مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.English_Version

بينما يحتفل الصهاينة اليهود وحلفاؤهم بذكرى مرور سبعين عاماً على إنشاء “إسرائيل”، مع مشاعر الزهو بنقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ فإن مرارة النكبة لم تمنع مئات آلاف الفلسطينيين من المشاركة -في الوقت نفسه- في مسيرات العودة على حدود قطاع غزة مع فلسطين المحتلة 1948.

كما لم تمنعهم من التضحية بعشرات الشهداء وآلاف الجرحى، ليؤكدوا حيوية الأمة وإصرارها على المضي في كافة أشكال المقاومة، وليثبتوا للمشروع الصهيوني أن “اللعبة” لن تنتهي إلا بهزيمته واندحاره.

سبعون عاماً مرَّت على النكبة، اعترتها إخفاقات ونجاحات، وحالات هبوط وصعود، ومدٍّ وجزرٍ، لكن الصراع لم يتوقف والملف لم يُغلق.

ويحاول هذا المقال تقديم كشف حساب مختصر ومكثف لأبرز الإخفاقات والنجاحات في تاريخ قضية فلسطين. وسنبدأ بالإخفاقات، حيث ما زلنا نعيش ذروة العلو الصهيوني والاستضعاف الفلسطيني العربي الإسلامي.

أبرز الإخفاقات والسلبيات

أولاً: كارثة حرب 1948؛ حيث أخفق الفلسطينيون والعرب في مواجهة المشروع الصهيوني المدعوم دولياً، وتمّ استصدار قرار من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين(القرار رقم 181) سنة 1947 يعطيه نحو 55% من أرضها، مع أن ملكية اليهود -التي استُحصل معظمها تحت الاحتلال البريطاني- كانت حوالي 6%.

وقد أدت الحرب إلى سيطرة الكيان الصهيوني على 77% من فلسطين (20,770 كم2)، وإلى تشريد 57% من الشعب الفلسطيني (نحو 800 ألف من أصل مليون و400 ألف)؛ بينما نجح الصهاينة في تثبيت كيانهم الذي أسسوه وهو “إسرائيل”.

ثانياً: كارثة حرب 1967؛ حيث أخفقت الأنظمة العربية في الدفاع عما تبقى من فلسطين، فاحتل الصهاينة الضفة الغربية وقطاع غزة؛ كما احتلوا سيناء المصرية والجولان السورية، وتمّ تهجير نحو 330 ألف فلسطيني تمكَّن جزء منهم من العودة بعد ذلك.

ثالثاً: الفشل العربي والإسلامي في مواجهة المشروع الصهيوني، وتراجع البعد العربي والإسلامي الرسمي للقضية الفلسطينية؛ وتحوُّلها مع الزمن إلى قضية تخص الفلسطينيين وحدهم، وقيام الدول العربية في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة بمنع العمل المقاوم عبر الحدود، مع منع شعوبهم وقواهم الحية من المشاركة الفاعلة في مشروع تحرير فلسطين.

رابعاً: نموّ المشروع الصهيوني وتجذّره وتصاعد قوته، وتمكنه من تشكيل لوبيات صهيونية عالمية قوية، وتمتعه بغطاء دولي يدعم بقاءه، وخصوصاً من القوى الكبرى وعلى رأسها أميركا؛ وفرض نفسه كدولة فوق القانون؛ وتحوله إلى شرطي للمنطقة، ونجاحه في بناء جيش حديث مستند إلى منظومة صناعات عسكرية فعالة، وإلى أسلحة غير تقليدية تشمل أكثر من 200 قنبلة نووية.

ونجاحه في استجلاب أكثر من ثلاثة ملايين و230 ألف يهودي منذ سنة 1948 وحتى نهاية 2017، بحيث أصبح يتجمع في كيانه نحو 46% من يهود العالم (نحو ستة ملايين و560 ألفاً)؛ وارتفاع دخل الفرد لديه إلى نحو 40 ألف دولار أميركي سنوياً، وهو ما يوازي الدخل في بعض دول غربي أوروبا.

خامساً: ضعف وفشل النظام السياسي الفلسطيني، خصوصاً في السنوات الخمس والعشرين الماضية، وتضعضع وتقزُّم منظمة التحرير الفلسطينية، واهتراء وعجز مؤسساتها، وتحوّلها إلى دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية.

وفشل منظمة التحرير في استيعاب “الكلّ” الفلسطيني وخصوصاً قوى المقاومة، ووجود فصائل وتيارات وشرائح واسعة -لا يقل تمثيلها عن نصف الشعب الفلسطيني- غير ممثلة في هذه المنظمة. والتراجع الهائل والفشل الكبير لدى المنظمة في التعامل مع الخارج الفلسطيني وتفعيل دوره، في الوقت الذي يمثل فيه الخارج نحو نصف الشعب الفلسطيني.

تُضاف إلى ذلك حالةُ الانقسام الفلسطيني وتنازع تياريْ التسوية والمقاومة، ومعاناة المنظومة السياسية الفلسطينية من إشكالية الرؤية، وإشكالية القيادة، وإشكالية البناء المؤسسي، وإشكالية تحديد الأولويات والمسارات والبرامج.

سادساً: فشل القيادة الفلسطينية -التي راهنت على اتفاق أوسلو 1993 طوال ربع قرن- في تحقيق “حلّ الدولتين”، وفي تحويل سلطة الحكم الذاتي التي أنشأتها إلى دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على الأرض المحتلة سنة 1967.

وفي الوقت نفسه؛ تمكّن الاحتلال الصهيوني من “إدارة” مسار التسوية، واستخدمه كغطاء لتهويد الأرض والمقدسات، ومضاعفة أعداد المستوطنين من نحو 280 ألفاً (سنة 1993) إلى أكثر من 800 ألف مستوطن (مطلع 2018).

كما نجح في تحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة تخدم أغراض الاحتلال، وتمكن من تحويل الاستعمار الصهيوني إلى “استعمار نظيف” وإلى استعمار “خمس نجوم”!!

سابعاً: نجاح المشروع الصهيوني في الاختراق التطبيعي الرسمي في المنطقة مع عدد من الأنظمة العربية، وعمل اتفاقيات تسوية سلمية أخرجت هذه الأنظمة من حالة الصراع مع العدو؛ بينما قامت أنظمة عربية وإسلامية أخرى باتصالات سياسية شبه رسمية، أو عمليات تطبيع وتبادل اقتصادي فوق الطاولة وتحت الطاولة.

كما أن منظومة العجز والفشل العربي أصبحت ترى في الكيان الصهيوني مدخلاً لرضا “السيِّد الأميركي”، وحليفاً محتملاً في صراعاتها الإقليمية.

ثامناً: الفشل في إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وبيوتهم التي أُخرجوا منها، رغم صدور قرارات دولية تؤكد حقَّهم في ذلك؛ وهي قرارات تكررت وجرى تأكيدها نحو 130 مرة.

تاسعاً: ولعله الأهم؛ الفشلُ في إطلاق وإنجاح مشروع نهضوي وحدوي، خصوصاً في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، يُحقِّق التكافؤ أو التفوق الإستراتيجي في مواجهة العدو الصهيوني، ويُطلق طاقات الإنسان العربي والمسلم الإبداعية في مجالات الحياة ومسارات النهوض، ويتجاوز العقليات القُطرية والعصبيات الطائفية والعرقية، ويفرض نفسه في المعادلة الدولية.

***

بعد كل جوانب الفشل والإخفاقات هذه، هل ثمة نجاحات أو مؤشرات تبعث على الأمل في هذه البيئة المليئة بالاستهداف والاستضعاف؟!

أبرز النجاحات والإيجابيات

أولاً: النجاح في إبقاء قضية فلسطين قضية حية طوال المئة سنة الماضية، والقضية المركزية للعالم العربي والإسلامي، وقضية مركزية عالمية. وكلما جرت محاولات لتهميشها وإغلاق ملفاتها عادت لتفرض نفسها مجددا، لتكشف في كل مرة حالة “المظلومية” الفلسطينية، ومدى قبح وتَوحُّش الاحتلال الصهيوني، ومدى نفاق المجتمع الدولي وقواه الكبرى.

ثانياً: صمود الشعب الفلسطيني على أرضه؛ فبرغم وجود نصف الشعب الفلسطيني في المنافي والشتات؛ فإنه ما زال هناك نحو ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني داخل فلسطين التاريخية.

وقد تمكنوا مطلع سنة 2018 من تجاوز أعداد اليهود في فلسطين، وذلك بعد مرور أكثر من 120 عاماً على المشروع الصهيوني و70 عاماً على إنشاء الكيان الصهيوني. ورغم كافة أشكال الاحتلال والقهر والمعاناة فإن ثبات الشعب الفلسطيني على أرضه، ما زال يسبب مشكلة وجودية للمشروع الصهيوني.

ثالثاً: فشل “إسرائيل” في التحول إلى كيان طبيعي في المنطقة، واستمرار النظرة إليها ككيان سرطاني غريب؛ والفشل الذريع لكافة أشكال التطبيع الشعبي معها، وانزواء التطبيع مع “إسرائيل” في القشرة الرسمية لبعض الأنظمة العربية. وبالتالي اعتماد “إسرائيل” في بقائها على منظومة غطرسة القوة والغطاء الدولي، وهو ما لا يمكن ضمانه على المستوى البعيد.

رابعاً: تعمّق قضية فلسطين في الوجدان العربي والإسلامي والإنساني، باعتبارها قضية حقّ وعدل، فشلت كافة المحاولات الصهيونية والدولية (وكذلك محاولات حلفائهم في المنطقة) في عزلها وتشويهها وإطفاء لهيبها.

خامساً: استمرار وتطور المقاومة الفلسطينية بأشكال مختلفة طوال المئة سنة الماضية، فمن انتفاضات وثورات موسم النبي موسى 1920، ويافا 1921، والبراق 1929، وانتفاضة 1933، وإعلان عز الدين القسام الجهاد 1935، والثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، وحرب فلسطين 1948، وانطلاقة العاصفة 1965، والعمل الفدائي الفلسطيني عبر الحدود خصوصاً في أواخر ستينيات وطوال سبعينيات القرن العشرين.

ثم جاءت الانتفاضة المباركة 1987-1993، وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وحروب غزة مع العدو 2008-2009 و2012 و2014…، وانتفاضة القدس 2015-2017؛ وصولاً إلى مسيرات العودة 2018؛ إنه جهاد ونضال وإبداع لا يتوقف. وهو جهاد وصمود فرض على الاحتلال الانسحاب من قطاع غزة سنة 2005.

ورغم حصار غزة وتنسيق سلطات رام الله الأمني مع الاحتلال؛ فإن العمل المقاوم نما وطوَّر إمكاناته النوعية، وليس من المستبعد في المستقبل الوسيط أن يصل إلى إمكانات وقدرات تؤرِّق المشروع الصهيوني، وتفرض معادلات جديدة في إدارة الصراع.

كما أن العدو الصهيوني أُجبر على الانسحاب من جنوب لبنان سنة 2000 تحت ضربات المقاومة، وفشل في حربه التي خاضها ضدّ لبنان في 2006، وتمكنت المقاومة من فرض معادلتها ولم يعد قادراً ولا راغباً في التوسع في لبنان.

وبشكل عام، فإن البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين تحمل في مستقبلها تحديات كبيرة للمشروع الصهيوني.

سادساً: رغم الحالة “المزرية” الراهنة للمنظومة السياسية الفلسطينية؛ فقد حافظ الشعب الفلسطيني على هويته الوطنية طوال المئة عام الماضية، وشكّل مؤسسات تُمثله وتعبّر عن تطلعاته، ابتداء من المؤتمر العربي الفلسطيني 1919-1934، ومروراً باللجنة العربية العليا 1936-1946، والهيئة العربية العليا 1946-1964، ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ 1964.

ونظم تشكيلاته ومؤسساته وفصائله ونقاباته بروح الشعب الواحد، المتجاوز للحدود الجغرافية المفروضة عليه؛ فكان لمعظمها امتدادات في الداخل والخارج، وظلت القدس وفلسطين والقضية والاهتمامات والتطلعات المشتركة تجمع أبناء فلسطين.

سابعاً: نجح فلسطينيو الخارج في المحافظة على هويتهم الفلسطينية على مدى السبعين عاماً الماضية، رغم الشتات ورغم الأغلبية العددية للجيلين الثالث والرابع للنكبة. وما زال نحو 75% من فلسطينيي الخارج يقيمون في الأرض المحيطة بفلسطين (الأردن وسوريا ولبنان).

وما زال الجميع متمسكين بحق العودة إلى البيوت والقرى والمدن التي أُخرجوا منها. كما أن فلسطينيي الخارج كان لهم دورٌ ريادي في قيادة العمل الوطني الفلسطيني، وفي تأسيس معظم فصائله الفاعلة على الأرض؛ وتولَّوا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نحو ثلاثين عاماً 1964-1994؛ كما تركز العمل المقاوم المسلح في الخارج معظم الفترة التي سبقت انتفاضة 1987 المباركة بالداخل الفلسطيني.

وها هم فلسطينيو الخارج الآن ينشطون لتحقيق التكامل الفعَّال مع إخوانهم في الداخل الفلسطيني، عبر مناشطهم السياسية والإعلامية والخيرية والثقافية وغيرها. ويبرز ذلك في الفعاليات المتصاعدة لمؤسسات العودة وحقوق اللاجئين، وإطلاق المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج.

ثامناً: ما زالت القدس وفلسطين هي القضية التي تجمع العرب والمسلمين وتوحدهم، مهما كانت الخلافات والنزاعات فيما بينهم. وما زالت المظاهرات تخرج دعماً لفلسطين من طنجة إلى جاكرتا، وما زالت البوصلة تتجه إلى فلسطين رغم محاولات البعض لحرفها.

وما زال كثير من السياسيين يتعاملون مع قضية فلسطين (أو يستخدمونها) كوسيلة لرفع شعبيتهم، وما زالت معادلة أن فلسطين والقدس ترفع من يرفعها وتخفض وتفضح من يخذلها معادلة قائمة.

***

ربما يُظهر المشهد العام الحالي لقضية فلسطين صورة مؤلمة ومحبطة، في واقع فلسطيني وعربي وإسلامي ودولي بئيس.

لكن علينا قراءة المشهد في ضوء حركة التاريخ، وفي ضوء سنن التدافع والتداول، وفي ضوء حالات التشكُّل وإعادة التشكُّل، التي تشهدها البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، وفي ضوء صمود الشعب الفلسطيني، وثبات العمل المقاوم، وفي ضوء الطاقات المذخورة في الأمة، وفي ضوء أزمة المشروع الصهيوني.

فكل ذلك يشير إلى أن وجود أمتنا الحالي في حالة الجزر -أو في قعر الموجة- لا يمنع من توفر العناصر المُهيِّئة لانطلاقة موجة جديدة أكبر وأقوى فاعلية من الموجات التي سبقتها؛ إن شاء الله.. وإن غداً لناظره قريب.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 16/5/2018