقتتال داخليٍّ أحياناً، ها هم اليوم يفتحون صفحة جديدة في كتب الاختلاف والفرقة؛ بتوقيع اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال، وهو ما يشكل ضغطاً معنوياً ومادياً إضافياً على الفلسطينيين، بل ربما يكون موجِّهاً لهم أو دافعاً لاختيار بديل ما من البدائل المتوقعة.

والمحصلة: أن الرابح الأكبر بالطبع هنا هي “إسرائيل”، فلم تعد أخبار الحفريات حول وأسفل المسجد الأقصى تتصدر نشرات الأخبار العالمية والعربية، ولم يعد أحد يتحدث عن وقف الاستيطان، فلكل طرف من الأطراف العربية ما يشغله، ولم يعد أحد منهم يهتم بالشأن الفلسطيني على الوجه المطلوب، إلا في الجوانب الإعلامية منها، أو في حالات العسر الشديد؛ كما يحدث خلال الاعتداءات أو الحروب على قطاع غزة، وتقاطر الوفود العربية والإسلامية الرسمية؛ للتضامن مع أبناء القطاع، وبالرغم من ذلك؛ فلم يمنع ذلك الأمر آلة الدمار العسكرية الإسرائيلية من استكمال مهامها.

أ. نقاط القوة، ويمكن الإشارة إليها بما يلي:
• استمرار حالة الانقسام الفلسطيني والمناكفات السياسية بين الفصائل الفلسطينية.
• ضعف موقف المفاوض الفلسطيني وعدم قدرته على تحقيق إنجازات.
• الممارسة الفعلية على الأرض؛ ترسيخ حالة الانقسام، وسياسة الأمر الواقع.

ب. نقاط الضعف، ومن أهم نقاط الضعف لاستمرار الحالة الراهنة ما يلي:
• تحقيق المصالحة الفلسطينية وإنهاء ملف الانقسام.
• زيادة قوة موقف الطرف الفلسطيني على أرض الواقع، لأسباب ذاتية أو عوامل خارجية؛ الأمر الذي ربما يؤدي إلى تحقيق إنجازات ملموسة في اتجاه حلول سياسية ممكنة أو محتملة.

ج. الفرص، يمكن الإشارة إليها بما يلي:
• انشغال المجتمع الدولي بقضايا أخرى؛ مثل أوضاع سورية ولبنان، والتغيرات الحادثة في المنطقة العربية بشكل عام؛ ما ينعكس سلباً على الحالة الفلسطينية، وبالتالي تزداد فرص بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه في فلسطين.
• تقاطر الوفود العربية والإسلامية والأجنبية؛ للتضامن مع قطاع غزة وحكومة حماس؛ يسهم إلى حدٍّ ما في استمرار الوضع الراهن؛ على اعتبار تعزيز شرعية موقف حماس وإدارتها في غزة.

د. التهديدات، لعل أبرز وأهم التهديدات هنا:
• الاستيطان الإسرائيلي الممتد يومياً ليلتهم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
• تهويد القدس وفق المخططات الإسرائيلية المعلن عنها أو السرية.
• التلويح بوقف المنح المالية للسلطة من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي؛ يسهم في بقاء الوضع الحالي كحالة مثالية ومريحة وبأقل التكاليف لـ”إسرائيل”.
• تدهور الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية؛ بسبب وقف المعونات أو تقليصها، وفي قطاع غزة؛ بسبب الحصار.

هذه الأمور تشكل تهديداً قوياً لبقاء الوضع على ما هو عليه؛ ذلك أن الوضع في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة مهيّأ للانفجار في أي لحظة، في ظلّ استمرار الاستيطان، ودفاعاً عن حرمة القدس والأقصى، مثلما حدث في أيار/ مايو 2021، تحديداً، بما سمي معركة سيف القدس.

2. البديل الثاني: إنشاء كونفدرالية أردنية فلسطينية باستخدام ما تبقى من أراضي الضفة الغربية (بقاء حالة السلطة الفلسطينية دون الحصول على دولة في حدود 1967):

ما قد يدفع بهذا الاتجاه من وجهة نظر الباحث هو حالة انسداد أفق التسوية بين السلطة وحكومات الاحتلال المتعاقبة منذ 2012، واستمرار سياسة الضم الصهيونية لأراضي الضفة الغربية، والمقصود هنا هو توجه السلطة الفلسطينية لخيار الكونفدرالية مع الأردن حتى قبل الحصول على دولة فلسطينية في حدود 1967، وهو ما يعني حال حدوثه ما يلي:

أ. إنشاء كيان سياسي فلسطيني بـ”الشراكة” يتمتع بجزء من السيادة على الأرض.

ب. عودة من يرغب من لاجئي الشتات إلى أراضي الكونفدرالية وتحديداً من لبنان وسورية.

ج. التحول التدريجي إلى أن تكون الأردن هي الوطن البديل للفلسطينيين.

هذا الأمر، أي الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية؛ هو سيناريو يروق للكثير من أقطاب السلطة الفلسطينية، ويرون فيه الحل الأمثل للقضية الفلسطينية؛ على اعتبار أن الضفتين؛ الشرقية والغربية، مرتبطتان جغرافياً، وسكانياً، وتاريخياً أيضاً، بل ويرون ذلك، حتى في حال إنشاء دولة فلسطينية في حدود سنة 1967، خصوصاً أن رئيس السلطة محمود عباس يعدُّ من أكثر الشخصيات القيادية الفلسطينية تأييداً لمشروع الكونفدرالية مع الأردن، وقد ذكر ذلك في كتابه طريق أوسلو، إذ يقول تحت عنوان “ردنا على الكونفدرالية”:[25]

لقد تبنت المجالس الوطنية الفلسطينية منذ العام 1983 (الدورة السادسة عشرة) والمجالس الوطنية المتتابعة، وآخرها المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد في الجزائر سنة 1988، مسألة الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين. وقد بدأنا منذ فترة إجراء مباحثات جادة بين الطرفين لاستشراف آفاق هذه الكونفدرالية وحدودها القانونية وغيرها. وهناك اهتمام عال من كلا الطرفين نحو هذه المسألة لأنها تعتبر مسألة حيوية للشعبين الأردني والفلسطيني. إن هذا هو موقف وخيار منظمة التحرير الفلسطينية الذي لا نرى بديلاً عنه.

