مدة القراءة: 7 دقائق

التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2008 – الفصل الأول: الوضع الفلسطيني الداخلي: البوصلة المفقودة والشرعيات المنقوصة

النص المعروض هو للصفحات الخمس الأولى من الفصل الأول … للاطلاع على التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2008 كاملاً اضغط هنا    (338 صفحة، 5.02 MB)

مقدمة:

اتسم الوضع الفلسطيني الداخلي في سنة 2008 باستمرار “شقاء الأشقاء”، وبتكريس الانقسام بين فتح وحماس وبين حكومتي رام الله وغزة، ولم تنجح محاولات ترتيب البيت الفلسطيني، ولا بيت حركة فتح نفسها.

“الشرعيات” الفلسطينية مثلت نماذج شرعية منقوصة، بالنسبة إلى بعضها بعضاً وبالنسبة إلى العالم الخارجي، سواء أكانت شرعية حكومة الطوارئ في رام الله، أم شرعية حكومة إسماعيل هنية المقالة في غزة. أما منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) فإن مؤسساتها التنفيذية والتشريعية، بما في ذلك لجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي ومجلسها الوطني تعاني من انتهاء مددها القانونية منذ نحو عشر سنوات، ومن أنها لم تعد تعكس حقيقة الواقع الفلسطيني، ولا القوى الفلسطينية الموجودة على الأرض.

حالة “التيه” و”ضياع البوصلة” التي عانى منها الوضع الداخلي الفلسطيني طوال سنة 2008 ألقت بظلالها على الحوار بين فتح وحماس. ولم يحدث اختراق في مسار التسوية، كما لم يحدث اختراق في مسار المقاومة. غير أن حالة “التيه” لم تكن بالضرورة فقداناً للرؤية، كما أن أزمة المشروع الوطني لم تكن بالضرورة مجرد صراع على السلطة. إذ إن الأمر يتعدى ذلك إلى عملية تدافع لم تُحسم بعد بين نهجين مختلفين في طريقة تناول المشروع الوطني، وتحقيق الأهداف الوطنية في التحرير والاستقلال؛ كما لم يتمكن النهجان حتى الآن من التوافق على قضايا جوهرية مرتبطة بمساري التسوية والمقاومة، وبالاعتراف بـ”إسرائيل” و”حقها” في الأرض المحتلة سنة 1948.

هذا فضلاً عن أنه لم يتمكن الطرفان حتى الآن من تحقيق بناء ثقة متبادل يمكّن من استيعاب الجميع بشكل عادل وفاعل في منظمة التحرير، وفي مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني. ولذلك، تواصلت أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، بينما كان شعب فلسطين يدفع فواتير الاحتلال والحصار ومصادرة الأراضي وتهويد المقدسات وتوسيع المستوطنات. غير أن الصمود البطولي للشعب وللمقاومة في الحرب على قطاع غزة (27/12/2008-18/1/2009)، والتفاعل الكبير معها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، وإفشال الأهداف الإسرائيلية؛ أعطى دفعة أمل لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وفق أجندة وطنية فلسطينية.

أولاً: حكومة تسيير الأعمال في رام الله:

تابعت حكومة تسيير الأعمال برئاسة سلام فياض عملها في إدارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بدعم من الرئيس عباس، وبغطاء ضمني (وربما على مضض) من حركة فتح، مستفيدة من الاعتراف العربي والدولي بها. وتناغمت حكومة فياض مع اتفاقات أوسلو، وتساوقت مع خريطة الطريق، وأعادت التنسيق الأمني مع “إسرائيل”، وفتحت للجنرال الأمريكي كيث دايتون Keith Dayton المجال لما يسمى “تطوير” و”بناء” أجهزتها الأمنية، بما يتوافق واستحقاقات خريطة الطريق ومتطلبات الدور الأمني لإدارة الحكم الذاتي.

ورأت حكومة فياض في ذلك سياسة واقعية تقتضيها طبيعة المرحلة، وضعف الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وعدم قدرة خط المقاومة عملياً، في الظروف الراهنة، من تحقيق الأهداف الوطنية، مع الإشارة إلى أن صمود المقاومة في وجه العدوان الإسرائيلي على غزة، وإفشاله، هزّ كثيراً من هذه القناعات. ولذلك، فإن حكومة فياض سعت للإيفاء بالتزاماتها وفق خريطة الطريق وشروط الرباعية الدولية لدفع الطرف الإسرائيلي للإيفاء بالتزاماته، وتحصيل الحقوق الفلسطينية أو جزء منها من خلال مسار المفاوضات. وركزت توجهات حكومة فياض على تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين، باعتبار أن التنمية الاقتصادية التي تعتمدها “ذات فلسفة ومنطلق سياسي مقاوم، يقوم على أساس تثبيت المواطن على أرضه” .

غير أن تلك “الفلسفة” التي “كفَّت” يد الفلسطينيين، لم تحصل على أدنى تعهد من الإسرائيليين بكفّ أيديهم عن الاستيطان ومصادرة الأراضي والتهويد والاعتقالات والاغتيالات. وانشغلت حكومة فياض وأجهزتها الأمنية بملاحقة عناصر حماس والمقاومة، وبتجريدها من السلاح، وباجتثاث البنية التحتية لها، بما في ذلك إغلاق جمعياتها ومؤسساتها الخيرية. إن حكومة فياض بحسب النظام الديموقراطي الفلسطيني، تدين بشرعية تكليفها إلى الرئاسة الفلسطينية، غير أنها لم تحصل على شرعية اعتمادها واستمرارها من المجلس التشريعي الفلسطيني الذي تقوده حماس. وكان من المثير للاستغراب أن تقوم هذه الحكومة التي يفترض أن تمثل إرادة الشعب، بمحاربة الجهة التي تعبر عن إرادة غالبيته والمخولة بتمثيله! .

وهكذا، فإنه من الناحية العملية ظلّ المحدد الأساس والفاعل الأكبر في بقاء حكومة فياض واستمرارها، هو حرمان المجلس التشريعي من أداء مهامه، وتعطيله وبقاء غالبية أعضائه من أبناء الضفة الغربية (وتحديداً من كتلة الإصلاح والتغيير المدعومة من حماس) في السجون الإسرائيلية. وبعبارة أخرى فإن المحدِّد الإسرائيلي – الأمريكي كان عاملاً فاعلاً في صناعة القرار الفلسطيني، من خلال فرض مسارات معينة تخدم طرفاً دون آخر.

قام الرئيس عباس وحكومة فياض بإعادة صياغة القوانين الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، مستفيدين من تغييب السلطة التشريعية المعارضةُ لإجراءاتهم. وخلال الفترة من حزيران/ يونيو 2007 وحتى حزيران/ يونيو 2008، أصدر عباس وحكومة رام الله 406 مراسيم غطت تقريباً كل جوانب الحياة والنظام السياسي والقانوني . وقد فتح هذا المجال لاتهام الرئاسة وحكومة تسيير الأعمال برئاسة فياض بأنهم في الوقت الذي يتهمون فيه حماس بالانقلاب في غزة والخروج على الشرعية، فإنهم أنفسهم ينقلبون على الشرعية التشريعية، ويقومون بالتعاون مع الاحتلال بمحاربة ممثليها واجتثاثهم.

حكومة فياض تناغمت مع الرئيس عباس في شكل التعامل مع قطاع غزة وحكومة إسماعيل هنية المقالة فيها. وقال فياض إن إعادة سيطرة السلطة في رام الله على قطاع غزة هو “هدف رئيسي للسياسة، ونسعى إليه بشدة على الدوام”. ولذلك دعا فياض إلى نشر قوات أمن عربية بصورة مؤقتة في قطاع غزة من أجل المساعدة على توحيده مع الضفة . وكان هذا يعني توريط البلاد العربية بشكل مباشر في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولمصلحة طرف ضدّ آخر، وبعملية غير مضمونة النتائج، خصوصاً مع رفض حماس لهكذا تدخل، وبعد فشل إجراءات السلطة في رام الله وفشل كافة وسائل العدوان والحصار الإسرائيلي. وكان رأي حماس أنه إذا كان ثمة حاجة لتدخل عربي فليذهب إلى الضفة حيث الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وحيث إن حاجة الفلسطينيين الحقيقية هي لحمايتهم من العدوان الإسرائيلي، وليس من رجال المقاومة.

