مدة القراءة: 6 دقائق

يبدو أن الزعيم الماليزي السابق (وربما القادم) أنور إبراهيم يسعى لتطبيق مقولة “من يضحك أخيرا يضحك كثيراً”!! فهذا الزعيم الذي عايش موجات صعود وهبوط ألقت به في بلاط الحكم كما ألقت به في غياهب السجون، عاد مؤخرا ليمتطي موجة صاعدة، بعد نحو عشر سنوات من الإبعاد السياسي القسري، قضى نحو ستة منها في السجن.

وكالعادة فإن له معارضين كثرا يسعون إلى تكسير موجته قبل بلوغ أهدافها، غير أن خبرته السياسية وشخصيته الكاريزمية وتحسن الأداء الانتخابي لحزبه، و”مظلوميته”، وضعف شخصيات خصومه، أسهمت في إرباك الوضع الداخلي الماليزي، ووفرت فرصا جديدة لصعود نجم أنور إبراهيم.

تغيرات ذات دلالات

حملت الأشهر الأخيرة اضطرابا غير معهود في الوضع الداخلي الماليزي، ففي مارس/ آذار 2008 فقد التحالف الحاكم لأول مرة منذ استقلال ماليزيا سنة 1957 أغلبية الثلثين في البرلمان، وتمكن بالكاد من الحصول على 51% من أصوات الناخبين وعلى 63% من مقاعد البرلمان.

وتمكنت المعارضة من الحصول على 49% من الأصوات ومن مضاعفة عدد مقاعدها نحو أربعة أضعاف (من 21 إلى 82 مقعدا). وقفز عدد مقاعد حزب العدالة الذي يتزعمه أنور إبراهيم من مقعد واحد إلى 31 مقعدا، ليصبح حزب المعارضة الأول في ماليزيا.

بالنسبة لغير الماليزيين، قد لا تحمل هذه المتغيرات دلالات كبيرة، لكن نتائج الانتخابات كانت أقرب إلى الزلزال السياسي، إذ إن معادلة النظام السياسي الماليزي ظلت تعتمد في استقرارها وتماسكها على قدرة التحالف الحاكم (الجبهة الوطنية) على المحافظة على غالبية الثلثين التي تمكنه من تغيير الدستور، وتمكنه من إدارة مريحة للوضع الديني والعرقي الحساس والمعقد في ماليزيا.

ويضم التحالف الحاكم عادة أقوى الأحزاب وأكثرها شعبية وسط المسلمين الملايو (حزب أمنو، وهو العمود الفقري للتحالف)، ووسط الصينيين (أم سي إيه) ووسط الهنود (أم أي سي) والأحزاب الأقوى في صباح وسراواك.

وبالنسبة للنظام فإن هذا يشكل صمام أمان سياسي واجتماعي وأمني واقتصادي. وهو بالتالي يتعامل بحساسية مع صعود أي أحزاب معارضة تتسم ببعد طائفي أو عرقي يميل إلى التشدد، ما قد يهدد الاستقرار الدقيق في البلاد.

غير أن حزب العدالة الذي يقوده أنور إبراهيم يحاول أن يقدم إجابات مقنعة ومطمئنة من خلال تقديم نموذج مختلف هو نموذج الحزب الواحد متعدد العرقيات والأديان، بخلاف نموذج التحالف الحاكم الحالي المبني على تجمع لأحزاب ذات قواعد طائفية أو عرقية.

ولذلك فإن المنطق الذي يمارسه التحالف الحاكم في تخويف الماليزيين حول استقرارهم السياسي والاجتماعي في حال فوز حزب عرقي أو طائفي لا ينطبق على حالة حزب العدالة، وهو ما يعني أن حزب العدالة قد يمثل خطرا جديا مستقبليا على التحالف الحاكم.

مسيرة الصعود الأول

أنور إبراهيم المولود في 10/8/1947 كان أحد المشاركين في اضطرابات مايو/ أيار 1969، وأحد قادة الشباب المطالبين بحقوق الملايو المسلمين.

وفي أوائل السبعينيات من القرن العشرين تولى رئاسة حركة الشباب المسلم الماليزي (أبيم) التي تأثرت بأفكار الإخوان المسلمين والجماعة الاسلامية في باكستان، وتمكنت من ضم الآلاف من الشباب المتحمس المتعلم إلى صفوفها، ونشطت في المعارضة.

غير أن محاضر محمد قام عندما تولى رئاسة الوزراء سنة 1981 باستيعاب أنور إبراهيم إلى جانبه في حزب أمنو سنة 1982، حيث فاز بمقعد في البرلمان وتولى منصب عمدة كوالالمبور، وسرعان ما أصبح وزيرا لللشباب والرياضة، ثم وزيرا للتعليم، ثم وزيرا للمالية، ثم نائبا أول لرئيس الوزراء ولرئيس حزب أمنو (1993-1998).

وقد تمكن أنور من تكوين تيار قوى مؤيدة له وسط حزب أمنو أقرب إلى الميول الإسلامية المعتدلة المحافظة، في مواجهة تيار آخر قوي هو التيار العلماني في الحزب نفسه. وكان واضحا أن أنور سيكون رئيس الوزراء القادم، وهو ما كان يؤكده محاضر نفسه.

في السجن والعزل السياسي

وفي وسط الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها ماليزيا سنة 1998 دخلت البلاد في عاصفة سياسية عندما قام محاضر في 2/9/1998 بطرد أنور من منصبه نائبا له ووزيرا للمالية، ثم تمت إقالته في اليوم التالي من منصبه نائبا لرئيس حزب أمنو وطرد من الحزب.

لكن أنور الذي خسر فجأة كل شيء بدأ حملة شعبية واسعة ضد الإجراءات، في الوقت الذي تصاعدت فيه الشكوك في الرواية الحكومية حول الخلفيات الحقيقية لطرده، وحدث شرخ هائل في أوساط الملايو المسلمين.

غير أن السلطة سارعت بالقبض عليه وتوجيه تهم ضده بالفساد المالي وبممارسة اللواط، وهو ما نفاه أنور وعده مؤامرة دنيئة لتشويهه وتدمير مستقبله السياسي.

ظهر في محاكمة أنور عدد من الإرباكات والثغرات، واشتهرت صورة أنور وهو يلوح بيده، بينما تبدو آثار كدمات حول عينيه من جراء الضرب أو التعذيب.

وقد عزز ذلك آراء قطاعات واسعة من الماليزيين أن محاكمة أنور هي سياسية بالدرجة الأولى. وقد حُكم على أنور بالسجن ستة أعوام لاتهامه بالفساد، وبتسعة أعوام أخرى لاتهامه باللواط، بينما شككت منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) بنزاهة المحاكمة.

وقد عبرت قطاعات واسعة من المجتمع الماليزي (وخصوصا الملايو) عن تعاطفهم مع أنور من خلال انتخابات 1999، فخسر أمنو 21 مقعدا من مقاعده الـ93 في مجلس النواب، وهزم في الانتخابات أربعة وزراء، وستة نواب وزراء وكثيرا من قيادات الحزب الحاكم، واضطر أمنو للاعتماد بشكل متزايد على أصوات الصينيين والهنود لضمان فوز مرشحيه.

كان من الواضح أن طرد أنور ومحاكمته قد أحدثت أزمة ثقة لدى الملايو بالحزب الحاكم (أمنو)، غير أن عددا من العوامل قد ساعدت أمنو على استرجاع مكانته، أبرزها شخصية محاضر القوية، ونجاحه في الخروج بماليزيا من أزمتها الاقتصادية، وعدم قدرة المعارضة على تشكيل تحالف مقنع في ذلك الوقت يكون بديلا عن التحالف الحاكم، وحالة التراجع التي شهدها حزب العدالة في الفترة 1999-2004 مع استمرار أنور في السجن، وبسبب خلافات الحزب الداخلية، وانسداد آفاق التغيير أمامه.

ثم إن استقالة محاضر في 31/10/2003 فتحت المجال أمام خليفته عبد الله بدوي ليخوض الانتخابات في ربيع 2004 مسلحا بإنجازات الحكومة، وبسمعته الشخصية، ومتخففا من وطأة الثقل الملقى على كاهل محاضر نتيجة موقفه من أنور. وقد مكن ذلك أمنو والأحزاب المتحالفة معه من تحقيق فوز كاسح، حيث حصدوا نحو 90% من مقاعد البرلمان، بينما لم يحصل حزب العدالة إلا على مقعد واحد.

الصعود الجديد لأنور

في 2/9/2004 وفي الذكرى السادسة لطرد أنور من الحكومة قضت المحكمة العليا في ماليزيا ببطلان الحكم على أنور في قضية اللواط، وبما أنه قد أكمل الحكم عليه بالفساد المالي، فقد أطلق سراحه.

وقد أعطى هذا الحكم الكثير من المصداقية لأنور، وقوى الشكوك لدى الماليزيين بالخلفيات السياسية للاتهامات الموجهة إليه، وقد كان ذلك فاتحة لانطلاقة جديدة لأنور.

وقد أفاد أنور من العديد من الظروف والتطورات في العودة التدريجية لنجمه السياسي، إذ لم يطل “شهر عسل” رئيس الوزراء الجديد عبد الله بدوي، فقد لاحظ الماليزيون أنه لم يتمكن من ملء الفراغ الذي تركه محاضر، وأنه لم يكن يملك مثل شخصيته الكاريزمية ولا إمكاناته القيادية، وأخذت تذوي شعارات بدوي التي رفعها لتبني الشفافية ومكافحة الفساد، في الوقت الذي أخذت تلاحق بعض أعضاء حكومته والمقربين منه الاتهامات والشبهات.

وتصاعدت حالة الضيق من مظاهر ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، ومن إفادة طبقة منتفعين محدودة من الازدهار الاقتصادي. وتمكنت وسائل “الإعلام البديل” مثل مواقع الإنترنت ووسائل الإيميل والبلوغرز وغيرها من نقل صورة مخالفة للصورة التي ينقلها الإعلام الرسمي، ومن التعبير عن قوى المعارضة بشكل أكثر فعالية.

وتعرض عبد الله بدوي لهجوم شخصي عنيف من محاضر الذي أبدى ندمه على تعيينه خليفة له، وتصاعد هذا الهجوم بعد أسوأ أداء انتخابي للحزب الحاكم في تاريخه في مارس/ آذار 2008، بل إن محاضر أعلن انسحابه من حزب أمنو أداة للضغط على بدوي للاستقالة، داعيا قيادات الحزب الآخرين إلى أن يحذوا حذوه.

لم يستطع أنور المشاركة في الانتخابات الأخيرة بسبب الحظر السياسي عليه، لكنه أخذ يستعيد تألقه السياسي، خاصة مع انتهاء الحظر في هذه الأيام، ومع استقالة زوجته من مقعدها البرلماني لتتيح له المنافسة شبه المضمونة للحصول على مقعدها في انتخابات تجرى في سبتمبر/ أيلول 2008، وهو ما يتيح لأنور البروز قائدا فعليا ورسميا للمعارضة.

وقد أثار أنور مخاوف الحزب الحاكم بإعلانه أنه سيكون رئيس الوزراء القادم في وقت قريب، وأن عددا من نواب وسياسيي الحزب الحاكم سينضمون إليه.

ومن جهة أخرى فإن نائب رئيس حزب أمنو والتحالف الحاكم نجيب رزاق وجد نفسه وزوجته في دائرة الاتهام في قضية مقتل فتاة منغولية، حيث يدور لغط كبير حول الموضوع، خاصة بعدما تحدث محقق خاص عن علاقة جنسية بين نجيب والفتاة. ثم قام المحقق في اليوم التالي وعلى نحو مفاجئ بالتراجع عن أقواله (تحت الضغط كما يشاع)، ثم اختفى تماما!!

وتكمن المشكلة هنا في أن نجيب هو المرشح الوحيد تقريبا لخلافة بدوي الذي أعلن أنه سيتنحى في العام 2010. وهو ما يعني إتاحة فرص أفضل لأنور وحزبه.

ويمكن في مثل هذه الأجواء (كما يرى عدد من المحللين) فهم الحملة القاسية الجديدة ضد أنور، وتجديد الاتهامات له باللواط، وذلك لقطع الطريق أمام صعوده من جديد.

فقد اتهم المساعد الشخصي لأنور وهو شاب في الخامسة والعشرين أنور بفعل الفاحشة به. غير أن مؤيدي أنور يرون أن هذا الشاب كان مجرد عميل استخدمه خصوم أنور لتدمير صورته من جديد.

ويؤكدون أن الفحص الطبي للشاب أثبت أنه لم يتعرض للواط وبالتالي أثبت براءة أنور، ويقولون إن الشرطة أنكرت صحة تقرير الطبيب، وإنها أجبرت المستشفى على إصدار بيان مختلف.

ماذا يحمل المخاض؟

لا يظهر أن الاتهامات القديمة الجديدة لأنور ستتمكن من هز صورته، خاصة أنها قد فقدت الكثير من مصداقيتها، ومن الواضح أن خصوم أنور يواجهون وقتا صعبا، غير أنه من السابق لأوانه توقع أن يحقق أنور اختراقا كبيرا في الفترة القريبة القادمة.

إذ إنه يواجه تحالفا حاكما قاد ماليزيا منذ استقلالها قبل أكثر من نصف قرن وحقّق إنجازات تنموية واقتصادية هائلة، وفرض معادلته الخاصة في العلاقة بين الأعراق والأديان لضمان الاستقرار والأمن، ولا يزال يحتفظ بأغلبية برلمانية مريحة.

يتحدث البعض عن قيام أنور بعودة “مظفرة” إلى حزب أمنو ليعيد الروح إليه من جديد، وهو ما يستبعده آخرون. غير أن على أنور إذا ما أصر على تقديم وصفته الإصلاحية من خلال حزب العدالة أن يتمكن من إقناع الناخب الماليزي بأن إنهاء المعادلة السياسية التي حكمت البلاد منذ استقلالها لن تؤثر على الاستقرار السياسي والأمني ولا على الازدهار الاقتصادي.

وعلى المدى القريب فالخيار المتاح أمام أنور هو إما انضمام أعداد من قيادات حزب أمنو إلى صفه، وحدوث حالة انحلال في التحالف الحاكم، وإما حصول انتخابات عامة جديدة تدفعه إلى سدة الحكم.


* د. محسن محمد صالح: مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

المصدر: الجزيرة نت 11/8/2008