مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

الخضري وستون معتقلاً:

لم يكد الدكتور محمد صالح الخضري، ابن الـ81 عاماً، يتعافى من العملية الجراحية الحساسة التي خضع لها، حتى كانت السلطات السعودية تلقي القبض عليه في منزله في جدَّة. وزاد الأمر غرابة أن الدكتور الخضري معروف تماماً لدى السلطات السعودية، وهو مقيم في السعودية منذ نحو 27 عاماً، قضى منها نحو عشرين عاماً ممثلاً لحركة حماس، وتتواصل معه السلطات السعودية رسمياً بهذه الصفة. كما تولى أحد أرفع المناصب القيادية في حماس، وهو رئاسة مجلس الشورى العام (المركزي) للحركة، الذي يُعد الهيئة التشريعية في الحركة، والمخولة بانتخاب قيادتها التنفيذية ومراقبة أدائها.

الدكتور الخضري، استشاري الأنف والأذن والحنجرة، معتقل منذ أكثر من خمسة أشهر (4 نيسان/ أبريل 2019) دون توجيه تهمة محددة. وهو من رجالات فلسطين الذين يعملون بإخلاص ومثابرة، ولكن بصمت، في خدمة قضيتهم. كان مساعداً لخليل الوزير (أبو جهاد) في التنظيم العسكري السري الذي أنشأه الإخوان المسلمون في غزة، في الفترة 1953-1955. وبعد أن أنهى دراسته في الطب عمل في السلاح الطبي الكويتي، وكانت له مشاركة مشرفة على جبهات القتال في مصر. وبعد أن قارب الثمانين، واصل عطاءه الفعّال، فشارك في تأسيس المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وأصبح عضو أمانته العامة.

حماس التي يبدو أنها قد استنفدت كل ما لديها من وسائل ووسائط لإطلاق سراح الخضري، وإخوانه المعتقلين، طوال الأشهر الماضية، اضطرت مؤخراً لإصدار بيان هادئ يطالب السلطات السعودية بإطلاق سراحه؛ مما يشير إلى رغبة واضحة بتجنب كافة أشكال التصعيد والصدام، في الوقت الذي لا تملك فيه إلا أن تتحمل مسؤولياتها تجاه رجالها.

إلى جانب الخضري، يقبع نحو ستين فلسطينياً معتقلين في السجون السعودية، بعد حملة اشتدت منذ شباط/ فبراير 2019، وكان قد سبقها اعتقالات محدودة خلال العامين الماضيين. ومن بين المعتقلين د. أبو عبيدة، ابن القائد المؤسس في حماس د. خيري الآغا رحمه الله. ومن المعتقلين أيضاً الأديب والشاعر والمحلل السياسي الأستاذ عبد الرحمن فرحانة. واللافت للنظر أن أياً من هؤلاء الستين لم توجه إليه تُهمٌ محددة، كما تمّ تغييبهم عن أهاليهم الذين لم يعرفوا عنهم شيئاً لأشهر عدة، والذين بعد أن تم التواصل معهم لاحقاً، انتشرت تقارير عن ممارسة الضغوط المختلفة الجسدية والنفسية عليهم.

أما ما قد يجمع هؤلاء الستين، فهو انتماؤهم للتيار الإسلامي الفلسطيني أو قربهم منه، وبالتالي دعمهم للمقاومة الفلسطينية وجمع التبرعات لصالحها، أو لدعم صمود الشعب الفلسطيني في القدس وقطاع غزة وباقي فلسطين.

الفلسطينيون والسعودية:

تاريخياً، مثلت السعودية والشعب السعودي حاضنة حقيقية للشعب الفلسطيني ولقضية فلسطين، حيث يقيم نحو نصف مليون فلسطيني فيها. والسعوديون من أكثر الشعوب بذلاً وعطاءً في دعم فلسطين ودعم صمود شعبها. والحكومة السعودية، فضلاً عن دعمها الرسمي لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في إطار منظومة “الاعتدال العربي” وتحت سقف “المبادرة السعودية”؛ كانت على مدى عشرات السنين تغض الطرف عن حملات التبرعات لفلسطين، بما في ذلك تيارات المقاومة. وظهر ذلك جلياً في الانتفاضة المباركة (1987-1993)، وانتفاضة الأقصى (2000-2005). وكانت لقياداتها الرسمية علاقة طيبة بقيادات حركة حماس، التي كانت تنزل في ضيافتها في مواسم الحج إلى عهد قريب.

المعتقلون الفلسطينيون هم من أبناء الجالية الفلسطينية التي أسهمت بشكل كبير في النهضة التعليمية والصحية والاقتصادية في المملكة، وفي تطوير بنيتها التحتية وفي إعمارها. والغالبية الساحقة من المعتقلين هم من الفلسطينيين الذين عاشوا عشرات السنين في هذا البلد، وارتبطوا بحبه وحب أهله، ولم يخالفوا قوانينه، وعملوا ضمن المتاح للقيام بواجبهم تجاه قضيتهم المقدسة. وهؤلاء يستحقون الاحترام والتكريم، وليس السجن والملاحقة والضغوط الجسدية والنفسية. بل إن كثيراً منهم فضَّلوا أن يعضَّوا على الجرح، وألَّا تصل قضيتهم للإعلام؛ لأنهم كانوا يأملون بحلّ هادئ سلس لقضيتهم، حتى لا يفهم منه أي موقف سلبي تجاه الحكومة السعودية.

الفلسطيني يقوم بواجبه وينوب عن الأمة:

الإنسان الفلسطيني صاحب قضية مقدسة وعادلة، وهو مسيَّس بطبيعته. ولا يملك صاحب أرض شُرِّد منها وأهدرت كرامته، وصودرت ممتلكاته، وانتهكت حرماته ومقدساته؛ إلا أن يقوم بواجبه تجاه أرضه وشعبه. وليس من المعقول أن الفلسطيني في بلادنا إذا عمل لقضيته (ضمن الإمكانات والقوانين المتاحة) تجد من يطارده ويعتقله ويقمعه؛ وإذا اضطر للسكوت تجد من يتهمه (غالباً من المحسوبين على الطرف نفسه) بالجبن والضعف واللا مبالاة والأنانية، بل وبيع أرضه وتركها للعدو.

ثم إن قضية فلسطين وتحريرها دخلت في فرض العين وحالة الوجوب على كل مسلم وعلى كل عربي. فالمشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين وحدها، وإنما يستهدف الأمة بإبقائها ضعيفة متخلفة مفككة، فهذا شرط بقائه؛ لأن وحدة الأمة ونهضتها وقوتها هي شرط هزيمته واندحاره. وبالتالي، فإن لم تكن بلادنا العربية ترغب في العمل لفلسطين، ولا في مقارعة المشروع الصهيوني؛ فلا أقل من ألا تمنع من يرغب بدعم فلسطين وشعبها.

نقاط على الحروف:

لا يهدف هذا المقال إلى الاستغراق في تحليل الخلفيات السياسية للموضوع، فلعلنا نكتب فيه في فرصة أخرى، ولكننا نود أن نضع بعض النقاط على الحروف في هذا الإطار:

أولاً: إن قضية المعتقلين الفلسطينيين (والأردنيين من أصول فلسطينية) هي قضية حقوقية إنسانية بامتياز؛ فمن حقهم أن يحظوا بظروف اعتقال مناسبة، وبمبررات احتجاز حقيقية، وبمعاملة إنسانية كريمة، وبإطلاق سراحهم ما لم يوجد ما يُدينهم. ومن حقهم على السلطة الفلسطينية والسلطات الأردنية والمؤسسات الحقوقية المختلفة متابعة قضيتهم حتى إطلاق سراحهم.

