مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

بينما تحتفل حركة المقاومة الإسلامية حماس هذه الأيام بالذكرى الرابعة والعشرين لانطلاقتها، فإنها تجد نفسها، وقد أصبحت أحد جناحي المعادلة الفلسطينية، أمام استحقاقات كبيرة وربما مفترقات طرق، تحتاج -بعد عون الله سبحانه- ربما إلى قرارات صعبة وأثمان غالية.

حماس الآن حركة أكثر نضجاً وأكثر خبرة وأكثر قوة، وأكثر تنظيماً، وأكثر انغراساً في المجتمع الفلسطيني، ولها دائرة علاقاتها العربية والإسلامية والدولية. ولكنها أيضاً أكثر أعباء، وأكثر أعداء وأكثر خصوماً وأكثر ناقدين؛ وقد يتوقع منها الناس ما لا تستطيعه، وقد تطرح عليها أسئلة لا تسهل عليها إجابتها.

مزايا ثمانية

تميزت حماس بثماني مزايا قلما تجتمع في تنظيم أو حركة فلسطينية: أولاها خطابها الإسلامي المعتدل الذي يلامس عقيدة الناس وانتماءهم الثقافي والحضاري. وثانيها ديناميتها العالية التي مكنتها دائماً من العمل والتجدُّد في الظروف الصعبة، وتحقيق التوريث القيادي وسرعة استعادة قوتها وحيويتها بعد الضربات القاسية.

وثالثها بناؤها المؤسسي الشوري الذي تمكنت من خلاله من الاحتفاظ بتماسكها وقوتها، والاستمرار في تجديد قياداتها وانتخابات مؤسساتها الشورية مرة كل أربع سنوات مهما كانت ظروفها. ورابعها طبيعتها الشاملة التي تهتم بجميع الجوانب السياسية والاجتماعية والخيرية والجهادية والتربوية بحيث نجحت في التواصل مع الإنسان الفلسطيني في كافة أحواله.

وخامسها أداؤها الجهادي المتميز الذي تمكنت من خلاله من ريادة العمل المقاوم خصوصاً منذ سنة 1993. وسادسها شعبيتها الفلسطينية الواسعة في الداخل والخارج والتي حافظت عليها في مختلف الظروف. وسابعها نظافة اليد والبعد عن الفساد بشكل عام وهو ما مكنها من تقديم نماذج قيادية ورموز تحظى بشعبية واحترام كبيرين. وثامنها امتدادات حماس العربية والإسلامية حيث تلقى شعبية كبيرة في أوساط الجماهير العربية والإسلامية، والتي تجد حماس فيها داعماً مادياً ومعنوياً كبيراً. كما استفادت حماس من كونها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي تحظى بمكانة قوية في عالمنا العربي.

وتواجه حماس في ذكرى انطلاقتها الرابعة والعشرين عدداً من الاستحقاقات والاختيارات الصعبة التي لا يكفي فيها حسن النية والشجاعة، وإنما تحتاج مزيداً من القراءات الناقدة للارتقاء -رؤيةً وتخطيطاً وتنفيذاً وتضحية- إلى ما تستحقه هذه المرحلة. وسيحاول هذا المقال أن يضع اليد على أربعة من هذه الاستحقاقات:

الإصلاح والتغيير

الاستحقاق الأول مرتبط بإشكالية تنفيذ حماس لبرنامجها في الإصلاح والتغيير خصوصاً تحت الاحتلال في الضفة الغربية. فقد نجحت حماس في فرض شروطها في اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تم توقيعه في القاهرة في 3 مايو/أيار 2011، وسيؤدي ذلك إلى تشكيل حكومة وفاق وطني، تمهد الظروف لانتخابات عامة في الضفة والقطاع. 

ولكن كيف ترى حماس إمكانية تحقيق الإصلاح والتغيير؟! إن رفع حماس لهذا الشعار أمر جميل، ولكن ثبت أن عملية الإصلاح أمر يكاد يكون مستحيلاً تحت الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً من خلال حركة مقاومة كحماس. وما دام الاحتلال قائماً فهو قادر على إغلاق الحدود وطرق المواصلات، ومنع الاستيراد والتصدير، ومنع حركة البضائع والأشخاص، ومصادرة الأموال ومنع تحويلها، وتدمير البنى التحتية الصناعية والتعليمية والصحية والزراعية.

وإذا لم يكن من يدير الأمور بالضفة مستعداً لـ”الرقص على أنغام الاحتلال”، فسيكون من السهل حصاره وإفشاله وتعطيله، وإغلاق مؤسساته واعتقال رموزه وقياداته؛ وهذا ما حدث خلال سنتي 2006-2007.

حماس ستجد نفسها تتنافس مع فتح على سلطة في حالة “موت سريري” وبرسم الانهيار في أي لحظة… والفوز فيها ليس غنيمة على أي حال؛ وإنما أقرب إلى هدية مسمومة. وقد تجد حماس نفسها في الانتخابات القادمة أمام وصفة جاهزة للفشل، وأمام لعبة خاسرة في كل الأحوال؛ فإذا ما فازت فإن استحقاق الحصار والإفشال والإسقاط ينتظرها، وإذا ما خسرت فستفقد شرعيتها الشعبية التي كسبتها سنة 2006، وبالتالي ستكون عرضة لنوع من “الذبح الحلال” على يد السلطة الجديدة التي ستستقوي بسلاح الشرعية الدستورية والشعبية.

وقد لا تغامر “إسرائيل” وأميركا بالموافقة على مشاركة حماس في الانتخابات ما لم تضمن خسارتها… كما قد لا يُقدِم العديدون، حتى من المتعاطفين مع حماس، على انتخابها لمعرفتهم بعدم قدرتها على تنفيذ برنامجها.

برنامج المقاومة

التحدي الثاني مرتبط بإشكالية الجمع بين السلطة والمقاومة. فالدخول في السلطة وإدارة الحياة اليومية للناس، وتنفيذ مشاريع بنى تحتية وتعليمية واقتصادية وزراعية يقتضي تهدئة وهدوءاً، وانسياباً للمال وحركة المواصلات؛ وهو عملياً يقتضي نوعاً من “التعايش” مع واقع الاحتلال، وتأخير أولوية مواجهته والصراع معه وإجباره على الرحيل.

وللتوضيح فإن حماس التي أعلنت انتهاء الهدنة في نهاية 2005، عادت لتمدد الهدنة من طرفها فور فوزها في الانتخابات التشريعية، ومع أن ذلك لم يشفع لها في تجنب الحصار والخروقات الإسرائيلية؛ إلا أنها عندما قررت الرد بقوة على مذبحة الشاطئ واستشهاد عائلة هدى غالية، فنفذت عملية الوهم المتبدد وأسرت جلعاد شاليط؛ قامت “إسرائيل” بردٍّ أدى إلى تعطيل عمل المجلس التشريعي في الضفة من خلال اعتقال أعضاء حماس فيه. كما اعتقلت عدداً من وزراء حكومة حماس، بالإضافة إلى تنفيذ “إسرائيل” لعمليتي “أمطار الصيف” و”غيوم الخريف” ضد قطاع غزة اللتين أدتا إلى استشهاد 505 فلسطينيين وجرح 2205 آخرين.

وعندما أصرّت حكومة حماس على عدم الاعتراف بـ”إسرائيل” وعدم نبذ خط المقاومة وعدم الالتزام باستحقاقات أوسلو، كان نصيبها المعاناة من حصار إسرائيلي وعربي ودولي، وإغلاق أبواب الدعم المالي للسلطة، فضلاً عن عدم تمكينها من حصولها على مستحقات السلطة من عائدات الضرائب، وعدم السماح بالتحويلات المالية إليها.

وبالرغم من الصمود البطولي لحماس في قطاع غزة في وجه الحصار والاعتداءات الإسرائيلية، إلا أن حماس وجدت نفسها تدريجياً تنتقل من مربع المبادرة الهجومية التي تهدد بالصواريخ نحو مليون إسرائيلي في محيط قطاع غزة… إلى مربع الدفاع عن النفس.

وقبل حرب الرصاص المصبوب (27 ديسمبر/كانون الأول 2008 – 18 يناير/كانون الثاني 2009) كانت حماس ترفض التهدئة وتتابع إطلاق عشرات الصواريخ يومياً، وتشترط قبل ذلك رفع الحصار عن القطاع، وهذا ما حدث عند انتهاء التهدئة في 19 ديسمبر/كانون الأول 2008 والأيام السبعة التي تلته.

