مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. English_Version

ثمة عشر نقاط تستحق تسليط الإضاءة عليها، مما يمكن استخلاصه من التقرير الإستراتيجي الفلسطيني لسنتيْ 2016-2017، وتوقعاته للمسارات المستقبلية لسنتيْ 2018-2019.

وهذا التقرير العلمي الشامل -الذي تم إعداده في نحو أربعمئة صفحة من المعلومات والتحليل والمقارنة والاستشراف المستقبلي، بمشاركة 14 خبيراً ومتخصصاً- قام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات بنشر ملخص له، ووفره على موقعه. وهذا هو الإصدار العاشر للتقرير.

النقطة الأولى: إن مسار التسوية السلمية -وفق شكله الحالي ووفق اتفاقيات أوسلو- لن يؤدي إلى “حلّ الدولتين”، وأن السلطة الفلسطينية لا أفق لها في التطور إلى دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.

إن مسار التسوية السلمية على قاعدة اتفاقيات أوسلو كان عملية خداع إسرائيلية/أمريكية جُرَّ بها الطرف الفلسطيني إلى “المصيدة”؛ بحيث قامت “إسرائيل” بـ”إدارة” التسوية دون السعي إطلاقاً لأي حلٍّ جادّ، واستفادت من غطاء “عملية” التسوية في تنفيذ برنامج ممنهج وشامل لتهويد القدس وباقي الضفة الغربية، وبناء حقائق على الأرض (المستعمرات والجدار العنصري)، بحيث يستحيل إنشاء دولة فلسطينية حقيقية.

كما استفادت من غطاء التسوية في إيجاد طرف فلسطيني متنفذ، وملتزم دولياً بالقيام بدور وظيفي في الضفة والقطاع، ويتولى بنفسه قمع قوى المقاومة والمعارضة؛ ويُسهم عملياً (أحب أم كره) في تحويل الاحتلال الإسرائيلي إلى استعمار “نظيف” واستعمار “خمس نجوم”.

وفي هذه الأجواء، وبعد قرار دونالد ترمب بنقل السفارة الأميركية للقدس؛ وصل مسار التسوية إلى حافة الانهيار، وليس ثمة أفق لتغيير وضع السلطة الراهن كأداة تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما تخدم أهداف الشعب الفلسطيني وتطلعاته في الحرية والاستقلال.

ولذلك أصبح في حكم الفرض والواجب أن تقوم قيادة المنظمة والسلطة بعملية مراجعة شاملة، غير مقتصرة على حركة فتح وحدها وإنما يشترك فيها الكلّ الفلسطيني، للنهوض بالمشروع الوطني من جديد.

النقطة الثانية: ليس من المتوقع أن تتحقق المصالحة الفلسطينية، إذا ما ظلَّت تدار بالطريقة نفسها. إذ إن القيادة الرسمية الفلسطينية التي تقود المنظمة والسلطة كانت “تدير” المصالحة، وتستخدم وسائل الضغط والنفوذ المختلفة لتطويع الطرف الآخر تحت سقفها وهيمنتها وبرنامجها السياسي.

ولم تسعَ -بشكل جاد- لإنجاز شراكة حقيقية فعالة، تعبِّر عن الأحجام الحقيقية الفلسطينية في الداخل والخارج. واستفادت هذه القيادة من الظروف العربية والدولية الراهنة المعادية لتيارات “الإسلام السياسي” ولخط المقاومة المسلحة، لفرض أجندتها على حركة حماس وقوى المقاومة.

ولذلك لم تجد حرجاً في تضخيم دور رئاسة السلطة وإعطائها صلاحيات واسعة، في الوقت الذي عطّلت فيه المجلس التشريعي الفلسطيني؛ وهو المجلس المخوّل باعتماد الحكومة ومتابعتها ومحاسبتها وإقالتها.

فتحولت هذه الحكومة إلى حكومة “رئيس السلطة” التي لا تأبه بالسلطة التشريعية، بل وتقوم أجهزتها الأمنية بملاحقة واضطهاد القوة الأساسية التي تمثل الأغلبية النيابية الساحقة في المجلس، ويُحرم أنصارها من العمل في الوزارات والمؤسسات، وتُهاجَم في إعلام الحكومة.

غير أنه في المقابل، يصعب على قيادة المنظمة والسلطة نفسها أن تُنفذ برنامج المصالحة حتى لو أرادت. إذ إن ملفات تشكيل الحكومة وانتخابات المجلس التشريعي وإصلاح الأجهزة في الضفة الغربية، كلها ملفات يملك الطرف الإسرائيلي القدرة على إفشالها أو تعطيلها.

وبالتالي، فلا ينبغي لحماس أن تتوقع أن يسمح الطرف الإسرائيلي بإنفاذ مصالحةٍ تؤدي لتعزيز خطّ المقاومة، أو تسمح لتيار يعاديها ولا يعترف بها أن يدير (أو يشارك في إدارة) الضفة الغربية، التي هي تحت احتلاله ومرتبطة باستحقاق اتفاق أوسلو. ولذلك يبقى المدخل الأنسب لإنفاذ المصالحة هو مدخل إعادة بناء منظمة التحرير، حيث يكون القرار الفلسطيني “المستقل” بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية.

وهو مدخل غير مرحب به حالياً من قيادة المنظمة والسلطة، لأنها ترى في شراكة حماس وقوى المقاومة في القيادة التنفيذية أو المؤسسة التشريعية خطراً قد يؤدي لإضعاف المكانة الدولية (وحتى العربية) لمنظمة التحرير وسحب الاعتراف منها، بسبب الموقف المعادي لخطّ المقاومة وخطّ “الإسلام السياسي”.

النقطة الثالثة: الشعب الفلسطيني صامد على أرضه؛ ووفق المراكز الإحصائية الإسرائيلية والفلسطينية الرسمية، فإن أعداد الفلسطينيين تجاوزت أعداد اليهود في فلسطين التاريخية (فلسطين المحتلة 1948، والضفة والقطاع).

حيث تشير التقديرات إلى أن عدد الفلسطينيين في مطلع 2018 قد بلغ ستة ملايين و587 ألفاً مقابل ستة ملايين و558 ألف يهودي؛ وسيتجاوز الفلسطينيون أعداد اليهود بنحو ثلاثمئة ألف نسمة سنة 2022.

إن هذه القراءة العلمية بقدر ما تثير الإعجاب لثبات الشعب الفلسطيني وصموده في وجه الاحتلال، تثير أيضا قلق المشروع الصهيوني -الذي فشل بعد أكثر من 120 عاماً على ظهوره، وبعد 70 عاماً على إنشاء كيانه الإسرائيلي- من إعطاء الصفة “اليهودية” لأرض فلسطين.

غير أن ذلك يلقي بظلاله على مخاطر قيام سلطات الاحتلال بعمل برامج أو افتعال أزمات تؤدي إلى تهجير أعداد كبيرة من أبناء فلسطين؛ وهو ما يُحمّل القيادة الفلسطينية والبلاد العربية والإسلامية وكافة داعمي الحق الفلسطيني، مسؤوليةً كبيرةً تجاه حماية الشعب الفلسطيني ودعم صموده، وإفشال مخططات الاحتلال الإسرائيلي.

النقطة الرابعة: إن معاناة الاقتصاد الفلسطيني في الضفة وغزة ستستمر ما دام تحت الاحتلال والحصار الإسرائيلي، وما دام تحت استحقاقات اتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس، حيث يتحكم الطرف الإسرائيلي في المنافذ الحدودية البرية والبحرية والجوية، ويتولى بنفسه جمع الضرائب الناتجة عن التجارة الخارجية للسلطة، وهي تصل إلى ثلثيْ إيرادات السلطة.

ويستطيع الطرف الإسرائيلي حرمان السلطة الفلسطينية منها في أي وقت، واستخدام ذلك كأداة ضغط وابتزاز سياسي وأمني واقتصادي. كما يخضع الاقتصاد الفلسطيني للتأثير السلبي للدول المانحة، وأغلبها دول غربية، للتماهي مع الأجندات السياسية المرتبطة بمفهومها للتسوية السلمية، ولنظرتها المعادية لقوى المقاومة والتيارات الإسلامية.

غير أن ما يثير الأسى أن السلطة الفلسطينية نفسها أنشأت اقتصاداً ريعياً استهلاكياً، وأوجدت بطالات مقنعة، ولم تقم بإجراءات فعالة لبناء اقتصاد وطني حقيقي أو مقاوم، أو منفك عن الاقتصاد الإسرائيلي.

النقطة الخامسة: ليس متوقعا أن يُرفع الحصار عن قطاع غزة، ما دامت المقاومة الفلسطينية تحتفظ بقواها وبناها التحتية. ربما يخفف بعض جوانب الحصار مع استلام حكومة رام الله لإدارة القطاع؛ ولكنها ليست هي الطرف الذي يقرر رفع الحصار.

وسيخفف الطرف الإسرائيلي من الحصار بشكل متناسب مع قدرة حكومة رام الله على التحكّم في الأوضاع، وتنفيذ اشتراطات واستحقاقات أوسلو التي يجري تطبيقها في الضفة؛ وهي اشتراطات ترتبط في جوهرها بالدور الوظيفي للسلطة، وعلى رأسه التزاماتها الأمنية تجاه الطرف الإسرائيلي.

وهي التزامات لن تكتمل -وفق المعايير الإسرائيلية- إلا بالسيطرة على الأمن وسلاح المقاومة (فوق الأرض وتحت الأرض). وعلى قوى المقاومة ألا تتوقع “العنب” من منظومة أوسلو، التي ستواصل الضغط ولو بالتدريج لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها.

ومن المتوقع أن يسعى الطرف المصري -الملتزم بمسار التسوية السلمية- لمتابعة الضغط على حماس لـ”تمكين” حكومة رام الله من تنفيذ برنامجها، ولو بشكل “ناعم” وتدريجي.

النقطة السادسة: ستتواصل الاعتداءات الإسرائيلية ومشاريع الاستيطان والتهويد خصوصاً في القدس وباقي الضفة، وسيحاول المشروع الصهيوني تحقيق أكبر قدر من المكاسب وبناء الحقائق على الأرض، في بيئة عربية وإسلامية ضعيفة ومفككة.

غير أن المقاومة الفلسطينية بأشكالها المختلفة، التي تابعت بدرجات متفاوتة انتفاضة القدس وأبدعت في هبّة الأسباط، وقدمت 134 شهيداً سنة 2016 و94 شهيداً 2017، و3,230 جريحاً 2016، و8,300 جريح 2017، ستستمر ولن تتوقف.

وقد سجل الشاباك الإسرائيلي (المخابرات العامة) 1,415 عملية مقاومة في 2016، و1,516 عملية في 2017؛ وهو ما يعبر عن قوة جذوة المقاومة في نفوس الشعب الفلسطيني.

ومن المتوقع أن تستمر عمليات المقاومة، وأن تزداد فرصها في التصاعد بالضفة، مع تعمق حالة اليأس من مسار التسوية السلمية، وتراجع أو انهيار “حلّ الدولتين”؛ كما تملك المقاومة فرصة تقوية قدراتها النوعية في المرحلة القادمة.

النقطة السابعة: يتجه المجتمع اليهودي الصهيوني نحو مزيد من التطرف اليميني والديني، بينما تتجه تيارات اليسار إلى مزيد من التحلل والضعف. وتتجه البيئة الصهيونية إلى مزيد من الإجراءات نحو “يهودية الدولة”، وشرعنة مزيد من الإجراءات العنصرية ضدّ أبناء فلسطين، وتوسيع الاستيطان، وتهويد القدس والمقدسات، وستستمر المعركة على المسجد الأقصى ومحيطه.

وسيستفيد الكيان الصهيوني من حالة الاستقرار والازدهار الاقتصادي التي توازي مستويات الدول الغربية، مع تمتعه بقوة عسكرية نوعية طاغية، في بيئة عربية منشغلة بصراعاتها الداخلية.

ولكن، ستظل “إسرائيل” تواجه أزمات “وجودية” في ظلّ صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتطور مقاومته؛ وفشلها هي في تحولها إلى كيان طبيعي بالمنطقة، حيث ترفض البيئة الشعبية الأوسع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ وفي ظلّ بيئة إستراتيجية محيطة غير مستقرة، ويتنامى فيها الوجود المقاوم والمعادي للمشروع الصهيوني.

النقطة الثامنة: من المتوقع أن تحافظ الدول العربية المرتبطة بعلاقات رسمية مع “إسرائيل” -وتحديداً مصر والأردن- على هذه العلاقات. وقد تحاول “إسرائيل” إحداث اختراقات في علاقاتها مع بعض دول الخليج، على قاعدة ما يُسمى التحالف ضد إيران ومكافحة “الإرهاب”. غير أن هذا الاختراق لن يكون سهلاً؛ وقد تُفضل أطراف عربية عمل العلاقات “تحت الطاولة”، بسبب المعارضة الشعبية الواسعة للتطبيع.

النقطة التاسعة: في إطار العالم الإسلامي؛ ليس من المتوقع أن تُحسِّن منظمة التعاون الإسلامي أداءها الضعيف والباهت تجاه فلسطين. وثمة فرصة لتزايد التفاعل الشعبي الإسلامي مع قضية فلسطين، خصوصاً مع التهديدات التي تتعرض لها القدس والمسجد الأقصى.

وأما عن الدولتين اللتين درسهما التقرير الإستراتيجي؛ فمن المتوقع أن تتابع تركيا تحت قيادة رئيسها رجب طيب أردوغان أداءها السياسي النشط والداعم لفلسطين. وفي الوقت نفسه ستحافظ على علاقات سياسية “باردة” مع “إسرائيل”، غير أنها ستتابع علاقاتها التجارية النشطة معها، والتي تجاوزت أربعة مليارات دولار 2017.

أما إيران فإنها ستتابع دعمها السياسي والعسكري للمقاومة الفلسطينية، وعداءها المكشوف لـ”إسرائيل”؛ لكنها ستتجنب مواطن الاحتكاك المباشر، حيث ستركز على تنفيذ أجندتها الإقليمية.

النقطة العاشرة: ستظل البيئة الدولية تبدي دعماً وبأغلبية كبيرة (بمعدل يزيد على 140 دولة) لقضية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة وعدد من المؤسسات الدولية. غير أن الولايات المتحدة ومنظومة القوى الكبرى -التي تسيطر على مجلس الأمن وتهيمن على السياسة الدولية- لن تسمح بأي قرارات تُجبر الجانب الإسرائيلي على خطوات يَرفضُها.

ومن جهة أخرى؛ ثمة فرصة لزيادة ولو بطيئة في العداء أو النظرة السلبية الشعبية العالمية تجاه “إسرائيل”. كما أن ثمة فرصة لتعزيز نجاحات حركة مقاطعة “إسرائيل” (BDS)؛ وهو ما يتسبب في تصاعد القلق الإسرائيلي.

***

وأخيراً، رغم أن عدداً من الخلاصات يثير “الكآبة”؛ فإن معرفة الحقائق والعيوب والمخاطر وجوانب الضّعف -كما هي- أمر ضروري لأي عمل جادّ للنهوض بالشأن الفلسطيني.

ومن جهة أخرى، هناك عناصر عدة تمنح الأمل، فللمشروع الصهيوني أزماته، والشعب الفلسطيني صامدٌ على أرضه، وتجاوزت أعدادُه أعدادَ اليهود، وللمقاومة الفلسطينية بطولاتها وإبداعاتها، والبيئة العربية ما زالت تحت التّشكُّل، والمستقبل الوسيط يحمل فرصاً قوية للحالة النهضوية بالمنطقة، وللعمل لفلسطين. وكلُّ ذلك بمشيئة الله وتقديره.

المصدر : الجزيرة.نت، الدوحة، 28/2/2018