مدة القراءة: 11 دقائق

تقدير استراتيجي (121) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.

ملخص:

كانت القضية الفلسطينية أحد الخطوط الرئيسية في السياسة الخارجية السودانية، ولم تحظَ بوضع الأولوية التي كانت تُعطَى لدول الجوار وللعلاقات العربية والدولية بشكل عام، وتحديداً مع الولايات المتحدة، والصين، والدول الخليجية؛ إلا أن سياسة الإسناد التي اتبعتها الحكومات السودانية المتعاقبة، جعلت السودان يشارك في محطات مهمة في تاريخ الثورة الفلسطينية، وكان ذلك من خلال دول أخرى ولا سيّما مصر. وفي فترات مختلفة كان السودان يبادر ببعض المواقف تحت بند الدفاع عن النفس، نظراً للاستهدافات الإسرائيلية المتكررة للسيادة السودانية، ودعمها العالي للحركات المسلحة في جنوب السودان وغربه.

الأزمة الاقتصادية الطاحنة في السودان، والعقوبات الأمريكية القاسية، جعلت النظام السياسي الجديد الهش يسعى مضطراً للخروج منها عبر بوابة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. ومع ذلك، يواجه مسار التطبيع عقبات كبيرة بسبب المعارضة الشعبية الواسعة وحتى من داخل المكوِّن المدني في الحكم الانتقالي، كما أن المؤسسات الدستورية لم تكتمل في السودان؛ وهو ما يجعل التطبيع جزئياً، وخاضعاً للتدرج بناء على استجابة النظام السوداني للشروط الأمريكية الإسرائيلية.


لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

>> التقدير الاستراتيجي (121): التطبيع السوداني – الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية (16 صفحة، حجم الملف 1.6 MB)


>> التقدير الاستراتيجي (121): التطبيع السوداني – الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية (16 صفحة، حجم الملف 698 KB)

أولاً: موقع السودان في القضية الفلسطينية:

يمكن توصيف موقع السودان في خريطة القضية الفلسطينية أنها ساحة إسناد خارجي، وعادةً ما تكون مساندتها من خلال دولة أخرى وسيطة بسبب الفاصل الجغرافي البري عن فلسطين والمتمثل في مصر، والفاصل البحري للمياه الإقليمية المصرية عن الساحل الفلسطيني الجنوبي على البحر الأحمر. وقد تنوّع هذا الإسناد من الإسناد السياسي، والدبلوماسي، إلى الإسناد العسكري، والإسناد الأمني، فيما يعدّ الإسناد الماليّ محدوداً بسبب الفقر الاقتصادي؛ وهناك مجالات إسناد أخرى مهمة، تمثّلت في الإسناد التعليمي؛ من خلال منح فرص التعليم الجامعي وفوق الجامعي لمئات الفلسطينيين سنوياً في حقب مختلفة، وهناك إسناد المأوى حيث استقبلت السودان موجات بشرية فلسطينية صغيرة عسكرية ومدنية في فترات مختلفة.

ودخلت السودان خطّ الإسناد المباشر دون وسيط عبر منظومة التأهيل والتدريب للمقاومة الفلسطينية، وعبر تهريب السلاح لها بحراً وبراً عبر عصابات محلية قبلية في مراحل مختلفة من عمر السودان بعد حرب 1967.

ثانياً: أطراف العلاقة الفلسطينية مع السودان:

فتح السودان أبوابه للأطراف الفلسطينية بتمثيل رسمي بمستويات مختلفة، فقد اعترف بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها بعد اتفاقية أوسلو، إذ توجد سفارة فلسطينية قديمة في السودان، كما سمح للمقاومة الفلسطينية أن تفتح مكاتب لها عبر واجهات إعلامية أو شعبية أو مؤسسات بحثية، وفق ضوابط متغيرة لا تستند إلى فلسفة واحدة نظراً للضغوط التي تمارس على السودان ومدى الاستجابة لها، فقد أغلقت هذه المكاتب مراراً بشكل نهائي أو جزئي، وانتعشت هذه العلاقة في بعض المراحل وتطورت إلى دعم سياسي، وعسكري، بينما ساءت جداً في مراحل أخرى ولا سيّما في الأربعة أعوام الأخيرة من عمر نظام الإنقاذ، برئاسة المشير عمر حسن البشير.

