مدة القراءة: 6 دقائق

 تقدير استراتيجي (59) – أيلول/ سبتمبر 2013.

ملخص:

نجحت الإدارة الأمريكية في إعادة إطلاق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بعد تنازل الطرف الفلسطيني عن شرطه في وقف الاستيطان. وقد ترافق إطلاق هذه المفاوضات مع حدوث انقلاب عسكري في مصر، وتصاعد موجة ارتدادية تستهدف إنهاء “الربيع العربي”، وضرب “الإسلام السياسي”، وتقوية ما يسمى “محور الاعتدال” المتحالف مع الولايات المتحدة.

ويخوض الطرف الفلسطيني المفاوضات في أجواء من الانقسام، وتعطّل برنامج المصالحة وحملات الاتهام المتبادلة؛ كما يخوضها في بيئة عربية وإسلامية متردية، وبيئة دولية غير مواتية؛ وهو ما يجعل ميزان القوى يميل بشكل صارخ لصالح “إسرائيل” التي تقوم بفرض الحقائق على الأرض.

نحن بشكل عام أمام ثلاثة سيناريوهات:

أولها التوصل إلى اتفاق نهائي يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، يتنازل فيه الفلسطينيون عن حقّ العودة، مع تبادل الأراضي بحيث تظل السيطرة الإسرائيلية على الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، مع اعتبار القدس عاصمة مشتركة (في جانبها الشرقي)، مع عدم وجود جيش فلسطيني. وهو ما قد يفجر معارضة فلسطينية واسعة.

وثانيها توقيع اتفاق جزئي مؤقت يوهم بتحقيق إنجاز لكافة الأطرف.

والسيناريو الثالث فهو فشل المفاوضات، بانتظار حدوث تحولات جوهرية في الوضع الفلسطيني وتبدلات في موازين القوى في المنطقة.

مقدمة:

تُعدُّ “إسرائيل” حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فإن علاقتهما تتسم بطبيعة استراتيجية قوية ذات خلفيات ثقافية وتاريخية، وذات أبعاد عسكرية وأمنية واقتصادية… وعلى هذا فإن المحافظة على أمن “إسرائيل” وتفوقها العسكري، وتوفير الغطاء والحماية لاحتلالها، وممارساتها العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، يبقى معياراً رئيسياً من معايير السياسة الأمريكية. وبناء على ذلك فلا يمكن النظر للولايات المتحدة كوسيط نزيه محايد في عملية التسوية السلمية.

ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة تحاول أن تدير شبكة مصالحها في المنطقة العربية بما في ذلك إمدادات النفط، وتحاول عدم إحراج حلفائها العرب وأنظمتهم السياسية “المعتدلة”، المتوافقة مع السياسة الأمريكية في المنطقة. ولأن القضية الفلسطينية تبقى عنصر التفجير الأكبر في المنطقة، فإن السياسة الأمريكية تسعى لإنهاء الملف الفلسطيني من خلال تحقيق أكبر قدر من التنازلات الفلسطينية والعربية، والوصول إلى تسوية سلمية لا تتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية.

وفي إطار الحديث عن الجهود الأمريكية لإحياء عملية التسوية في الشرق الأوسط، فإن هناك جملة من المحددات التي تحكم مستقبل هذه العملية وما ستؤول إليه الجهود الأمريكية من نتائج ملموسة. ومن هذه المحددات:

– التطورات المتسارعة في المنطقة العربية، وتأثيرات “الربيع العربي”، وحالة اللا استقرار في المنطقة على القضية الفلسطينية ومسار التسوية السلمية.

– مدى جدية الإدارة الأمريكية في التوصل لاتفاق سلام شامل ونهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

– حجم المتغيرات التي دفعت طرفي الصراع للعودة إلى طاولة المفاوضات، وحجم التنازلات المقدمة من الطرفين.

– حجم الضغط الذي تستطيع أن تمارسه الإدارة الأمريكية على طرفي الصراع؛ وذلك لتقديم تنازلات سواء لإنجاح الجولات الأولى “اللقاءات التمهيدية” أم في المواضيع التفصيلية للعملية التفاوضية.

– قدرة طرفي الصراع على دفع أثمان للتنازلات التي سيُقدِمون عليها للوصول إلى تسوية مقبولة في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي.

– قدرة كافة الأطراف المفاوضة والوسيطة على تخطي عقبات محلية وإقليمية، كاستمرار حالة الانقسام الفلسطينية، وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة، واستمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة.

الإدارة الأمريكية ومحاولات إنجاح المفاوضات:

سعت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ بداية ولايته الأولى لإحداث اختراق في عملية التسوية، إلا أن هذه الجهود اصطدمت بالتعنت الإسرائيلي الرافض لوقف الاستيطان، مما أدى إلى توقف المفاوضات لثلاث سنوات مضت.

وعلى الرغم من استمرار التعنت الإسرائيلي في عدم تنازله عن الاستيطان، إلا أن الجهود الأمريكية استطاعت هذه المرة إحداث اختراق من خلال ستّ جولات مكوكية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري بين تلّ أبيب، وعمّان، ورام الله، والتي أسفرت عن تنازل القيادة الفلسطينية في رام الله عن شرط وقف الاستيطان.

وصحيح أن الجانب الإسرائيلي قدم ما عرف عنه ببادرة حسن النية؛ حيث وافق على إطلاق سراح 104 أسرى، من الأسرى الموجودين في سجونها قبل توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، وهو ما يعدّ تنازلاً شكلياً، لكنه لا يقارن بما أقدم عليه الجانب الفلسطيني من تنازل خطير يمس الأسس التي بنيت عليها المفاوضات، وله تبعاته على مسار المفاوضات ومستقبلها.

ومن الجدير بالذكر أن نجاح الإدارة الأمريكية في مساعيها لإحياء عملية التسوية ترافق مع حدوث انقلاب عسكري في مصر في 3 تموز/ يوليو 2013، ومحاولة تعميم السيناريو المصري على باقي دول “الربيع العربي”، كما ترافق مع إغلاق سلطات الانقلاب في مصر لمعبر رفح، وتشديد حصارها على قطاع غزة وتدميره للأنفاق، ومع حملة إعلامية شرسة ضدّ حماس.

وهو ما يشير إلى موجة ارتدادية منسقة إقليمياً ودولياً، تستهدف إنهاء “الربيع العربي” واسترجاع ما يسمى “محور الاعتدال” لمكانته الإقليمية، وضرب “الإسلام السياسي” وإبعاده عن مراكز صناعة القرار، وبالتالي حفظ المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة … ؛ ومحاولة الوصول إلى حلٍّ للقضية الفلسطينية يعكس ميزان القوى، الذي يميل بشكل كبير لصالح “إسرائيل”.

سمات الوضع الفلسطيني الإسرائيلي:

تُعدُّ الظروف التي تحكم طرفي الصراع في أيّ مفاوضات هي إحدى أهم المؤشرات على نجاح العملية التفاوضية. ومن الواضح أن الواقع الفلسطيني ليس في أفضل حالاته التي تتيح له ممارسة أيّ نوع من أنواع الضغط على الجانب الإسرائيلي، بل إن حالة الانقسام، والتعطيل المستمر للمصالحة الفلسطينية، بل وتدهورها نتيجة صدور العديد من التقارير والأخبار التي تشير إلى ضلوع أوساط في السلطة في رام الله في عملية التحريض على حماس في قطاع غزة، ومحاولة تشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتوريطها في الشأن المصري.

كما تجدر الإشارة إلى أن المفاوضات التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في 30/7/2013، تجري في بيئة عربية متردية ومنقسمة على نفسها، كلّ ذلك قد يتيح للجانب الإسرائيلي ممارسة كافة أنواع الضغوط على المفاوض الفلسطيني لتقديم مزيد من التنازلات. كما يزيد من خطورة هذه الجولة من المفاوضات، أنها تمس القضايا النهائية وأنها تجري في بيئة ترفع من إمكانية حدوث تنازلات فلسطينية تمس قضايا جوهرية في القضية الفلسطينية كاللاجئين والقدس والمستوطنات وغيرها.

أما إسرائيلياً، فيبدو أن القيادة الإسرائيلي في أفضل حالاتها، حيث إن الاستيطان يمضي على قدم وساق دون أيّ عراقيل، فحسب الإحصاءات الإسرائيلية ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية بنسبة 2.19% خلال النصف الأول من سنة 2013. وفي السياق نفسه، وفي أثناء المفاوضات التمهيدية للعودة إلى المفاوضات، صرَّح الوزير نفتالي بنيت رئيس حزب “البيت اليهودي” في 5/8/2013، بأنه سيجري الإعلان قريباً عن طرح مناقصات لزيادة الاستيطان على نحوٍ كبير في القدس الشرقية. كما صرّح وزير الإسكان الإسرائيلي أوري أريئيل، في الوقت نفسه، بأنّ وزارته أعدَّت خططاً من أجل بناء 2,500 وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية. كما أن البيئة الإقليمية والدولية تشكل أحد عناصر القوة للمفاوض الإسرائيلي، إذ عدّ الجانب الإسرائيلي أن نجاح الانقلاب العسكري في مصر وإبعاد تيار “الإسلام السياسي” عن المشهد السياسي أمر استراتيجي. وكذلك الأمر بالنسبة للهدوء الذي تتمتع به الحدود الإسرائيلية، وتضاؤل إمكانية نشوب حرب على جبهتها الشمالية مع حزب الله. كلّ ذلك مترافقاً مع إصرار المفاوض الإسرائيلي على رفض تدخل أي طرف بما فيه الجانب الأمريكي في تفاصيل المفاوضات، مما يتيح له ممارسة المزيد من الضغط على الجانب الفلسطيني.

السيناريوهات المحتملة:

1. التوصل إلى اتفاق نهائي بين الطرفين، ولكن ضمن سقف لا يتجاوز ما كشف عنه في الأوراق التي نشرتها قناة الجزيرة، أي عودة محدودة لبضعة آلاف من اللاجئين والقبول بمبدأ تبادل الأراضي، أي المحافظة على الجزء الأكبر من المستوطنات الرئيسية في الضفة؛ مما يساعد “إسرائيل” على التخلص من أراض ذات كثافة عربية في أراضي فلسطين المحتلة سنة 1948.

ولكن يقف أمام هذا السيناريو مجموعة من العقبات، أولها الأثمان التي من الممكن دفعها، فالجانب الإسرائيلي تعهد أنه سيعرض الاتفاق للاستفتاء، وكذلك تعهد عباس بالأمر نفسه، وهو ما قد يصطدم أمام الرفض الجماهيري؛ فعلى سبيل المثال إذا أقر الاتفاق عودة اللاجئين، فإن ذلك سيتعارض مع توجهات الشارع الإسرائيلية، وكذلك الأمر إذا تمّ التنازل عن عودة اللاجئين فإن أكثر من سبعة ملايين لاجئ فلسطيني سيقفون حجر عثرة أمام هذا الاتفاق. كذلك الأمر بالنسبة لسيطرة حماس على قطاع غزة ورفضها الكامل لأي اتفاق يقر بالتنازل عن أي شبر من أرض فلسطين التاريخية، أو يعترف بـ”إسرائيل”.

2. توقيع اتفاق مرحلي يتيح لكافة الأطراف تسجيل إنجاز ظاهري، حيث يسمح للسلطة الفلسطينية بالسيطرة على مزيد من الأراضي في الضفة الغربية، والإفراج عن المزيد من الأسرى، وتطوير البنية الاقتصادية في الضفة الغربية، وتوسيع نطاق التنسيق الأمني بين الطرفين، والاستمرار في العمل على تفكيك كافة فصائل المقاومة في الضفة، ومحاصرة الوضع في غزة، تمهيداً لإنهاء سيطرة حماس عليها.

3. فشل هذه الجولة من المفاوضات، وعند ذلك فلدى الطرفين مبرراتهما المسبقة أمام جمهورهما. ونبقى بالتالي بانتظار حدوث تحولات جوهرية في الوضع الفلسطيني، أو تبدلات حقيقية في الخريطة السياسية وميزان القوة في المنطقة، أو ربما انتظار بيئة دولية أفضل أو  رئاسة أمريكية جديدة تعيد المحاولة مرة أخرى.

التوصيات والاقتراحات:

1. طالما أن المفاوض الفلسطيني مستمر في حديثه عن تمسكه بالثوابت، لذا يجب عليه الخروج بورقة تطمينات للشعب الفلسطيني توضح هذه الثوابت، وتؤكد عدم تنازله عن حق العودة أو عن القدس، وتمسكه بالسيادة على الدولة الفلسطينية الموعودة وغيرها من الثوابت الفلسطينية.

2. وطالما أن القيادة الفلسطينية في رام الله قادرة على تجاوز حالة التعطيل المستمرة للتسوية السلمية من الجانب الإسرائيلي، فحري بها أن تبذل جهوداً أكبر لإتمام المصالحة الفلسطينية، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي.

3. على القوى والتيارات الفلسطينية استكمال عناصر القوة والمقاومة والوحدة التي تمكنها من فرض شروطها على الجانب الإسرائيلي.

4. على الإدارة الأمريكية أن تكف عن إعطاء الغطاء السياسي والحماية للاحتلال الإسرائيلي، وأن تحدد رؤيتها النهائية لمشروع التسوية، وأن تقوم بممارسة الضغط الحقيقي على الجهة المحتلة، وليس على الشعب الواقع تحت الاحتلال.

* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور عبد الستار قاسم والأستاذ وائل سعد بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/9/2013