ثانياً: صحيح أن حماس محسوبة على ما يعرف بـ”الإسلام السياسي”، لكنها ليست حركة “نكرة” حتى يعتقل رجالها ورموزها والمحسوبون عليها؛ ويرمون في غياهب السجون لأشهر عديدة في ظروف قاسية ودون محاكمة. فحركة حماس من أكثر الحركات شعبية واحتراماً في العالم العربي والإسلامي، بما فيه السعودية نفسها. وهي الحركة التي تقود المقاومة الفلسطينية منذ سنوات عديدة، وتدافع عن كرامة الأمة في فلسطين، وتمثل خط دفاعها الأول، وهي التي مرَّغت أنف الجيش الإسرائيلي في التراب في ثلاث حروب خاضتها من قطاع غزة. وشبابها يخوضون لحظة بلحظة معركة الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى..

وحماس جمعت إلى جانب شرعية المقاومة؛ الشرعية الشعبية من خلال فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وهي تمثل قطاعاً شعبياً واسعاً داخل فلسطين وخارجها، لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. وهو ما يدركه كل من يتعامل بالشأن الفلسطيني، سواء أحب حماس أم كرهها.

ثالثاً: إن صمت حماس طوال الأشهر الماضية واستنفادها لكافة الوسائل للإفراج عن الدكتور الخضري وإخوانه المعتقلين، يُحسب لها. وهي عندما تحدثت عن الموضوع تحدثت بلغة هادئة تسعى للحل دون الخوض في أي شكل من أشكال النزاع. وسبق لحماس أن مارست هذا السلوك عندما اعتقلت السلطات السعودية رئيسها في إقليم الخارج، د. ماهر صلاح، الذي أطلق سراحه سنة 2015 بعد بضعة أشهر على اعتقاله. لكن الحملة السعودية الحالية حملة قاسية وواسعة وغير مبررة، كما أن إغلاق الأبواب في وجه أي تواصل أو تفاهم غير مبرر أيضاً.

رابعاً: ربما تتضرر حماس من اعتقال أحد رموزها أو أشخاص محسوبين عليها، وربما تتراجع إمكانات ومستلزمات دعم صمود الشعب الفلسطيني، ومواجهة الحصار، ورعاية أسر الشهداء والأسرى نتيجة خوف الناس من الاعتقال والمطاردة؛ لكن الضرر سيلحق أيضاً بالحكومة السعودية ومنظومتها السياسية. فالشعوب العربية والإسلامية تتعلق قلوبها بفلسطين والقدس، ترفع وتقدّر من يرفعها، وتصبُّ جام غضبها على من يخذلها ويطارد مجاهديها، ويقطع وسائل الدعم عنها، مهما كانت أسبابه وأعذاره. وإذا كانت حماس وقوى المقاومة وشعب فلسطين يقبضون على الجمر وهم صامدون على أرضهم، ويبذلون دماءهم وأموالهم في مواجهة العدو، فلا أقل من أن تغض الأنظمة الرسميةالطرف عمَّن يدعم فلسطين، إن لم تكن قادرة أو راغبة في ذلك.

خامساً: إن الحملات الإعلامية والتحريضية التي تبنتها وسائل إعلامية سعودية أو محسوبة عليها ضدّ حماس وقوى المقاومة و”الإسلام السياسي”؛ كانت آثارها ظرفية مؤقتة، ثم أتت بنتائج عكسية، بل وأسهمت في الإساءة إلى صورة المنظومة السياسية السعودية في عيون الجماهير العربية والإسلامية؛ لأن العمل المقاوم له أصالته ومصداقيته، حيث يكتب التاريخ بدماء أبنائه. ولعله حان الوقت لأن تستدرك الحكومة السعودية ذلك، فتنحي جانباً أولئك الذين يُزوِّرون الحقائق، ويحاولون أن يزيِّنوا في عينيها “صفقة القرن” ومسارات “التطبيع”، و”تطويع” المقاومة وتجفيف ينابيعها، والتحالف مع الكيان الصهيوني للدخول في صراعات إقليمية طائفية أو عرقية. وهي صراعات لن تجر إلاّ مزيداً من الكوارث والويلات على أمتنا.

المصدر: موقع عربي 21، 13/9/2019


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: