مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أحمد الحيلة* (خاص – مركز الزيتونة).

عبّرت وثيقة الوفاق الوطني التي وضعها عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال “الإسرائيلي” عن حرص وحس عالٍ بالمسؤولية الوطنية.

فالوثيقة المنشورة في صحيفة القدس (11/5/2006) قدمت رؤى وتصورات، قبيل التئام الحوار الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الخامس والعشرين من أيار/ مايو، مساهمة لرأب الصدع السياسي الفلسطيني الداخلي، ومحاولة جادة لتقديم أسس يرى فيها الأسرى أرضية صالحة لحوار وطني، يؤمل منه أن يؤدي إلى توافق الحاضرين على برنامج سياسي مشترك، يصون الوحدة الوطنية الفلسطينية من براثن الانفلات الأمني الذي بات يهدد أمن ووحدة الشعب الذي يعاني من آثار الحصار السياسي والاقتصادي القاسي المفروض عليه برعاية صهيوأمريكية.

لذلك تناولت الوثيقة عدداً من القضايا الجوهرية التي تعد ثوابت وطنية وأصول سياسية فلسطينية، مثّل بعضها محل إجماع، والبعض الآخر محل تباين واجتهاد سياسي خاصة بين حركتي فتح وحماس.

ورغم الحرص والجهد الواضح للأسرى في السجون لمحاولة الوصول إلى مساحات مشتركة ونقاط التقاء جامعة، إلا أن الوثيقة على أهميتها لم تستطع ـ في تقديرنا ـ جسر الهوة السياسية في العديد من القضايا التي تعد نقاط تباين بين برنامجي المقاومة والتسوية.

ولتبيان نقاط التوافق والاختلاف التي اجتهدت الوثيقة للتوفيق بينها دون التمكن من الوصول إلى صيغة مقبولة ـ في ظننا ـ من جميع الحركات الفلسطينية، يمكن أن نستعرض بعض المسائل الهامة التي عرضها الأسرى في الوثيقة، ومنها على سبيل المثال:

الفقرة الأولى، أكدت على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، وضمان حق اللاجئين في العودة. وهذه محل إجماع فلسطيني.

ولكن الفقرة ذاتها تستمد شرعية هذه الحقوق استناداً إلى الحق التاريخي، وإلى ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي، والشرعية الدولية. وهنا يبرز الخلاف والتباين لأن الشرعية الدولية تعني الاعتراف بالاحتلال، وحقه في 78% من أرض فلسطين التاريخية، وهذا ما ترفضه حركتي حماس والجهاد الإسلامي على وجه الخصوص.

الفقرة الثانية، تؤكد على ما تم الاتفاق عليه في القاهرة في آذار/ مارس 2005 فيما يتعلق بإعادة تفعيل وتطوير م.ت.ف وانضمام حركتي حماس والجهاد إليها. وهذا مجمع عليه، وهناك مساع في هذا الاتجاه.

لكن الفقرة تستكمل ذاتها بالقول: بوصفها (أي المنظمة) الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. وهذا محل تباين بين فتح وبعض الفصائل من جهة وبين حركتي حماس والجهاد من جهة أخرى، لأن حماس تعتبر المنظمة إنجاز وطني لا يمثل الشعب الفلسطيني كافة في الوقت الراهن، كون حماس التي حازت على أغلبية فلسطينية في الانتخابات التشريعية غير ممثلة فيها إضافة إلى الجهاد. أي أن حماس تطالب أولاً إعادة بناء المنظمة على أسس سياسية وتنظيمية جديدة تسمح لحماس والجهاد الانضمام إليها لتصبح المنظمة من بعد ممثلاً شرعياً حقيقياً لكافة الفلسطينيين في الداخل والشتات.

الفقرة الرابعة من الوثيقة تطالب بـ”وضع خطة فلسطينية للتحرك السياسي الشامل.. على أسس برنامج الاجماع الوطني الفلسطيني ( الذي لم يتوصل إليه بعد)، والشرعية العربية وقرارات الشرعية الدولية المنصفة لشعبنا..”. وهنا يظهر التباين من جديد، فإذا اعتبرنا كلمة “منصفة” مخرجاً للتنصل من بعض القرارات الدولية على أساس عدم إنصافها، فإنها قد تكون مثار جدل آخر بين الأطراف الفلسطينية حول ما هية معيار الانصاف.

فعند الحديث مثلاً عن حق العودة فإن حماس ترى فيه حقاً فردياً وجماعياً لكل اللاجئين بالعودة إلى الأراضي التي هجروا منها بما فيها الأراضي المحتلة عام 1948، لكن حركة فتح أو بعضاً منها قد يعتبر الانصاف هو “فن المتاح”، أي توطين جزء، وعودة جزء إلى الضفة والقطاع فقط، على قاعدة عدم إمكانية عودة اللاجئين إلى الأراضي التي هجروا منها في فلسطين المحتلة عام 1948 وعدم قدرة الضفة وغزة على استيعاب كل اللاجئين، وهذا ما تناولته وثيقة جنيف المعروفة بوثيقة بيلين ـ عبد ربه التي تنازلت عن حق العودة تحت مبرر عدم واقعية عودة اللاجئين.

أما فيما يتعلق بالشرعية العربية، فما المقصود بها؟ هل هي المبادرة العربية في قمة بيروت؟ المبادرة التي تعترف بحق وجود دولة “إسرائيل” في حدود آمنة على 78% من أرض فلسطين التاريخية! المبادرة التي تلتف على حق العودة من خلال الحديث عن إيجاد حل “عادل” تتوصل إليه الأطراف! ونتساءل، ما هو معيار العدل، فكل طرف له معياره الخاص الذي يخدم مصالحه والغلبة للأقوى.

الفقرة السابعة تعتبر أن “إدارة المفاوضات هي من صلاحيات م.ت.ف  ورئيس السلطة.. على أن يتم عرض أي اتفاق مصيري على المجلس الوطني الفلسطيني الجديد للتصويت عليه، أو إجراء استفتاء عام..”

وهنا قد تلتقي الأطراف على تفويض م.ت.ف لإدارة المفاوضات بعد إعادة بنائها على اسس سياسية وتنظيمية جديدة تتيح لجميع الفصائل (حماس والجهاد) الانضمام إليها. وهذا المعنى يفهم ويستشف بشكل غير مباشر من النص “أن يتم عرض أي اتفاق مصيري على المجلس الوطني الجديد..” أي أن الفقرة بحاجة إلى توضيح للبس في المعنى، ومخافة أن يظن البعض أن الوثيقة تفوض أبو مازن رئيس السلطة، رئيس اللجنة التنفيذية الحالية للمنظمة للتفاوض مع الاحتلال فوراً، قبل إعادة بناء م.ت.ف، والتي قد تنتخب غيره رئيساً في حينه.

إذن الوثيقة على أهميتها ورغم أنها تحمل العديد من نقاط الالتقاء، إلا أنها تسوق عدداً من المسائل المثيرة للجدل والنقاش، والتي تحتاج إلى حورات معمقة.

ولا شك أن مؤتمر الحوار الوطني أدرك أهمية الوثيقة، وأهمية إخضاع مضامينها للحوار عندما نص في فقرته الثانية من بيانه الختامي (27/5/2006) على “اعتبار الوثيقة ـ إضافة إلى كل الأوراق المقدمة ـ أرضية صالحة للحوار الوطني”.

اما ما ورد في خطاب الرئيس محمود عباس من إمهال المجتمعين عشرة أيام للتوصل إلى اتفاق في شأن وثيقة الوفاق الوطني (مبادرة الأسرى) وإلا سيطرحها للاستفتاء الشعبي، فهذه دعوة غير موفقة قد تؤدي إلى فشل الحوار، وذلك لعدة أسباب منها:

• أن الشرط المسبق الملزم للحاضرين بقبول الوثيقة جملة وتفصيلاً، وإلا..!! أمر من حيث المبدأ لا يمكن قبوله من قبل الأطراف المجتمعة لاعتباره شرطاً استباقياً استفزازياً.

• دعوة المتحاورين لقبول الوثيقة بغثها وسمينها خلال عشرة أيام، مسألة غير ممكنة، لأن الوثيقة لا تلقى إجماعاً على كل مضاميها. إضافة إلى أن المؤتمر انعقد ليناقش عدة أوراق واقتراحات، ومن ثم تبادل وجهات النظر وصولاً إلى معالم مشتركة تعالج عدداً من القضايا بدءاً من كيفية التصدي للحصار، وكيفية إنهاء حالة الفلتان الأمني، والبحث في آليات توحيد البيت الفلسطيني الداخلي (إعادة بناء م.ت.ف)، وهذه مسائل بحاجة إلى حوارات وبرامج وآليات وجهود لا يمكن اختزالها في عشرة أيام. ويكفي التذكير بأن اتفاق القاهرة لإعادة بناء المنظمة احتاج إلى عدة لقاءات على مدار عدة سنوات، ومضى عليه أكثر من عام ولم ينجز بعد، فكيف يمكن توقع إنجاز أمور معقدة في عدة أيام؟!.

• إضافة لما سبق، فإن الوثيقة (مبادرة الأسرى) التي يريد الرئيس أبو مازن إلزام كل الشعب وقواه وفصائله بها في عشرة أيام، إنما هي مبادرة تعبر عن رأي قطاع من الأسرى (سجن هداريم) وليس كل الأسرى، بل أن غالبية أسرى حركة حماس يرفضون ويتحفظون على عدد معتبر من مضامين الوثيقة، وذلك حسب ما جاء في رسالة أسرى حماس المنشورة على شبكة الانترنت. وتحمل الرسالة توقيع أسرى حركة حماس في سجن: نفحة ـ عسقلان ـ السبع ـ النقب ـ عوفر ـ مجدو ، مؤكدين أن الوثيقة ممكن “أن تشكل أرضية للنقاش والحوار لكنها بكل تأكيد بحاجة إلى تطوير وإثراء وتعديل العديد من بنودها”

وهذا مدعاة لألا يستبق أحد الحوار وجلساته لمحاولة فرض أجندة معينة أو خاصة قد تفضي إلى الفشل والتأزيم. فالأجدى أن يتسع المؤتمر ولجانه لمناقشة كافة الأوراق السياسية المقدمة من كل الأطراف للوصول إلى أرضية مشتركة وإعطاء مؤتمر الحوار ولجانه الفرصة الكافية لإنضاج الأوراق والأفكار بعيداً عن الإرهاب السياسي أو الحركي وبعيداً عن سياسية وإلا…

 *أحمد الحيلة، كاتب وباحث فلسطيني.
مركز الزيتونة 28/5/2006