مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. English_Version

لا يبدو أن البيئة السياسية الداخلية الفلسطينية مهيأة حتى الآن لفكرة التداول السلمي على السلطة، وللقبول بنتائج صناديق الاقتراع مهما كان الفائز، ولإيجاد ظروف وشروط عادلة وشفافة لتنفيذ عملية انتخابية تعكس الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني.

أحد المسؤولين في السلطة الفلسطينية في رام الله نُقل على لسانه في أغسطس/آب الماضي أن حركة فتح لن تذهب للانتخابات في حال أن المؤشرات تؤكد أنها ستخسر، وقال “نحن لا نريد أن ننتحر”!! فإذا كانت مجرد الخسارة انتحارا، وأن فتح لن تذهب للانتخابات إلا إذا ضمنت الفوز، فمعنى هذا أن فتح التي تتحكم بقيادة المنظمة والسلطة تنوي الإبقاء على هيمنتها على القيادة والقرار الفلسطيني إلى ما لا نهاية!

وإذا كان الرئيس محمود عباس -وعدد من القيادات الفتحاوية- يفاخر بإجراء الانتخابات التشريعية التي أدت إلى فوز حماس سنة 2006، وباحترام هذه النتائج؛ فإن هناك ما يتعمد إغفاله، وبالذات أنه وقيادة فتح لم يتوقعوا إطلاقا فوز حماس، وأن استطلاعات الرأي وتوقعات أجهزة مخابرات السلطة والمخابرات الإسرائيلية والعربية والأميركية والدولية كلها كانت مطمئنة إلى فوز فتح.

أما حكاية احترام نتائج الانتخابات فلا يكفي فيها مجرد تشكيل إسماعيل هنية للحكومة، وإنما يجب تَذَكُّر مجموعة الإجراءات التي قام أبو مازن نفسه باتخاذها لإسقاط الحكومة وإفشالها، وتذكُّر الفلتان الأمني الذي تولته الأجهزة الأمنية بتوجيهات من قيادات فتحاوية رافضة للالتزام بتوجيهات الحكومة، وقيام أبي مازن بتعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني طوال تسع سنوات ماضية ومنعه من ممارسة دوره الرقابي لمجرد أن حماس تملك أغلبية أعضائه. هذا، مع تشكيل كافة الحكومات طوال هذه السنوات وقيامها بعملها دون الرجوع إطلاقا للمجلس، بالإضافة إلى إصدار عباس للعشرات من المراسيم والقوانين دونما إقرار أو مراجعة من المجلس.

كان يفترض باتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تمّ توقيعه في أوائل مايو/أيار2011 أن يعالج إعادة بناء البيت الداخلي الفلسطيني، وأن يقوم بإجراءات بناء الثقة باتجاه انتخابات نزيهة شفافة.. لكن خمس سنوات مضت لم تكن كافية لمن بيده السلطة للقيام بذلك. ثم جاء قرار محكمة العدل العليا، الذي لا يمكن استبعاد خلفياته السياسية، بتوقيف الانتخابات المحلية ليزيد حالة الإحباط الفلسطيني.

***

عقدت آخر انتخابات بلدية بمشاركة الفصائل الفلسطينية سنة 2005، وظهر فيها التنافس التقليدي القوي بين فتح وحماس؛ وسارت على أربع مراحل طوال تلك السنة، وشملت 256 مدينة وقرية فلسطينية.

وأظهرت نتائجها العامة تفوقا لحركة فتح في القرى والبلدات الصغيرة وفي مجموع المقاعد، بينما أظهرت تفوقا لحركة حماس في المدن والبلدات الكبيرة وفي عدد الأصوات. وحققت فتح ما مجموعه 1164 مقعدا (بسبب كثرة البلدات الصغيرة) مقابل 862 مقعدا لحماس. وكان مجموع ما حصلت عليه فتح وحماس يساوي حوالي ثلاثة أرباع مقاعد المجالس المحلية (البلديات). وقد فوجئت فتح بفوز حماس بأغلبية ساحقة وبنسبة 74% في نابلس، أكبر مدن الضفة الغربية. ولذلك قررت قيادة السلطة (فتح) عدم إجراء الانتخابات البلدية في مدينتي الخليل وغزة حيث كانت التوقعات ترجح بقوة فوز حماس.

***

وفي 11/7/2012 قررت حكومة فياض في رام الله إجراء انتخابات بلدية دون ترتيب وتوافق مع حكومة هنية في غزة، مما أدى لمقاطعة حماس للانتخابات وعدم تنفيذها في قطاع غزة. وقد تمت هذه الانتخابات في 20/10/2012 وشملت 93 هيئة محلية وشهدت -في ضوء مقاطعة قوى المقاومة- حالة تنافس وانقسام فتحاوي حاد، أدى إلى مشاركة عناصر وشخصيات فتحاوية مفصولة بقوائم مستقلة في عدد من المناطق ضدّ قوائم فتح الرسمية؛ حيث ظهرت أبرز الخسارات في مدينة نابلس، عندما فازت قائمة غسان الشكعة (المستقيل من فتح) على القائمة الرسمية لفتح التي يرأسها أمين مقبول أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح. كما لعب محمد دحلان (بعد فصله من فتح) ومؤيدوه دورا أثَّر على النتائج في عدد من المناطق.

***

أعطى قرار الحكومة الفلسطينية في 21/6/2016 بإجراء الانتخابات للهيئات المحلية بارقة أمل بإمكانية تحريك المياه الراكدة باتجاه ترتيب البيت الفلسطيني. وقد قوبل ذلك بترحيب من حماس ومن الفصائل الفلسطينية المختلفة التي قررت كلها المشاركة (ما عدا حركة الجهاد الإسلامي).

ومع تأكُّد مشاركة حماس، ومع بدء تشكّل الخريطة الانتخابية ومع رفض قوى اليسار الفلسطيني الدخول مع فتح في قوائم موحدة.. ومع ظهور نزاعات وحالات تنافس داخلي بين أعضاء حركة فتح، ودخول دحلان ومؤيديه على خط تشكيل القوائم الفتحاوية وبناء التحالفات، بدأت تظهر أصوات من داخل قيادة فتح، ومن دول عربية فاعلة في الشأن الفلسطيني، تدعو لتأجيل الانتخابات خصوصا وأن حماس قررت المشاركة على نطاق واسع وغير مباشر في الضفة الغربية، من خلال دعم قوائم مستقلة، لقطع الطريق على مطاردات الإسرائيليين وأجهزة أمن السلطة لها، وبما يعطيها فرصا أفضل للفوز. كما أن الاستطلاعات أخذت ترجح فوز القوائم التي تؤيدها حماس في المدن الرئيسية، وبأعداد كبيرة من الأصوات تؤكد حضورها القوي في المشهد السياسي الفلسطيني.

تزايد الضغط على عباس بعدم إجراء الانتخابات المحلية منذ أوائل أغسطس/آب حيث طالب عدد من أعضاء اللجنة المركزية لفتح بذلك؛ كما أن الدول العربية التي لها ارتباط خاص بالشأن الفلسطيني لم تكن مرتاحة لإجراء الانتخابات، وحدثت تسريبات تؤكد أن الأردن ومصر تضغطان باتجاه إلغاء أو تأجيل الانتخابات ومعهم في ذلك دول خليجية، حيث يرون أن فتح تعاني من التشتت وعدم الجاهزية.

كما أن هذه الأنظمة تخشى من أن يؤدي فوز حماس إلى إعادة إحياء تيار “الإسلام السياسي”، وتحديدا “الإخوان المسلمين”، وإعطاء دفعة معنوية لأنصاره، وهو ما سينعكس سلبا على هذه البلدان. كما أن البلدان العربية المنشغلة بمرحلة ما بعد عباس، وخصوصا الإمارات ومصر التي تسعى إلى إيجاد دور رئيسي لمحمد دحلان في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ترى أن فوز حماس سيعقّد مخططاتها وإجراءاتها.

الإسرائيليون من جهتهم، وجدوا أنفسهم منشغلين بكيفية مواجهة استحقاقات فوز حماس خصوصا في الضفة الغربية، بعد أن كانوا يفكرون بمرحلة ما بعد عباس؛ حيث تشير تقديراتهم إلى فوز حماس في مدن الضفة الغربية المهمة، ولذلك لم يكونوا مرتاحين لعقد الانتخابات؛ ودخلوا على الخط من خلال اعتقال بعض الفاعلين المحسوبين على حماس، ومحاولة إجبار آخرين على الانسحاب بطرق التهديد المختلفة.