ثالثاً: موقف نظام الإنقاذ من التطبيع:

بقي السودان مصنّفاً ضمن الدول المحسوبة على محور المقاومة طوال حكم الإنقاذ، ورفض التطبيع علناً في محطات عديدة من عمر الإنقاذ، ومع ذلك فقد أخذ ملف التطبيع يُطرح من البعض في السنوات الأخيرة من عمر نظام البشير. وسواء تعلَّق رفض النظام لذلك بأسباب مبدئية أم سياسية، فإن التقديرات كانت تشير إلى أنه لا فائدة ترجى من التطبيع، وأنه سيتحول إلى عبء كبير لن يحتمله السودان الذي يعاني من استنزاف أمني واقتصادي كبير، خصوصاً أن الاستراتيجية الإسرائيلية تصنّف السودان عدواً استراتيجياً بسبب موقعه الجغرافي وعلاقته بمصر، وأن السلوك الإسرائيلي يمتاز بالعداء الشديد من خلال دعم حركات التمرد، وتحريض اللوبي اليهودي الأمريكي الدائم على السودان.

رابعاً: موقع السودان في الاستراتيجية الإسرائيلية:

منذ بداية تشكيل الاستراتيجية الإسرائيلية في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion، أصبح السودان محل استهداف إسرائيلي نظراً لكونه في العمق الاستراتيجي الجنوبي لمصر، وكان الاتجاه دائماً صوب تفكيك العلاقة مع مصر، ودعم الحروب الأهلية، وتمزيق السودان إلى دول وأقاليم متنازعة، وجعل السودان بؤرة توتر وقلق مصري دائم، وإضعاف السودان ومنعه من التحول إلى دولة مؤثرة أو مركزية أو محورية في محيطها الإفريقي.

بعد تطور العلاقة المصرية الإسرائيلية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تغيّرت الاستراتيجية الإسرائيلية مؤقتاً نحو جعل السودان منطقة جذب مصرية جنوبية، تتجه إليها حركة الهجرة والعمل إذا تعرضت مصر لأي انهيار سياسي أو كارثة عامة لمنع الاتجاه صوب الشرق، كما هو حاصل في أكثر التجارب التاريخية السابقة، كما يتاح للسودان أيضاً أن يكون قادراً على امتصاص حركة النزوح والهجرة في حال انهيار الدولة الإثيوبية ذات الكثافة السكانية العالية؛ حيث استسهل الإثيوبيون الهجرة إلى “إسرائيل” الأقرب إليهم من أوروبا والأقل كلفة في الهجرة غير الشرعية، ويمكنهم الادعاء أنهم يهود فلاشا Falash Mura. وهناك سبب ثالث يفترض أن السودان قادر على استيعاب الحركات الإفريقية، الموصوفة بالتطرف القادمة من وسط إفريقيا وغربها، والتي تمتاز بمرونة الحركة، وسرعة الانتقال، وسهولة الاختراق من جهات معادية لـ”إسرائيل” ومصر الحليفة لها، لا سيّما أن هذه الحركات تتحرك في الصحراء، والخلاء الفسيح، وفق منظومة حماية قَبَلية قوية بعيداً عن نفوذ الدول الإفريقية فيها.

وهذه الاستراتيجية الجديدة ما تزال محل نقاش متقدم، وهناك ربط لهذه الاستراتيجية يشترط بأن يتحول السودان إلى مركز ثقل استراتيجي أمريكي؛ من خلال إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية استراتيجية في شرق السودان على البحر الأحمر، تهدف للتدخل السريع في إفريقيا والشرق الأوسط.

خامساً: مبررات التطبيع لدى السودان:

تتسم السياسة السودانية الانتقالية بعد انهيار نظام الرئيس عمر البشير بالسيولة الشديدة وتنازع أطراف الوثيقة الدستورية بين المكونين العسكري والمدني، وتعدد منابر التأثير والتفكير لدى المكون المدني وكثرة الخلافات داخله، لأنه كان ائتلافاً أفقياً عريضاً اتفق على هدف مشترك واحد وهو إسقاط النظام وهو ما تمّ بدرجة كبيرة. وهذا ما جعل السياسة السودانية هشة جداً تبحث عن الدعم من محيطها الإقليمي والدولي عبر الفرقاء.

وأكبر التحديات التي تواجه المرحلة الانتقالية هي:
1. تحدي الاقتصاد وتراجع قدرة الدولة على توفير احتياجات الشعب الأساسية والضروريات، من الوقود والدقيق والدواء والخدمات الأساسية.
2. تحدي العقوبات الأمريكية، بمستوياتها التنفيذية والتشريعية، وما ترتب عليها من عزلة دولية واقتصادية وانهيار اقتصادي.
3. تحدي السلام واستقرار النظام الأهلي، ووقف نزيف الحروب الأهلية، وكثرة الحركات المسلحة وكثرة ارتباطاتها ومرجعياتها الخارجية.
4. تحدي وحدة السودان وإبقائه بعيداً عن شبح التمزيق وانفصال الأقاليم، واحتلال الجيران لبعض أجزاء السودان.
5. تحدي بقاء المؤسسة العسكرية وتماسكها، وعدم السماح بتفكيكها واستبدالها.
6. تحدي المصالحة واستيعاب قوى النظام السابق والإسلاميين، الذين شاركوا في الثورة السودانية، وإشراكهم في التحول السياسي.

التحديات التي تواجه المرحلة الانتقالية وشدة الخلاف بين المُكونين المدني والعسكري فيها وعدم قدرة أحد الطرفين على حسمها، وتردد الدول الإقليمية والكبرى في الانحياز لطرف على حساب الآخر، وسوء العلاقات مع الكونجرس الأمريكي Congress، جعلت العلاقة مع “إسرائيل” مدخلاً لتطوير العلاقة الإيجابية مع الإدارة الأمريكية وتسريع منظومتها البطيئة، وتمهيد العلاقة مع مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، وترويض اللوبي اليهودي الأمريكي المعادي للسودان في هذه المؤسسات، بغرض رفع العقوبات الأمريكية عن السودان وجدولة الديون والعودة إلى منظومة الاقتصاد العالمي.

يبدو أن المكوِّن العسكري وجزءاً من المكوِّن المدني سعيا للوصول إلى المدخل الإسرائيلي، وتمكّن المكون العسكري من الوصول أولاً بمبادرة سودانية عسكرية عبر البوابة الأوغندية وبعيداً عن الأطراف المتدخلة في الشأن السوداني. وفُتحت العلاقة أولاً مع الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ومنها إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبعد نحو أربعة أشهر من المفاوضات والتفاهمات على أسس العلاقة ومحاورها، جرى لقاء علني بين الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu في أوغندا أوائل شباط/ فبراير 2020، ولم تكن الحكومة السودانية برئاسة عبد الله حمدوك على اطلاع على هذا اللقاء قبل تسريب الإعلان عنه من المصادر الإسرائيلية، وهو الأمر الذي أحدث صدمة في شركاء الوثيقة الدستورية، الحاكمين للمرحلة الانتقالية.

سادساً: مواقف الأطراف السودانية من إعلان التطبيع:

بدَت المؤسسة العسكرية السودانية موحدة في موقفها المؤيد من لقاء البرهان – نتنياهو، لا سيّما أنها قامت بالترويج له في سياق مصلحة ملحّة لا خيار آخر فيها، فيما بدَت الأطراف المكونة لقوى إعلان الحرية والتغيير في تباين واسع؛ إذ أعلنت الأحزاب البعثية، والناصرية، وحزب الأمة السوداني، والحزب الشيوعي، إضافة للأحزاب الإسلامية رفضهم لهذا اللقاء وتداعياته، فيما دعمته أحزاب وحركات أخرى، وأيدته معظم الحركات السودانية المسلحة التي كان معظمها منفتحاً في العلاقة مع “إسرائيل” سابقاً، ومع أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يبدو متفهّماً لهذه العلاقة وكان يسعى لاستخدامها سابقاً، إلا أن القوى المعارضة داخل الحرية والتغيير دفعته للحياد في هذه القضية إعلامياً أمام الشارع السوداني، فيما كان يؤيد ذلك بوضوح في لقاءاته مع الإدارة الأمريكية التي أظهرت له هذا الموقف في تصريحات عديدة لوزير خارجيتها مايك بومبيو Mike Pompeo، ثم استقر الأمر لديه ولدى القوى المؤيدة له على تأييد خطوات التطبيع والمشاركة فيها.

سابعاً: مستويات التطبيع القادمة:

يشكل اللقاء العلني بين البرهان ونتنياهو حالة تطبيع سياسي واضحة اخترقت حالة الرفض والمقاطعة السابقة، وشكلت فاصلاً بين المقاطعة والتطبيع، وكسرت حاجز المقاطعة بشكل جريء، وفرضت السؤال التالي: كيف ستتطور هذه العلاقة؟

الجانب العسكري السوداني يتحرك بميزان لا يكترث للجانب السياسي كثيراً فيه، إذ إنه يعرف أن هذا الملف في جانبه السياسي ليس من صلاحياته ولا من صلاحيات الحكومة الانتقالية، وقد تعاملوا معه بمنظار التحديات الاستراتيجية ومقدار التعامل معها، ورهَنوا تطوير العلاقة مع “إسرائيل”، بمقدار النجاح في الالتزام بما تعهدت به “إسرائيل” من تطوير العلاقات السودانية الأمريكية، ورفع العقوبات عن السودان، والالتزام الأمريكي بعدم دعم مشروعات تفكيك الدولة والجيش؛ ويرى الجانب العسكري أن المستوى التنسيقي العالي بين الطرفين على مستوى الأجهزة الاستخبارية المختصة والقيادات الأولى في الملفات المحددة سيكون كافياً في هذه المرحلة.

الجانب الإسرائيلي يرى أن الاختراق قد حدث فعلاً، وأن الجهة القوية في السودان قد اقتنعت بجدوى العلاقة وأهميتها، وبالتالي فإن تطورها مسألة وقت، ولكن “إسرائيل” تبدو مستعجلة في زيادة مجالات التعاون التي تمّ التفاهم عليها؛ في مجال عودة اللاجئين السودانيين، وفتح الأجواء السودانية أمام الطائرات الإسرائيلية، عدا الناقل “الوطني” شركة العال El Al. كما يرغب نتنياهو في استثمار العلاقة انتخابياً في أول انتخابات إسرائيلية قادمة، كما أنه ليس حريصاً أن يجعل ذلك هدية ثالثة لدونالد ترامب Donald Trump بعد هدية تطبيع الإمارات والبحرين، وهو ما جعل الولايات المتحدة توافق على فصل مسار التطبيع عن مسار رفع العقوبات بعد التدخل الإسرائيلي الموافِق على ذلك.

الجانب السوداني الرسمي يرى أن التطبيع مسار إجباري اضطر إليه بعد عزلة دولية وانسداد الطرق الموصلة إلى رفع العقوبات التي أرهقت السودان على مدار أربعة عقود، بدأت منذ قرار الرئيس الأسبق جعفر نميري تطبيق الشريعة الإسلامية أوائل ثمانينيات القرن العشرين، واشتدت مع بدايات حكم ثورة الإنقاذ الوطني؛ كما أن أطرافاً سودانية قوية ومؤثرة ترى أن التطبيع الحاصل هو نتيجة ابتزاز أمريكي وانتقاص للسيادة الوطنية، وأنه لم يكن ثمة حاجة لهذا الربط بعد قيام الثورة السودانية وإسقاط حكم البشير، وأن ثمن رفع العقوبات الأمريكية هو أمر لا علاقة له بالعلاقات الأمريكية السودانية، وأن الشعب الفلسطيني يتعرض لمظلمة تاريخية من الاحتلال الإسرائيلي، وليس من أخلاق الثورات أن تتعاطف مع الاستعمار، والديكتاتورية، والاحتلال، وترسم المصالح معه على حساب شعب شقيق؛ وأن ذلك يُظهر أن العقوبات الأمريكية كانت سياسية بسبب الموقف من “إسرائيل”، وأن رفع العقوبات عن السودان كان لإتاحة الفرصة لـ”إسرائيل” لإقامة علاقات طبيعية مع السودان، وتمكينها من تعميق حضورها هناك دون أن تخشى قيود الحظر الأمريكي؛ وأن هذا التطبيع هو انتصار أمريكي إسرائيلي على السودان وتاريخه ومبادئه، وأن القيادة السودانية الانتقالية عاجزة عن شرح هذا الإجراء لشعبها ومصارحته بالتفاصيل.

وتبدو فرص نجاحات التطبيع السياسي ضعيفة في ظلّ ظروف الحكم الانتقالي، الذي لا يتيح له اتخاذ قرار بهذا الحجم، دون مؤسسات تشريعية تتحمّل مسؤوليته أمام الشعب، ودون وجود حاضنة شعبية مؤيدة له؛ حيث ستتحرك القوى الشعبية المعارضة لهذا القرار ضده، وستضيفه إلى التبريرات العديدة الداعية إلى إسقاط هذه الحكومة ورموزها، كما سيتخذ أنصار النظام السابق هذا التطبيع ذريعة لتأكيد اتهامهم للحكم الجديد؛ بأنه يعادي الإسلام والعروبة، وأنه مشروع غربيّ مفروض على السودان، وأن التطبيع محاولة لإبقاء النظام الانتقالي حياً على الرغم من موته اقتصادياً، وفشله في إدارة البلاد، وارتهانه للخارج.

ولكن الجانب الأكثر تأثيراً في إمكانية نجاح التطبيع في مراحله الأولى، هو في قدرة التطبيع على تفكيك الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وتوفير مستلزمات الحياة وضرورياتها للمواطن السوداني؛ وفي حال عدم ذلك فإن البيئة العامة التي تقبّلت هذا التطبيع تحت هذا المبرر ستنقلب عليه، وهو ما يبدو الاحتمال الأقوى في فشل هذا التطبيع نظراً لعمق الأزمة الاقتصادية في السودان، وتعاظم الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب جائحة كورونا، كما أن “إسرائيل” ليس بمقدورها تقديم منح أو معونات كبيرة للسودان دون مقابل مادي مريح، لا سيّما أن السودان ليس مثل دول خليجية غنية، تجتهد “إسرائيل” في التطبيع معها، وتعوّل عليها كثيراً للخروج من أزمتها الاقتصادية هي أيضاً، فيما أن السودان يحتاج إلى رافعات مالية كبيرة لا تستطيع “إسرائيل” تحمّلها، كما أن الحماسة الأمريكية والإسرائيلية للتطبيع مع السودان سيخفِت بريقها بانضمام دول عربية فقيرة أخرى لمسلسل التطبيع، مما يزيد العبء الأمريكي الإسرائيلي، وستتبدل الأولويات بعد مرور زمن قصير، وسيشعر السودان بالغبن نتيجة الاهتمام الإسرائيلي بالدول الخليجية الغنية على حسابها.

ومن الجوانب المهمة في هذا السياق أن مصر، الجارة القوية للسودان، والتي تعد نفسها صاحبة الولاية المعنوية عليه، وأنها صاحبة القرار الاستراتيجي في مصيره، ليست سعيدة بهذا التطبيع ولا تعدّه إضافة إيجابية لها، لا سيّما أن مبررات التطبيع تتعلق بها بالأساس، ومن شأن تطور العلاقة السودانية الإسرائيلية أن يكون خصماً على حساب مصر ونفوذها، وإضعافاً لدورها في السودان، وستعمل مصر على استعادة دورها بسرعة بعد خروج السودان من العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، وستحاول أن تحلَّ محل “إسرائيل” في التواصل مع الإدارة الأمريكية بشأن إدارة الملف السوداني مستقبلاً كما كانت سابقاً.

ثامناً: سيناريوهات المستوى التطبيعي يمكن حصرها بالتالي:

1. السيناريو الأول: مستوى التطبيع الجزئي:

بحيث تكون القضايا التي تأسس عليها لقاء البرهان – نتنياهو هي مضامين العمل الرئيسية حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وبالتالي لن يكون هناك تطبيع سياسي كامل، ولا فتح سفارات، ولا تمثيل ديبلوماسي مباشر، وربما سيكون هناك وجود فني غير مستقر؛ وقد تلجأ إليه الحكومة الانتقالية السودانية بإعلان الموافقة على التطبيع، وتأخير المصادقة عليه حتى تأسيس المنظومة التشريعية.

2. السيناريو الثاني: مستوى التطبيع الكامل:

وهو ما تلحّ عليه الإدارة الأمريكية وتتطلع إليه حكومة نتنياهو، وتضغط واشنطن بقوة للوصول إلى هذا المستوى، وتستند في ذلك إلى مستوى ابتزاز سياسي يتعلق بتعدد مستويات العقوبات الأمريكية، ولا سيّما تلك المتعلقة بعقوبات الكونجرس؛ بحيث يتم رفع بعض العقوبات وإبقاء بعضها ليتم إلغاؤها تدريجياً بحسب التجاوب السوداني.

3. السيناريو الثالث: تجميد مشروع التطبيع:

ما تزال قوى أساسية في قوى إعلان الحرية والتغيير وأحزاب رئيسية ترفض التطبيع، وتعدّ ما جرى تجاوزاً غير مقبول من طرف الحكومة والقيادة العسكرية، وأنهم لا يملكون تفويضاً من الشعب ولا من اللجنة المركزية لقوى إعلان الحرية والتغيير؛ كما أن القوى الإسلامية وحلفاءها التي نشطت مؤخراً على خلفية التدهور الاقتصادي، ستعمل على تصعيد خطابها المعارض، وتحشيد الشارع ضدّ هذا التطبيع.

وعند الترجيح بين الاحتمالات فإنه يصعب الحديث عن تطبيع كامل خصوصاً في المرحلة الانتقالية، وعدم اكتمال المؤسسات الدستورية في السودان، ولذلك فغالباً ما يكون التطبيع جزئياً. وهو تطبيعٌ معرضٌ للتجميد سواء بسبب تصاعد المعارضة ضده، أم بسبب ضعف نتائجه الاقتصادية على حياة السودانيين.

تاسعاً: أثر التطبيع على القضية الفلسطينية:

يمكن القول إن السودان في وضعه الانتقالي الراهن قد خرج من دائرة التأثير في القضية الفلسطينية بعد أن كان يلعب دوراً مهماً فيها، إذ كان يرفع من مستوى حضورها السياسي والأمني في المربع الإقليمي. وهذا الخروج استمرار للوضع السابق الذي تراجعت فيه العلاقة مع الجهات الفلسطينية الرسمية والمعارضة إلى مستويات عادية جداً، وربما إلى مستويات ضارة أمنياً لرغبته في توثيق علاقته الأمنية الأمريكية؛ ولكن الأطراف الفلسطينية المختلفة ستنظر إلى هذا التطبيع بمنظار الغضب لأنه جاء في وقت تحلّلت فيه دول عربية مهمة من المبادرة العربية التي ترهن التطبيع بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين؛ وهذا يعني أن السلطة الفلسطينية خسرت موقفاً عربياً جديداً دون أن ينعكس ذلك إيجاباً على مطالبها التي صاغتها الدول العربية؛ كما أن المقاومة الفلسطينية خسرت ساحة إسناد مهمة مما سيدفعها إلى السعي لتعويض هذه الخسارة، والبحث عن مداخل جديدة لاحتياجاتها التي لن تمر بالضرورة عبر التنسيقات شبه الرسمية كما كان يحدث سابقاً.

ويبدو أن الجهات الإسرائيلية ستكون حريصة على الاستفادة من الخبرة السودانية في تعاملها مع المقاومة الفلسطينية وشبكة علاقاتها معها، ومن الممكن أن تتحول هذه العلاقة إلى فرصة للسودان ليعيد تشبيك علاقته مع الفلسطينيين بموافقة إسرائيلية أمريكية، بحيث يلعب السودان دوراً تقريبياً أو قناة خلفية مفتوحة، بعيداً عن التدخلات المصرية المتمسّكة بهذا الملف بتحكّم شديد، ويمكن لذلك أن يؤدي لنمو العلاقة بشكل محدود مع بعض أطراف المقاومة الفلسطينية التي تحتاج لأبواب خلفية أخرى للتواصل غير المسيّس مع الأمريكيين والإسرائيليين في بعض الملفات البطيئة أو المتوقفة.

وفي العموم، فإن خروج السودان من مشهد الإسناد والدعم للقضية الفلسطينية سيؤدي إلى ضرر معنوي كبير لهذه القضية، ولكنه لن يكون ذا تأثير كبير عليها، إذ لم تتحول العلاقة مع الفلسطينيين إلى تحالف شامل قوي على الرغم من قوة علاقات الصداقة والتعاون، كما أن مستوى التعاون كان يتوقف على مستوى الضغوط الأمريكية على السودان وتفاعلاتها، وكثيراً ما تعرضت هذه العلاقة بين السودان والمقاومة الفلسطينية للاهتزاز والانقطاع، ولكنها كانت تزدهر عقب أيّ استهداف إسرائيلي للسودان أو حملة إسرائيلية عسكرية قوية على فلسطين، ثمّ ما تلبث أن تعود لمستوياتها العادية.

وليس وارداً أن تتغير العلاقة السياسية مع السلطة الفلسطينية بسبب هذا التطبيع، إذ سيستمر التأكيد السوداني أن هذا التطبيع لن يؤثر على الموقف المبدئي للسودان من حقوق الشعب الفلسطيني والدعوة لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وهي اللغة التي يشترك فيها جميع من بادر للتطبيع.

عاشراً: توصيات:

التطبيع السوداني لم يكن مطلباً أو اختياراً وإنما كان اضطراراً واستجابة للضغوط، أو ربما كان توظيفاً لبرامج خارجية في سياق التغيير الثوريّ، ترافق معه ابتزاز أمريكي؛ وما تزال قوى رئيسية في الحكم والمعارضة ترفض التطبيع وتعدّه انتقاصاً من السيادة الوطنية وأنه يجب التخلص منه. مما يعني أن ثمة فرصة للعمل الفلسطيني لاستمرار التواصل مع القوى السودانية في كل المستويات، وتثبيت بعض المصالح القائمة في السودان، واستعادة بعض ما فُقِد خلال السنوات السابقة، وإعادة التواصل مع الأحزاب والقوى الشعبية وإسناد أدوارها في نصرة القضية الفلسطينية، ومواجهة التطبيع إعلامياً وسياسياً وإظهار مخاطره على السودان في المدى المتوسط والبعيد، والتحذير من نشاطات القوى التطبيعية وأجنداتها الخارجية، والتوضيح أن تطور العلاقات السودانية الأمريكية لا يعني بالضرورة تورط السودان في التطبيع ومخاطره وأعبائه الثقيلة على الأمن القومي السوداني ومصالح السودان الاستراتيجية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن السودان ما زال تحت سياط العقوبات الأمريكية التشريعية وما زال مشواره طويلاً في الرفع الكامل لهذه العقوبات.


لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

>> التقدير الاستراتيجي (121): التطبيع السوداني – الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية (16 صفحة، حجم الملف 1.6 MB)


>> التقدير الاستراتيجي (121): التطبيع السوداني – الإسرائيلي وأثره على القضية الفلسطينية (16 صفحة، حجم الملف 698 KB)

* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور أسامة الأشقر بخالص الشكر على إعداد مسودة هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 30/10/2020


المزيد من التقديرات الاستراتيجية: