مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

أشرنا في مقالٍ سابق إلى وجود طموحات لدى أطراف صهيونية وغربية لتفتيت المنطقة العربية والإسلامية على أسس طائفية وعرقية، لكون ذلك مصلحة إستراتيجية صهيونية وإمبريالية غربية.

تتحدث هذه الأطراف -كذئب لبس ثياب الواعظين- عن الاستقرار في المنطقة، وعن انتزاع الأقليات حرياتها، وعن الحدود العادلة. لكنها تتجاهل أن هذه المنطقة لم تعرف الصراعات الطائفية والعرقية المكشوفة إلا بعد قدوم الاستعمار الغربي إليها.

فالبريطانيون رعوا مشروعاً يهودياً صهيونياً محدداً على حساب مسلمي ومسيحيي فلسطين، والفرنسيون حاولوا تقسيم سوريا إلى كيانات درزية وعلوية وسنية، ووسّعوا جبل لبنان إلى لبنان الكبير كجزء من رعاية المسيحيين الموارنة فيه، كما سعوا لإثارة الفتنة بين العرب والأمازيغ في المغرب.. وغيرها.

إن الثابت الوحيد الذي لا يُمس في طروحات هؤلاء هو بقاء “إسرائيل” وأمنها، وبالتالي تشتيت الشعب الفلسطيني وتضييع حقوقه وتمزيق نسيجه الاجتماعي. فالعدل هنا نسبي وانتقائي لا ينطبق على ابن المنطقة الفلسطيني، سواء أكان مسلماً سنياً أم درزياً أم مسيحياً.

المهم أن يوافق الجميع على قدوم المستوطن المستعمر اليهودي الذي جاء من أكثر من 90 بلداً، والذي يتحدث بأكثر من 70 لغة! ويتناسى الصهاينة وحلفاؤهم أن جوهر حالة اللااستقرار في المنطقة مرتبط بنشوء الكيان الصهيوني في قلبها، وضدّ إرادة شعوبها وأديانها وطوائفها وأعراقها، وأن المشروع الصهيوني يكاد يكون الثابت الوحيد الذي تجمع شعوب المنطقة على رفضه وعدائه.

إن جوهر فكرة التفتيت إنشاء كيانات هزيلة متناحرة تابعة، تستقوي على بعضها بالحماية الصهيونية والغربية، وتُشكّل أغلفة واقية للكيان الإسرائيلي، كما تعيق أي مشروع وحدوي أو نهضوي في المنطقة العربية والإسلامية، لأن تحقُّق مثل هذا المشروع سيعني تغيير معادلة الصراع في المنطقة وبدء العدّ العكسي للمشروع الصهيوني.

هل هناك مخاطر من احتمال نجاح مشاريع التفتيت؟ نعم، فهناك عوامل قد تدفع باتجاه إيجاد أرضية لإنجاح هذه المشاريع أبرزها:

1- مع ظهور فكرة الدولة القومية والدولة القُطرية في أوروبا، وتشكل الكثير من الدول على هذا الأساس، وانتشار “العدوى” إلى منطقتنا، حيث ظهرت القوميات العربية والتركية والفارسية.. رغبت تيارات تنتمي إلى قوميات أخرى أن تُعبِّر عن نفسها من خلال دولة مستقلة كالأكراد مثلاً، الذين لم يجدوا ما يُعبِّر عن هويتهم بعد إلغاء الراية الإسلامية التي كانت تجمعهم مع غيرهم.

2- تطبيق بعض الأنظمة البئيس والمسيء لفكرة القومية العربية، ويتجلى ذلك في:

– تقديم العروبة بصورة مشوهة تراعي الانتماء القومي العرقي، أكثر مما تراعي اللغة والثقافة والانتماء الحضاري، ودون أن تجمع بشكل متناغم بين كلّ من ينطق بالضاد من عرب ومتعربين.

‌- استناد الأنظمة إلى الحكم العسكري الدكتاتوري المستبد، الذي نكَّل بالجميع عرباً وكرداً وسنة وشيعة وغيرهم.

– ركوب العديد من المنتمين للأقليات موجات القومية العربية في بلدانها، وسيطرتها على مقاليد الأمور، مع رفض زعمائها المستمر لأي حكم ديمقراطي حرّ معبر عن إرادة الشعب، لأن ذلك قد يعني خسارة هؤلاء الزعماء أو الطوائف التي يدّعون تمثيلها لمقاليد الأمور، مع التخويف المستمر لهذه الطوائف من عواقب استلام أبناء فئة أخرى للحكم.

3- الدعم الصهيوني والغربي لمشاريع التفتيت والتقسيم، وامتلاكه وسائل تحريض إعلامي ودعائي وسياسي هائلة، وتوفيره حاضنة وأدوات دعم “غير بريئة” بحجة حماية الأقليات، والسعي المستمر للضرب على أوتار حساسة كمخاطر التهميش والذوبان والاضطهاد، وإثارة الرعب من برامج الأسلمة أو التعريب.

4- النجاح الغربي الذي تحقق بدرجة أو بأخرى في العراق في تأجيج المشاعر الطائفية، وفشل الأحزاب الحاكمة -رغم استناد معظمها إلى الأيدولوجية الإسلامية- في استيعاب مكونات الشعب العراقي، وإيغال بعضها في سياسات طائفية مقيتة كرست حالة التمزق الاجتماعي بدلاً من علاجه.

5- تفوق المحدّد الطائفي والعرقي على الهوية الوطنية أو العربية أو الإسلامية الجامعة في عدد من الأماكن المرشحة للاشتعال. ففي شمال العراق برز الانتماء الكردي متفوقاً على المُكوِّن العراقي أو الإسلامي العام أو السني الخاص، حيث يجري التصنيف المتداول للأسف في العراق على أساس شيعي-سني وعربي-كردي، وكأن الأكراد ليسوا سُنَّة، أو كأن الشيعة ليسوا عرباً، وكأن الجميع لا يجمعهم الإسلام العظيم، ولا العراق العريق.

وفي لبنان يبرز البعد الطائفي كمحدد أساسي للسياسة والحكم رغم انتماء معظم الأحزاب الحاكمة لاتجاهات علمانية وليبرالية (عدا الطائفة الشيعية). ونرى التقوقع الطائفي الذي يأخذ غلافاً سياسياً أيضاً في سوريا والبحرين والكويت.

6- تظهر الأحداث عدم صعوبة جرّ الناس إلى المستنقع الطائفي، وخصوصاً عند ظهور جهات متطرفة من كلّ فئة، واللجوء إلى العنف، والقتل على الهوية، واستهداف الرموز والأماكن الدينية، كما حدث في العراق وباكستان وسوريا ولبنان، وهو ما يمكن أن تنفذ منه جهات استخباراتية خارجية لتأجيج التوترات وتفجير الأوضاع، لتتدحرج الأمور بعد ذلك كحجارة الدومينو التي يصعب وقفها.

7- حالة اللااستقرار وضعف الأنظمة المركزية ودخول بعضها في مراحل انتقالية، تُغري بعض القوى الخارجية بالدفع باتجاه مشاريع التفتيت، خصوصاً لتلك التيارات والقوى المتطلعة إلى الانفصال، أو تلك التي يجري تخويفها من البديل الإسلامي القادم، أو تلك التي يجري إغراؤها بأن فرصتها التاريخية قد حانت.

ومن جهة أخرى، فإن هناك عدداً من العناصر المانعة أو المثبطة لأي عملية تفتيت محتملة:

1- عملية التفتيت والانقسام الطائفي والعرقي ستبقى في إطار رغبات وأماني القوى الصهيونية والغربية، ما لم تجد لها وكلاء محليين وبيئة طائفية أو عرقية داعمة.

وفي معظم الأحوال، فإن مطالب الانفصال لم تحصل على حالات إجماع في أوساط الجماعات الطائفية والعرقية، وما زال الكثيرون من أبنائها يرفضون أن يشكلوا حالات منعزلة ومنفصلة عن بيئتها العربية والإسلامية، ويرفضون أن يكونوا جزءاً من كيانات هزيلة لا تستطيع الوقوف على أقدامها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا إذا وضعت نفسها تحت الهيمنة أو الحماية الغربية والصهيونية.

إن الكثير من هؤلاء يرون ضرورة أن يكونوا شركاء فاعلين في المشروع النهضوي للأمة، بدلاً من أن يدخلوا في حالة عداء مع باقي مكونات شعوب المنطقة.

2- الإطار الشعبي الأوسع في منطقتنا العربية والإسلامية ما زال يتطلع إلى العودة إلى نموذجه الحضاري الوحدوي المنفتح، وينفر من مشاريع التفتيت والانغلاق الطائفي والعرقي.

3- التيارات الإسلامية والوطنية والعروبية الصاعدة في أجواء الانتفاضات والثورات، تيارات تتميز بالوسطية والاعتدال، وبالدعوة إلى استيعاب مكونات الأمة وطوائفها، وإطلاق الحريات. وهي تيارات ترفض الانغلاق والتقوقع والتفتيت، وتسعى لتقديم رؤى وحدوية ونهضوية تمزج بين المكونات العربية والإسلامية للأمة.

4- أي طائفة أو فئة تسعى للانفصال ستلقى صعوبات عملية جمة، ففضلاً عن المعارضة التي ستجدها في أوساطها وفي محيطها العربي والإسلامي، تجد نفسها في حالة تداخل ديمغرافي وجغرافي مع محيطها، بحيث تصبح كيانات محاصرة من كل الجهات، أو أنها لا تملك مقومات الاستقلال، أو أن حدودها لا تغطي كافة أتباعها، أو أن هناك أعدادا كبيرة ممن يقيم في كياناتها هم من أتباع طوائف وقوميات أخرى. وإذا ما ركبت أي جهة رأسها، فقد يكون هذا إيذاناً بحالة لا نهائية من نزف الدماء، يكون الخاسر الأول فيها الجهة نفسها.

5- إذا كان ثمة من يرى من القوى الصهيونية والغربية مصلحة في عملية التفتيت الطائفي والعرقي، فإن هناك تيارات أساسية في الحكم -خصوصاً في العالم الغربي- ترى في ذلك مخاطر كبيرة محتملة، إذ إن عملية التفتيت ستؤدي غالباً إلى حالة من الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها، وهو ما قد يؤدي إلى صعود القوى الإسلامية “المتطرفة” -حسب رأيها- إلى سدة الحكم، ومن ثم إلى انكشاف الحدود مع الكيان الإسرائيلي، وانطلاق عمليات المقاومة منها ضد الاحتلال.

كما أن انهيار بعض الأنظمة وتفتتها قد يؤدي إلى انهيار أنظمة أخرى حليفة للغرب وحلول أنظمة جديدة مكانها، ستكون على الأغلب ذات اتجاهات إسلامية ووطنية قوية. كما أن فكرة سقوط الأنظمة القُطرية وإعادة تشكل الجغرافيا والحدود لا تخدم دائماً عملية التفتيت، بل قد تسهّل الطريق أمام قوى التغيير الصاعدة في مشاريعها النهضوية والوحدوية.

6- في العالم العربي، يمكن للهويتين الإسلامية والعربية أن تكونا إطاراً جامعاً من خلال التركيز على المشترك الذي يجمع الناس، إذ رغم التعدد الطائفي مثلاً في لبنان (27-30% سنة، و27-30% شيعة، 23% موارنة، 7% دروز، وأرثوذكس، وأرمن، وعلويون…) فإن أكثر من 90% من اللبنانيين من أصول عربية.

وفي سوريا يجمع كل من الانتماء العربي والإسلامي أكثر من 90% من السكان، وفي العراق يجمع الانتماء الإسلامي نحو 96%، بينما يجمع الانتماء العربي أكثر من 75%. وكذلك في المغرب العربي المسلم، فبغض النظر عن الأصول العربية والأمازيغية المتداخلة ونِسبها، فإن الإسلام يجمع نحو 99% من السكان.

كما تجمع العروبة والإسلام الأغلبية الساحقة لأبناء بلدان الخليج ومصر.. فإذا ما قُدِّم الإسلام في إطاره الحضاري الوسطي المعتدل، وإذا ما قُدِّمت العروبة بمحتواها اللغوي والثقافي المنفتح، فإن كثيراً من مخاطر التفتيت يمكن تجاوزها.

إن إمكانية مواجهة مشاريع التفتيت والتقسيم عالية، خصوصاً إذا ما تم علاج موضوع الأقليات على أسس من العدالة والشراكة والحكمة والحزم، وإن الشعوب والأنظمة السياسية في المنطقة مدعوة إلى القيام ببرنامج عمل فاعل لتفويت الفرصة على أية مشاريع تفتيت وتقسيم.

ويمكن للدول الكبيرة في المنطقة وخصوصاً مصر وتركيا والسعودية وإيران، أن يكون لها دور أساسي في إنجاح هذا البرنامج الذي يجب أن يستند إلى أربع نقاط:

1- توفير شبكة أمان للعملية التنموية والنهوض الحضاري في المنطقة، والتركيز على المصالح المشتركة والهوية الجامعة للأمة.

2- توفير شبكة أمان لمنع أية توترات أو انقسامات طائفية أو عرقية في المنطقة، على قواعد:

– صيانة الحريات والحقوق الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية للجميع.
– تعبير الأنظمة السياسية عن الإرادة الحرة لشعوبها.
– منع أي عمليات تحريض أو استحواذ طائفي، وأية برامج تستهدف إلغاء أو تهميش طائفة أو قومية معينة.

3- قطع الطريق على أي تدخل غربي أو صهيوني في المنطقة، وعدم الاستعانة بالأجنبي أو التحالف معه في إدارة أية نزاعات، وحل المشاكل المتعلقة بها في إطار عربي إسلامي يُراعي مصالح شعوب المنطقة وأولوياتها.

4- توجيه طاقات الأمة تجاه خدمة القضايا الكبرى وخصوصاً قضية فلسطين، واستنفاد الجهود في تحرير الأرض والارتقاء بالإنسان بدلاً من استنزاف الطاقات والإمكانات في صراعات طائفية وعرقية، يخسر فيها الجميع ولا يربح منها إلا العدو.

المصدر: الجزيرة نت، الدوحة، 10/2/2013