مدة القراءة: 22 دقائق

تقديم: أ.د. محمد عمارة

مقدمة المؤلف د. محسن محمد صالح

حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية رؤية إسلامية


 

 لتحميل النسخة المزيدة والمنقحة 2013 من الكتاب، اضغط على الرابط التالي:

>> لتحميل كتاب حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية: رؤية إسلامية – طبعة مزيدة ومنقحة 2013 Word (21 صفحة،438 KB)*

>> لتحميل كتاب حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية: رؤية إسلامية – طبعة مزيدة ومنقحة 2013 (41 صفحة،747 KB)*

  

 

   

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم: أ.د. محمد عمارة

لقد جمع الإسلام الأمة الإسلامية على خمسة جوامع، توحدها وتؤلف بينها وهي: العقيدة والشريعة والحضارة والأمة ودار الإسلام.

وعندما كانت وحدة الأمة هي الإطار الجامع لشعوبها وقومياتها وأجناسها وأقطارها، كانت جامعتها الإسلامية جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. وكانت صيحة “وا إسلاماه” تجد الاستجابة في ديار عالم الإسلام.

وفي ظلّ تلك الجامعة الإسلامية، فتح المسلمون، في ثمانين عاماً، أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون، وشتان بين فتح التحرير وفتح الاستعباد.. وقهر المسلمون أشرس الغزاة وأخطر التحديات من الصليبيين الذين شنوا حرباً عالمية غربية على الإسلام والمسلمين دامت قرنين من الزمان (489-690هـ) (1096-1291م)، إلى التتار، الذين كسر المسلمون شوكتهم، ثم هداهم الإسلام فأصبحوا قوة ضاربة مدافعة عن ديار المسلمين.

ومع هذه الفتوحات والانتصارات -التي تحققت بوحدة أمة الإسلام- مثّل المسلمون -في هذه الحضارة-  “العالم الأول” على ظهر هذه الأرض لأكثر من عشرة قرون.. بينما كان الغرب يغط في سبات عصور الجهالة، والظلام.

فلما جاءت الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة، التي بدأت بسقوط “غرناطة” (897هـ/ 1492م) والالتفاف حول عالم الإسلام… ثم ضرب قلبه بحملة “بونابرت” (1213هـ/ 1798م) والتهام أقاليمه إقليماً وراء إقليم، وحتى إسقاط الخلافة العثمانية (1342هـ/ 1924م)… وعمّت بلوى هذه الغزوة الاستعمارية الحديثة، فأحلّ الغرب التشرذم الوطني والقومي والقطري محل رابطة جامعة الإسلام، وانشغل كل شعب وكل قطر بتحرره الوطني عن قضايا غيره من شعوب أمة الإسلام.

ولتكريس هذا التشرذم ولتأبيد هذه القطرية، ولإعاقة أيّ محاولة للنهضة التي تعيد الحياة والتكامل إلى أعضاء جسد الأمة الإسلامية، أقام الاستعمار الكيان الصهيوني على أرض فلسطين سرطاناً عنصرياً غريباً، يقطع وحدة أرض الأمة، ويهدد كل مشاريع النهضة والوحدة للعرب والمسلمين.

لكن، إذا كانت النزعات الشعوبية والقطرية قد استوعبت الشرائح التي تغرّبت من مثقفي الشعوب العربية والإسلامية، تلك التي استخدمتها الدول القطرية في أجهزتها الإدارية والسياسية والثقافية فلقد ظلت جماهير الأمة على ولائها الفطري لرابطة الجامعة الإسلامية.. وكانت “مركزية” القضية الفلسطينية التي تجسدت فيها وحدة دوائر الانتماء: الوطنية الفلسطينية، والقومية العربية، والعقدية الإسلامية كانت بمثابة الرباط الإسلامي الجامع لأمة الإسلام، على امتداد عالم الإسلام.. كما كانت هذه القضية المركزية هي الطاقة المفجرة للمشاعر الإسلامية تجاه التحديات “الصهيونية – الاستعمارية” المحدقة بالمسجد الأقصى، والقدس الشريف، والوطن الفلسطيني الذي ربط الله بينه وبين الحرم المكي الشريف.

لقد أحيت القضية الفلسطينية -ببعدها الإسلامي ومركزيتها بين قضايا الأمة- الرباط الإسلامي الجامع بين أعضاء جسد الأمة الإسلامية… وكما جعل الإسلام المسجد الأقصى واحداً من المساجد التي لا تُشدُّ الرحال إلا إليها… فإن القضية الفلسطينية قد غدت محور القضايا الإسلامية التي تُشدُّ إليها رحال شعوب الأمة الإسلامية على امتداد أقطار وقارات عالم الإسلام، مغالبة بذلك معوّقات النزعات القطرية التي تغل أيدي الأمة عن الانتصار لهذه القضية المركزية.

ولأن هذا الكتيّب، الذي نقدم بين يديه، قد نجح في استخلاص الحقائق الأساسية لهذه القضية المركزية، وفي تقديم هذه الحقائق الأساسية في إطار الوعي السياسي والفكري والحضاري المتميّز… فقد غدت صفحاته بمثابة “المتن” الذي يجب أن تستظهره وتعيه وتفقهه ذاكرة كل عربي وكل مسلم، بل وكل إنسان شريف ينشد الحقيقة والعدل والإنصاف… وبمثابة “الهيكل العظمي” الحامل لكل تفاصيل هذا الصراع المحتدم على أرض فلسطين.

إن هذا الكتيب، “الصغير والنفيس” الذي كتبه الأستاذ الدكتور/ محسن محمد صالح، هو “دفتر أحوال” قضية المسلمين الأولى.. فالخطر الصهيوني إنما يستهدف كل عالم الإسلام، من “غانة” إلى “فرغانة”، ومن حوض نهر الفولجا إلى جنوب خط الاستواء، ولذلك كانت هذه القضية رمزاً للصراع بين كل المسلمين وبين كل أعداء الإسلام.. وكان الصراع التاريخي حول القدس والأقصى – كما هو اليوم- بوابة الانتصار الإسلامي على كل الأعداء وسائر التحديات.

لقد وعى هذه “الحقيقة – الاستراتيجية” عماد الدين الكاتب (519-597هـ/ 1125-1201م) عندما خاطب صلاح الدين الأيوبي فقال:

وهيّجْتَ للبيت المقدس لوعةً يطول بها منه إليك التشوّق
هو البيت إن تفتحه، والله فاعل فما بعده باب من الشام مغلق!

وتلك هي المهمة، مهمة الوعي بمركزية واستراتيجية القضية الفلسطينية، وطنياً وعربياً وإسلامياً وإنسانياً أيضاً، تلك هي المهمة التي تقدمها صفحات هذا الكتاب الصغير.. الذي ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعله نافعاً لكل قارئ.. وأن يجعله في ميزان حسنات كل من يشيع ويذيع الحقائق الواردة فيه.. وأن يجزي كاتبه خير الجزاء.. إنه – سبحانه – أفضل مسئول وأكرم مجيب.

