مدة القراءة: 7 دقائق

أسامة أبو ارشيد-كاتب ومحلل سياسي مقيم في واشنطن

تَحَمُسُ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لوثيقة الأسرى، تحمس واه. فلا كل الوثيقة يؤيد مواقفه التي ما فتئ ينظر لها وخصوصا فيما يتعلق ببند المقاومة المسلحة، التي يقف ضدها على طول الخط، في حين تدعو الوثيقة إلى حصرها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولا هو مشهور باحترام إرادة الشعب، ولا أدل على ذلك من أنه الأب الإيديولوجي لاتفاقات أوسلو والتي مررت بليل من وراء ظهور الشعب، وحتى من وراء منظمة التحرير، التي تذكر أبو مازن فجأة أنها موجودة ليضعف بها حكومة حماس المنتخبة.

على الجانب الآخر، معارضة حماس لعرض هذه الوثيقة على الاستفتاء الشعبي، ليس بالضرورة مقنعا بالكلية، صحيح أن اعتراضات الحركة فيها بعض المنطقية كما يتعلق ببندي الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني بشكلها الحالي، وقبل إعادة تشكيلها كما اتفق على ذلك في اتفاقات القاهرة في آذار/مارس 2005 على أساس موازين القوى الجديدة على الأرض، واعتماد قرارات الشرعية الدولية كأساس للحل السياسي، التي لا تعترف بها إسرائيل أصلا، ولكن معارضة الاستفتاء كآلية بذاتها أمر يصعب هضمه، خاصة وأن هذا الاستفتاء لو تم، قد يخرج حماس من ورطة فعلية جراء الحصار الداخلي والخارجي على حكومتها وشعبها، دون أن ترغم هي على تقديم تنازلات جوهرية في فكرها.

هذا توصيف عام، ولكن في التفاصيل ثمة أمور أخرى. وأول الأمور التي ينبغي الإشارة إليها هنا أن غيرة عباس ومن حوله ليست في محلها، وادعاء قدسية ورمزية “الأسرى” التي يتمنطقون بها الآن مردود عليها، خصوصا وأن اتفاقات أوسلو والتي على أساسها ولدت السلطة الفلسطينية، أهملت قضية الجلَّ الغالب منهم، لصالح بضع مئات من المحسوبين على تيار أوسلو داخل فتح، فضلا عن أن السلطة برئاسة فتح في مرحلة ما قبل انتخابات 2006 نفسها متورطة في ملف الأسرى، وإلا فمن الذي سلم خلية صوريف للاحتلال الصهيوني عام 1996؟ ومن الذي سلم اللواء فؤاد الشوبكي مستشار الرئيس الراحل ياسر عرفات وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعادات للاعتقال تحت إشراف دولي في أريحا قبل أن تحول الدولة العبرية ملف أسرهم إلى سجونها قبل شهور!؟

أيضا، عباس يعارض أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة، سواء في الأراضي المحتلة عام 1948، أم حتى تلك المحتلة عام 1967، في حين أن وثيقة الأسرى تدعو إلى حصر المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي أنها تخالف رؤية عباس كليا، وبالتالي فإن تبني عباس لها، ليس أمرا عن قناعة وإنما وراء الأكمة ما وراءها.

ولكن ما هو الهدف الحقيقي لتبني عباس للوثيقة؟

ثمة هدف معلن مدعى، وآخر خفي. الهدف المعلن والمزعوم، هو إنقاذ الشعب الفلسطيني من الحصار الخانق الذي يعيشه منذ انتخابه لحركة حماس وتسلمها الحكم “نظريا”، وذلك بذريعة أن حماس ترفض التجاوب مع المطالب والشرعيتين العربية والدولية.

ما الهدف الخفي فهو نقض انتصار حماس الانتخابي، عبر توظيف “الأمعاء الخاوية” ضدها.

عمليا يقدر عباس على إسقاط حكومة حماس، ولكنه عاجز عن حل المجلس التشريعي المسيطر عليه من قبل حماس، بمعنى أن إسقاط الحكومة سيولد فراغا سلطويا، قد تكون تداعياته كارثية، من طراز حرب أهلية.

وبالتالي فليس أذكى من طرح وثيقة الأسرى التي وقعتها رموز من أسرى حركات فتح وحماس والجهاد والشعبية والديمقراطية على الشعب الفلسطيني.

وهنا يكسب عباس في حالتين، الأولى إن أيد الشعب هذه الوثيقة واستمرت حماس على رفضها، فحينها يمكنه الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، والثانية إن وافقت حماس على نتيجة الاستفتاء وروحيته وأصبحت جزءا من صيرورته، وتخلت بذلك عمليا عن إيديولوجيتها، فعندها يصبح الانشقاق في صفوف حماس مسألة وقت، هذا إن لم يقع مباشرة.

طبعا الخطورة هنا أن يخسر عباس الاستفتاء، وهو الأمر غير المتوقع، حيث سيصوت الناس وهم جوعى ومفلسون، ولكنه إن خسر فإن ذلك قد يعني استقالته من رئاسة السلطة، وحدوث انتخابات رئاسية جديدة قد تخسرها فتح، وهنا تصبح مخاوف اندلاع حرب أهلية مرجحة أكثر، لأن فتح وقتها لن تقبل بأن ينتهي دورها هنا، في ظل سيطرتها المطلقة على الأجهزة الأمنية، والدعم الإسرائيلي الأمريكي والعربي المؤثر لها.

وحتى وإن ربح عباس الاستفتاء ودعا لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة-مرة أخرى على أساس أنه لا يملك حق حل التشريعي-فإنه قد يخسر هذه الانتخابات ثانية، خصوصا وأن استطلاعات للرأي تقول بأن شعبية حماس زادت في مرحلة الحصار، في حين تراجعت شعبية فتح، في مقابل استطلاعات أخرى تقول بالعكس، أي أن الصورة مبهمة وضبابية، وخسارة فتح لانتخابات أخرى سيعني حربا أهلية سيشعلها متنفذوا فتح الذين يخشون ضياع امتيازاتهم.

على جانب حماس، تبدوا مشكلة هذه الأخيرة أكثر تعقيدا. فأحد رموزها في الحركة الأسيرة، الشيخ عبد الخالق النتشة، مهر الوثيقة بتوقيعه.

صحيح أن الحركة الأسيرة في صفوف حماس نفت أن الوثيقة تمثلها، واعتراضها محقة على أنها صدرت من سجن واحد هو سجن “هداريم”، إلا أن الضرر عمليا قد وقع على الحركة، وليس من السهولة على حماس أن تنسل من توقيع واحد من رموزها، حتى ولو سعى لتوضيح موقفه كي يخفف من الإحراج الذي جلبه على حركته.

وفعليا فقد فعل النتشة ذلك، إلا أن بيانه التوضيحي الذي أصدره بالاشتراك مع الشيخ بسام السعدي ممثل الجهاد الإسلامي، لم يذهب إلى حد شجب الوثيقة وإنكارها، وإنما إلى شجب توظيفها كورقة ابتزاز من قبل البعض (فتح)، وإلى إدانة اعتبارها وثيقة مطلقة ومشروعا كاملا لا يقبل النقاش.

جانب الإحراج الثاني في قضية الوثيقة لحماس، أن فتح وبذكاء يسجل لها لجأت إلى توظيف حجة دائما ما وظفتها حماس ضدها. فحماس دائما ما دعت إلى عرض اتفاقيات أوسلو وأي اتفاقيات أخرى على استفتاء شعبي، والدكتور موسى أبو مرزوق ألمح في مبادرته عام 1994، وذلك عندما كان رئيسا للمكتب السياسي للحركة، إلى فكرة إجراء استفتاء شعبي على طبيعة الحل، دون تحديد النهائي أو المرحلي، وقبل شهور قليلة كان وزير الخارجية الفلسطيني، والقيادي في حماس، الدكتور محمود الزهار يشير إلى إمكانية إجراء استفتاء شعبي على أي حل مقترح.

صحيح أن حماس كانت تشير في بعض تصريحاتها إلى استفتاء الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، لا في الضفة والقطاع فحسب، إلا أنها لم تكن موفقة في تبيان هذا الفارق في الحالتين.

أيضا لم تكن حماس واضحة جدا وحاسمة في تبيان أن ما يراد من وراء فكرة الاستفتاء هذه هو الالتفاف على فوزها الانتخابي، أو إحداث “انقلاب أبيض”، على إرادة الشعب في الأراضي المحتلة عام 1967، بعد أن عجزت فتح المتجرعة لمرارة الهزيمة من إسقاط حماس عبر مؤسسة الرئاسة والضغوط العربية والإسرائيلية والدولية، خصوصا منها الأمريكية.

فبدل أن تجعل حماس من هذه القضية نقطة ارتكاز لها في دفع محاولات عباس وفتح تجريدها من فوزها، فإنها لجأت إلى الإشارة إليها على خجل، في حين بالغت في استجداء عباس على إعطاء مهلة للحوار الوطني وعدم ربطه بسقف زمني والتخلي عن التهديد بالاستفتاء، مع أنها هي نفسها من يصر على أنه لا يملك الحق القانوني للدعوة له!.

فكرة الاستفتاء، وعلى الرغم من أنها آلية حق يراد بها باطل في هذا السياق، إلا أنها قد تكون مصلحة للجميع إن أحسن توظيفها واتفق على ماهيتها وصيغتها وهدفها، كما أنها قد تكون كارثية على القضية إن استمر منطق الاستفراد والنكاية السياسية الذي يقف وراء طرحها إلى الآن.

فإنكار أن الشعب يعيش حصارا ظالما وقاتلا بعد فوز حماس لا يعدوا كونه دسا للرأس في الرمال، والادعاء أن عباس وفتح ينطلقون في حماستهم للاستفتاء من حرصهم على مصالح الشعب الفلسطيني خداع ونفاق ليس له أي أرضية إسناد.

ولجعل الاستفتاء في مصلحة الشعب فعلا فإنه ينبغي الاتفاق بين الرئاسة والحكومة، وبين حماس وفتح أولا، وبقية الفصائل الأخرى ثانيا، على آليته ووسيلة إجراءه، والصيغة التي سيطرح بها على الشارع.

فالقانون الأساسي للسلطة لا ينص صراحة على صلاحية الرئيس للدعوة لاستفتاء عام، بل إن الباحثة الفلسطينية رولا سرحان تذهب أبعد من ذلك في دراسة أعدتها حول قانونية الاستفتاء في الحالة الفلسطينية حيث ترى فيها: “إن القانون الأساسي الفلسطيني لا يحمل أي نص يتعلق بإمكانية إجراء، أو اللجوء لإجراء استفتاء عام من قبل أي سلطة كانت”، وأنه على هذا الأساس، فإن دعوة الرئيس عباس لإجراء استفتاء تُعَدّ دعوة مخالفة للقانون الأساسي (الدستور الفلسطيني المؤقت) وتحديـدًا نص المـادة (38) والتي تقول: “يمارس رئيس السلطة الوطنية مهامه التنفيذية على الوجه المبين في هذا القانون”.

وترى سرحان أنه “لحل إشكالية عدم دستورية الاستفتاء يقتضي تعديل القانون الأساسي بتضمينه مادة حول الاستفتاء، وتوسيع صلاحيات الرئيس، أو الجهة المخولة بالدعوة لإجراء الاستفتاء، بما يمكنه من إجرائه”. وبما أن الأمر كذلك فإن حماس والحكومة يملكان الحق بالتشكيك بشرعيته بل وحتى محاولة منعه عبر المجلس التشريعي المسيطر عليه من قبل حماس والمخول بتعديل القانون الأساسي للسلطة، وليس من حل إلا بالتوافق بين المؤسستين والحركتين (حماس وفتح) لإنجاحه وجعله شرعيا.

وهذا إن تم فإن حماس بذلك وحكومتها المنتخبة سيتوفران على دور فعلي في توجيه دفة هذا الاستفتاء من ألفه إلى يائه والحيلولة دون تفرد الرئيس وفتح به. وفي ذلك أيضا مصلحة لفتح وعباس حتى لا يدخلوا الساحة الفلسطينية في نفق المجهول الذي قد تكون نهايته حربا أهلية، لن يكونوا هم أنفسهم بعيدين عن الاكتواء بنيرانها.

الأمر الثاني، فإن وثيقة الأسرى تنص صراحة على الالتزام بمقررات اتفاق القاهرة في آذار/مارس عام 2005، والتي بموجبها تم الاتفاق ضمن أمور أخرى على إعادة “تطوير وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وانضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وبما يتلاءم مع المتغيرات على الساحة الفلسطينية وفق أسس ديمقراطية، ولتكريس حقيقة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وبما يعزز قدرة منظمة التحرير في القيام والنهوض بمسؤولياتها في قيادة شعبنا في الوطن والمنافي وفي تعبئته والدفاع عن حقوقه الوطنية والسياسية والإنسانية في مختلف الدوائر والمحافل والمجالات الدولية والإقليمية” (وثيقة الأسرى).

وهو البند الذي عطلته فتح، وأعطت بذلك بالتالي الحجة لحماس والجهاد محقتين، لعدم الاعتراف بهياكل ومضامين للمنظمة بليت وأكل الدهر عليها وشرب.

فإن صوت الشعب لصالح الوثيقة فإنه أيضا يصوت لصالح إعادة تشكيل المنظمة ودخول حماس تحديدا كقوة فعلية كبيرة في مؤسساتها، وهو الأمر الذي سيضعف من سيطرة فتح فيها بعد أن ضعفت سيطرتها في السلطة.

ولعل هذا يعطي حجة قوية لحماس في إعادة توجيه دفة الاستفتاء، فعقد الاستفتاء يستوجب إعادة تشكيل المنظمة على أسس موازين قوى اليوم، فلا يعقل أن يكون شخص مثل ياسر عبد ربه والذي لا يحظى بأي رمزية أو وزن شعبي أو صفة تمثيلية طرفا موجها من داخل أطر المنظمة لهذا الاستفتاء في حين تقبع حركتين بحجم حماس والجهاد بجمهورهما الواسع، الذي يبدوا أنه الأغلبية في هذه المرحلة خارجها.

ولذلك لابد من إعادة تشكيل المنظمة أولا، لكي تصبح بحق ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، كما تقول وثيقة الاستفتاء، ثمّ في مرحلة تالية يعقد الاستفتاء بدعوة من هذا الممثل الشرعي والوحيد الفعلي للشعب الفلسطيني. فلا يعقل أن تؤمن فتح ومؤسسة الرئاسة ببعض الوثيقة وتكفر ببعضها، وحينها سيصبح للاستفتاء معنى وصيغة وماهية وأهدافا أخر.

بكلمات رفض حماس للاستفتاء من حيث المبدأ أمر خاطئ، وإصرار فتح عليه دون تهيئ الأرضية المناسبة والشروط اللازمة لنجاحه وإيتاء أكله أمر مشكوك في دوافعه، ولا حل إلا بتوافق الفصيلين الأكبر ومؤسستي الرئاسة والحكومة، وإلا فإننا نسير باتجاه الهاوية.

وأمر أخير، فإن أي استفتاء لفلسطيني الضفة والقطاع، ينبغي أن يكون واضحا بأنه لا يمثل إلا أهل الضفة والقطاع، فليس من حقهم إصدار أحكام فيما يتعلق بحق العودة وحقوق فلسطيني الشتات وبقية الحقوق التاريخية الثابتة لهذا الشعب ككل، وهذا أمر آخر قد تفيد فيه حماس لو لعبت لعبة الاستفتاء بطريقة سليمة وذكية وشاركت في توجيه دفته، وربطته بإعادة تشكيل المنظمة أولا، وإلا فإنه من حقها القول إنه غير شرعي ولا يلزمها.

ولو افترضنا أن نتيجة الاستفتاء قد جاءت فعليا لصالح موقف عباس وفتح، فحينها وحسب وثيقة الأسرى فإن ذلك ينبغي أن يتبعه تشكيل حكومة وحدة وطنية، بمعنى أن فتح ملزمة على مشاركة حماس في الحكومة، لا الدعوة لانتخابات جديدة، حينها إن رفضت فتح مشاركة حماس الحكومة فالاستفتاء باطل، وإن شاركت فإن حكومة حماس غير ملزمة بتبني نتائج الاستفتاء، ولكنها تحترم إرادة الأغلبية وتستعفي تنظيميا وإيديولوجيا منها، ومع ذلك تسير حكومتها بنير منه.

ولكن هل فعلا ستخاطر فتح بمشاركة حماس حكومة وحدة وطنية وتغضب الحليفين الأمريكي والإسرائيلي!؟ بمعنى آخر الاستفتاء ليس كله في مصلحة فتح لو لعبت حماس اللعبة بطريقة صحيحة وتخلت عن وهم “الأخلاقية السياسية” وأعادت الكرة إلى منطقة جزاء فتح والرئاسة.

فتوريط فتح عبر لعبة محبوكة فيه مصلحة للشعب والقضية، حتى ولو لم تكن فيها مصلحة حماس التنظيم مرحليا، فمصلحة الشعب مقدمة، وفي كل الأحوال فقرار من حكومة حماس المنتخبة ليس قرارا من حماس الحركة.

 

خاص الزيتونة، 9/6/2006