بل إن محمود عباس ذهب إلى أبعد من ذلك بعرضه كونفدرالية أردنية فلسطينية بمشاركة “إسرائيل” أيضاً، إذ كتبت صحيفة هآرتس Haaretz الإسرائيلية أن الرئيس محمود عباس قال في لقاء مع نشطاء من اليسار الإسرائيلي إن جارد كوشنر Jared Kushner صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبير مستشاريه، والمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي جيسون جرينبلات Jason Greenblatt طرحا عليه إنشاء دولة كونفدرالية مع الأردن. ووفق الصحيفة العبرية، فإن “عباس أكد أنه سيوافق على ذلك—في حالة واحدة فقط—هي إذا قبلت إسرائيل بأن تكون جزءاً من الكونفدرالية”.[26] وهي خطوة يرى الباحث أنها تذهب بعيداً بعيداً في إدراج “إسرائيل” في المنطقة العربية بشكل طبيعي، في تساوق غير مسوغ مع حالات التطبيع العربية.

وقريب منه ما أعلنه الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين Reuven Rivlin؛ أنه يجب بناء الثقة مع القيادة الفلسطينية قبل مناقشة حلول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأنه بعدها يمكن مناقشة حلّ الدولة الواحدة أو الدولتين، ويبدو أن تغييراً طرأ على موقف الرئيس الإسرائيلي اذ يتحدث عن كونفدرالية بين “إسرائيل” والفلسطينيين مجدداً، وذلك خلال استلامه وسام الشرف الرئاسي الذي منحه إياه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى The Washington Institute For Near East Policy. وقال ريفلين “يمكننا التحدث عن دولتين لشعبين” أو “دولة واحدة لكلا الشعبين” أو ” اتحاد” أو “كونفدرالية”، لكن علينا أولاً بناء الثقة، وأضاف “حاولت أن أقول هذا لكل رئيس أميركي، علينا أن نجد طريقة لبناء الثقة”.[27]

وفكرة الكونفدرالية بين “إسرائيل” والفلسطينيين مع الأردن هي ليست وليدة اللحظة، إذ تمّ التطرق إليها مراراً وتكراراً في الفترة السابقة، وآخر مرة تمّ طرح الكونفدرالية في السياق الإسرائيلي تمّ الحديث فيها عن إقامة كونفدرالية فلسطينية أردنية كوسيلة لتفادي منح وضعية الدولة الكاملة للفلسطينيين في الوقت الراهن، وفي ظلّ تسوية مثل هذه يمكن لـ”إسرائيل” أن تتجنب تحمل مسؤولية الفلسطينيين في الضفة الغربية.[28]

وبهذا الخصوص يرى بنينا شارفيت باروخ Pnina Sharvit Baruch أن نموذج الكونفدرالية بين “إسرائيل” والفلسطينيين يسمح للفلسطينيين بدولة خاصة بهم، وبالتالي هناك فرصة معينة لأن يوافقوا على هذا النموذج، على الرغم من أنه يحافظ على بعض السيطرة الإسرائيلية من خلال الحكومة الكونفدرالية، ولا يشمل إخلاء المستوطنات. بالنسبة لـ”إسرائيل”، يوفر النموذج بعض الاستجابة لمصالحها الوطنية الإقليمية، لكنه يتطلب الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على الأرض حتى الخط الأخضر، وشراكة فلسطينية في صنع القرار.[29]

أ. نقاط القوة:
• إنشاء كيان سياسي فلسطيني مستقل، ولو جزئياً، بعيداً عن سطوة وممارسات الاحتلال.
• وجود الرغبة لدى الفلسطينيين في الانعتاق من التبعية لـ”إسرائيل” في كافة الجوانب، والكونفدرالية مع الأردن تفتح الباب واسعاً أمامهم على بوابات العالم الخارجية.
• الأوضاع غير المستقرة في لبنان وسورية؛ التي قد تدفع اللاجئين الفلسطينيين فيهما إلى الخروج إلى أقرب نقطة إلى فلسطين، وهي الأردن، الأمر الذي يجعل في الكونفدرالية حلاً أمثل لهؤلاء.

ب. نقاط الضعف، أرى أن نقاط الضعف الكامنة في هذا البديل تكمن في ما يلي:
• رفض المجتمع الأردني واللاجئين الفلسطينيين في الأردن لهذه الفكرة، تخوفاً من مآلات هذا الحل بتثبيت الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين.
• الخلافات المتوقعة حول السيادة وصنع القرار بين طرفي الكونفدرالية.
• صعوبة تنفيذ الاتحاد على أرض الواقع في ظلّ الحواجز الجغرافية، والحواجز الاصطناعية التي يقيمها الاحتلال في أراضي الضفة.
• غياب قطاع غزة عن المشهد لاعتبارات الجغرافيا، وحالة الانقسام السياسي الكائن.

ج. الفرص، يمكن حصرها في ما يلي:
• استمرار الوضع الراهن يدفع باتجاه الكونفدرالية مع الأردن من جهة، وإلحاق قطاع غزة بمصر على أحسن الأحوال.
• ضعف أحوال السلطة الفلسطينية الاقتصادية يجعل من الفكرة طوق نجاة لإدارة السلطة.
• الضغط الإسرائيلي والأمريكي تجاه تحقيق الكونفدرالية لتخفيف الضغط عن “إسرائيل”.
• فشل حلّ الدولتين، أو أيِّ حلّ سياسيٍ آخر ينتج عنه دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة.
• اتفاقيات التطبيع العربية مع الاحتلال قد تدفع بهذا الاتجاه بشكل كبير.

د. التهديدات:
• استقرار الأوضاع في سورية ولبنان، وعدم خروج اللاجئين الفلسطينيين منها.
• فشل عمليات التطبيع مع الاحتلال؛ سيعطي قوة دافعة جديدة للطرف الفلسطيني في طريق حلّ الدولة الفلسطينية المستقلة.
• سياسة “إسرائيل” الاستيطانية التوسعية في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس.

3. البديل الثالث: التعايش المؤقت:

يمكن الإشارة هنا إلى مفهوم التعايش المؤقت بما يعرضه ناثان براون بقوله:

إذا عجز الفلسطينيون والإسرائيليون عن التوصل إلى ترتيبات دائمة مقبولة من الطرفين لأجل العيش إما منفصلين أو سوية، ربما يمكنهم الاتفاق على العيش معاً على أساس يومي؛ فبدلاً من التفاوض بشأن اتفاقية لحل جميع خلافاتهم، بإمكان الإسرائيليين والفلسطينيين التوصل إلى نوع من الترتيبات الهادفة إلى تجنب النزاع المباشر والعنف، وبدلاً من تحقيق المصالحة التاريخية يمكن أن يكون الهدف إقامة استقرار أشبه ما يكون باستقرار الحرب الباردة، مبيناً أن حماس نفسها اتخذت المبادرة في هذا المسار عندما اقترحت هدنة طويلة ووقفاً قصير المدى لإطلاق النار.[30]

ويشير براون إلى أن التعايش المؤقت ربما يكون أفضل ما يمكن تحقيقه، لكن من الصعب تجنب الارتياب بأن هذه التسوية ستكون مجرد هدنة لنزاع، ليعود ويندلع لاحقاً بشكل يزيد من صعوبة معالجته، هكذا يصبح منطقياً اعتبار وقف إطلاق النار بمثابة تدبير مؤقت لإفساح المجال أمام العمل الديبلوماسي، عوضاً عن تحوله تدبيراً دائماً.[31]

هذا الأمر بالطبع تؤكده كل اتفاقيات وقف إطلاق النار غير المعلنة التي كانت على مدار سنوات عديدة سابقة في إدارة العلاقة بين “إسرائيل” من جهة، والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، والتي كانت سرعان ما تخترق بعملية عسكرية أو أمنية إسرائيلية؛ تعيد إشعال النار من جديد، وليس أدلّ على ذلك من حادثة اغتيال أحمد الجعبري، نائب القائد العام لكتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس في 14/11/2012، والذي أشعل حرباً استمرت ثمانية أيام متتالية على قطاع غزة، أو اغتيال مجموعة من القسام في حزيران/ يونيو 2014، الذي أشعل مواجهة استمرت أكثر من خمسين يوماً، أو اغتيال القائد في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا في 12/11/2019، واندلاع مواجهة عسكرية استمرت ثلاثة أيام، وأخيراً نشوب معركة سيف القدس دفاعاً عن المسجد الأقصى بعد اعتداءات المستوطنين في أيار/ مايو 2021.

أ. نقاط القوة، تكمن نقاط القوة في هذا البديل في ما يلي:
• حالة توافق ضمني فلسطيني إسرائيلي على تهدئة تسمح بالتقاط الأنفاس وإعطاء الفرصة لحل سياسي طال انتظاره.
• دعم إقليمي ودولي لهذه التهدئة.

ب. نقاط الضعف، وتكمن في ما يلي:
• عدم وعي بعض الفصائل الفلسطينية المقاومة بالأثر الإيجابي للهدنة طويلة الأمد، وبالتالي رفض هذه الفكرة تماماً.
• هشاشة مثل هذه الاتفاقيات، فليس الوضع كما كان عليه قبل إنشاء السلطة الفلسطينية خصوصاً مع تنامي قوة أحزاب، وفصائل، وحركات المقاومة الفلسطينية.
• الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مناطق السلطة الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزة ربما تدفع إلى التمرد والخروج عن هذه الحالة.

ج. الفرص، وتبرز من خلال ما يلي:
• بقاء الوضع الحالي (الوضع القائم أو المراوحة الدائرية) هو الصورة النموذجية الممكنة في ظلّ فشل الحلول السياسية.
• ضغط المجتمع الدولي على كافة الأطراف للتوصل إلى اتفاق هدنة طويلة الأمد.

د. التهديدات، وتكمن في:
• عدم إيفاء “إسرائيل” الدائم بتعهداتها، واختراق كل اتفاقيات التهدئة السابقة.
• الاتفاق على حلّ سياسي كحل الدولتين أو الدولة الواحدة.
• اندلاع فتيل أي مواجهة عسكرية مع قطاع غزة لأي سبب من الأسباب.
• حلّ السلطة الفلسطينية، وبالتالي عودة الأوضاع إلى عهد الاحتلال.

4. البديل الرابع: حلّ الدولة الواحدة؛ دولة ديموقراطية لجميع مواطنيها:

وهو خيار وإن لم يتبنه المفاوض الفلسطيني، فإنه أصبح يأخذ حيزاً متزايداً من الاهتمام في الوسط الفلسطيني بعد حالة الإحباط السائدة من إمكانية حلّ الدولتين، ويظهر أن مثقفين وقيادات فلسطينية محسوبة على حركة فتح، أخذت تتحدث عن خيار الدولة الواحدة، إما كوسيلة للضغط والتهديد على الجانب الإسرائيلي، أو كخيار حقيقي وحيد للخروج من الأزمة، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، فعندما قاد أحمد قريع المفاوضات بعد مؤتمر أنابوليس لم يستبعد أن يصبح الفلسطينيون جزءاً من دولة ذات قوميتين مع الإسرائيليين، في أرض فلسطين التاريخية، وذلك في حديث له مع أعضاء من حركة فتح، في اجتماع مغلق، بحسب ما نقلت وكالة رويترز Reuters في 11/8/2008، كما أن صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين اقترح في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 تبني حلّ الدولة الواحدة، إذا لم يتوقف الإسرائيليون عن البناء في المستعمرات.[32]

يرى ناثان براون أنه مع تراجع احتمالات تحقيق حلّ الدولتين، بدأت فكرة الدولة الواحدة المزدوجة القومية تحظى بمزيد من الاهتمام، حيث تلقف العديد من المفكرين الفلسطينيين هذه الفكرة، لكن التوجّه الإسرائيلي العام ما يزال يراها بمثابة الخطر الذي قد يستهدف جوهر المشروع الصهيوني.[33]

لكنه يؤكد في الوقت نفسه، أن المدافعين عن الدولة المزدوجة القومية يقعون في شرك الدعوة إلى حلّ طوباوي، مثالي، باهر، دون تحليل صورة هذه الدولة، أو كيف سيتمكن العدوّان المتحصنان في خنادقهما من إنشاء تلك الدولة، فمن ناحية يشبه حلّ الدولة الواحدة الفكرة الشيوعية التي كانت مثلاً أعلى طوباوياً، وجد فيه العديد من الناس ما هو أفضل من الواقع المرير، ولكنه بمرور الوقت، قاد إلى ممارسات ذات انعكاسات خطيرة على كل من اعتنقه.[34]

ويخلص براون إلى أن الدولة الواحدة التي ستنشأ لن تقوم على أساس قوميتين يتشاطران الأرض نفسها على أساس تعاوني متساوٍ، لكنها ستكون بدلاً من ذلك دولة ينعم فيه البعض بالحريات الليبرالية والامتيازات الديموقراطية، مع استمرارهم في القلق بشأن أمنهم، في حين يحرم الآخرون من الحرية والأمن على حدٍّ سواء، وبكلمات أخرى، إذا قامت دولة واحدة في المستقبل للإسرائيليين والفلسطينيين سوية؛ فإنها لن تقوم على التعايش المتساوي بل على علاقات تتسم بالسيطرة من جهة والمقاومة من جهة أخرى.[35]

فيما يرى أبو نحل أنه وأمام تعثر القيادة الفلسطينية، بالحصول على دولة على أرض الواقع، باتت ثمة خيارات مطروحة على الساحة الفلسطينية، للتعامل مع هذا الرفض، فثمة من بدأ من الفلسطينيين، بالدعوة إلى خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية، لكن هذا الخيار حتماً محكومٌ عليه بالفشل؛ لأن “إسرائيل” ليست من السذاجة بمكان، لتضحي بدولتها، ومكانتها الدولية، لتمنح الفلسطينيين اعترافاً دولياً؛ قد يؤدي إلى سيادتهم على هذه الدولة لاحقاً.[36]

أ.نقاط القوة،لعل أهم نقاط القوة هنا ما يلي:
• يلقى قبولاً لدى بعض القيادات الفلسطينية بكافة أطيافها، نظراً لصعوبة الموقف الفلسطيني التفاوضي، والتعنت الإسرائيلي في مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
• يفتح المجال أمام عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين.
• يمنح الفلسطينيين تفوقاً ديموجرافياً إذا سمح للاجئين بالعودة.

ب. نقاط الضعف، وتكمن في ما يلي:
• الرفض الإسرائيلي القاطع لهذه الفكرة.
• رفض شعبي فلسطيني لفكرة الاندماج مع العدو.
• الانقسام السياسي الفلسطيني، وعدم تشكيل رأي فلسطيني موحد بالخصوص.

ج. الفرص، ومنها ما يلي:
• فشل حلّ الدولتين يفتح المجال واسعاً أمام التفكير في مثل هذه الخطوة.
• فشل الثورات العربية في إيجاد مخرج مناسب للدولة الفلسطينية.
• نجاح عمليات التطبيع العربية مع الاحتلال قد يكون مدخلاً مهماً لتنفيذ هذا البديل.
• حلّ السلطة الفلسطينية وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 1994، ربما يفتح المجال أمام تنفيذ هذا الحل بالاتفاق.[37]

د. التهديدات، وأهمها:
• التعنت الإسرائيلي والتسويف المتبع في المفاوضات مع الفلسطينيين.
• نجاح مشروع حلّ الدولتين.
• اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة نتيجة حلّ السلطة وعودة سيطرة الاحتلال على كافة الأراضي الفلسطينية.

5. البديل الخامس: حلّ الدول الثلاث:

والمقصود هنا: “إسرائيل”، وكيان سياسي فلسطيني في غزة، وآخر في الضفة الغربية.

بهذا الخصوص يرى مجدي حماد أنه: في المناقشات النظرية والسياسية والأكاديمية إزاء مستقبل الصراع على فلسطين كان السجال الدائم محتدماً بين فكرة إقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وفكرة إقامة دولة واحدة تقوم على أسس المساواة والديمقراطية والمواطنة بين كل من يعيش على أرض فلسطين التاريخية من مسلمين ومسيحيين ويهود، بيد أن الأمر شبه البديهي الذي يقبع في قلب التطورات التي تشهدها هذه المنطقة بتقلباتها الحادة هو ذلك المنطق الغريب والمفاجئ للواقع على الأرض، الذي يفاجئ الجميع بسيناريوهات قد لا تخطر على بال أحد، فعوضاً عن الحلين المذكورين صار الواقع يقول إن هناك حلاً ثالثاً، دولة إسرائيلية قوية، ودويلتان فلسطينيتان ضعيفتان. ….. إن حلّ الدول الثلاث هو الذي يلوح في الأفق مع ضرورة التحفظ على استخدام تعبير “دولة” لوصف كياني الضفة الغربية وقطاع غزة المنفصلين، فما لم يقتنع طرفا الصراع الفلسطيني بأن فكرة إقصاء أي طرف للطرف الثاني من “الجغرافيا” التي يسيطر عليها الطرف الآخر هي باختصار مستحيلة، فإن الانفصال الجغرافي سيكرّس. ليس بمقدور أحد تقدير المآل النهائي لمثل هذا الانفصال، لكن بالإمكان القول هنا إن هذا الانفصال سيكرّس مع مرور كل يوم، كل أسبوع يمر على الفلسطينيين وهم على وضعية الاستقطاب بين غزة والضفة يعزز من الوضع الراهن، ويجعل من ظرفيته وسمته وضعاً يصعب الرجوع عنه.[38]

فيما يرى خالد وليد محمود بهذا الخصوص: إن إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة باتت عملية معقدة، وإن الوضع الراهن مرشح للاستمرار، وإن في مصلحة إسرائيل ترسيخ التقطيع الجغرافي وتكريسه بكل الأشكال الممكنة وليس ثمة ما يدل على العكس، وما لم تحدث معجزة سياسية تعيد خلق نوع من التوافق الإجباري بين الفلسطينيين فإن منطق “الدول الثلاث” (إسرائيل والضفة وغزة) هو السائد، وهو منطق لا يشكل حلاً على المدى القريب أو البعيد.[39]

يمكن هنا ربط هذا السيناريو أيضاً بالسيناريو الأول؛ وهو بقاء الوضع على ما هو عليه، مع عدم الإعلان عن دولة في الضفة الغربية تقودها فتح، وأخرى في قطاع غزة تقودها حماس، وإن كان الواقع يؤكد أن تصرفات كلا الطرفين في أماكن نفوذهما يقترب من التصرف على أساس الاستقلالية الكاملة، مع الاعتراف بالتنسيق الحادث في بعض الأمور المشتركة كالتعليم والصحة.

أ. نقاط القوة، ولعل أهم نقاط القوة هنا هي:
• الواقع الحالي الذي يشير إلى ثلاثة تكتلات على أرض فلسطين التاريخية بغض النظر عن قبول الأطراف المعنية ذلك الحال أو رفضه.
• الانقسام السياسي الفلسطيني.
• ضغوطات دول الجوار والإقليم على المقاومة للقبول بسياسة الأمر الواقع، مع الفصل شبه التام بين قطاع غزة والضفة الغربية.

ب. نقاط الضعف، ومن أهم نقاط الضعف هنا:
• الرفض الشعبي الفلسطيني لهذه الفكرة جملة وتفصيلاً.
• المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
• تنامي حجم قوة المقاومة الفلسطينية ورفضها لحلول التسوية.

ج. الفرص، ويمكن الإشارة إليها بما يلي:
• فشل حلّ الدولتين.
• عدم استقرار أوضاع المحيط العربي وخصوصاً في مصر وسورية ولبنان.
• ارتفاع وتيرة التطبيع بين الدول العربية والاحتلال.

د. التهديدات، ومن أهمها:
• نجاح الثورات العربية، واستقرار الأوضاع في المحيط العربي تدفع في اتجاه إنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني.
• نجاح الحل السياسي؛ كحل الدولتين، أو دولة واحدة أو غير ذلك.
• تحقيق الكونفدرالية مع الأردن، وإلحاق قطاع غزة بمصر، أو ترك الوضع على ما هو عليه بخصوص قطاع غزة.

الخاتمة:

لا تبدو الحلول أو السيناريوهات المطروحة حلولاً سهلة التنفيذ، خصوصاً في ظلّ التعنت الصهيوني، وتوجّه بعض الدول العربية نحو التطبيع مع الاحتلال، مع استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، لكنها تبقى أفكاراً ربما تكون على طاولة الفلسطينيين للخروج من أزماتهم السياسية المتتالية. وعلى الرغم من صعوبة الموقف تبقى لدى الفلسطينيين أدوات يجب تفعيلها والاستفادة منها كأوراق ضغط على الاحتلال وعلى المجتمع الدولي أيضاً، ويمكن الإشارة إليها بما يلي:

1. إصلاح منظمة التحرير: إنّ العمل على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء مؤسسة قوية؛ تمثل كافة أطياف الشعب الفلسطيني، وفي جميع مناطق الشتات، يعني جعل القضية الفلسطينية ومستقبلها في يد هيئة جامعة؛ تمثل كافة أطياف المجتمع الفلسطيني، ومناطق وجودها، وسحب تلك القضية من السلطة الفلسطينية التي هيمنت على الحالة الفلسطينية على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود على حساب منظمة التحرير؛ حيث تغوّلت السلطة وقيادتها عليها لاعتبارات عديدة، إضافة إلى أن هذا الأمر يعني تجاوز الخلافات الحادثة في الساحة الفلسطينية حول السلطة، ومن يقودها، أو مدى فعاليتها ونجاعتها في إدارة العلاقة مع الاحتلال؛ وهو ما يعني تشكيل جبهة وطنية كبيرة وشاملة لإدارة العلاقة مع الاحتلال بالتفاوض تارة وبالمقاومة بكافة أشكالها تارة أخرى.

ربما ينتج عن إصلاح المنظمة على الوجه المطلوب قرارات تتعلق بحل السلطة أو تغيير وظيفتها بشكل كامل، لتصبح سلطة وطنية تحمل الهم الوطني وترفع راية المقاومة من أجل التحرير، أو إنجاز ملف الدولة الفلسطينية بحده الأدنى المتفق عليه؛ وهو دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشريف.

هذا بالضرورة يعني إنهاء الانقسام السياسي وبداية مرحلة فلسطينية جديدة قائمة على الوحدة الوطنية، والتوافق الوطني، والعودة إلى المسار الانتخابي.

2. إن قرار حلّ السلطة الفلسطينية أو التهديد بحلها، وإعادة الملف إلى منظمة التحرير بعد إصلاحها وإعادة الاعتبار إليها وترتيب أوضاعها من جديد، ربما سيفضي إلى ما يلي:

أ. إما سيطرة “إسرائيل” على كافة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة (إعادة احتلال)، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اتفاق أوسلو 1993، وبالتالي عودة أحداث وفعاليات الانتفاضة الفلسطينية على غرار ما كان قبل إنشاء السلطة الفلسطينية. وهو أمر مستبعد على المدى المنظور، فلـ”إسرائيل” بدائل أخرى في هذا الاتجاه ومنها إلحاق غزة بمصر، وإلحاق ما تبقى من الضفة بالأردن على اعتبار ما كان قبل احتلالهما معاً سنة 1967 كما سيرد لاحقاً.

ب. أو رفض “إسرائيل” هذه الخطوة؛ هروباً من دفع تكاليف كونها قوة احتلال. وهنا يمكن الضغط على قيادات السلطة أمريكياً وأوروبياً لثنيهم عن هذه الخطوة، وربما يصل الحال بمحمود عباس إلى ما وصل إليه أبو عمار من حصار وقتل.

ج. تشكيل مجالس محلية؛ لإدارة شؤون المدن، والقرى، والبلدات الفلسطينية، أو مجلس إدارة حكم ذاتي تحت الاحتلال؛ “قيادة بديلة”، وهو أمر، وإن كان من الصعب تخيّل حدوثه في هذه الأيام، فقد ولى ذلك العهد، ولن يقبل أحد من النخب الفلسطينية أن يقف مثل هذا الموقف؛ الذي يكون فيه متهماً بالعمل ضدّ المصلحة الوطنية، وفي خدمة مصالح الاحتلال، إلا أنه يبقى في حدود الممكن، ولو تحت ضغط قوة الاحتلال أو تهديدها، وبمسوغات واهية.

د. إلحاق قطاع غزة بمصر، والضفة الغربية بالأردن، على غرار ما كان الوضع عليه قبل احتلالهما سنة 1967. وهذا لا يكون إلا من خلال سياسة الأمر الواقع، ويحتاج إلى مباركةٍ دوليةٍ أولاً، وموافقة مصر، والأردن أيضاً.

هـ. نقل الملف الفلسطيني الى دوائر ومؤسسات الأمم المتحدة؛ وهو من الخيارات التي باشرت بها القيادة السياسية في ظلّ وجود السلطة؛ على اعتبار أنها جزء من الخيار السياسي، والديبلوماسي؛ المقبول عربياً وإقليمياً ودولياً، وهو ما توّج بقبول فلسطين عضواً غير دائم في الأمم المتحدة سنة 2012.

ويرى الباحث أن اللجوء لمثل هذا الأداة يشكل إبعاداً لخيار المفاوضات الثنائية، ويوفر مسوغاً قوياً لنقل الملف نهائياً إلى مؤسسات الشرعية الدولية؛ بحيث تصبح مقرراتها السياسية المرجعية لأيّ مفاوضات محتملة لاحقاً.

3. إطلاق يد المقاومة، وهو يعني تمرد الفصائل الفلسطينية على الحالة الراهنة؛ وذلك بإيعاز أو مساندة من بعض الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية، والعودة إلى العمل العسكري ضدّ جنود الاحتلال والمستوطنين؛ على غرار ما حدث إبان الانتفاضة الثانية في أيلول/ سبتمبر 2000، وهذا الأمر يتطلب تغييراً في وظيفة السلطة الحالية أو قوة تطرأ على حالة الفصائل الفلسطينية بدعم شعبي كبير، الأمر الذي قد يصل بحالة الضفة إلى ما وصلت إليه غزة بعد إخلاء المستوطنات.

إن أي تغيير في أداء السلطة ووظيفتها، في المجمل، يلزمه بالضرورة تغيرٌ في الفكر السياسي لقيادتها، وانتهاء حالة الزبائنية التي نشأت بين بعض قياداتها والاحتلال، وهو ما يتطلب بالضرورة هبَّة شعبية كبرى مدعومة بعمل مسلح قوي ضدّ الاحتلال، يحرج الأجهزة الأمنية للسلطة ويجعلها دون فائدة من وجهة النظر الصهيونية، أو نتيجة إصلاح المنظمة وبالتالي انعكاس هذا الإصلاح على الحالة السياسية والشعبية، التي تسير وفق استراتيجيات واضحة ومتفق عليها في إدارة التفاوض وفي إدارة المقاومة. والترجيح الأخير هو:[40] انهيار شعبية السلطة، وتآكل بنيتها المؤسسية بصورة تدريجية متسارعة، ودخولها في صدام مع الحالة الشعبية، الأمر الذي قد يفقدها زمام السيطرة على الأرض وعلى الوضع السياسي.

النتائج:

من خلال ما سبق يمكن الإشارة إلى النتائج التالية:

1. البدائل السابقة الذكر؛ هي بدائل صعبة، وتحمل في طياتها العديد من نقاط القوة، ونقاط الضعف، وعليه لا يمكن تحديداً الإشارة إلى أيٍ منها؛ بأنه البديل أو الخيار الأقوى، وإن بدا أن خيار الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية بات من الممكن أن يكون في هذه الظروف ذا حظٍ وافر، وخصوصاً في ظلّ الأحداث في سورية ولبنان وأوضاع اللاجئين الفلسطينيين هناك، كما أن الحراك السياسي الدولي والإسرائيلي يدفعان بهذا الاتجاه إضافة إلى قبول قيادة السلطة بذلك.

2. يبقى خيار المقاومة بكافة أشكالها وأنواعها هو الخيار الذي ينسجم بشكل طبيعي مع فكرة التحرير، ومواجهة الاحتلال، ومع ذلك فهو بحاجة ماسة إلى توافق فلسطيني كامل، لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيقه حتى الآن لأسباب متعددة.

3. يبرز خيار آخر، خصوصاً مع عودة الحديث إليه؛ دولة واحدة ثنائية القومية لجميع مواطنيها، وهو يتطلب إجماعاً فلسطينياً، يبدو صعب التحقق في ظلّ الانقسام الحادث، قبل موافقة “إسرائيل” التي ترفضه تماماً، أو المجتمع الدولي.

4. تبقى كافة الاحتمالات مفتوحة أمام القيادات الفلسطينية وذلك حسب المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.

5. يبقى وضع قطاع غزة هو أبرز التحدّيات في أغلب البدائل المتوقعة، وهو ما ينذر بالخطر على قطاع غزة إذا استمر الحال على ما هو عليه بعد 15 عاماً من الانقسام، فغزة التي ترفع لواء المقاومة المسلحة الآن وتتصدى لكافة الاعتداءات الصهيونية، وباتت مقاومتها تعلن أنها ستخوض المعارك مع الاحتلال، ليس دفاعاً عن غزة فقط، أو في صدّ الاعتداءات عليها، بل من أجل القدس ومن أجل الأسرى أيضاً، ومن أجل مواجهة التمدد الاستيطاني، يجعل غزة تقع دائماً في دائرة الاستهداف لاجتثاث المقاومة فيها.

التوصيات:

يوصي الباحث القيادات الفلسطينية بما يلي:

1. ضرورة تحقيق المصالحة الفلسطينية، فهي أساس ومنطلق لاختيار أي بديل من البدائل الموجودة.

2. ضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاحها؛ كياناً سياسياً فلسطينياً جامعاً، يمسك بزمام الأمور، ويكون صاحب القرار في اختيار البديل الممكن.

3. ضرورة الدفع باتجاه المد الثوري، وإطلاق يد المقاومة في كافة المناطق الفلسطينية؛ ليشكل ورقة ضغط على المجتمع الصهيوني بالدرجة الأولى، ما يدفع حكومة الاحتلال إلى اتخاذ خطوات اضطرارية غير متوقعة أو غير محسوبة النتائج، باتجاه الموافقة على حلّ للقضية الفلسطينية.

4. إعادة تعريف السلطة الفلسطينية ووظيفتها بما يتوافق مع متطلبات العمل الوطني الفلسطيني ومشروع التحرير، وبما يلغي دورها كأداة في يد الاحتلال، وبما ينهي الدور الوظيفي لها. ولتقتصر فقط على خدمة الشعب الفلسطيني في حياته اليومية، دون الدخول في التنسيق الأمني وحماية الاحتلال.

5. ضرورة التفكير في وضع تصور لحالة قطاع غزة تحديداً وموقعه في المشهد السياسي الفلسطيني، خصوصاً مع فشل الحلول المقترحة؛ بسبب التغوّل الصهيوني أو المماطلة، في ظلّ ما يعيشه القطاع منذ 15 عاماً ونيف من حصار واعتداءات متكررة من الاحتلال. وهذا بالطبع لا يعني إخراج قطاع غزة من معادلة أيٍّ من البدائل المقترحة السابقة، لكن يمكن لغزة أن تكون تلك الأرض المحررة التي يبدأ الانطلاق منها نحو تحرير كافة الأراضي المحتلة، وهي تلك البقعة من فلسطين التي كان يتحدث عنها ياسر عرفات قبل أوسلو.

6. ضرورة اتخاذ موقف فلسطيني موحد تجاه عمليات التطبيع العربية التي انتشرت منذ سنة 2020، وما زالت مستمرة ومتصاعدة، وعدم النظر أو الاتكال إلى أن عملية التطبيع قد تفيد الفلسطينيين في توجهاتهم نحو إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من أرض فلسطين التاريخية أو عملية التحرير الكامل لفلسطين.


[1] أكاديمي فلسطيني، وباحث في الشؤون السياسية، مقيم في غزة.
[2] تحليل سوات SWOT، أو مصفوفة السوات الرباعي، أو أداة التحليل الرباعي من أدوات التحليل الاستراتيجي، وهي طريقة تحليليّة تساعد على تحديد النقاط الخاصة بالضعف والقوة، وإدراك نوعية التهديدات وطبيعة الفرص المُتاحة والمُؤثرة في المُنشآت، ويُعدّ تحليل سوات من النُظُم المهمة لإعداد وتصميم الاستراتيجيات الخاصة بقطاع الأعمال؛ عن طريق تقديم مجموعة من الخُطط سواء قصيرة أم طويلة المدى. وتعود نشأة وظهور تحليل سوات من خلال مجموعة من الأبحاث الصادرة عن معهد ستانفورد للأبحاث Stanford Research Institute خلال الفترة الزمنية 1960–1970. انظر: تحليل swot، موقع موضوع، في: https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84_swot
[3] مروان ناجي أبو جاسر، “رؤية حل الدولتين وأثرها على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية،” رسالة ماجستير، جامعة الأزهر، غزة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، دراسات الشرق الأوسط، 2013، ص 15.
[4] المرجع نفسه.
[5] المرجع نفسه، ص 16-17.
[6] يمكن مراجعة نص القرار بالكامل في: مراجعة وتدقيق جورج طعمه (مراجعة وتدقيق)، قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي: 1947–1974، تقديم أحمد عصمت عبد المجيد، ط 3 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية،1993 )، المجلد 1، نقلاً عن المحاضر الرسمية للجمعية العامة، الدورة 2، الملحق رقم 11.
[7] نص قرار تقسيم فلسطين رقم 181، موقع الجزيرة.نت، 28/11/2016، انظر: https://www.aljazeera.net
[8] محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، طبعة مزيدة ومنقحة (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2022)، ص 71-72.
[9] المرجع نفسه، بتصرف.
[10] غازي حسين، المجلس الوطني الفلسطيني والبرنامج المرحلي، موقع الصفصاف الإلكتروني، 3/7/2012، انظر: http://www.safsaf.org/word/2012/juli/8.htm
[11] رفيق المصري، السلطة الوطنية الفلسطينية… إلى أين؟! البدائل والخيارات (رام الله: جامعة القدس المفتوحة، مركز الدراسات المستقبلية وقياس الرأي، 2015)، ص 8، انظر: https://www.qou.edu/ar/sciResearch/pdf/book/The_Palestinian_National_Authority_Where_to_Alternatives_and_options.pdf
[12] المرجع نفسه.
[13] المرجع نفسه.
[14] المرجع نفسه.
[15] ميثاق حركة المقاومة الإسلامية )حماس)، المادة 11.
[16] ميثاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، المادة 13.
[17] مقابلة أجراها الباحث مع أسامة أبو نحل، أستاذ التاريخ الحديث المشارك بجامعة الأزهر بغزة، غزة، 23/6/2021.
[18] عبد الله الشامي، الجهاد الإسلامي غير ملزمة باتفاقيات السلطة مع إسرائيل، موقع المسلم، 27 جمادى الأول 1426، انظر: https://almoslim.net/node/86724
[19] ناثان براون، زوال حل الدولتين، صحيفة صدى الإلكترونية، موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 9/5/2008، انظر: https://carnegieendowment.org/sada/23504
[20] نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية يقوضون حلم حل الدولتين، موقع شبكة قدس الإخبارية، 2/6/2013، انظر: https://qudsn.net/post/16519
[21] تقرير: أعداد المستوطنين بالضفة ازدادت بنسبة 42% منذ عام 2010، وكالة الأناضول للأنباء، 9/3/2021، انظر: https://www.aa.com.tr/ar/
[22] ناثان براون، زوال حل الدولتين، صحيفة صدى الإلكترونية، موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 9/5/2008.
[23] ناثان براون، زوال حلّ الدولتين؟، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أيار/ مايو 2008، انظر: https://carnegieendowment.org/files/pb58_brown_sunset_final_arabic.pdf
[24] انظر: صفقة القرن: اقتلاع ركائز حلّ الدولتين، موقع مركز الجزيرة للدراسات، 30/1/2020، في: https://studies.aljazeera.net/ar/article/4553
[25] محمود عباس، طريق أوسلو (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994)، ص 90-91.
[26] عباس مع كونفدرالية تشمل إسرائيل والانتقادات تتوالى، الجزيرة.نت، 3/9/2018.
[27]الكونفدرالية الإسرائيلية الفلسطينية تطفو على السطح مجدداً في معهد واشنطن، موقع i24NEWS، 19/11/2020، انظر: https://www.i24news.tv/ar
[28] المرجع نفسه.
[29] نماذج من دولة واحدة – جوانب عملية (الجزء 5)، موقع مركز حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية، 17/1/2022، انظر: https://hadarat.net/post/24501
[30] ناثان براون، زوال حل الدولتين، صحيفة صدى الإلكترونية، موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 9/5/2008.
[31] المرجع نفسه.
[32] محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، ص 191.
[33] ناثان براون، زوال حل الدولتين، صحيفة صدى الإلكترونية، موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 9/5/2008.
[34] المرجع نفسه.
[35] المرجع نفسه.
[36] مقابلة أجراها الباحث مع أسامة أبو نحل، غزة، 23/6/2021.
[37] حلّ السلطة ربما تكون له عواقب أخرى، وربما يصنف أيضاً ضمن التهديدات التي تواجه هذا البديل، لأنه سيفتح المجال واسعاً أيضاً أمام انتفاضة فلسطينية جديدة.
[38] مجدي حماد، “تأثير الثورات العربية على المصالحة الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني،” في محسن محمد صالح (محرر)، أزمة المشروع الوطني الفلسطيني والآفاق المحتملة (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013)، ص 106.
[39] خالد وليد محمود، ماذا بعد انهيار حلّ الدولتين؟، صحيفة الغد، عمّان، 3/7/2008، انظر: http://www.alghad.com/index.php/article/234663.html
[40] التقدير الاستراتيجي (127): السيناريوهات المحتملة للوضع الداخلي الفلسطيني، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ص 3.


للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: بدائل القيادة الفلسطينيّة في ظلّ فشل حلّ الدولتين … أ. وائل المبحوح (44 صفحة، 2.9 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 10/2/2022



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من الأوراق العلمية: