مدة القراءة: 10 دقائق

قلم: د. محسن محمد صالح[1].

قد يكون من المقبول الحديث عن ‘رؤى’ لبنانية، وليس ‘رؤية’ واحدة للأزمة الداخلية الفلسطينية، إذ إن لبنان يعاني من انقسامات سياسية وطائفية كبيرة، ومن أزمة داخلية شلت وشرخت بتداعياتها المؤسسات الدستورية، بما في ذلك المجلس النيابي والحكومة والرئاسة. غير أن هناك ما يشبه الإجماع بين اللبنانيين على القلق مما يحدث في فلسطين، وانعكاساته المحتملة علي الوضع الداخلي اللبناني.

تتأثر “الرؤية” اللبنانية للأزمة الداخلية الفلسطينية بعدة محددات، أولها: الموقع الجغرافي، حيث إن لبنان إحدى دول الطوق العربي، ولها حدود مشتركة مع ‘إسرائيل’ تبلغ 79 كيلومتراً.


وثانيها:
إن لبنان لم يدخل حتى الآن في تسوية سلمية مع ‘إسرائيل’، ولم يغلق ملف صراعه معها، كما أن إسرائيل لا تزال تحتل مزارع شبعا التي يري معظم اللبنانيين أنها أراض لبنانية، فضلاً عن أن لبنان (وحزب الله تحديداً) خاض آخر الحروب العربية مع ‘إسرائيل’ في صيف 2006 .

ومن ناحية ثالثة، فإن وجود نحو 400 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان يشكل أحد العناصر المحددة للسياسة اللبنانية بما يملكون من خلفيات وانتماءات سياسية ومذهبية، وبوجودهم المسلح في المخيمات، وفي رغبة العديد منهم في استئناف المقاومة المسلحة ضد إسرائيل من الحدود اللبنانية. وفي الوقت نفسه، فإن تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، ومشاركتها – راغبة أو مرغمة – في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)؛ وشعور الفلسطينيين بأنهم ‘مظلومون’ نتيجة حرمانهم من حقوقهم المدنية في لبنان، كحق العمل وحق التملك، وشعور اللبنانيين بالخوف من أن تؤدي أية تسوية إلي توطين الفلسطينيين في لبنان – كل ذلك يجعل الطرفين اللبناني والفلسطيني أكثر حساسية وحذراً من انتقال الأزمة الداخلية الفلسطينية إلي الساحة اللبنانية.

من جهة رابعة، فإن تعقيدات الوضع اللبناني الاجتماعي والطائفي والسياسي تلقي بظلالها عند اتخاذ أية مواقف متعلقة بالسياسة الخارجية، وخصوصاً عندما يرتبط ذلك بالقضية الفلسطينية. ففي لبنان 11 طائفة مسيحية، وخمس طوائف إسلامية، وبناء الدولة اللبنانية مرتبط بتوازنات و’حصص’ طائفية، بحيث لا يمكن لهذا البلد أن يستقر دون توافق طائفي، ومراعاة الحسابات الأساسية، علي الأقل، لكل طائفة. وقد انعكس ذلك سلباً على قدرة الدولة على بناء نظام مركزي فاعل، كما فتح المجال – بشكل أو بآخر – للتدخلات الخارجية في الشأن اللبناني، ولاستعانة الأطراف اللبنانية بقوى خارجية مختلفة لتقوية أوضاعها في مواجهة خصومها، وهو ما ينطبق علي الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا وإيران، فضلاً عن ‘إسرائيل’. وفي هذه الحالة، فإن الشأن الفلسطيني قد يوظف داخليا كرافعة أو كعنصر قوة لدى البعض، أو ينظر إليه كخطر يجب مواجهته لدى البعض الآخر.

من ناحية خامسة، فإن لبنان يعاني منذ أكثر من سنتين من أزمة سياسية داخلية معقدة، كانت علامتها الفاصلة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، وتشكل ما يعرف بقوى الأكثرية أو قوى 14 آذار، وقوى المعارضة أو قوى 8 آذار، وانعكاس ذلك بشكل قوي على الدولة ومؤسساتها. فإذا كان رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة ومعه معظم الوزراء يمثلون قوى الأكثرية، فإن الرئيس اللبناني إميل لحود، ووزير الخارجية فوزي صلوخ، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، محسوبون على المعارضة، وهو ما يعني أننا قد نجد أنفسنا أمام رؤى مختلفة لأي قضية من القضايا الخارجية المهمة.

الموقف الرسمي :

عندما فازت حماس في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية في 25 يناير 2006، قام رئيس الوزراء فؤاد السنيورة بتهنئة رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل هاتفياً، وعدّ ذلك خطوة مهمة في ترسيخ النظام الديمقراطي، وتمني أن تكون هذه النتيجة خطوة متقدمة في دعم حقوق الشعب الفلسطيني. ودعا وزير الخارجية فوزي صلوخ المجتمع الدولي لاحترام خيارات الشعب الفلسطيني، وأيد تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية.

لم يتجاوز الموقف الرسمي للحكومة اللبنانية المواقف العربية المعتادة، وحرص على علاقة متوازنة مع الرئاسة الفلسطينية ومع حكومة حماس. ولم يكن لدى لبنان، الغارق في خلافاته السياسية ومشاكله الاقتصادية وأوضاعه الأمنية، الكثير مما يقدمه للفلسطينيين، لكنه كان معنياً تماماً بألا تنتقل الخلافات الفلسطينية إلى ساحته المنهكة بالصراعات.

لم يستقبل لبنان وفداً رسمياً من حماس، كما فعلت بلدان عربية أخرى، غير أنه استقبل بعض الشخصيات المحسوبة على حماس، مثل وزير المواصلات في حكومة حماس زياد الظاظا، الذي أجرى مباحثات مع نظيره اللبناني وعدد من المسئولين. كما سمحت السلطات اللبنانية بزيارة عدد من رموز ونواب حماس في المجلس التشريعي في مناسبات مختلفة. وبالطبع، فإن خط الاتصال ظل مفتوحاً مع ممثل حماس في لبنان، أسامة حمدان، بكافة شخصيات الحكومة. كما لم تمانع السلطات اللبنانية في قيام حملات شعبية للعديد من المؤسسات للدعم السياسي والإعلامي لجمع التبرعات لمساندة جهود حكومة حماس في فك الحصار عن الشعب الفلسطيني، ومساعدة المحتاجين.

استفادت حماس من صورتها الإيجابية في الشارع اللبناني كحركة مقاومة لم ‘تتلوث’ بفساد السلطة. كما استفادت من كون الذاكرة اللبنانية لا تخزن مواقف سلبية تجاه حماس في الساحة المحلية، فحماس لم تشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، ولم تدخل في أي صدام مع أي طرف لبناني، كما أنها ليس لها وجود مسلح في الساحة اللبنانية، بخلاف فتح وغيرها من الفصائل، وهو ما يقلق جهات عديدة في لبنان. وفي الوقت نفسه، فإن لحماس شعبيتها الكبيرة في الوسط الفلسطيني في لبنان، وهي شعبية مقاربة لشعبية بفتح، وربما تجاوزتها أحيانا، كما أظهرت بعض استطلاعات الرأي. وهذا يجعل السلطات اللبنانية تضع في حساباتها إمكانات حماس في التأثير على الوضع الفلسطيني في لبنان. ومن جهة أخرى، فإن الحكومة اللبنانية التزمت بالرؤية العربية العامة لحل الصراع وبالمبادرة العربية التي اعتمدتها القمة العربية في بيروت في مارس 2002. كما أن علاقة الحكومة اللبنانية الوطيدة بأمريكا وفرنسا والسعودية، ونظرتها الحساسة لسوريا وإيران، جعلتا السقف المتوقع لدعم حماس وحكومتها محدوداً.

ومما يزيد من دقة حسابات الموقف الرسمي اللبناني تجاه العلاقة بين فتح وحماس أن الحكومة اللبنانية كانت قد سمحت بإقامة تمثيل دبلوماسي فلسطيني في لبنان من خلال فتح مكتب وليس سفارة فلسطينية. وتسلم عباس زكي في 15 مايو 2006 مهامه كممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف). وقد قوى ذلك من مركز فتح والفصائل المنضوية تحت م.ت.ف في لبنان. وأصبح واضحاً في الساحة اللبنانية وجود تكتلين فلسطينيين كبيرين، تقود أولهما فتح ومعها عدد من فصائل م.ت.ف، وتقود ثانيهما حماس ومعها عدد من فصائل المعارضة.

ولذلك، وبناءً على مجموعة من التداخلات والتعقيدات السابقة، قلل المسئولون اللبنانيون من تصريحاتهم حول الشأن الفلسطيني الداخلي، واقتصرت تعليقاتهم على التمنيات بأن يتجاوز الفلسطينيون مشاكلهم، ويحققوا وحدتهم الوطنية.

وعندما وقعت مجزرة الشاطئ في قطاع غزة في يونيو 2006، والتي قتل الإسرائيليون فيها عائلة هدى غالية، قام السنيورة بتعزية عباس وهنية، وانتهز فرصة الحوار الوطني الفلسطيني، فقام بمناشدة قيادة م.ت.ف وحماس التكاتف والتلاحم، وتوحيد صفوفهم، وتجاوز خلافاتهم أمام هذا العدو الغاشم[2].

وعندما تم توقيع ‘اتفاق مكة’ بين فتح وحماس في فبراير 2007، رحبت به معظم القيادات والفعاليات السياسية اللبنانية، ورأى الرئيس لحود فيه تطوراً إيجابياً ، يحقن الدماء، ويخنق الحرب الأهلية في المهد، واعتبر أن تغليب الحوار يقطع الطريق على المؤامرة الإسرائيلية. وخلص إلى أن ما يصح على فلسطين يصح أيضاً على لبنان، حيث الرهان على الوحدة الوطنية يجب أن يكون أقوى من أية رهانات أخرى[3].

وقد أجرى السنيورة اتصالاً بالعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ووزير خارجيته سعود الفيصل، حيث شكر للسعودية دورها في إنجاز الاتفاق بين الفلسطينيين، كما تلقى اتصالاً من محمود عباس الذي شرح له الأجواء التي رافقت اتفاق مكة[4].

ومن ناحية أخري، رحب وزير الخارجية اللبناني باتفاق مكة، وأشاد بالرعاية السعودية له، ودعا إلى أن ينسحب ما حصل في فلسطين علي لبنان[5]. كما التقى لحود بعباس زكي في 28 فبراير 2007، حيث استمع إلى شرح حول اتفاق مكة. وقد عبر لحود عن ارتياحه للاتفاق، لكنه تمنى ألا تؤدي التدخلات الخارجية إلى عرقلة تنفيذه، وأكد أن وحدة الشعب الفلسطيني أساسية في مواجهة مخططات إسرائيل العدوانية[6].

ومن ناحية أخرى، كان اللبنانيون يدركون ترابط الملفين اللبناني والفلسطيني، إذ إن عدداً من اللاعبين الكبار في الملف الفلسطيني هم أنفسهم لاعبون كبار في الملف اللبناني. فالولايات المتحدة التي تسعى إلى بناء شرق أوسط جديد هي بالتأكيد لاعب كبير في كلا الملفين فضلاً عن الملفات الأخرى في المنطقة.

وقد انشغلت الحكومة والمؤسسات الرسمية منذ منتصف مايو 2007 بالقضاء على جماعة ‘فتح الإسلام’ في مخيم نهر البارد في شمال لبنان، واستفادت من أن فتح وحماس وباقي الفصائل الفلسطينية رفعت الغطاء عن فتح الإسلام، واستنكرت هجومها على الجيش اللبناني، وتمكنت السلطات من حشد إجماع لبناني لدعم الجيش في مواجهة فتح الإسلام. وفي الوقت نفسه، انشغلت الفصائل الفلسطينية في لبنان بشكل أساسي في أمور الرعاية وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين المتضررين من الهجوم على المخيم.

وعندما قامت حماس بحسم الأمر لصالحها في قطاع غزة في منتصف يونيو 2007، لم نجد أثراً لأية تصريحات لبنانية رسمية، ربما بسبب الانهماك بموضوع نهر البارد والمشاكل الداخلية الأخرى، وربما لأن التصريحات لن تتجاوز ما قيل سابقاً. وقد كان من التصريحات النادرة ما نقل عن رئيس مجلس النواب، نبيه بري، من نداء إلى حركتي فتح وحماس بوقف الاقتتال وتفويت الفرصة على العدو الإسرائيلي، لأن هذا الاقتتال مدمر للقضية الفلسطينية[7].

مواقف حزبية وشعبية :

لا تختلف مواقف الأحزاب والهيئات الشعبية بشكل عام عن المواقف الرسمية، وإن كانت تملك هامشاً أكبر في تحديد مواقفها بناء علي خلفياتها الأيديولوجية والحزبية، وبناءً على مدى احتكاكها سلباً أو إيجاباً بالملف الفلسطيني، ومدى صلتها بأطراف النزاع الداخلي الفلسطيني.

فقد كان سليم الحص، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، وزعيم ما يعرف بالقوة الثالثة (منبر الوحدة الوطنية) في لبنان من أكثر الشخصيات حضوراً ومتابعة للشأن الفلسطيني. فقد طالب فتح وباقي الفصائل بأن تحترم نتائج الانتخابات، وألا تقع في فخ المتربصين بالقضية[8].

وعندما حوصرت حكومة حماس، أصدر الحص نداءً باسم منبر الوحدة الوطنية إلى العرب، دعا فيه إلى التبرع لمساعدة حكومة حماس. ورأى أن العالم الغربي عاقب الفلسطينيين على إنجازهم العظيم في ممارستهم الديمقراطية الحرة بالمقاطعة والعزلة السياسية، والمحاصرة، وقطع المساعدات، وكان عنوان المكافأة على ديمقراطيتهم ‘الخنق حتى القتل'[9].

غير أن الحص أخذ يعبر عن خيبة أمله بسبب الاشتباكات بين فتح وحماس، وعبر عن قلقه الشديد، قائلاً إنه ‘سيكون أكرم لحماس أن تعود إلى صفوف المقاومة من أن تبقى في السلطة شاهداً على تمزق الشعب الفلسطيني'[10].

وعاد الحص للتعبير بشكل أكثر وضوحاً، عندما رأى أن حماس في صراعها مع فتح فقدت الكثير من وهجها ورصيدها بين الجماهير، وأنها على الرغم من أنها ربحت الانتخابات، إلا أنها خسرت نفسها أو كادت. وقال إن حماس تجد نفسها اليوم أمام ثورة الجياع في وجهها أو احتمال نشوب حرب أهلية، ولذلك دعا الحص حماس إلى التنحي عن السلطة والعودة إلى المقاومة[11].

وعندما كانت الاشتباكات تندلع بين فتح وحماس، كان الحص يحمل الطرفين المسئولية التاريخية، ويعد ذلك وقوعاً في الفخ وتدميراً لقضية العرب المركزية[12].

لم نرصد أي تصريح لرئيس تيار المستقبل، سعد الحريري، حول الوضع الداخلي الفلسطيني، غير أنه أبدى قلقه في صيف 2006 من العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وطالب بتحرك عربي على مستوى خطورة ما يحدث. ونبّه إلى أن العدوان الإسرائيلي يهدد بجرّ المنطقة إلى حلقة عنف خطيرة[13]. بينما نشطت عمته بهية الحريري في الاتصال بالأطراف الفلسطينية في لبنان، ورحبت باتفاق مكة، واعتبرت أنه سيقطع الطريق على المؤامرات الإسرائيلية. وعندما حسمت حماس الأمر لصالحها في قطاع غزة، اهتمت بهية الحريري بالعمل على ‘تحصين الساحة الفلسطينية في لبنان، وقطع الطريق على أي محاولة لشقها، أو لإثارة الفتنة بين الفرقاء الفلسطينيين، ومعالجة أي مشكلات بالحوار والتواصل'[14]. وكان أحد نماذج التعامل مع الوضع الفلسطيني المهرجان التضامني الذي نظمته قوى 14 آذار (التي يقودها تيار المستقبل) في منطقة شحيم في نوفمبر 2006، حيث صدرت دعوات للفلسطينيين للوحدة وتجاوز الفتنة الداخلية[15].

أما الجماعة الإسلامية في لبنان، والقريبة من حماس، فقد اتسم سلوكها بالمتابعة الحثيثة للوضع الفلسطيني، وأعطت مجلتها الأسبوعية “الأمان” مساحات واسعة لتغطية الأحداث. وتركزت تصريحات قادتها على احترام نتائج الانتخابات، ودعم حكومة حماس، وكسر الحصار، ووأد الفتنة، وتشجيع الحوار، وتوجيه الجهود لمواجهة الاحتلال، وعدم نقل الخلاف الفلسطيني إلى الساحة اللبنانية. كما قامت بحملات جمع تبرعات للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وللإسهام في فك الحصار[16].

وفي الإطار السني، صدرت دعوات من مفتي لبنان، محمد قباني، ومن تجمع العلماء المسلمين للفلسطينيين بتجنب الاقتتال الداخلي والدعوة للحوار[17].

أما حزب الله الذي يقود المعارضة اللبنانية، والذي يحتفظ بعلاقات متميزة مع حماس، فقد وقف إلى جانب حماس وحكومتها، وخصوصاً فيما يتعلق باحترام الخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني، وكسر الحصار، وقام بحملة لجمع التبرعات للفلسطينيين. واتفق الحزب مع حماس في الرؤية الأيديولوجية لطبيعة المواجهة مع ‘إسرائيل’ والولايات المتحدة. غير أن الحزب كان أكثر حذراً في التعبير عن موقفه من الصراع الداخلي، إذ اتسمت تصريحاته بالدعوة إلى الحوار وتجاوز الفتنة، وعدم جر المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى الاقتتال الداخلي[18]. وعندما سيطرت حماس على قطاع غزة، أصدرت كتلة الوفاء للمقاومة، التي يقودها الحزب في البرلمان اللبناني، بياناً عبرت فيه عن قلقها مما يجري من احتقانات وانقسامات، ومما قد يؤدي إلى تضييع ما تبقي من مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته[19].

أما الشيخ عبد الأمير قبلان، نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى، فوجه نداء إثر اندلاع أحداث غزة، دعا فيه أبناء الشعب الفلسطيني إلى وقف القتال، ونبذ الأحقاد والتصدي للاحتلال. ورأى أن الاقتتال الداخلي حرام بكل المقاييس الشرعية والدينية والأخلاقية، وقال ‘إن قتالكم لبعضكم يجعلنا نعيش حالة الاضطراب والفوضى، ونكاد نصل إلى اليأس'[20]. وصدر عن المجلس الشيعي الأعلى تصريحات مماثلة تؤكد الحوار وتجاوز الفتنة، والتنبه إلى مؤامرات العدو[21].

وقد قدم المرجع الديني، آية الله محمد حسين فضل الله، من خلال متابعته المستمرة واهتمامه بالشأن الفلسطيني، رؤية شاملة، حيث حذر مراراً من المؤامرة الأمريكية التي تتم بالتعاون مع ‘إسرائيل’ لتعميق الشرخ الفلسطيني والتأسيس لفتنة فلسطينية كبيرة. ونبه إلى أن الإدارة الأمريكية هي المسئولة عن تعطيل أي حوار جدي بين الفئات السياسية في الساحة العربية، مشيراً إلى أن هناك ‘أطرافاً عربية ترعى الانقسام الفلسطيني الداخلي بطلب من الأمريكيين’. وأكد أن الانفتاح على ‘إسرائيل’ والانغلاق على الحوار الفلسطيني الداخلي، هما ‘محاولات مشبوهة تتسم بطابع خياني، وتؤسس لاحتراب فلسطيني طويل الأمد’. ودعا فضل الله إلى الحوار الذي لا بديل عنه إلا مزيد من التشتت والضياع للشعب الفلسطيني وقضيته[22].

أما الحزب التقدمي الاشتراكي، ذو الخلفية الدرزية، والذي يقوده وليد جنبلاط، فقد حافظ علي علاقات متوازنة مع فتح وحماس. غير أن جنبلاط، المعارض للسلوك السياسي لحزب الله وسوريا وإيران، كان يبدي مخاوف حقيقية من انتقال نموذج غزة إلى الساحة اللبنانية. وأبدى انزعاجاً واضحاً من سلوك حماس، عندما حسمت الأمر لصالحها في قطاع غزة. وعبّر عن ألمه عندما ديست صورة عرفات ‘تحت أقدام هؤلاء الجدد’، والعلم الفلسطيني الذي ‘مزقوه واستبدلوه’. وطالب جنبلاط بتأييد ‘أبو مازن’ سياسياً ومالياً[23].

لم نجد مواقف واضحة لدى الأحزاب والفعاليات المسيحية في لبنان، سوى موقف جريجوريوس الثالث لحام، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندرية، وأورشليم للروم الكاثوليك، الذي قال إن التقاتل بين الفلسطينيين هو ‘عار علينا، وهو الشر المستطير الذي يدمر آمال شعبنا بأن يعترف العالم بقضيته وينال حقوقه المشروعة’. وطالب بوقف الاقتتال أو الاتحاد من أجل إنجاح قضيتهم[24]. أما الفعاليات السياسية والدينية، المارونية والأرثوذكسية وغيرها، فقد نأت بنفسها عن الخوض في التصريح حول هذا الموضوع.

فلسطينيو لبنان :

كان هناك قلق حقيقي في الوسط الفلسطيني في لبنان من الأزمة الداخلية الفلسطينية وانعكاساتها، إذ تتمتع فتح وحماس بشعبية مماثلة تقريباً لشعبيتيهما في الداخل الفلسطيني. وعلى الرغم من أن فتح تتمتع بوجود مسلح في المخيمات، إلا أن حماس، التي تفتقد هذه الميزة، تملك عدداً من البدائل ووسائل الضغط المحتملة، كالاستعانة ببعض حلفائها في الساحة اللبنانية. ومن جهة أخرى، فإن هناك ميلاً لدى فتح للسيطرة الأمنية على المخيمات، إلا أنها تواجه حسابات معقدة، فلسطينياً ولبنانياً، تجعل من تطبيق هذا الأمر شيئاً صعب المنال.

كان من الواضح، منذ أن بدأت الاحتكاكات في الداخل الفلسطيني، أن هناك حرصاً لدى قيادتي فتح وحماس في لبنان على عدم جرّ الساحة اللبنانية إلي أي نوع من الاحتكاكات.

كما كان هناك حرص لدى كافة الفعاليات الرسمية والحزبية والشعبية اللبنانية على الاتصال برموز فتح وحماس، وتأكيد تجنيب الساحة ويلات النزاع الفلسطيني.

غير أن الساحة اللبنانية لم تسلم أحياناً من حالات تصعيد وتوتير بين الطرفين. فقد نظمت فتح حملة إعلامية عنيفة ضد حماس، إثر خطاب خالد مشعل في أبريل 2006، الذي اتهم فيه رئاسة السلطة وفتح بالسعي لإفشال حكومة حماس.

ووصف بيانان وزعتهما فتح مشعل بأوصاف مقذعة[25]. كما شنّت مجلة القدس التابعة لفتح في مناسبات مختلفة حملات ضد حماس. وقد بلغ التصعيد ذروته عندما سيطرت حماس على قطاع غزة.

وأطلق سلطان أبو العينين، أمين سر فتح في لبنان، العديد من التصريحات النارية، وصف في أحدها حماس بأنها ‘طغمة وعصابة قتلة’، وأن رجال حماس وقادتها ‘قردة، بل إن القردة أشرف منهم'[26].

وجرت مسيرات لأنصار فتح في لبنان ضد ما قامت به حماس في غزة، وتطور الأمر إلى قيام بعض المسلحين المحسوبين على فتح بإطلاق النار على مركز تابع لحماس في مخيم البداوي، وتم تمزيق صور ويافطات وجداريات لحماس في عدد من المخيمات الفلسطينية، كما تم الاعتداء علي سيارة إسعاف تتبع حماس في مخيم البص.

غير أنه تم تطويق هذه الأحداث بسرعة، واعتبرت فتح ما حدث أعمالاً فردية، وقام قادتها بتهدئة قواعدهم ومنع الاحتكاكات. وجرت اتصالات مع عدد من الفعاليات الرسمية والشعبية للمساعدة في تطويق الأحداث[27].

خاتمة :

اتسم السلوك اللبناني العام بالقلق مما يحدث في فلسطين، وبالسعي الحثيث لمنع انتقال الأزمة الفلسطينية إلى أوساط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ولم تكن هناك تصريحات سياسية كثيرة حول الموضوع، وتركزت التصريحات حول الدعوة للحوار والتمنيات بالتوفيق، وأن يكون نجاح الحوار الفلسطيني عنصراً مشجعاً لنجاح الحوار اللبناني الداخلي. وحاول اللبنانيون بمختلف أطيافهم أن يحتفظوا بمسافات متساوية بين كل من فتح وحماس، وكانوا أكثر تركيزاً على الملفات التي تعنيهم مباشرة في الشأن الفلسطيني، كالأوضاع الأمنية في المخيمات، والسلاح الفلسطيني، والمخاوف من توطين اللاجئين، ومعالجة مشكلة نهر البارد. وأخيراً، فإن اللبنانيين يدركون ترابط الملفات السياسية في المنطقة، ويظلون يرقبون بحذر ما يحدث في فلسطين والعراق وسوريا، وكيفية التعامل الأمريكي – الإسرائيلي مع الأوضاع في الشرق الأوسط، لما لذلك من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة عليهم.

المصدر: مجلة السياسة الدولية – العدد 170، تشرين الأول / أكتوبر 2007


الهوامش :

[1] أستاذ الدراسات الفلسطينية، المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت.

[2] السفير، 15 يونيو 2006.

[3] جريدة الخليج، الإمارات، 11 فبراير 2007.

[4] السفير، 12 فبراير 2007.

[5] السفير، 13 فبراير 2007.

[6] السفير، 1 مارس 2007.

[7] السفير، 14 يونيو 2007.

[8] جريدة الوطن، قطر، 29 يناير 2006.

[9] جريدة النهار، بيروت، 23 أبريل 2006.

[10] جريدة القدس العربي، لندن، 22 مايو 2006.

[11] السفير، 12 يونيو 2006

[12] انظر: السفير، 3 أكتوبر 2006، ووكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، 18 ديسمبر 2006.

[13] السفير، 30 يونيو 2006.

[14] انظر: جريدة عكاظ، السعودية، 9 فبراير 2007، وجريدة الشرق الأوسط، لندن، 18 يونيو 2007، والسفير، 22 يونيو 2007.

[15] السفير، 20 نوفمبر 2006

[16] انظر: النهار، 28 أغسطس 2006، وجريدة المستقبل، بيروت، 19 نوفمبر 2006، والمستقبل، 7 فبراير 2007، والمستقبل، 24 يونيو 2007.

[17] انظر: جريدة الحياة، لندن، 17 مايو 2007، والسفير، 21 يونيو 2007.

[18] انظر: المستقبل، 26 أبريل 2006، وموقع عرب 48، 26 مايو 2006، والخليج، 1 يوليو 2006.

[19] السفير، 21 يونيو 2007.

[20] السفير، 18 يونيو 2007.

[21] السفير، 22 يونيو 2007.

[22] انظر: السفير، 22 يونيو 2007، و25 يونيو 2007، والنهار، 15 يوليو 2007.

[23] جريدة الأنباء، لبنان، 3 يوليو 2007 .

[24] السفير، 19 يونيو 2007.

[25] وزع بيان في 21 أبريل 2006، كما وزع بيان آخر في 22 أبريل 2006.

[26] القدس العربي، 16 يونيو 2007 .

[27] انظر السفير، 16 يونيو 2006، وموقع المركز الفلسطيني للإعلام، 17 يونيو 2007، والقدس العربي، 18 يونيو 2007 .


المصدر: مجلة السياسة الدولية – العدد 170، تشرين الأول / أكتوبر 2007