غير أنها بالرغم من إنجازها الرائع في التصدي للعدوان، إلا أنها اضطرت إلى التحول غير المعلن إلى معادلة التهدئة مقابل التهدئة. ومع أن غزة بقيت معقلاً للمقاومة إلا أنها وجدت نفسها في مربع حفظ النفس بغض النظر عن المبررات.

وهكذا فإذا كانت حماس تُصرُّ على استمرار الالتزام بخطها المقاوم فليس أمامها إلا أن تسعى لتغيير الشروط الأساسية التي قامت عليها السلطة الفلسطينية، وإجبار الإسرائيليين على احترام خيارات الشعب الفلسطيني؛ وهو بديل لا يبدو واقعياً في ظروفنا الحالية. أما البديل الثاني فهو أن تقوم بتغيير الوظائف التي تقوم بها السلطة، لتحولها من “سلطة خدمات” إلى “سلطة مقاومة”، وهو ما يعني سقوط السلطة بشكلها الحالي، وعودة الإسرائيليين لتولي أعباء الحياة اليومية للناس، في الوقت الذي تنشغل فيه الفصائل الفلسطينية بالعمل المقاوم والعمل السياسي ودعم صمود الشعب الفلسطيني؛ وهو بديل يستحق الاهتمام، ولكنه يصعب تنفيذه دون توافق وطني فلسطيني، ودون اقتناع فتح بعدم جدوى الاستمرار في مسار التسوية.

المصالحة الفلسطينية

الاستحقاق الثالث مرتبط بالمصالحة الفلسطينية، فبالرغم من توقيع الاتفاق على الورق فإن العلاقة بين حماس وفتح لم تتأسس بعد على أسس متينة، وهناك قدر كبير من الشك والمخاوف وعدم الثقة، وما زالت هناك فروق حقيقية في الطرح الأيديولوجي بين طرح عقائدي إسلامي يرفض التنازل عن أي جزء من فلسطين ويرفض الاعتراف بـ”إسرائيل”، وبين طرح براغماتي علماني يكتفي بـ23% من أرضها ومستعد للاعتراف بـ”إسرائيل”.

وما زالت هناك جهة ترفض شروط الرباعية الدولية لفك الحصار، وجهة توافق عليها. وما زالت هناك جهة تقدِّم مسار المقاومة المسلحة في العمل الوطني الفلسطيني، وجهة أخرى تُقدِّم مسار التسوية والمفاوضات.

وبالتالي ما زال هناك اختلاف على إدارة المشروع الوطني وعلى تحديد أولوياته. وما زال أبو مازن يحكم “إيقاع” عملية المصالحة، إذ تمكن من تجميد تنفيذها منذ أكثر من سبعة أشهر ( مايو/أيار 2011) من خلال الإصرار على ترشيح فياض لرئاسة الحكومة، وتمكن من تحقيق توظيف سياسي للمصالحة لتقديم ملف دولة فلسطين للأمم المتحدة.

ولم يعد أبو مازن إلى النقاش الجاد لمتابعة ملف المصالحة إلا بعد فشل الطلب الفلسطيني لإعلان الدولة. ومع ذلك فما زال أبو مازن يؤكد على الالتزام بمسار التسوية، وهو يعلم أن الاشتراطات الإسرائيلية الأميركية ستقف في وجه تشكيل حكومة وحدة وطنية، وفي وجه إطلاق الحريات في الضفة الغربية، وفي وجه إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية على أسس وطنية تقبل بها حماس وفصائل المقاومة، وفي وجه فكّ الحصار عن حكومة تديرها أو تشارك فيها حماس.

إن المصالحة الفلسطينية هي في جوهرها أولوية وطنية، ولكن توظيفها التكتيكي، وافتقادها لقوة الدفع، وعدم وجود آلية مُلزمة لتنفيذها، وبقاء القدرة على تحريكها أو تعطيلها بيد أبي مازن… سيعطيه قدرة أعلى على المناورة والمبادرة، مدعوماً برئاسته للسلطة ورئاسته لمنظمة التحرير وبالاعتراف العربي والدولي؛ وسيضع ذلك حماس تحت ضغوط الانتظار وتقلُّب الظروف. وما لم تفكر حماس بآلية فاعلة لدفع مسار المصالحة، فإنها ستجد نفسها أمام عملية مصالحة مفرغة من مضمونها، بينما يُنفذ الطرف الآخر ما يروق له منها.

الثورات العربية

الاستحقاق الرابع مرتبط بالثورات العربية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية وعلى حماس. وهو استحقاق متشعب ومتعدد التأثيرات؛ ولكنه يملي على حماس الاستماع أكثر إلى نبض الشباب والجماهير في تجاوز الانقسام، وفي استيعاب التيارات الأخرى، وفي تفعيل القواسم المشتركة في العمل الوطني الفلسطيني.

وهو من جهة ثانية قد يوفر لحماس فضاءات إستراتيجية جديدة أكثر اقتراباً من أيديولوجيتها وأكثر دعماً لبرنامجها المقاوم؛ فإذا ما سارت الثورات العربية (وخصوصاً في مصر) باتجاهاتها الإيجابية فإن مسار التسوية سيتراجع، كما سيتراجع التطبيع مع “إسرائيل”، وسيتم تخفيف الحصار عن قطاع غزة، وستجد حماس حلفاء عربا مركزيين، يدفعون باتجاه تفعيل المصالحة وإعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، بحيث تدخل حماس وفصائل المقاومة بشكل فاعل في منظمة التحرير وفي ترتيب أولويات المشروع الوطني.

غير أن احتمال انكفاء الأنظمة العربية الجديدة على همومها المحلية قد ينعكس سلباً على الموقف الفلسطيني، وهو ما يستدعي من حماس أن تسعى لتأكيد ضرورة وجود البعد العربي والإسلامي النهضوي لدى حركات التغيير؛ وخصوصاً لدى التيار الإسلامي الذي يتمتع بقوة كبيرة في الشارع العربي وبعلاقة قوية بحركة حماس.

ومن جهة أخرى فإن استحقاق الثورات العربية سيلقي بظلاله على علاقة حماس بسوريا وبما يعرف بمحور الممانعة. فحماس فقدت جانباً من فعاليتها في الخارج بسبب الأحداث في سوريا. ولا تنكر حماس قيمة العلاقة والخدمات التي قدّمها النظام الحاكم في سوريا لها ولقوى المقاومة؛ وهي علاقة أفادت الطرفين إستراتيجياً وسياسياً.

لكن حماس بطبيعتها وتكوينها حركة جماهيرية، ولها مكانة كبيرة لدى الشعب السوري، الذي احتضنها أيضاً ودعمها بقوة. وهي بطبيعتها حركة قائمة على معاني تحقيق الحرية والعزة والكرامة، واحترام إرادة الشعوب. ولذلك فقد اختارت حماس أن تعلن أنها لا تنسى الاحتضان والدعم من النظام وأنها ضدّ أية مؤامرة تستهدف سوريا ومواقفها الداعمة للمقاومة، لكنها تدعم من جهة أخرى كافة المطالب المحقّة العادلة للشعب السوري.

بمعنى أنها كانت منذ البداية تتمنى أن يسير النظام سيراً إصلاحياً جاداً ليفسح المجال للتعبير عن الإرادة الحقيقية للشعب السوري، وللتداول السلمي للسلطة، ودونما إراقة دماء، ودونما إيجاد أية ظروف تدفع باتجاه التدخل الخارجي. غير أن الظروف الآن تضع مزيداً من الضغوط على حماس لتحديد موقفها بشكل أكثر حسماً. وهو استحقاق قد تنبني عليه استحقاقات أخرى مرتبطة بالعلاقة بإيران وحزب الله، إذا ما استمرا بالطريقة نفسها التي يدعمان بها النظام في سوريا.

وعلى أي حال فلا يُتوقّع من حماس إلا أن تقف مع الإرادة الحرة للجماهير، ومع نظام ديمقراطي شوري شفاف، بعيد عن الهيمنة الأجنبية وحاضن للمقاومة…، بحيث يعبر تماماً عن أصالة الشعب السوري.

المصدر: موقع الجزيرة نت، الدوحة، 23/12/2011