مدة القراءة: 12 دقائق

تقدير استراتيجي (82) –  تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. English_Version

ملخص:

تزايد حضور الجماعات الإسلامية المحسوبة على تيار السلفية الجهادية (القاعدة، داعش، …وغيرها) في عدد من الأقطار العربية، وتحولت خلال العامين الأخيرين إلى فاعل مؤثر في قضايا المنطقة، ويطرح هذا التقدير سيناريوهين محتملين، لاحتمالات تمدد هذه الجماعات:

الأول: نجاح تلك الجماعات في التمدد، وتحقيق نجاحات مهمة، تجعلها فاعلاً رئيساً وطرفاً مؤثراً في الواقع الفلسطيني وفي معادلات الصراع العربي الإسرائيلي؛ وهو ما ستكون له انعكاسات كبيرة على بنية المجتمع الفلسطيني وعلى وجود الفصائل الفلسطينية، وأولويات العمل الفلسطيني، وحالة التعايش المجتمعي وواقع الأقليات الدينية. كما أن من شأنه أن يشدد الحصار على الداخل الفلسطيني ويوقف المساعدات الإقليمية والدولية، وأن يعطي مبرراً جديداً للاحتلال لتصعيد عدوانه بذريعة محاربة الإرهاب الفلسطيني.

أما السيناريو الثاني فهو فشل تلك المجموعات في التمدد، واستمرار الوضع الراهن من حيث حجمها وحضورها وتأثيرها في المشهد السياسي الفلسطيني.

ويقترح التقدير جملة محددات لترجيح فرص أي من السيناريوهين، أبرزها: قوة تلك المجموعات وتماسكها التنظيمي، وموقع فلسطين والصراع مع الاحتلال في استراتيجيتها، وقدرتها على تجاوز عوائق الجغرافيا وتحقيق التواصل مع ساحات مجاورة، والحالة الأمنية في فلسطين ومدى توفر فراغ يتيح لها الاختراق والتمدد، وحجم الاحتقان الداخلي، ووجود أو غياب الصراعات الدينية والطائفية، والبيئة الفكرية والثقافية وحالة التعايش في المجتمع.

ومع التأكيد على عدم وجود دولة أو ساحة محصنة ضد اختراق الفكر المتشدد في ظل الأوضاع التي يعيشها الإقليم، يرجّح التقدير في الظروف الراهنة سيناريو استمرار الوضع القائم، وعدم قدرة تلك المجموعات على تحقيق نجاحات كبيرة في مجال التمدد بالساحة الفلسطينية، ويقدّم عدة مقترحات للتعاطي مع الحالة القائمة، أهمها الحفاظ على روح التعايش والانفتاح الاجتماعي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام، وترشيد العمل المقاوم.

مقدمة:

تزايد حضور المجموعات الدينية المسلحة التي تنتسب إلى تيار “السلفية الجهادية” (القاعدة، وداعش، … وغيرها) وتوسّع نفوذها في العديد من الأقطار العربية، وتحولت خلال العامين الأخيرين إلى لاعب فاعل مؤثر في قضايا المنطقة، الأمر الذي مثّل تحوّلاً مهماً وشكّل تحدياً للحكومات والمجتمعات والحركات السياسية على حد سواء، ما يطرح السؤال حول احتمالات انتقال الظاهرة إلى الساحة الفلسطينية.

أولاً: واقع مجموعات السلفية الجهادية ومسار تطوّرها في الساحة الفلسطينية:

بالرغم من محاولتها الاستفادة من زخم النجاحات التي حققها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية في أعقاب سيطرته على محافظة الموصل منتصف سنة 2014، ما يزال حضور الجماعات الدينية المسلحة المحسوبة على السلفية الجهادية في الساحة الفلسطينية ضعيفاً محدود التأثير.

في غزة كان التوتر سيد الموقف في العلاقة بين حكومة حركة حماس وبين مجموعات دينية مسلحة حملت أفكاراً وتوجهات متشددة، حيث ظهرت العديد من المجموعات الصغيرة مثل “جيش الإسلام” و”جند أنصار الله”، المعروفة باسم “جلجلت” و”كتائب التوحيد”، و”جيش الأمة”، و”أنصار الدولة الإسلامية”.

تعود بداية التوتر بين الطرفين إلى سنة 2007 التي شهدت مواجهات بين القوات الأمنية في غزة وبين تنظيم “جيش الإسلام” بقيادة ممتاز دغمش، وتصاعدت المواجهات سنة 2008 بعد توجيه ضربات قوية للتنظيم، أسفرت عن إطلاق سراح الصحفي ألن جونستون المختطف لدى التنظيم وعن مقتل عدد من أفراده، ليتم تحجيم قوته بصورة ملحوظة.

غير أن التصعيد الأبرز في العلاقة بين حماس وحكومتها وبين المجموعات المسلحة وقع في السنة التالية، حيث أعلن عبد اللطيف موسى في خطبة الجمعة يوم 14/8/2009 قيام إمارة إسلامية في غزة، وقتل موسى مع عدد من أتباعه في المواجهة مع القوات الأمنية، ما وجه ضربة قوية لتلك المجموعات التي تراجع حضورها بشكل واضح في السنوات اللاحقة.

وقد اتسم خطاب المجموعات الدينية المسلحة داخل فلسطين وخارجها بعد تلك المواجهة بموقف أكثر تشدداً وسلبية تجاه حركة حماس، حيث اتهمتها بالعلمانية والردّة وملاحقة المجاهدين الموحدين، وبات واضحاً أن العلاقة المتوترة أصلاً بين الطرفين تتجه نحو مزيد من التأزم. وتبرز أهمية تلك الحادثة في كونها أكدت الأولوية في استراتيجية تلك المجموعات بالحصول على أرض وموطئ قدم لإعلان إمارة أو دولة إسلامية، حيث تتقدم تلك الأولوية في فكرها وممارستها على تحرير الأرض ومواجهة الاحتلال.

غير أن تغييراً طرأ على موقف تلك المجموعات في الآونة الأخيرة يمكن رصده في نشاطها الميداني وخطابها الإعلامي. فعقب اعتقال الأجهزة الأمنية في غزة عدداً من أفرادها منتصف سنة 2015، لجأت لإطلاق عدد من الصواريخ عبر قطاع غزة باتجاه الأراضي الخاضعة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما رأت فيه أوساط سياسية فلسطينية محاولة لإحراج حركة حماس والضغط عليها لإطلاق سراح معتقلي تلك المجموعات عبر التهديد بجرّ القطاع إلى مواجهة جديدة مع الاحتلال، في توقيت ترى كثير من الفصائل الفلسطينية أنه غير ملائم ولا يخدم المصلحة الفلسطينية.

رافق ذلك تنفيذ العديد من عمليات التفجير الليلية التي استهدفت مقاهي إنترنت وصالونات تجميل ومحال بيع أشرطة كاسيت، فضلاً عن استهداف بعض أفراد الأجهزة الأمنية في غزة، واستمرت تلك الحوادث لنحو شهرين. واتهمت الأجهزة الأمنية في القطاع أفراداً ومجموعات صغيرة بالمسؤولية عن التفجيرات، وشنت حملة واسعة شملت اعتقال العديد من المتهمين، ونجحت في إعادة الهدوء ووقف عمليات التفجير.

ومع انطلاق انتفاضة القدس، طرأ تطور ملحوظ في الخطاب الإعلامي للجماعات الدينية المسلحة، حيث أظهرت اهتماماً بالمواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، ووجهت رسائل إعلامية كان آخرها عدد من التسجيلات الصوتية التي تضمنت انتقادات شديدة اللهجة لحركتي فتح وحماس. ودعا التنظيم عبر عدد من مكاتبه الإعلامية في العراق الفلسطينيين إلى التخلي عن فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس، وإلى الالتفاف حول “خلافة” البغدادي. وقال التنظيم في رسائله المسجلة: “اعلموا أنه لا فرق بين فتح وحماس، وكلّ عند مصالحه الشخصية وقّاف، وبعضهم عميل للصليبيين والصفويين كما تعلمون”. وأضاف: “حماس وفتح وجهان لعملة واحدة، وكفرهم واضح صريح بواح، عندنا من الله فيه برهان”.

أما في الضفة الغربية فكان حضور المجموعات الدينية المسلحة أضعف بسبب الإجراءات الأمنية المشددة والضغوط التي تمارسها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بحق التوجهات الإسلامية ومظاهر العمل الإسلامي، ما أثر في قدرة تلك المجموعات على التأثير والحضور.

وفي شهر شباط/ فبراير 2015 نقلت الإذاعة الإسرائيلية عن مصادر أمنية فلسطينية أن أجهزة أمن الضفة الغربية شنت حملة اعتقالات شملت عشرة شبان فلسطينيين، في أعقاب معلومات إسرائيلية عن وجود عناصر تنتمي لتنظيم الدولة الإسلامية، تخطط لمهاجمة أهداف فلسطينية وإسرائيلية، لكن المتحدث باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية عدنان الضميري نفى أي وجود لتنظيم الدولة في الضفة، وقال إن الأمر اقتصر على وجود عدد من الشبان يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي أفكاراً تؤيد التنظيم. وفي حادثة أخرى قام مجهولون بكتابة شعارات مؤيدة لتنظيم الدولة في ميدان “الكساسبة” بمدينة البيرة وقاموا بطمس عبارة “الشهيد معاذ الكساسبة” بطلاء أسود، وكتبوا شعارات لتنظيم الدولة “باقية وتتمدد، الله أكبر”.

ويلاحظ أن المجموعات الدينية المسلحة حرصت حتى وقت قريب على تأكيد استقلاليتها وعدم تبعيتها أو ارتباطها تنظيمياً بأي جماعات خارجية، وأن الأمر يقتصر على الالتقاء في الفكر والتوجهات، لكن يبدو أن تغيراً ربما يكون طرأ على هذه السياسة في الآونة الأخيرة، حيث أصدر تنظيم جيش الإسلام بياناً في أيلول/ سبتمبر 2015 أعلن فيه مبايعته لزعيم تنظيم الدولة وارتباطه بفرعه في سيناء “أنصار بيت المقدس”، وتلا صدور البيان نفي من مسؤول التنظيم ممتاز دغمش لصحته، فيما تحدثت أوساط سياسية عن خلافات داخل التنظيم حول مبايعة البغدادي، وأكدت صحة صدور البيان عن عدد من قيادات التنظيم.

ثانياً: السيناريوهات المحتملة لمستقبل مجموعات السلفية الجهادية في فلسطين والانعكاسات المتوقعة:

ثمة سيناريوهين رئيسيين محتملين لمستقبل المجموعات الدينية المسلحة ولمدى قدرتها على التمدد والانتشار وزيادة قوتها وحضورها في الساحة الفلسطينية في المدى القريب:

السيناريو الأول:

نجاح تلك المجموعات بالتمدد في الساحة الفلسطينية، وتحقيق نجاحات مهمة، تجعل منها فاعلاً رئيساً وطرفاً مؤثراً في الواقع الفلسطيني وفي معادلات الصراع العربي الإسلامي ضد الجانب الإسرائيلي.

وفي حال تحقق هذا السيناريو يتوقع أن تترتب عليه جملة انعكاسات، في مقدمتها:

1. حصول تغييرات وتحولات جذرية في بنية المجتمع الفلسطيني من الاعتدال والمرونة السياسية والفكرية نحو الانغلاق والتشدد الفكري والسياسي.

2. تراجع كافة القوى السياسية الأخرى باختلاف توجهاتها السياسية والفكرية، نظراً لرفض تلك الجماعات لفكرة التعددية والشراكة مع الآخر وبسبب نظرتها السلبية لكافة فصائل العمل الفلسطيني بما فيها حركات المقاومة الإسلامية التي تواجه الاحتلال.

3. تغيير أولويات المجتمع الفلسطيني باتجاه “الأسلمة” وفق رؤية تلك المجموعات، لتتقدم على أولوية مواجهة الاحتلال والسعي للانعتاق والتحرر.

4. تراجع حالة التعايش في المجتمع وبروز مشكلة اضطهاد الأقليات الدينية، كما حصل في العراق، نتيجة الأفكار المتشددة لتلك المجموعات إزاء المخالفين دينياً.

5. إعطاء مبرر للاحتلال الإسرائيلي لتصعيد عدوانه بحق الشعب الفلسطيني بذريعة مواجهة الإرهاب الفلسطيني. وقد سعى نتنياهو جاهداً بعد تشكيل الولايات المتحدة تحالفها الأخير ضدّ الإرهاب في المنطقة للربط ما بين حركة حماس وتنظيم الدولة وترويج مقولة إنهما وجهان لعملة واحدة، لكن محاولاته باءت بالفشل.

6. إحكام الحصار على قطاع غزة، وزيادة حجم المعاناة، ووقف المساعدات الإقليمية والدولية.

7. مزيد من الارتباك والتعطيل لمسارات المصالحة الفلسطينية، ولإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

السيناريو الثاني:

 فشل المجموعات الدينية المسلحة في التمدد والتوسع داخل الساحة الفلسطينية، واستمرار الوضع الراهن من حيث قوتها وحضورها وتأثيرها في المشهد السياسي الفلسطيني، بتراجعات محدودة أو تقّدم طفيف لا يؤثر في صورة المشهد وواقع الحال.

ويترتب على تحقّق ذلك استمرار المعطيات الحالية وعدم حصول انعكاسات جوهرية تتجاوز حدود بعض المواجهات المتقطعة في قطاع غزة على وجه الخصوص، مع توقّع استمرار تلك المجموعات بتنفيذ بعض الأعمال العسكرية داخل المجتمع الفلسطيني وإطلاق بعض الصواريخ باتجاه الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية في مناسبات معينة ولغايات محددة.

ثالثاً: المحددات والعوامل المؤثرة في مستقبل مجموعات السلفية الجهادية في فلسطين:

ترجيح واحد من الاحتمالين السابقين، النجاح والتمدد والتحول إلى فاعل رئيسي أو استمرار الوضع القائم من حيث الوزن والحضور، يستدعي مناقشة جملة من المحددات التي يتوقع أن تلعب دوراً مؤثراً في مستقبل هذه المجموعات الدينية المسلحة في الساحة الفلسطينية، وفي مقدمة هذه العوامل:

1. حجم حضور مجموعات السلفية الجهادية في الأراضي الفلسطينية، ومدى تماسك بنائها التنظيمي، وقدرتها على تطوير أدائها وتحقيق تراكم في الإنجاز، واستثمار نجاحات الجماعات التي تلتقي معها فكرياً في ساحات مجاورة أو قريبة؛ فما يزال حضور وقوة هذه المجموعات المسلحة داخل الأراضي الفلسطينية محدوداً وهامشياً، سواء تعلق الأمر بالضفة أم القطاع أم المناطق المحتلة سنة 1948، ويكاد نشاطها يقتصر على بعض المواجهات مع أجهزة الأمن في قطاع غزة. وفي مناسبات معينة نظّم محسوبون على تلك المجموعات فعاليات تعبّر عن مواقفهم الفكرية والسياسية إزاء بعض التطورات السياسية كما حصل بعد سيطرة تنظيم الدولة على محافظة الموصل في العراق، ويكاد النشاط الأوسع لأعضاء تلك المجموعات ومؤيديها يذهب باتجاه مواقع التواصل الاجتماعي.

وبمتابعة تطور الحالة ومسارها خلال السنوات الماضية، يلاحظ ضعف البنى التنظيمية لتلك المجموعات وعجزها عن توسيع نفوذها الشعبي وعن تحقيق تراكم في الإنجاز، وكذلك تشرذمها وعدم قدرتها على تنسيق جهودها، كما كانت قدرتها على استثمار نجاحات الجماعات التي تلتقي معها فكرياً في العراق وسورية محدودة للغاية.

2. موقع فلسطين في استراتيجية تلك المجموعات، وموقفها من الصراع ضد العدو الإسرائيلي؛ فقد شكّل القَسَم الشهير لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن سنة 2001 وتهديده للولايات المتحدة بأنها لن تنعم بالأمن ما لم تنعم به فلسطين، محطة مهمة في موقف الجماعات الدينية المسلحة تجاه القضية الفلسطينية، الأمر الذي أكسبها في حينه تعاطفاً في الشارع العربي والإسلامي الذي ما يزال ينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها القضية السياسية المحورية للأمة. لكن الحال تغير في السنوات التي تلت قسم بن لادن، حيث تراجع اهتمام تلك الجماعات بفلسطين، ورفعت شعارات الجهاد العالمي، ودخلت في حالة اشتباك واسعة مع أنظمة المنطقة وحكوماتها، وكادت فلسطين تغيب عن أولوياتها وأدبياتها وخطابها الإعلامي.

وعلى صعيد الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، لا تحظى المجموعات الدينية المسلحة داخل الأراضي الفلسطينية بسجل حافل في مجال المقاومة والاشتباك مع قوات الاحتلال، مقارنة بالفصائل الفلسطينية المختلفة التي خاضت العديد من المواجهات مع الاحتلال خلال العقود السابقة، كما لم يبرز دور يذكر لتلك المجموعات في المشاركة بالتصدي للاعتداءات الإسرائيلية الواسعة التي تعرض لها قطاع غزة سنوات 2008، و2012، و2014.

وخارج فلسطين تجنبت تلك الجماعات الدخول في مواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من توفر نقاط تماس معها كما هو الحال في الجولان، وبدا واضحاً أن مواجهة الاحتلال ليست ضمن أولويات تلك الجماعات في المرحلة الراهنة، وأن المسألة غائبة أو مؤجلة، ربما لاعتبارات تتعلق باستراتيجية تلك الجماعات أو بالجغرافيا السياسية والتعقيدات التي تحيط بالوضع الفلسطيني وتفاعلاته الإقليمية والدولية.

ولم تخف تلك الجماعات أن الأولوية في استراتيجيتها هي للسيطرة على مساحات واسعة من الأرض مقدمة لإعلان إمارة أو دولة أو خلافة، ما جعل البعد الرمزي لفلسطين كقضية مركزية للأمة غير حاضر بوضوح في اهتماماتها وفي أدبياتها الفكرية والسياسية وفي خطابها الإعلامي.

3. القدرة على تجاوز عوائق الجغرافيا وتحقيق التواصل مع الساحة الفلسطينية عبر ساحات مجاورة؛ وتبدو الأراضي المصرية، وعلى وجه الخصوص سيناء المحاذية لقطاع غزة، الساحة الجغرافية الأقرب لمحاولة تحقيق مثل هذا التواصل في ظل اضطراب الوضع الأمني والحضور القوي لتنظيم أنصار بيت المقدس فيها. لكن ما يضع تحديات كبيرة أمام تحقيق هذا التواصل السيطرة القوية لحكومة غزة على الأوضاع في القطاع، والإجراءات المصرية المشددة على الحدود مع غزة، فضلا عن الجانب الإسرائيلي الذي يتابع المنطقة الحدودية باهتمام كبير.

أما في الضفة الغربية فتبدو الجغرافيا أكثر صعوبة وتعقيداً، حيث لا تتوفر أي فرص في ظلّ الوضع القائم لتحقيق تواصل جغرافي مع ساحات مجاورة. والأمر ذاته ينطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948.

4. الحالة الأمنية في فلسطين ومدى القدرة على استغلال الثغرات للانتشار والتمدد؛ تقوم استراتيجية تلك المجموعات على الاختراق والتمدد في مساحات الضعف والفراغ الأمني وغياب السلطة المركزية القادرة على بسط سيطرتها الأمنية على الإقليم الخاضع لسلطتها. كما تقوم استراتيجيتها على اقتناص الفرص وخوض المواجهة مع الطرف الأضعف، وتجنّب مواجهة الأطراف القوية تجنّباً لدفع أثمان غير مرغوبة.

ويلاحظ أن قدرة تلك المجموعات على التوسع والانتشار واستغلال الثغرات الأمنية والاستفادة من مساحات الفراغ الأمني تبدو محدودة في قطاع غزة، بسبب سيطرة الأجهزة الأمنية على الأوضاع وعدم سماحها بوجود ثغرات أمنية تتيح مساحات فراغ تنفذ منها تلك المجموعات. أما في الضفة الغربية فإن التنسيق الأمني بين أجهزة أمن السلطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وكذلك تشدد السلطة في الضفة إزاء مظاهر التدين، يضع تلك المجموعات أمام تحديات أمنية كبيرة. والأمر ذاته ينطبق على الأراضي المحتلة سنة 1948 الخاضعة لسيطرة إسرائيلية مباشرة.

5. حجم الغضب والاحتقان في المجتمع، ومستوى الرضا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية؛ فالاحتقانات السياسية الناجمة عن غياب الحرية والديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، وما ينجم عن ذلك من فساد واستبداد سياسي وإقصاء لقوى المجتمع الفاعلة لصالح نخب متفردة، يوفّر أرضية خصبة لتنامي نزعات التشدد وتبرير اللجوء إلى العنف، كما أن تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع نسب الفقر والبطالة والتضخم، وغياب التنمية والعدالة وتكافؤ الفرص يساعد هو الآخر على توفير بيئة مناسبة لانتشار الأفكار المتشددة.

وربما كان هذا أهم عامل تستطيع أن تعوّل عليه المجموعات الدينية المسلحة في تعزيز حضورها وفي تجنيد أتباع ومؤيدين. غير أن المعطيات تظهر عدم نجاح تلك المجموعات بالاستفادة كثيراً من هذا العامل في الساحة الفلسطينية، حيث تحمّل غالبية الفلسطينيين الاحتلال الإسرائيلي والحصار الخانق المفروض على قطاع غزة مسؤولية الأوضاع الحياتية الصعبة بهدف معاقبة سكان القطاع على دعمهم لخيار مقاومة الاحتلال. وفي الضفة ثمة إدراك لمسألة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني بالكامل على المعونات والدعم الخارجي، مع عدم التقليل من خطورة تفشي مظاهر الفساد المالي والإداري.

6. وجود أو غياب الصراعات الدينية والطائفية؛ حيث تستفيد تلك المجموعات من حالة الاستقطاب والصراع الديني أو الطائفي في كسب مؤيدين لأفكارها وتوجهاتها، وهو ما يكاد يغيب عن المجتمع الفلسطيني الذي لم يشهد خلال العقود السابقة صراعات دينية بين مسلمين ومسيحيين، بل إن العلاقة بين الطرفين تعدّ قوية ومميزة على مستوى الإقليم. وحتى فيما يتعلق بالبعد الديني للصراع العربي الإسرائيلي، تتبنى كافة القوى الفلسطينية ومنها حركتا حماس والجهاد الإسلامي رؤية أن الصراع مع الاحتلال ليس لمجرد كون المحتلين يهوداً أو ينتمون لمعتقد ديني، وإنما يكمن في جوهره في الاحتلال والعدوان نفسه أيَّاً كان صاحب المعتقد.

ويكاد البعد الطائفي يغيب هو الآخر عن الساحة الفلسطينية بالرغم من بعض المحاولات لتصنيف حركة حماس والجهاد الإسلامي على أنهما مؤيدتان لإيران ولتوجهاتها الفكرية والسياسية، غير أن تلك المقولات لم تحقق نجاحا يذكر في الساحة الفلسطينية، وجاءت مواقف الحركتين في الأزمة السورية لتضعف من تأثير تلك المقولات. وربما تكون حالة الاستثناء الوحيدة في المشهد هي ما يتعلق بحركة “الصابرين” التي انشقت مؤخراً عن حركة الجهاد الإسلامي وتوجّه إليها اتهامات بالتشيّع والتبعية لإيران. وتخشى بعض الأوساط من أن تستغل مجموعات السلفية الجهادية وجود تلك الحركة لافتعال صراع على خلفية طائفية.

7. البيئة الفكرية والثقافية وحالة التعايش في المجتمع؛ فالمجموعات الدينية المسلحة تجد فرصة للتمدد ونشر توجهاتها في البيئات المغلقة، التي يغيب عنها الاعتدال الفكري والسياسي وروح التعايش الاجتماعي وينخفض فيها المستوى الثقافي، فيما تكون مهمتها أكثر صعوبة في البيئات المنفتحة التي تنجح في بناء حالة تعايش بين مكونات المجتمع المختلفة. كما أن انتشار الفكر المعتدل ووجود حركات سياسية وإسلامية قادرة على نشر أفكارها ورؤاها الفكرية والسياسية المعتدلة يغلق مساحات الفراغ أمام انتشار الفكر المتشدد.

رابعاً: السيناريو المرجّح:

من خلال قراءة المحددات والعوامل المؤثرة في مستقبل الجماعات الدينية المسلحة، وفي ظل المعطيات القائمة ومسار حضور تلك الجماعات خلال السنوات الماضية في الساحة الفلسطينية، يبدو أن الخيار الثاني هو الأكثر ترجيحاً في اللحظة الراهنة.

حيث ما تزال تلك الجماعات ضعيفة هامشية الحضور محدودة التأثير ولا تحظى بشعبية واسعة في الشارع الفلسطيني، ويكاد وجودها ينحصر في صفحات التواصل الاجتماعي وفي مساحات جغرافية ضيقة، ولم تنجح في إيجاد بيئة شعبية حاضنة أو في تحقيق إنجازات نوعية، بالرغم من الفرصة الذهبية التي أتيحت لها مؤخراً (2014-2015) عقب تقدم مثيلاتها في العراق وسورية، كما لعب تشتتها وتشرذمها دوراً مهماً في الحدّ من تأثيرها وفاعليتها، وربما كان صوتها الإعلامي أعلى وأكبر من حضورها الفعلي على الأرض.

وعلى صعيد اهتمام تلك الجماعات بالقضية الفلسطينية وبمسألة الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، لا يظهر حتى اللحظة تغيير أو تحوّل جوهري في اهتماماتها وأولوياتها، ويحول سجلها المتواضع في مجال مقاومة الاحتلال دون تحقيقها حضوراً شعبياً مميزاً في ظل ساحة نشطة بالفعل المقاوم وبجرائم الاحتلال المتواصلة.

يضاف إلى ذلك عامل سلبي للغاية في الساحة الفلسطينية، يتعلق بعدم إيمان تلك المجموعات بجدوى المقاومة الشعبية والفعاليات النضالية كخيار من خيارات المواجهة مع الاحتلال، فهذا الخيار لا ينسجم مع فكر تلك المجموعات ولا مع منهج عملها الذي يكاد يقتصر على استخدام القوة المسلحة، ولا يتبنى الفعاليات الشعبية من مسيرات واعتصامات واحتجاجات.

وما تزال الجغرافيا والقدرة على التواصل مع الجماعات الدينية المسلحة في الدول المجاورة عائقاً مهماً فشلت المجموعات المسلحة بتجاوزه، كما لم تنجح بإيجاد ثغرات أمنية ومساحات فراغ تساعدها على الانتشار والتمدد في الضفة أو القطاع أو الأراضي المحتلة سنة 1948.

ولم تنجح تلك الجماعات في استثمار مشاعر الغضب والاحتقان الشعبي في الضفة وأجواء الحصار الخانق في قطاع غزة، حيث توجّهت ردود الفعل الشعبية في الغالب إلى الاحتلال الذي يحمّله الشعب الفلسطيني المسؤولية الأولى عن معاناته في مختلف الجوانب.

وحرمت حالة الانسجام والتعايش الديني وغياب الصراعات الطائفية تلك المجموعات من استثمار أجواء الخلاف الديني والاستقطاب الطائفي، وشكّلت حالة الوعي الفكري والسياسي وأجواء الاعتدال والانفتاح والتعايش وارتفاع المستوى الثقافي في الساحة الفلسطينية حاجزاً أمام تمدد تلك المجموعات، وشكلت الحركات الإسلامية المعتدلة التي تحتل مساحة تأثير واسعة داخل فلسطين وتتمتع برصيد حافل في مواجهة الاحتلال بديلاً مقنعاً لقطاعات شعبية واسعة، بل إن مقاومة تلك الحركات شكلت أنموذجاً متميزاً على صعيد المنطقة مقابل أنموذج العنف والقتل والتشدد الذي طرحه كثير من المجموعات الدينية المسلحة المحسوبة على السلفية الجهادية. ولم يجد الشباب الفلسطيني الذي يحمل أشواق الجهاد والمقاومة مشكلة في التعبير عن أشواقه كحال أقرانه في دول عربية وإسلامية أخرى، حيث ساحة المواجهة مع العدو مفتوحة ومتاحة في الحالة الفلسطينية ولا تستدعي السفر والالتحاق بمجموعات مسلحة خارج الحدود.

خامساً: توصيات ومقترحات:

على الرغم من ترجيح سيناريو استمرار الوضع الراهن فيما يتعلق بحضور المجموعات الدينية المسلحة (السلفية الجهادية) في الساحة الفلسطينية، ينبغي التأكيد على أنه لا توجد دول أو ساحة محصنة ضد اختراق الفكر المتشدد، في ظل حضور الجماعات المتشددة في الإقليم، وتنامي ظاهرة العنف واستمرار حالة الفوضى في المنطقة؛ الأمر الذي يستدعي من الفاعلين وأصحاب القرار في الساحة الفلسطينية التنبه واتخاذ الإجراءات المناسبة التي من شأنها أن تجنّب الساحة الفلسطينية تكرار سيناريو ما حصل في ساحات عربية أخرى. ومن التوصيات المقترحة بهذا الخصوص:

1. الحفاظ على روح التعايش بين المكونات الدينية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الفلسطيني، والتأكيد على أن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يواصل ارتكابه جرائمه بحق كل الفلسطينيين دون تمييز، وتجريم فكرة استخدام السلاح في الخلافات داخل المجتمع الفلسطيني.

2. تعزيز حالة الانفتاح في المجتمع الفلسطيني ونشر الفكر المعتدل، واحتواء حالات التشدد الفكري، واعتماد آلية الحوار قبل اللجوء إلى المعالجات الأمنية التي تبقى ضرورية عند فشل الوسائل الأخرى.

3. التنبه إلى محاولات بعض الأطراف الفلسطينية والإقليمية لاختراق وربما إيجاد تشكيلات متشددة داخل المجتمع الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة، بهدف خلط الأوراق وإحداث حالة بلبلة أمنية وترويج مقولة رعاية غزة للتشدد والتطرف، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحصين المجتمع الفلسطيني تجاه تلك الاختراقات.

4. تعزيز وحدة المجتمع الفلسطيني والسعي الجاد لإنهاء الانقسام الفلسطيني والتوافق على برنامج مشترك لإدارة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.

5. ترويج نموذج المقاومة الفلسطينية الناضج والراشد في مواجهة نماذج التشدد والعنف المنفلت وغير المرشّد.

6. إعطاء البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية حقه من الرعاية والاهتمام في ضوء مشروع نهضوي حضاري يوظف الطاقات بشكل إيجابي نحو مشروع التحرير.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ عاطف الجولاني بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

 >> تقدير استراتيجي (82): الجماعات السلفية الجهادية… وفرص الانتشار في الوسط الفلسطيني  Word
(10 صفحات، 90 KB)

 >> تقدير استراتيجي (82): الجماعات السلفية الجهادية… وفرص الانتشار في الوسط الفلسطيني 
(10 صفحات، 483 KB)*

* إذا كان لديك مشكلة في فتح الملف، اضغط هنا 

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 3/11/2015