مدة القراءة: 2 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

قبل سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس بنحو أسبوع استقبلنا في مركز الزيتونة زيارتين لشخصيتين إحداها أمريكية والثانية بريطانية متخصصة في المنطقة العربية (أو ما يعرف بالشرق الأوسط)… وحدث معهما النقاش نفسه تقريباً حول رفض قوى المقاومة الفلسطينية، والتيارات الإسلامية منها بالذات، لمشروع التسوية السلمية مع “إسرائيل”، وجادل الزائران في أن الأفضل هو التعامل بواقعية، والموافقة على ما هو معروض قبل أن يضيع كل شيء.

ودون الدخول في تفاصيل النقاش، فقد حاولت أن أوضح طريقة التفكير لدى أهل المنطقة ولماذا ترفض قطاعات واسعة من الناس التسوية السلمية المقترحة، وتراها غير عادلة في حقها. وكان ضمن المعطيات التي ذكرتُها أن هذه المنطقة تتميز بالتغيرات المفاجئة، التي يمكن أن تقلب كثيراً من الحسابات؛ وأن وجود أنظمة فاسدة ومستبدة في بلدان المنطقة لا يعني أن الوضع مستقر.

لم تكن هذه الجدلية مقنعة جداً لهما، غير أنه بعد بضعة أسابيع كان قد انهار نظام بن علي في تونس ونظام مبارك في مصر، بينما اندلعت ثورات في ليبيا واليمن وسورية. وما زالت المنطقة حتى الآن تموج بعمليات تغيير وصراع إرادات بين شعوب وأنظمة وتيارات سياسية مختلفة، مترافقة مع تدخلات خارجية لمحاولة توجيه مسار الأحداث.

على أي حال، فإن الكثير من مراكز الدراسات ومؤسسات صناعة القرار في العالم وخصوصاً في أوروبا وأمريكا يصيبها الخلل في محاولة فهم طبيعة المنطقة العربية ومحركات التغيير الرئيسية فيها، وبالتالي عدم القدرة على التوقع أحياناً، وكذلك عدم اتخاذ القرارات والتوجهات المناسبة. وتنطبق حالات الفشل في التوقع أيضاً على الثورة الإيرانية سنة 1979، وعلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، والانتفاضة الثانية سنة 2000.

ولعل جانباً أساسياً من الخطأ في التقدير يعود إلى محاولة تطبيق نظريات وتجارب مأخوذة من البيئة الاجتماعية الغربية على العالم العربي؛ وهي في العادة تعطي أوزاناً أكبر للدوافع الاقتصادية والمادية، وتُضعف الأدوار المتعلقة بالدين والثقافة والبيئة الاجتماعية. كما أن عدداً من الدارسين الغربيين ينظرون بنوع من الدونية إلى الإنسان العربي، ويرسمون عنه صوراً متوارثة عن “قصص ألف ليلة وليلة”، أو يعكسون ما يتردد في وسائل إعلامية غربية عن ذلك الإنسان المتخلف الكسول المبذّر، الشّره للذة والمتعة… كما أن دارسين وباحثين آخرين يركزون على ما يُفرِّق المنطقة وليس على ما يجمعها… فيرسمون المنطقة في إطار الصراع والتشتت الطائفي والعرقي… دون أن يسألوا أنفسهم لماذا عاش سكان المنطقة بمختلف طوائفهم وأعراقهم لمئات السنين في بيئات سلمية، تغلب عليها روح التعاون والتعايش والتكامل… حتى كاد الكثيرون أن ينسوا أصولهم الطائفية والعرقية.

ما نود الإشارة إليه أنه عند محاولة الوصول إلى فهم أفضل للمنطقة فيجب مراعاة أنّ:

1. هناك بُنى دينية وثقافية عميقة لها تأثير وازن في تحريك الجماهير والتأثير فيهم، وهي مبنية على الانتماء العميق للإسلام والحضارة والثقافة التي أنشأها في المنطقة، كما أن الانتماء العربي كهوية وثقافة ولغة له تأثير قوي جامع لأهل المنطقة…؛ وفي الغالب دون شعور بالتعارض بين الهويتين الإسلامية والعربية.

2. هناك شعور قوي وعميق بالعزة والكرامة لدى أهل المنطقة، وأنهم قادوا الحضارة الإنسانية لمئات السنين سابقاً، وهم يتوقون لاسترجاع موقعهم المتقدم بين الأمم. وهناك جرح عميق لكرامتهم بسبب الاستعمار الغربي الذي وقع على أرضهم وقسَّم بلادهم، كما أن هناك جرحاً عميقاً بسبب المشروع الصهيوني واحتلاله لأرض فلسطين.

3. إن أهل المنطقة يشعرون أنهم يعيشون وضعاً استثنائياً من الضعف والتخلف والانقسام بسبب الإرث الاستعماري وبسبب وجود أنظمة فاسدة ومستبدة، تضمن بقاءها بالتحالف مع القوى الخارجية، لكنها تفتقر للشرعية وللشعبية الحقيقية.
ولذلك، فإن إدراك النقاط السابقة يساعد في فهم الثورات والتغيرات التي تحدث في المنطقة، ويوضح استعداد الكثيرين للتضحية والمخاطرة بأوضاعهم الاقتصادية والأمنية… في سعيهم لتحقيق النموذج الذي يحلمون به.

المصدر: هافينغتون بوست، العربي 28/7/2015