مدة القراءة: 4 دقائق

المؤتمر الدولي الذي عقد في نيودلهي في منتصف مارس/ آذار 2007 حول الحرب والمقاومة في منطقة غرب آسيا يستحق وقفة تأمل.

كان مما يلفت النظر أن المؤتمر تميز بحضور نوعي كثيف بلغ نحو ثلاثمائة من الخبراء والسياسيين والصحفيين والأكاديميين، كما لقي تغطية إعلامية واسعة واهتماما من الخارجية الهندية التي أرسلت بعض خبرائها، فضلا عن مشاركة أحد وزراء الحكومة (وزير الحديد والمعادن) وعدد من قادة الأحزاب وخصوصا ذات التوجهات اليسارية.

وكما تحدث عدد من منظمي المؤتمر مع كاتب هذه السطور (مثل سيما مصطفى وبرابير بوركاياسثا وغيرهما) فإنهم هدفوا إلى التأثير على صانع القرار الهندي، خصوصا فيما يتعلق بسياسة الهند الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، و”فرملة” الاندفاعة الهندية نحو إسرائيل.

فهذه الاندفاعة تقلق الكثيرين في الهند ممن أخذوا يشعرون بأن اللهاث وراء المصالح الاقتصادية سيفقد الهند دورها في دول عالم عدم الانحياز والعالم الثالث، وسيؤثر على منظومة القيم والأخلاقيات والمبادئ التي كانت تحكم السلوك الهندي تجاه فلسطين منذ أيام المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وأنديرا غاندي.

كما أن المسلمين والقوى اليسارية الهندية ينظرون بانزعاج إلى عمليات الاختراق الأميركي الإسرائيلي، ويخشون أن ينتهي المطاف بالهند إلى الدوران في فلكهما.

من الأيديولوجيا إلى المصلحة
كتب الأب الروحي لاستقلال الهند المهاتما غاندي في 20/11/1938 قائلا: “إن فلسطين تخص العرب بالطريقة نفسها التي تخص فيها بريطانيا البريطانيين وفرنسا الفرنسيين، وإنه من الخطأ وغير الإنساني فرض اليهود على العرب.

وما يجري الآن في فلسطين لا يمكن تبريره بأي نظام أخلاقي.. بالتأكيد، فإنها ستكون جريمة ضد الإنسانية أن يتم تخفيض عدد العرب ليتم تجهيز فلسطين جزئيا أو كليا وطنا قوميا لليهود”.

تحكم السياسة الهندية الحالية هذه الأيام بشكل أساسي الاعتبارات البراغماتية التي أزاحت الاعتبارات الأيديولوجية من طريقها.

وقد نجحت إسرائيل إلى حد ما في اللعب على وتر العداوة التقليدية بين الهند وباكستان، واعتبارات العواطف العربية الإسلامية المؤيدة لباكستان، فأخذ عدد من الساسة الهنود يتبرمون من أن مواقفهم المؤيدة للقضية الفلسطينية لا تجد الصدى والتقدير اللازمين من العالم العربي.

ومن جهة أخرى فتح مؤتمر مدريد 1991 واتفاقات أوسلو 1993 الباب على مصراعيه للكثير من الدول لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، خصوصا بعد أن وقعت منظمة التحرير الفلسطينية والأردن اتفاقيات معها.

ووجدت الهند مع غيرها أنهم لم يعودوا بحاجة إلى أن يكونوا “ملكيين أكثر من الملك”!

وبالإضافة إلى ذلك فإن انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهور النظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، وما رافق العقد الأخير من القرن العشرين من مظاهر العولمة واقتصاد السوق.. كل ذلك أسهم في دفع الهند للبحث عن مصالحها أولا.

استمرت الهند سنوات طويلة حجر زاوية وطرفا “مضمونا” داعما للحق العربي في فلسطين، لكن السنوات الخمس عشرة الماضية شهدت تغيرات كبيرة، أدت إلى تطوير علاقات متينة دافئة مع الكيان الإسرائيلي.

وحسب الإحصائيات الإسرائيلية الرسمية فقد بلغت الصادرات الإسرائيلية الرسمية إلى الهند عام 2006 مليارا و270 مليون دولار، بينما بلغت الواردات الإسرائيلية من الهند في السنة نفسها مليارا و433 مليون دولار.

وقد تضاعفت العلاقات التجارية بين البلدين أكثر من عشرة أضعاف منذ أن أقامت الدولتان علاقات دبلوماسية بينهما عام 1992.

أما ما يثير القلق في العلاقات الهندية الإسرائيلية هو بالذات شقها الأمني والعسكري.

ولأن إسرائيل لا تُظهر في إحصائياتها الرسمية صادرات الأسلحة، فإنه من المتعذر الحصول على أرقام دقيقة، غير أن التقديرات تشير إلى أن إسرائيل صدرت في العام 2006 أسلحة تبلغ قيمتها أربعة مليارات و400 مليون دولار.

وتذهب بعض التقديرات التي ذكرها متخصصون هنود إلى أن صادراتها العسكرية إلى الهند وصلت عام 2006 إلى نحو مليار ونصف المليار دولار.

في العام 2005 فازت هيئة الصناعات الحربية الإسرائيلية (أي أم أي) بعقد قيمته 140 مليون دولار لإقامة خمسة مصانع لإنتاج المواد الكيماوية التي تستخدم في صنع المتفجرات في ولاية بيهار بالهند، كما ترددت أنباء عن عقد صفقتين لتزويد الهند بقذائف إسرائيلية مضادة للدبابات ولتطوير صناعة صواريخ الجيش الهندي.

ولا يزال التنسيق الأمني العسكري بين الطرفين يسير بشكل حثيث ومتصاعد.

اعتبارات سياسية متعلقة بغرب آسيا

وتحكم سياسة الهند في غرب آسيا اعتبارات أولها مصالحها الأمنية، وهو ما يدفعها للاستفادة من الخبرات العسكرية الإسرائيلية والأميركية من أجل تعزيز نفوذها وضمان قوتها الردعية خصوصا في وجه جارتها اللدود باكستان.

وتدرك الهند أن إسرائيل هي أحد أهم مداخل صناعة السياسة الخارجية الأميركية، وأن العلاقة معها تفتح لها العديد من النوافذ الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع أميركا، والهند تضع هذا الاعتبار في حسبانها.

ومن جهة ثانية فإن الكثير من مصالح الهند الاقتصادية مرتبطة بمنطقة الخليج العربي، إذ تستورد نحو 60% من وارداتها النفطية من البلاد العربية، وفضلا عن ذلك فإن هناك نحو ثلاثة ملايين هندي يعملون في بلدان الخليج العربي، وهم يرفدون الاقتصاد الهندي سنويا بمبالغ طائلة.

ومن ناحية ثالثة فإن هناك ما لا يقل عن 150 مليون مسلم هندي يشكلون أكبر أقلية إسلامية في العالم، ولهم دورهم المهم إذا ما أحسن توظيفه وتفعيله.

تدفع هذه الاعتبارات المتداخلة الهند إلى رسم سياستها بشكل أكثر حذرا وانتباها، لكن حالة الضعف العربي والوضع المتردي لمسلمي الهند أفقدا الجانب المؤيد للقضية الفلسطينية قدرته على التأثير، في الوقت الذي تصاعد فيه دور اللاعب الإسرائيلي الأميركي.

وقد تحدث عدد من الغيورين الهنود لكاتب هذه السطور عن الدور الهزيل للسفارات العربية، في الوقت الذي يلاحق الإسرائيليون فيه الساسة والصحفيين والأكاديميين الهنود بالهدايا والرشاوى وحفلات الكوكتيل.

النظر شرقا

الأميركان والإسرائيليون يدركون تماما ماذا يعني الصعود الهندي! إذ تشير دراسة أصدرتها المخابرات الأميركية عام 2005 إلى أن الصين والهند ستكونان القوتين الأكثر صعودا في العالم في غضون عشرين سنة القادمة، وأنهما ستشكلان التحدي الاقتصادي الأكبر لأميركا، وأن الدخل القومي للهند سيتجاوز دخل كل دول أوروبا.

لست متفائلا جدا بأن الحكومات العربية ستقوم بإعادة رسم حساباتها شرقا، ولكن المؤتمر الذي انعقد في منتصف مارس/ آذار 2007 في نيودلهي يعطي بارقة أمل في أن الهنود أنفسهم أخذوا يقفون وقفات مراجعة، ليس بالضرورة حبا في العرب، وإنما ربما سعيا لأن تحفظ الهند خصوصيتها وهويتها، بينما تنمو لتشكل رقما فاعلا في السياسة الدولية، وحتى لا تقع مستقبلا في مطبات السير في الفلك الأميركي.

القرارات التي اتخذها المؤتمر كانت متقدمة نسبيا تجاه القضية الفلسطينية، إذ دعا إلى إنهاء الاحتلال غير الشرعي لفلسطين، ودان الطبيعة العنصرية الاستعمارية للكيان الإسرائيلي، وطالب بمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها طالما تقوم باحتلال أراض فلسطينية.

كما طالب بتنفيذ حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وأكد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، وطالب برفع الحصار واحترام الخيار الديمقراطي الفلسطيني وإيقاف الاغتيالات السياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين.

وكان من أهم القرارات مطالبة الحكومة الهندية بقطع العلاقات العسكرية والأمنية فورا مع إسرائيل.

مثل هذا المؤتمر وغيره من الأنشطة والفعاليات، وخصوصا ما يقوم به الهنود أنفسهم، يستحق التشجيع ويمكن البناء عليه مستقبلا لتوجيه السياسة الهندية، ولو على المدى البعيد، أو الضغط عليها بما يدعم قضايانا العادلة.

المصدر: الجزيرة نت 29/3/2007

.