أثارت فكرة إعلان قطاع غزة “إقليماً متمرداً” لغطاً كبيراً في الساحة الفلسطينية. وكشف عزام الأحمد، رئيس كتلة حركة فتح البرلمانية، في 28/7/2008 أن مؤسسات السلطة الفلسطينية تدرس بجدية منذ بضعة أسابيع، اقتراحاً يقضي باعتبار قطاع غزة إقليماً متمرداً يخضع لسيطرة “عصابة عسكرية نفذت عصياناً مسلحاً”. وتابع القول “إن من حق الحكومات الشرعية عندما يكون هناك عصيان مسلح في أحد أقاليمها أن تستخدم القوة المسلحة لإنهاء العصيان، وطلب المساعدة ممن تشاء”، إلا أنه استدرك قائلاً “إننا سنكون حريصين على عدم الانجرار إلى استخدام السلاح لإنهاء حالة التمرد” . غير أن أحمد عبد الرحمن، الناطق باسم حركة فتح ومستشار عباس الإعلامي، نفى بشدة وجود أي توجه لدى الرئيس أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لإعلان قطاع غزة إقليماً متمرداً، وأكد أنهما ما زالا يعتمدان الحوار سبيلاً وحيداً لإنهاء الانقسام وحل الأزمة . ومع ذلك فإن أبا مازن وفق ما نقلت عنه جريدة معاريف Maariv الإسرائيلية في 17/12/2008، أكد أن قطاع غزة هو “إقليم متمرد” سيطرت عليه حماس بالقوة .

وقد دعت حكومة فياض لتكثيف الجهود لإنجاح الحوار الوطني وتشكيل حكومة انتقالية تمهيداً لانتخابات رئاسية وتشريعية . وقد استعدت حكومة فياض لإدارة معابر قطاع غزة بما يكفل رفع الحصار، ولكنها رفضت وجود إدارة مشتركة مع حكومة هنية؛ وهو ما كانت حكومة هنية قد وافقت عليه .

ثانياً: الحكومة المقالة في غزة

بدأت السنة بداية ساخنة مع حكومة هنية وحماس وانتهت نهاية ملتهبة. فتداخلت في مطلعها الاشتباكات مع أنصار فتح، مع تصاعد الحصار الإسرائيلي الخانق في القطاع، مما دفع إلى اختراق الحدود مع مصر، وانسياب مئات الآلاف من أبناء القطاع عبر الحدود لشراء احتياجاتهم الضرورية، وعودتهم خلال أيام قليلة. وانتهت السنة بالعدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة. وبين بداية السنة ونهايتها وجدت حكومة هنية نفسها تسبح عكس التيار في بيئة عربية منقسمة على نفسها، وبيئة دولية معادية أو مخاصمة أو لا مبالية.

كان نجاح حكومة هنية يتمثل في قدرتها على البقاء في ظروف تكاد تكون مستحيلة. لكن القدرة على البقاء دفعت فاتورتها حصاراً خانقاً لأكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، ودماراً في البنية التحتية، وانشغالاً بتوفير الوقود ولقمة الخبز وحبة الدواء. غير أنها لم تكن تملك خيارات كثيرة، فقد كان سقوطها يعني لها العودة للفلتان الأمني، واجتثاث حماس وبرنامج المقاومة من القطاع، وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في التغيير، وعودة برامج أوسلو وخريطة الطريق وأنابوليس بكل سلبياتها ومفاسدها واستحقاقاتها. الذين كانوا يطالبون حكومة هنية “بالنزول عن الشجرة” لم يوفروا لها سلّماً مناسباً، لأنهم كانوا يرغبون في أن تقع على رأسها أو تأتي وهي صاغرة، والشروط التي كانت توضع لإنشاء حكومة فلسطينية جديدة لم يكن يترافق معها إجراءات بناء ثقة، ولا ضمانات شراكة حقيقية في إدارة البيت الفلسطيني وصناعة قراره.

عاشت حكومة هنية طوال سنة 2008 بين خيارين هما؛ إما الموت البطيء المتمثل بالحصار وإفشال التجربة وتشويهها، وإما خيار السقوط والتهميش والاجتثاث المتمثل بالعودة لخيارات أوسلو وخريطة الطريق وأنابوليس. وبين الاستعداد العسكري لمواجهة العدوان الإسرائيلي المتوقع، وبين ثقل المسؤولية إزاء حياة الناس وتوفير حياة كريمة لهم، سلكت حكومة هنية وقيادة حماس دهاليز سنة 2008. ولم تكن حكومة هنية وحماس ترى في تنازلها عن إدارة القطاع مجرد عملية سياسية اعتيادية،  فقد ارتأت في الحصار الاقتصادي والسياسي وسيلة لكسر الإرادة والتركيع، وفرض الشروط الإسرائيلية والأمريكية على الشعب الفلسطيني.

تمكنت حكومة هنية من إحكام سيطرتها على القطاع طوال سنة 2008، وفشلت الاجتياحات والحصار والفلتان الأمني في إسقاطها. وحافظت على شعبية لا بأس بها بين أبناء القطاع في وجه معارضة قوية، خصوصاً من حركة فتح التي أعادت ترتيب صفوفها. ومثلت الأنفاق على الحدود المصرية، التي زادت من 24 نفقاً إلى نحو 500 نفق حلاً جزئياً، لتوفير بعض الاحتياجات الضرورية. وتابعت الحكومة توفير غطاء لحركات المقاومة، واستمر نقل و”تهريب” الأسلحة إلى القطاع وتصنيع ما يمكن تصنيعه. غير أن المربع الذي وجدت الحكومة نفسها فيه جعل فعل حماس وفعل تيار المقاومة فعلاً دفاعياً في جوهره، كما أن الأداء الحكومي ارتبط بضبط الأمن وتوفير الاحتياجات الضرورية ومكافحة الفساد، دون أن تتاح له ظروف القيام بأية عملية تنموية أو تطوير اقتصادي، فضلاً عن تأجيل العديد من الجوانب المرتبطة ببرامج الأسلمة، وتطبيق الشريعة التي يتبناها فكر حماس.

أوجدت التعليمات التي أصدرتها الرئاسة الفلسطينية وحكومة فياض بشأن موظفي السلطة في قطاع غزة وضعاً شاذاً، إذ أمرت الموظفين بعدم الذهاب إلى العمل، باستثناء بعض الوزارات والمؤسسات التي تمس حياة المواطنين بصورة مباشرة، مثل وزارات الصحة والتعليم والمحافظات والجهاز المركزي للإحصاء. وقد أدى ذلك إلى أن السلطة في رام الله أخذت تدفع الرواتب لمن يجلس في بيته، وتوقف الرواتب عمن يذهب للعمل إلا ضمن الاستثناءات التي حددتها. وحسب إحصائية للمجلس الاقتصادي الفلسطيني (بكدار)، الذي يتبع السلطة في رام الله، فإن عدد موظفي قطاع غزة يبلغ 78 ألفاً منهم 31,350 عسكرياً و45,650 مدنياً، وأن عدد الذين يذهبون إلى أعمالهم من بين هؤلاء هو 17,750 موظفاً بنسبة 22.7%، معظمهم في وزارة التربية (12,300 موظفاً)، ووزارة الصحة (5,000 موظف). وتمثل الأجور والرواتب المدفوعة للموظفين على رؤوس أعمالهم نسبة 14.2% من إجمالي الأجور والرواتب التي تدفع لموظفي السلطة في قطاع غزة، أي أن نحو 86% من إجمالي الرواتب التي تحولها السلطة في رام الله للجالسين في بيوتهم، ممن التزموا أو اضطروا للالتزام بقراراتها، وهو ما يساوي 386 مليون دولار يتمّ دفعها دون أي مردود إنتاجي أو خدماتي .

الأخبار وتقارير مؤسسات حقوق الإنسان أشارت إلى أنه يوجد كثير من الموظفين لم يسلموا من قطع رواتبهم على خلفيات سياسية، بما في ذلك الكثير من موظفي وزارتي الصحة والتعليم. ولم تنفِ السلطة قطع الرواتب عن حالات معينة لكونها “تعمل مع جهات مغرضة، ولا تلتزم بالشرعية الفلسطينية”، كما صرح أمين عام مجلس الوزراء في حكومة رام الله سعدي الكرنز. غير أن التقارير أشارت لوجود حالات من قطع الرواتب، بناء على تقارير كيدية وكاذبة ترسل إلى رام الله . وحسب تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان نشر في نيسان/ أبريل 2008، فقد قطعت رواتب 3,615 موظفاً، منهم 1,549 من وزارة الصحة، و693 من وزارة التربية . أما رئيس نقابة الموظفين العموميين علاء الدين البطة فقد تحدث عن قطع رواتب ألفي موظف من وزارة الصحة، وثلاثة آلاف من وزارة التربية، وألفين من الوزارات والهيئات الأخرى .

النص المعروض هو للصفحات الخمس الأولى من الفصل الأول … للاطلاع على التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2008 كاملاً اضغط هنا    (338 صفحة، 5.02 MB)