الدكتور محمد عمارة
جمادى الآخرة 1422هـ
آب/ أغسطس 2001م

مقدمة المؤلف د. محسن محمد صالح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

يسعى هذا الكتيب إلى تقديم قاعدة بيانات مكثفة مختصرة تصلح أن تكون منطلقاً للفهم الإسلامي للقضية الفلسطينية. وهو يجمع بين دفتيه مجموعة من المعلومات والحقائق والثوابت والمفاهيم التي يرى المؤلف أنه لا غنى عنها عند التعامل مع القضية الفلسطينية. وهي لذلك أقرب إلى “المتـن” الذي لا تصلح معه التفصيلات والهوامش. ومع ذلك فقد حرص المؤلف على الاستناد إلى المصادر العلمية الموثوقة في انتقاء المعلومات الواردة فيه. وإنَّ تسمية الكتيب بـ”حقائق وثوابت…” لا تعني بالضرورة أنها حقائق مطلقة، فهو جهدٌ بشريٌ قابل للخطأ والضعف والنقصان، والباب مفتوح لكل نصح وتوجيه.

وللعلم فإن هذا الكتيب كان قد صدر سابقاً وانتشر تحت عنوان “الحقائق الأربعون في القضية الفلسطينية”.

ونحمد الله سبحانه أن يسَّر لهذا الكتيّب من يعتني بنشره، فطبعت منه مئات الآلاف من النسخ في مصر والإمارات والكويت ولبنان وماليزيا، كما تُرجم ونشر بعدد من اللغات الأخرى.
نسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.

د. محسن محمد صالح

حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية رؤية إسلامية

1. يطلق اسم “فلسطين” على القسم الجنوبي الغربي لبلاد الشام، وتقع فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، غربي قارة آسيا، وتعدّ صلة الوصل بين آسيا وإفريقيا، كما تتميز بقربها من أوروبا. ويحدّها شمالاً لبنان، ومن الشمال الشرقي سوريا، ومن الشرق الأردن، ومن الجنوب والجنوب الغربي مصر. وتبلغ مساحة فلسطين في حدودها المتعارف عليها حالياً 27 ألف كم2. وهي تتمتع بمناخ معتدل (مناخ البحر المتوسط).

2. أرض فلسطين من أقدم المناطق الحضارية في العالم، وحسب الاكتشافات الأثرية الحديثة فمن المرجح أنها أول أرض شهدت تحول الإنسان إلى حياة الاستقرار والزراعة قبل حوالي 11 ألف سنة (9000 ق.م.)، وفي ربوعها أنشئت أقدم مدينة في التاريخ (مدينة أريحا) حوالي 8000 سنة ق.م.، وما زالت معمورة زاخرة بالحضارات المختلفة إلى عصرنا هذا.

3. لأرض فلسطين مكانة عظيمة في قلب كل مسلم، فهي: أرض مقدسة ومباركة  بنص القرآن الكريم، وفيها المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد بُنِي لله في الأرض، وثالث المساجد مكانة في الإسلام. وهي أرض الإسراء، فإليها أَُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي أرض الأنبياء، فقد ولد في هذه الأرض وعاش عليها ودفن في ثراها الكثير من الأنبياء عليهم السلام الذين ذكروا في القرآن الكريم. وهي تعدّ في المنظور الإسلامي أرض المحشر والمنشر، وعقر دار الإسلام، والمقيم المحتسب فيها كالمجاهد في سبيل الله، ومركز الطائفة المنصورة الثابتة على الحق إلى يوم القيامة.

4. أرض فلسطين أرض مقدسة لدى اليهود و النصارى أيضاً: فيعُدُّها اليهود أرضهم الموعودة، ومحور تاريخهم، ومرقد أنبيائهم، وبها مركز مقدساتهم في القدس والخليل. ويعُدُّها النصارى مهد ديانتهم حيث ولد عيسى عليه السلام وقام بدعوته، وبها مراكزهم الدينية العظيمة في القدس وبيت لحم والناصرة.

5. يؤمن المسلمون أنهم الورثة الحقيقيون الجديرون بميراث داود وسليمان وأنبياء بني إسرائيل وصالحيهم، ممن حكموا فلسطين ردحاً من الزمن تحت راية التوحيد، وأن شرعية حكمها تحولّت إلى المسلمين لأنهم رافعو راية التوحيد من بعد هؤلاء الرسل، والسائرون على درب الأنبياء. ويعتقد المسلمون أن بني إسرائيل تنكبوا عن طريق الحق، وحرّفوا كتبهم، فلم تعد الأرض المقدسة حقاً لهم، بل للمسلمين الذين استمروا في حمل راية الحق والإيمان.

6. كان السُّلوك العام للمسلمين في أثناء حكمهم لفلسطين -وخصوصاً بيت المقدس- سلوكاً حضارياً جامعاً مبنياً على التسامح والتعايش، والعدل والإحسان مع من يخالفهم دينياً، وكفالة حقوق اليهود والنصارى وغيرهم، وحمايتهم، ومنع ظلمهم أو الإساءة إليهم، بل والاستفادة من طاقاتهم وإمكاناتهم في بناء الحضارة الإسلامية. أمَّا السلوك العام لغيرهم فقد كان سلوكاً مانعاً يرفض التعايش مع الديانات الأخرى، ويضطهد أتباعها ويسعى للتخلص منهم؛ كما فعل الرومان والصليبيون وغيرهم من قبل، وكما يفعل اليهود الصهاينة هذه الأيام.

7. إن أقدم شعب معروف سكن فلسطين، وطبعها بطابعه هم “الكنعانيون”، الذين قدموا من جزيرة العرب منذ نحو 4,500 عام، وعرفت أول الأمر باسم “أرض كنعان”. وشعب فلسطين الحالي هم سلائل الكنعانيين ومن اختلط بهم بعد ذلك من شعوب شرقي البحر المتوسط الـ”بلست” أو الفلسطينيون، والقبائل العربية. وبالرغم من أن فلسطين حكمها أقوام شتى بين فترة وأخرى، إلا أن أهلها ظلوا يعمرونها دونما انقطاع. وإن أهل فلسطين هؤلاء هم أنفسهم الذين أسلمت أغلبيتهم الساحقة وتعربت لغتهم مع قدوم الإسلام، حيث تأكدت الهوية الإسلامية لأرض فلسطين لأطول فترة تاريخية متواصلة منذ الفتح الإسلامي لها سنة 15 هـ/ 636م وحتى الآن، ولا عبرة بإخراج جزء من أهلها قهراً تحت الاحتلال الصهيوني منذ سنة 1948.

8. إن مزاعم الحق التاريخي لليهود في فلسطين تتهافت أمام حق العرب المسلمين في أرضهم، فأبناء فلسطين عمروا هذه الأرض قبل نحو 1,500 عام من إنشاء بني اسرائيل دولتهم (مملكة داود)، واستمروا في أثنائها، ثم بعد أن انقطعت صلة اليهود عملياً بها إلى الآن. لقد حكم بنو إسرائيل أجزاء من فلسطين (وليس كلها) حوالي أربعة قرون (خصوصاً في الفترة 1000-586 ق.م)  وزال حكمهم كما زال حكم غيرهم من الدول كالآشوريين والفرس والفراعنة والإغريق والرومان، بينما ظل شعب فلسطين راسخاً في أرضه. وكان الحكم الإسلامي هو الأطول حيث استمر حوالي 1,200 عام (636-1917م) باستثناء الفترة الصليبية (90 عاماً). وقد انقطعت قدرة اليهود على التأثير عملياً في حركة الأحداث في فلسطين نحو 1,800 عام (منذ 135م – حتى القرن العشرين)، ولم يكن لهم تواجد سياسي أو حضاري وريادي فيها، بل وحرَّمت تعاليمهم الدينية العودة إليها. وإن أكثر من 80% من اليهود المعاصرين -حسب دراسات عدد من اليهود أنفسهم مثل الكاتب الشهير آرثر كوستلر- لا يمتّون تاريخياً بأيّ صلة لفلسطين، كما لا يمتون قومياً لبني إسرائيل، فالأغلبية الساحقة ليهود اليوم تعود إلى يهود الخزر (الأشكناز) وهي قبائل تترية – تركية قديمة كانت تقيم في شمالي القوقاز، وتهوَّدت في القرن الثامن الميلادي. فإن كان ثمة “حق عودة” لهؤلاء اليهود، فهو ليس إلى فلسطين وإنما إلى جنوب روسيا!!.

 ثم إن دعوى تعلق اليهود بفلسطين وارتباطهم بها لا تقف أمام حقيقة أن معظم بني إسرائيل رفض الانضمام إلى موسى عليه السلام في مسيرته للأرض المقدسة، كما رفض معظمهم العودة إليها من بابل بعد أن عرض عليهم الإمبراطور الفارسي قورش ذلك، وطوال التاريخ وحتى أيامنا هذه لم تزد أعداد اليهود في فلسطين في أفضل أحوالهم عن 40% من اليهود في العالم (حتى بعد أكثر من ستين عاماً على إنشاء الكيان الصهيوني).

9. تعود أسباب نشأة الحركة الصهيونية، التي سعت لإنشاء كيان يهودي في فلسطين، إلى ظهور النـزعات الصهيونية -المؤيدة لتجميع اليهود في فلسطين- وسط مسيحيي أوروبا، وخصوصاً البروتستانت منذ القرن السادس عشر الميلادي. وتعود أيضاً إلى فشل حركة الاستنارة اليهودية “الهسكلا” التي سعت إلى دمج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها. كما تعود إلى ظهور الأيديولوجيات القومية والوطنية ونشوء الدولة القومية في أوروبا خصوصاً في القرن التاسع عشر ورغبة أعداد من اليهود في أن تكون لهم أرض يحكمونها، وليعيشوا فيها قوميتهم. وتعود من جهة أخرى إلى نشأة “المشكلة اليهودية” خصوصاً في أوروبا الشرقية، وما تعرض له اليهود من اضطهاد على يد الروس، والتي دفعت عدداً من اليهود للمطالبة بملاذ آمن لهم وبدولة خاصة باليهود، وقد استفاد اليهود في سبيل تحقيق ذلك من تمكُّن بعضهم من الوصول إلى دوائر النفوذ والقرار في أوروبا وأمريكا. ثم إن عدداً من بلدان أوروبا الغربية وأمريكا لم يكن يرغب باستيعاب موجات الهجرة اليهودية القادمة من شرق أوروبا، وكانت تريد تحويل هذه الموجات إلى خارج بلدانها.

10. إن فكرة إنشاء الكيان اليهودي ليقوم بدور “الدولة الحاجزة” والتي دعمها الاستعمار الغربي، وخصوصاً بريطانيا، تمثل ذروة الخطر الاستعماري الغربي – الصهيوني في قلب العالم الإسلامي. إذ تهدف إلى شطر جناحي العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا إلى شطرين منفصلين. وهي بذلك تسعى إلى إضعافه ومنع وحدته، وإبقائه مفككاً عاجزاً عن النهضة، قابعاً في دائرة التبعية، منتجاً للمواد الأولية وسوقاً استهلاكيةً للمنتجات الغربية. كما تهدف إلى منع ظهور قوة إسلامية كبرى، تحل مكان الدولة العثمانية التي كانت في طور الانهيار. إن معادلة بقاء الكيان اليهودي الصهيوني واستقراره ونموه -في وسطٍ معادٍ- مرتبطةٌ بضمان ضعف ما حوله من أقطار المسلمين وتفككها وتخلفها. وكذلك فإن معادلة نهضة الأمة ووحدتها وقوتها مرتبطةٌ بالقضاء على المشروع الصهيوني الجاثم على قلبها.

11. تأسست المنظمة الصهيونية العالمية في بال بسويسرا في آب/ أغسطس 1897 بقيادة ثيودور هرتزل، وربطت نفسها بالمشروع الاستعماري الغربي، وفشلت في الحصول على أي شيء ذي قيمة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. والحركة الصهيونية حركة عنصرية قائمة على ديباجات وخلفيات دينية وتراثية وقومية يهودية، وشرط نجاحها مرتبط بإلغاء حقوق أهل فلسطين العرب في أرضهم والحلول مكانهم. ولا فرق في جوهر الفكرة الصهيونية بين تيارات علمانية أو اشتراكية أو دينية أو ثقافية أو سياسية، فالصهاينة كلهم في النهاية صهاينة توفيقيون يسعون إلى الأهداف العليا نفسها.

12. تبنَّت بريطانيا المشروع الصهيوني، فأصدرت في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتمكنت من إتمام احتلالها لفلسطين في أيلول/ سبتمبر 1918، وتنكرت لوعودها للعرب بزعامة الشريف حسين بالحرية والاستقلال، وقسّمت دوائر النفوذ في بلاد الشام والعراق بينها وبين فرنسا وفق اتفاقيات سايكس – بيكو (أيار/ مايو 1916) التي خططت لجعل فلسطين منطقة دولية. ثم إن بريطانيا استأثرت بفلسطين وفق اتفاقيات سان ريمو (نيسان/ إبريل 1920)، وتمكنت من إدماج وعد بلفور في صك انتدابها على فلسطين الذي أقرته لها عصبة الأمم في تموز/ يوليو 1922.

13. فتحت بريطانيا خلال احتلالها لفلسطين 1918-1948 الأبواب للهجرة اليهودية، فتضاعف عدد اليهود من 55 ألفاً سنة 1918 إلى 646 ألفاً سنة 1948 (أي من 8% إلى 31.7% من السكان). كما دعمت تملك الأراضي فتزايدت ملكية اليهود للأرض من نحو نصف مليون دونم (2% من الأرض) إلى نحو مليون و700 ألف دونم (6.3% من أرض فلسطين)، تسربت إلى اليهود في الغالب من الحكم البريطاني أو من أيدٍ إقطاعية غير فلسطينية، وتمكّن شعب فلسطين على الرغم من قسوة الظروف والمعاناة من الصمود في أرضه طيلة ثلاثين عاماً محتفظاً بأغلبية السكان (68.3%) وبمعظم الأرض (93.7%). وقد تمكن اليهود تحت حماية القوات البريطانية من بناء مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والتعليمية والعسكرية والاجتماعية، وفي سنة 1948 كانوا قد أسّسوا 292 مستعمرة، وكوّنوا قوات عسكرية من منظمات الهاغاناه والأرغون وشتيرن، يزيد عددها عن سبعين ألف مقاتل، واستعدوا لإعلان دولتهم.

14. على الرغم من أن المؤامرة على فلسطين كانت أكبر بكثير من إمكانات الشعب الفلسطيني، إلا أن شعب فلسطين رفض الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، وطالب بالاستقلال. وقامت التيارات الوطنية والإسلامية بزعامة موسى كاظم والحاج أمين الحسيني ورفاقهم بالتعبئة الشعبية والتحركات السياسية والثورات العارمة، فكانت ثورات القدس 1920، ويافا 1921، والبراق 1929، وتشرين الأول/ أكتوبر 1933، وحركة الجهادية بقيادة الشيخ عز الدين القسّام، ومنظمة الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني. وتحت ضغط الثورة الكبرى 1936-1939 اضطرت بريطانيا في كتابها الأبيض (أيار/ مايو 1939) أن تتعهد بقيام الدولة الفلسطينية خلال عشر سنوات، وبأن توقف بيع الأرض لليهود إلاّ في حدود ضيِّقة، وبأن توقف الهجرة اليهودية بعد خمس سنوات. ولكنها تنكرت لالتزاماتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1945 (تصريح بيفن)، وعادت الحياة للمشروع الصهيوني من جديد برعاية أمريكية.

15. في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية (نحو 54% للدولة اليهودية، و45% للدولة العربية، و1% منطقة دولية (منطقة القدس). وقرارات الجمعية العامة ليست قرارات ملزمة حتى ضمن مواثيق الأمم المتحدة نفسها. والقرار نفسه مخالف للأساس الذي قامت عليه الأمم المتحدة، وهو حق الشعوب في الحرية وتقرير مصيرها بنفسها. ثم إن الشعب الفلسطيني المعني أساساً بالأمر لم تتم استشارته ولا استفتاؤه. فضلاً عن الظلم الفادح في إعطاء الأقلية اليهودية الصهيونية الدخيلة المهاجرة الجزء الأكبر والأفضل من الأرض.

16. أعلن الصهاينة دولتهم “إسرائيل” مساء 14 أيار/ مايو 1948، وتمكنوا من هزيمة الجيوش العربية التي مَثَّلت نموذجاً لسوء القيادة وضعف التنسيق وقلة الخبرة، والتي كان عددٌ منها لا يزال واقعاً تحت النفوذ الاستعماري. واستولى الصهاينة على نحو 77% من أرض فلسطين (20,770 كم2)، وشردوا بالقوة 800 ألف فلسطيني خارج المنطقة التي أقاموا عليها كيانهم، وذلك من أصل 925 ألفاً كانوا يسكنون في هذه المنطقة (كان المجموع الكلي للفلسطينيين في نهاية عام 1948 نحو مليون و400 ألف نسمة)، ودمَّر الصهاينة 478 قرية فلسطينية من أصل 585 قرية كانت قائمة في المنطقة المحتلة، وارتكبوا 34 مجزرة. أما بالنسبة لما تبقى من فلسطين فقد قام الأردن بضم الضفة الغربية رسمياً إليه (5,876 كم2) كما وضعت مصر قطاع غزة (363 كم2) تحت إدارتها. وقد وافقت الأمم المتحدة على دخول الكيان الصهيوني “إسرائيل” في عضويتها، شرط السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وهو ما لم يفعله الكيان الصهيوني مطلقاً. والكيان الصهيوني هو كيان قائم على الظلم، وعلى أسس عنصرية ودينية، وهو كيان لم يحدد حدوده وليس له دستور مكتوب، وهو بذلك يخالف أبرز مواصفات الدولة الحضارية الحديثة.

17. ساد شعارا “قومية المعركة”، و”الوحدة طريق التحرير” الفترة 1948-1967، وتولت الأنظمة العربية بقيادة جمال عبد الناصر زمام المبادرة، بينما تراجع الدور القيادي الوطني الفلسطيني  إفساحاً للمجال أمام الحلِّ العربي الرسمي، غير أن الأنظمة العربية افتقدت المنهجية الصحيحة والجدية والإرادة الحقيقية للقتال، وتبنَّت المقاومة الفلسطينية لأسباب تكتيكية مرحلية، وليس ضمن خطة استراتيجية شاملة، وانشغلت بدغدغة عواطف الجماهير بدلاً من إعدادها للمعركة، بينما كان الكيان الصهيوني “الغَضُّ” يشتد ويزداد قوة ورسوخاً.

18. أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) سنة 1964 برئاسة أحمد الشقيري، وبدعم مباشر من جمال عبد الناصر الذي خشي أن يفلت زمام القضية من يديه، بعد أن بدأت الساحة الفلسطينية تموج بالحركات السرية والتنظيمات، وخصوصاً “فتح” التي ترجع جذورها إلى سنة 1957. وهدفت (م.ت.ف) إلى تحرير الأرض المحتلة سنة 1948، وشدَّد ميثاقها على الكفاح المسلح طريقاً وحيداً للتحرير. وقد رحب عامة الفلسطينيين بإنشائها باعتبارها تجسيداً للهوية الوطنية والكيانية الفلسطينية بعد تغييب طويل. وفي عام 1968 انضمت المنظمات الفدائية الفلسطينية وعلى رأسها “فتح” إلى المنظمة وتولى ياسر عرفات زعيم فتح قيادتها منذ شباط/ فبراير 1969. وفي سنة 1974 أقرت الأنظمة العربية لـ(م.ت.ف) بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتم تمثيلها في العام نفسه بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة.

19. كانت حرب حزيران/ يونيو 1967 هزيمة مُرَّة للأنظمة العربية، ففي بضعة أيام احتل الكيان الصهيوني باقي فلسطين، فسقطت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، وتم تشريد 330 ألف فلسطيني. كما سقطت الجولان السورية (1,150 كم2) وسيناء المصرية (61,198 كم2).

20. واصل الكيان الصهيوني تهويد أرض فلسطين بشكل حثيث، وسعى لاجتثاث هويتها العربية والإسلامية ومعالمها الحضارية، فقد صادر حوالي 96% من الأرض التي احتلها سنة 1948 بما في ذلك أراضي وأملاك الفلسطينيين الذين قام بتشريدهم، ومعظم الأوقاف الإسلامية، والكثير من أراضي من بقي من العرب هناك، وبنى الصهاينة مئات المدن والقرى الاستيطانية في الأرض المحتلة سنة 1948. ومنذ حرب 1967 صادر الصهاينة مساحات واسعة من الضفة الغربية وقاموا بشكل منهجي حثيث بإجراءات تهويدها، فبنوا 160 مستوطنة ونحو مائة بؤرة استيطانية أخرى، وأنشأوا الجدار العازل، ووضعوا مئات الحواجز التي تقطّع أوصال الضفة، وسيطروا على معظم مصادر المياه، وحاصروا الضفة والقطاع وجعلوهما أشبه بسجنين كبيرين، وحوّلوا حياة الناس إلى جحيم. وبينما حرَم الكيانُ الصهيوني أبناءَ فلسطين من العودة إلى أرضهم، فتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فهاجر إليها نحو ثلاثة ملايين يهودي خلال الفترة 1949-2013، ليبلغ العدد الكلي لليهود حوالي ستة ملايين مطلع سنة 2013.

21. ركز الصهاينة على تهويد مدينة القدس، فسيطروا على 86% منها، وملأوها بالمهاجرين اليهود (نحو 515 ألف يهودي مقابل حوالي 300 ألف فلسطيني في شرق القدس وغربها مطلع سنة 2013). وفي منطقة شرقي القدس -حيث المسجد الأقصى- أسكنوا نحو 200 ألف يهودي، وأحاطوها بسوار من المستوطنات اليهودية يعزلها عن محيطها العربي الإسلامي. وأعلنوا أن القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني. واهتم اليهود الصهاينة بالسيطرة على المسجد الأقصى، فصادروا الحائط الغربي للمسجد الأقصى (حائط البراق)، ودمروا حيّ المغاربة المجاور له، وصادروا أرضه. وأنهوا حتى الآن عشر مراحل من الحفريات تحت المسجد الأقصى وفي محيطه، وهناك 17 حفرية ونفقاً مكتملاً، و30 حفرية ونفقاً تحت الإنجاز، بشكل يهدد بانهيار المسجد في أي لحظة. وتَشكَّل نحو 25 تنظيماً إرهابياً يهودياً صهيونياً يهدف إلى تدمير الأقصى وإقامة الهيكل اليهودي مكانه. وقام الصهاينة بعشرات الاعتداءات على المسجد الأقصى خصوصاً بعد اتفاق أوسلو 1993، وكان أشهر الاعتداءات إحراق المسجد الأقصى في 21 آب/ أغسطس 1969.

22. تمسك اللاجئون الفلسطينيون بحقهم في العودة إلى أرضهم، ورفضوا كل مشاريع توطينهم خارج أرضهم، والتي وصلت إلى أكثر من 240 مشروعاً، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة أصدرت أكثر من 110 قرارات بحق اللاجئين في العودة، إلا أن أياً منها لم ينفذ بسبب إصرار الكيان الصهيوني على رفضها، وعدم جدِّية الدول الكبرى والمجتمع الدولي في إجباره على ذلك. ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في الخارج في نهاية سنة 2012 نحو خمسة ملايين و800 ألف لاجئ، ويعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة نحو مليون و920 ألف لاجئ من الأرض المحتلة سنة 1948، بالإضافة إلى 150 ألف مُهجَّر فلسطيني يعيشون في المناطق المحتلة سنة 1948 بعيداً عن أرضهم وقراهم الأصلية، أي أن هناك نحو سبعة ملايين و720 ألف فلسطيني يعانون من اللجوء والتهجير وهو ما يمثل نحو 67% من الشعب الفلسطيني الذي يقدّر مجموعه في نهاية سنة 2012 بنحو 11.55 مليون نسمة. وهذا يُعدّ أكبر عدد للاجئين بين شعوب العالم، وهي أيضاً أعلى نسبة للاجئين في العالم بالنسبة إلى عدد السكان وبفارق كبير عن أي شعب آخر. وتمثل قضية اللاجئين الفلسطينيين أقدم وأطول وأكبر مأساة إنسانية للاجئين منذ القرن العشرين وحتى الآن.

23. تعاملت الأمم المتحدة مع قضية فلسطين على أنها قضية لاجئين منذ 1949 وحتى بداية  السبعينيات من القرن العشرين. ومنذ 1974 أخذت تصدر قرارات كثيرة بأغلبية ساحقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير، وبشرعية الكفاح الفلسطيني (بما فيه الكفاح المسلح) لاسترداد الحقوق المغتصبة، وباعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال التفرقة العنصرية، وبحق اللاجئين غير القابل للتصرف في العودة إلى أرضهم. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا على استعداد دائم لدعم الكيان الصهيوني في رفض هذه القرارات وتجاهلها وإجهاضها، واستخدام حق النقض “الفيتو” لمنع التنفيذ العملي لأي منها. في الوقت نفسه استخدموا هذه “الشرعية” الدولية لإقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين وترسيخ وجودها، مما يكشف عن الوجه القبيح الظالم لهذه “الشرعية”.

وطوال تاريخ القضية الفلسطينية ظلت إحدى الإشكاليات الكبرى تتمثل في انحياز القوى العظمى الصارخ للمشروع الصهيوني، وخصوصاً في التسليم بما يسمَّى “حقّه” في إنشاء دولته على الأرض التي اغتصبها سنة 1948، أي 77% من أرض فلسطين.

24. مثلت الفترة 1967-1970 فترةً ذهبيةً للعمل الفدائي والمقاومة الفلسطينية، غير أنها حُرمت منذ 1971 من استخدام الساحة الأردنية، وبالرغم من تركزها بعد ذلك في الساحة اللبنانية إلا أنها عانت من محاولات الاستهداف والاجتثاث خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990. وأسهم العدوان الصهيوني المستمر على لبنان، واجتياحه الجنوب اللبناني سنة 1978 وتشكيله لحزام أمني عميل، ثم اجتياحه جنوب لبنان ووسطه حتى بيروت سنة 1982 في ضرب البنية  التحتية للمقاومة وإجبار (م.ت.ف) ومقاتليها على الانسحاب من لبنان. وبذلك أُغلقت كل الحدود العربية مع الكيان الصهيوني في وجه المقاومة الفلسطينية.

25. وبشكل عام، عانت الثورة الفلسطينية بشدة من أشقائها العرب “الألدَّاء”، واستُنـزفت طاقاتها ودماؤها في صراعها مع الأنظمة العربية التي حاولت ترويضها وضبطها، والتحدث باسمها والقفز فوقها. وبعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ضد الكيان الصهيوني، والتي حققت أساساً انتصارات معنوية لمصر وسوريا، وبعد أن عُدَّت (م.ت.ف) ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني عام 1974، أخذ يتضاءل الشعور العربي بالمسؤولية تجاه فلسطين. وبتوقيع مصر لاتفاقيات كامب ديفيد في أيلول/ سبتمبر 1978، خرجت أكبر قوة عربية من الصراع العربي – الصهيوني،  ثم إن الحرب العراقية – الإيرانية التي أنهكت الطرفين طوال الفترة 1980-1988، وتراجع الدعم المالي الخليجي للثورة الفلسطينية بسبب انخفاض أسعار النفط، فضلاً عن الاجتياح العراقي للكويت عام 1990، وما نتج عنه من حرب الخليج، ومن تمزّقٍ عربي إسلامي واسع، بالإضافة إلى انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، كل ذلك أدى إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية وتوجه قيادة (م.ت.ف) نحو التسوية السلمية، وبالتالي حصر نشاطها في دائرة “الممكن السياسي”.

ومن جهة أخرى، أخذ يبرز نشاط التيار الإسلامي الشعبي في الداخل والخارج، منذ أواسط السبعينيات من القرن العشرين؛ وظهرت بوادر منظمات إسلامية جهادية مثل أسرة الجهاد أواخر السبعينيات في فلسطين المحتلة 1948، وحركة الجهاد الإسلامي سنة 1980، وتنظيم المجاهدون الفلسطينيون الذي أنشأه الشيخ أحمد ياسين في أوائل ثمانينيات القرن العشرين.

26. أعطت الانتفاضة المباركة (كانون أول/ ديسمبر 1987 – أيلول/ سبتمبر 1993) زمام المبادرة للداخل الفلسطيني، وبرز التيار الإسلامي بقوة ليشكل عنصراً أساسياً في المقاومة الفلسطينية، خصوصاً من خلال حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي أعلنت عن انطلاقتها مع بدء الانتفاضة. وأحيت الانتفاضةُ التعاطفَ العربي والإسلامي والدولي واهتمامه بالقضية الفلسطينية، لكن الظروف السائدة وطبيعة العقليات القيادية الفلسطينية والعربية لم تسمح بتأجيجها وتوسيعها باتجاه التحرير، وإنما استخدمتها للاستثمار السياسي السريع باتجاه التسوية مع الكيان الصهيوني الغاصب.

27. مع تزايد ضعف (م.ت.ف) أخذ التيار المؤيد للتسوية السلمية مع الكيان الصهيوني في الاتساع في أوساط المنظمة إلى أن جاء قرارها في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 بإعلان دولة فلسطين وبالاعتراف بقرار الأمم المتحدة 181 الداعي لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وقرار مجلس الأمن 242 الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 الذي يتعامل مع قضية فلسطين على أساس أنها قضية لاجئين، ويدعو لحل القضية بالطرق السلمية. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1991 دخلت (م.ت.ف) والدول العربية في مفاوضات سلمية مباشرة مع الكيان الصهيوني في مدريد. وخلال حوالي سنتين لم يستطع وفد المنظمة الرسمي التوصل إلى اتفاق مع الكيان الصهيوني. ولم تحدث أية حالة انفراج إلا من خلال قناة مفاوضات سرية مختلفة كانت قد فتحت في كانون الأول/ ديسمبر 1992، وأدت إلى ما يعرف باتفاق أوسلو أو “غزة – أريحا أولاً”، الذي تم في أوسلو بالنرويج، والذي وقعت عليه رسمياً المنظمة مع الكيان الصهيوني في واشنطن في 13 أيلول/ سبتمبر 1993.

28. تعترف قيادة (م.ت.ف) من خلال اتفاق غزة – أريحا بحق “إسرائيل” في الوجود، وبشرعية احتلالها وملكيتها لـ 77% من أرض فلسطين، وتتعهد (م.ت.ف) بالتوقف عن المقاومة المسلحة والانتفاضة، كما تتعهد قيادة (م.ت.ف) بحذف وإلغاء كافة البنود الداعية لتحرير كل فلسطين وتدمير الكيان الصهيوني من ميثاقها الوطني، وتتعهد أيضاً بحل كافة المشاكل بالطرق السلمية. وبهذه الاتفاقية تشطب منظمة التحرير -عملياً- نفسها وأهدافها وميثاقها. وتحصل قيادة المنظمة، في مقابل ذلك، على اعتراف من “إسرائيل” بها باعتبارها ممثلة الشعب الفلسطيني، وتُعطى حكماً ذاتياً محدوداً في قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، على أن يتم حلُّ القضايا الرئيسية الأخرى خلال خمس سنوات.

29. ووجه اتفاق أوسلو (غزة – أريحا) بشكل خاص ومشروع التسوية السلمية القائمة على التنازل عن الحقوق بمعارضة قوية فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وكانت أبرز نقاط الاعتراض:

– لقد أفتى علماء المسلمين الموثوقون بعدم جواز التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني، حسبما يريد الداعون إليها، وبضرورة الجهاد المقدس لتحرير الأرض المغتصبة وإرجاعها كاملة إلى أصحابها الشرعيين. وباعتبار هذه المعركة بين حق وباطل تتوارثها الأجيال حتى يأذن الله بالنصر والتمكين، وبأن فلسطين أرض وقف إسلامي لا يملك أحد حق التنازل عنها، ولا يجوز لجيل إن انتابه حالة ضعف أن يحرم الأجيال القادمة من حقها. كما أن قضية فلسطين هي قضية كل المسلمين الذين يرفضون التنازل عن حقهم فيها مهما طال الزمن، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، فضلاً عن أن تكون قضية (م.ت.ف) أو قيادتها.

– انفردت قيادة (م.ت.ف) بإقرار اتفاق أوسلو دون الرجوع إلى الشعب الفلسطيني، حيث توجد معارضة قوية لهذا الاتفاق في أوساط الإسلاميين والوطنيين واليساريين على السواء، وحتى في أوساط حركة فتح نفسها.

– أجّل هذا الاتفاق البتّ في أهم القضايا الرئيسية وأكثرها حساسية، وأصبح حسمها مرتبطاً بمدى “كرم” الطرف الصهيوني، الذي استغل قوته لفرض شروطه على الطرف الفلسطيني الأضعف، وأبرز هذه القضايا:

أ.  مستقبل مدينة القدس.

ب. مستقبل اللاجئين الفلسطينيين.

ج. مستقبل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية .

د. طبيعة الكيان الفلسطيني المستقبلي، وصلاحياته، وحدوده، وسيادته على أرضه.

– وافق هذا المشروع رغبة صهيونية هدفت إلى التخلص من عبء مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية بما تحمله من مشاكل أمنية واقتصادية.

– الحصيلة العملية للاتفاق إدارة حكم ذاتي، ذات صلاحيات تنفيذية محدودة، مرتبطة بالاحتلال وتحت هيمنته المباشرة، وللكيان الصهيوني حق النقض “الفيتو” على قراراتها وقوانينها التشريعية، كما حُرِمت السلطة الفلسطينية من حق تشكيل جيش خاص بها، وهي لا تملك أن تُدخل أية أسلحة إليها إلا بإذن الكيان الصهيوني.

– أصبحت إدارة الحكم الذاتي مضطرة لقمع وسحق أي جهاد وعمليات مسلحة ضد الكيان الصهيوني، والقبض على مجاهدي المنظمات الفلسطينية لإثبات “حسن نواياها” وحرصها على “السلام”، وتشكلت لها أجهزة أمنية تحصي على الناس أنفاسهم، بينما كان أداؤها أكثر ضعفاً في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستشرى الفساد في أجهزتها. ولم تخفف السلطة من قبضتها الأمنية على الناس إلا إثر اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000.

– ظلت الحدود تحت السيطرة “الإسرائيلية”، وظل دخول مناطق السلطة الفلسطينية أو الخروج منها مرتبطاً “بحقّ” الصهاينة في إعطاء الإذن بذلك أو منعه.

– لا تشير الاتفاقية إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإنشاء دولتهم المستقلة، ولا تتحدث عن الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها أراضٍ محتلة.

– فتح هذا الاتفاق الباب على مصراعيه للدول العربية والإسلامية لعقد اتفاقيات وبناء علاقات مع الكيان الصهيوني، وأعطى الفرصة للتغلغل الصهيوني في المنطقة وتحقيق الهيمنة الاقتصادية، وضرب القوى الإسلامية والوطنية في المنطقة.

30. أكدت انتفاضة الأقصى التي اندلعت في 29 أيلول/ سبتمبر 2000، تمسّك الشعب الفلسطيني بحقه في أرضه، وأكدت تفاعل الشعوب العربية والإسلامية الواسع مع الانتفاضة، كما أكّدت البعد الإسلامي للقضية، وكشفت شراسة الصهاينة والوجه القبيح لأدعياء السلام الصهيوني، كما وجهت لطمة كبيرة لمشروع التسوية الذي يجري على حساب حقوق الأمة وثوابتها. وعانى أبناء فلسطين من ظروف في غاية القسوة، وأعاد الصهاينة احتلال معظم أراضي السلطة الفلسطينية. وخلال خمس سنوات من بدايتها، استشهد أكثر من 4,160 فلسطينياً وجُرح أكثر من 45 ألفاً ووصلت نسبة العاطلين عن العمل إلى نحو 58%… لكن صمودهم الرائع ومقاومتهم البطولية، التي شاركت فيها كافة الفصائل الفلسطينية، أحدثت لأول مرة نوعاً من “توازن الرعب” مع الكيان الصهيوني، الذي تعرّض لضربات قاسية في كل مكان، مما أدى إلى مقتل نحو 1,060 صهيونياً وجرح أكثر من 6,250 آخرين.

وهزت الانتفاضة الدعامتين اللتين يقوم عليهما المشروع الصهيوني، وهما الأمن والاقتصاد. وقد اضطر الكيان الصهيوني إلى الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته في تشرين الأول/ أكتوبر 2005 إثر المقاومة البطولية لشعب فلسطين. وقد كانت وفاة ياسر عرفات في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 الذي قاد السلطة الفلسطينية منذ إنشائها، ودخول الفلسطينيين في أجواء الانتخابات الرئاسية والبلدية والتشريعية، وموافقة الفصائل في القاهرة على التهدئة (17 آذار/ مارس 2005) أثره في انحسار موجة انتفاضة الأقصى.

31. كان فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في مطلع سنة 2006، مؤشراً على تزايد ثقة الفلسطينيين بالتيار الإسلامي وبخط المقاومة، وعلى حالة التفكك والترهل والفساد التي تعاني منها حركة فتح، وعلى تراجع مسار التسوية السلمية. وكانت محاولات الإسقاط والإفشال التي تعرضت لها حكومة إسماعيل هنية من “إسرائيل” ومن أطراف فلسطينية وعربية ودولية دليلاً على مدى خصومة هؤلاء للخط الإسلامي والمقاوم. وعلى ازدواجية المعايير حيث لا يتمّ احترام العملية الديموقراطية ونتائج الانتخابات إذا تعلق الأمر بالإسلاميين.

وقد تعرضت الحكومتان اللتان قادتهما حماس إلى حصار قاسٍ وفلتان أمني واعتداءات إسرائيلية شرسة، وتعطيل للمجلس التشريعي بأسر معظم ممثلي حماس في الضفة الغربية. وجرت محاولات لتطويع حماس من خلال فرض شروط الرباعية الدولية التي تشترط الاعتراف بـ”إسرائيل” مقابل فك الحصار. واضطرت حماس للقيام بحسم عسكري في حزيران/ يونيو 2007؛ أدى لسيطرتها على القطاع، بينما قامت رئاسة السلطة وفتح بالسيطرة على الضفة الغربية، وبمتابعة الالتزام بمشروع التسوية، وقمع تيارات المقاومة وخصوصاً حماس. وعانى الفلسطينيون من تعمّق الانقسام الفلسطيني، وتدهور دور المؤسسات الممثلة للشعب الفلسطيني وخصوصاً (م.ت.ف) والمجلس الوطني والمجلس التشريعي، كما عانوا من الضغط الخارجي، خصوصاً الإسرائيلي والأمريكي، في صناعة القرار الفلسطيني وتوجيهه.

وقد أدى الصمود البطولي للمقاومة وفشل العدوان الإسرائيلي على القطاع (27/12/2008–18/1/2009) إلى عودة الألق لتيار المقاومة والتفاف الجماهير حوله، وإلى تعاطف عربي وإسلامي ودولي واسع مع الشعب الفلسطيني؛ كما أعطى دفعة باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.

32. تعرض مسيحيو فلسطين إلى الظلم والقهر والتشريد نفسه الذي تعرض له مسلمو فلسطين. وشاركوا في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين. وقدّموا نموذجاً للتماسك والوحدة الوطنية في وجه المشروع الصهيوني، وشاركوا في الدفاع عن عروبة فلسطين بالكلمة والقلم والبندقية. وعبّروا عن انتمائهم الحضاري للمنطقة بهويتها ولغتها وتراثها.

33. إن حب الوطن والدفاع عن أرضه وشعبه ومقدساته هو واجب شرعي وحق إنساني، وإن المشاعر الوطنية وحب القوم والعشيرة هو سلوك طبيعي ما دام لا يحرّم حلالاً ولا يُحِلّ حراماً، ولا ينتقص من حقوق الآخرين. وإن دوائر العمل لفلسطين سواء كانت وطنية أم عربية أم إسلامية أم إنسانية هي دوائر تركيز متكاملة متناغمة، ويجب ألا تكون متعارضة.
ومن جهة أخرى، فإن السعي لعلاج أمراض المجتمع وتحقيق التطور الحضاري والتمكين لدولة الإسلام في الأرض، والسعي لتحقيق الوحدة العربية والإسلامية، وكذلك السعي لتحرير فلسطين، هي جهود متكاملة، يخدم بعضها بعضاً، ويمكن أن تسير جنباً إلى جنب دونما تعارض أو تضاد.

34. الإسلام دين السلام، فالله هو السلام، وتحية المسلمين فيما بينهم السلام، والجنة هي دار السلام. والعلاقة في الإسلام مع الآخرين قائمة على التسامح الديني والتعارف والتعايش السلمي والحوار بالتي هي أحسن. وبالتالي، فإن الإسلام هو ضد “الإرهاب” وضد قتل الأبرياء. والإسلام في الوقت نفسه هو دين الحق والعدل والحرية، يأبى أتباعه أن يُظلموا كما يأبون أن يَظلموا، ويرفضون أن يعطوا الدنيّة في دينهم، ويبذلون الغالي والنفيس دفاعاً عن كرامتهم وأرضهم ومقدساتهم. ولا يمكن لأي “سلام” في فلسطين أن يقوم بناء على ظلم أهلها واغتصاب حقوقهم وإخراجهم من أرضهم. وإن فرض شروط القاهر الغاصب على شعب مستضعف قد يوصل إلى “تسوية” مؤقتة، ولكنه لن يؤدي إلى السلام. وسيظل الجهاد لتحرير فلسطين واجباً وشرفاً ووساماً على صدر كل شريف، ولا عبرة بالطغيان الإعلامي الصهيوني والغربي الذي يتلاعب بألفاظ ومصطلحات “الإرهاب” و”السلام”.

35. إن المسلمين لا يقاتلون اليهود لمجرَّد كونهم يهوداً، فالأصل في علاقة المسلمين بأهل الكتاب أو أهل الذمة هو العدل والإحسان وإعطاء كافة الحريات والحقوق الدينية وحقوق المواطنة الكاملة لهم في ظلّ الإسلام، وإن “المشكلة اليهودية” والعداء للسامية نشأت في أوروبا وليس في العالم الإسلامي، الذي كان اليهود يلجأون إليه آمنين من الاضطهاد والتعصب الديني والقومي في أوروبا. إن المسلمين يقاتلون اليهود الصهاينة المعتدين، الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وشردوا شعبها، وانتهكوا مقدساتها، وسيقاتل المسلمون أية فئة أو جماعة تحاول احتلال أرضهم، مهما كان دينها أو قوميتها.

36. إن الإسلام ينبغي أن يكون هو القاعدة التي يستند إليها مشروع التحرير وتتبير المشروع الصهيوني، لأن الله سبحانه تكفل بنصر عباده الصادقين، ولأن الإسلام هو عقيدة الأمة، وبه خيرها وفلاحها، ولأنه الأقدر على تعبئة الجماهير وحشد طاقاتها، ولأن تجارب التاريخ (سواء في فتح القدس أو تحريرها من الفرنجة والتتار) أثبتت نجاح الحل الإسلامي، كما أثبت تاريخنا الحديث والمعاصر فشل الأيديولوجيات الأخرى. إن الحل الإسلامي ليس حلاً طائفياً ولا عنصرياً ولا انعزالياً، وهو لا يعني ظلماً أو تهميشاً للأقليات، ولا يعني إكراهاً في الدّين، بل هو مشروع حضاري يتسم بالانفتاح والمرونة، واستيعاب كافة الشرائح والقوى الساعية للإسهام في مشروع التحرير، والتي ستأخذ مواقعها وفق إخلاصها وكفاءتها.

وإن أبرز معالم الحل الإسلامي لقضية فلسطين تتمثل في:

أ. تبني الإسلام عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة، والحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.

ب. لا بد من قيادة مؤمنة كفوءة صادقة تكون مؤهلة لمواجهة المشروع الصهيوني وهزيمته.

ج. توسيع دائرة الصراع مع العدو الصهيوني ليكون (فضلاً عن كونه مسؤولية كل فلسطيني وعربي) مسؤولية كل مسلم، بل وكل إنسان يدافع عن الحق والعدل والحرية، وعدم قصر هذا الصراع على الدائرة الفلسطينية أو الدائرة القومية العربية. لأن تحرير فلسطين أصبح فرض عين على كل مسلم، ولأن الصهاينة ينفذون مشروعهم بشكل عالمي منظم، فلا بد من مواجهة مكافئة ترتقي إلى مستوى التحدي.

د. دعم شعب فلسطين ومساندته وتأهيله بكافة الوسائل، باعتبار أنه خط الدفاع الأول عن الأمة الإسلامية، حتى يَثبُتَ على أرضه، ويستمر في صموده وجهاده.

هـ. السعي لتحقيق نهضة حضارية تكون مدخلاً للتغيير والارتقاء الإيجابي الشامل في مجتمعاتنا المسلمة سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، حتى يكون المسلمون قادرين ذاتياً على مواجهة تكاليف الجهاد وأعباء التحرير، وتحقيق شروط التمكين والاستخلاف في الأرض وريادة الإنسانية.

37. إن القضية الفلسطينية قضية ذات أبعاد إنسانية كبرى، إذ تمثل صرخة المظلوم في وجه أدعياء حقوق الإنسان، وتكشف المعايير المزدوجة وسوءات النظام الدولي الجديد، وتزري بالنفاق المقيت لحضارة تزهو بالتقدم والمعرفة والتكنولوجيا وترعى حقوق الحيوان، بينما تتقبل أن يُرمى أكثر من سبعة ملايين لاجئ فلسطيني في العراء، وأن تحل جماعات يهودية صهيونية من أشتات الأرض وفق دعاوى بالية، لا تتوافق مع منطق التاريخ ولا قيم المدنية الحديثة ولا القوانين الدولية، مكان قوم عمروا الأرض منذ 4,500 عام، وأن تسفك الدماء في الأرض المقدسة، التي يجب أن تكون أرضاً للمحبة والسلام. إن الحركة الصهيونية واحتلالها لفلسطين هي النموذج المتبقي للاستعمار التقليدي الأوروبي الغربي الذي زال عن أرجاء العالم، ويجب أن يزول عاجلاً أم آجلاً عن فلسطين. إن مهمة تحرير فلسطين هي مهمة إنسانية وحضارية يجب أن تشارك فيها شعوب الأرض وأقطارها.

38. إن العلو الإسرائيلي اليهودي الصهيوني في الأرض حقيقة لا مراء فيها ، وإن النفوذ اليهودي الصهيوني في دوائر القرار والتأثير العالمية واضح مشهود، سواء كان ذلك في السياسة أم في الإعلام أم في الاقتصاد، وخصوصاً في الولايات المتحدة. ونحن إذ نقرّ ذلك، لا نذكره بدوافع عنصرية أو “عداءً للسامية” أو نشراً للبغض والكراهية؛ لأن التفوق الحضاري أمر محمود ومطلوب، شرط أن يستخدم في خدمة الإنسانية وتقدمها وليس في نشر الظلم والفساد واغتصاب حقوق الآخرين. وإذا كان الله سبحانه قد قدّر لهم سُبل العلو والنفوذ، فإنه لا ينبغي أن يُضخّم الأمر، كما لا ينبغي أن يُنظر إليهم وكأنهم وراء كل صغيرة أو كبيرة من الأحداث، أو كأنهم قدر الله الغالب. فهم بشر خلقهم الله، وتجري عليهم سنن الله في الكون والتدافع وتداول الأيام. وإذا كانوا ينجحون، بقدر الله، بجدهم ومثابرتهم وحسن تنظيمهم، فقد وقعت لهم كوارث ومآسٍ كثيرة في تاريخهم. وينبغي أن يُنظر إلى هذا العلو باعتباره حافزاً للمسلمين للاستجابة لمواجهة هذا التحدي، ولاستكمال شروط الاستخلاف في الأرض والنهضة الحضارية.

39. إن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، قلب العالم الإسلامي، وحشده لأسلحة الدمار الشامل بما فيها 200 قنبلة نووية، والدعم الأمريكي والغربي غير المحدود له، سوف يظل الفتيل المشتعل الذي يهدد السلام العالمي بالانفجار، ويهدد بحرب عالمية ثالثة. فالمسلمون سيملكون يوماً ما أسباب القوة، وقد يملكون مثل غيرهم أسلحة الدمار الشامل، وهم لم ولن يتنازلوا عن أرضهم، ولن يقبلوا كياناً في قلبهم يضعفهم ويمزق وحدتهم، وسيسعون لإزالته كما أزالوا غيره من قبل. وعند ذلك ستعلم القوى الكبرى أن الظلم الذي اقترفته بحق شعب فلسطين، والخطيئة التي ارتكبتها بإيجاد هذا الكيان، الذي يسير عكس حركة التاريخ، لن تؤدي إلاّ إلى مزيد من الحروب والدمار والكوارث، والتي لن تنعكس آثارها على سكان المنطقة فحسب، وإنما على الإنسانية جمعاء. وخير للعالم أن يستعيد أهل فلسطين أرضهم وحقوقهم، قبل أن تأتي تلك اللحظات الرهيبة.

40. إن هزيمة المشروع اليهودي الصهيوني في فلسطين واندحاره ليست أمراً ممكناً فقط، وإنما هي حقيقة أكيدة لأنها بشرى ربانية، جاءت في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنها بشرى نبوية، حدثنا عنها المعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى. ثم لأن سنن الله سبحانه في الكون وتجارب التاريخ تخبرنا أن الظلم لا يدوم، وأنه على الباغي تدور الدوائر، وأنه لا يضيع حق وراءه مُطالِب، وأن الأمة عندما تعود إلى ربها، وتحقق وحدتها، وتسترجع أسباب عزتها وقوتها، قادرة بإذن الله على تحقيق النصر والتحرير.

* أستاذ مشارك في الدراسات الفلسطينية وتاريخ العرب الحديث، رئيس قسم التاريخ والحضارة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا سابقاً، المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت حالياً.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 18/6/2013