الرئيس عباس الذي بدا مُصرا على إجراء الانتخابات، وقلقا في الوقت نفسه من التدخل العربي بشأن فرض دحلان على فتح وعلى القيادة الفلسطينية؛ كان لا يزال في أغسطس/آب 2016، يشعر أنه يملك أوراق اللعبة؛ وأنه يمكن أن يؤجل أو يلغي الانتخابات متى ما رأى أن أسهم حماس صاعدة، وأن انتكاسة انتخابية جديدة بانتظار فتح. وعباس الذي لم يكن راغبا في إغضاب المنظومة العربية الداعمة لمسار التسوية والمعادية لتيارات “الإسلام السياسي”؛ كان يسعى في الوقت نفسه لإعطاء رسالة لهذه الأنظمة بأن قرار فتح شأن داخلي، وبالذات فيما يتعلق بفرض خصوم أو منافسين له.

من ناحية أخرى، لم يخل الأمر من اتهامات متبادلة بين رام الله وغزة بمحاولة التأثير على مجرى الانتخابات باستخدام الأجهزة الأمنية، واستغلال التأثير على الهيئات القضائية.

***

ثمة شبه إجماع في الساحة الفلسطينية أن قرار محكمة العدل العليا في 8/9/2016، بوقف مؤقت لقرار مجلس الوزراء بإجراء الانتخابات المحلية، كان قرارا مسيسا وإن أخذ غلافا قانونيا. فقد تصاعدت الضغوط الداخلية والخارجية على عباس، مع تزايد المؤشرات على تحقيق القوائم التي تؤيدها حماس نتائج عالية، ومع استمرار الخلافات الداخلية في فتح، وعدم نجاحها في تشكيل قوائم موحدة مع قوى اليسار الفلسطيني.

ويظهر من الإجراءات المتعلقة بالدعوى المرفوعة للمحكمة أن حركة فتح نفسها هي من يقف وراءها، فالقوائم الانتخابية الثلاث المعترضة هي قوائم فتحاوية. وما كان لها أن ترفع دعاواها دون ضوء أخضر من القيادة الفتحاوية، وخصوصا عباس. كما أن المنطق الذي استخدمته محكمة العدل العليا كان منطقا غريبا عندما استندت في قرارها إلى حرمان القدس وضواحيها من الانتخابات، وإلى الشك في النظام القضائي في قطاع غزة وفي قانونية قراراته.

وبغض النظر عما إذا كان قانون الانتخابات يعطي أي صفة أو اختصاص للمحكمة العليا في النظر في الاعتراضات الانتخابية؛ فقد أقحمت هذه المحكمة نفسها في جوهر الخلاف السياسي الفلسطيني، عندما أشارت إلى مقاطعة (قطاع غزة) لا تتمتع بالاعتراف القضائي والقانوني. لأن المحكمة نفسها تتواجد في مناطق تديرها قيادة سياسية تُعطل المؤسسة التشريعية الفلسطينية، ولم تحظَ حكوماتها كلها بأي شرعية أو ثقة من المجلس المنتخب. وكان الأولى بالمحكمة أن تبني على التوافقات الأساسية في اتفاق المصالحة، باتجاه إعادة بناء البيت الفلسطيني.

من ناحية ثانية فقد كان استخدام حجة حرمان الأحياء الخاضعة لبلدية الاحتلال في القدس وضواحيها من الانتخاب مثيرا للاستغراب، خصوصا أنه جاء من قِبل جهات (فتحاوية) وافقت أو سكتت على هذا الاستثناء قبل ذلك في انتخابات 2005 و2012. وهي جهات تعلم أن استخدام هذه الحجة يعني عدم إجراء الانتخابات بشكل مفتوح، طالما أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع إجراءها في منطقة القدس.

المؤشر الثالث جاء من قيادة السلطة نفسها عندما دفعت النائب العام الذي يمثلها للطلب من محكمة العدل العليا تأجيل البت في القضية إلى 2016/10/3، مع علم السلطة أن ذلك سيؤدي عمليا إلى تعطيل الانتخابات.

وبالتالي، فقد دلَّت المؤشرات أن عباس وقيادة فتح ليسا راغبين في إجراء الانتخابات المحلية. وهو ما أثار استياء حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى.

***

على أي حال، ليس هناك الكثير مما تبكي عليه حماس والفصائل الفلسطينية، بسبب تأجيل الانتخابات المحلية. فالاحتلال الإسرائيلي الجاثم في الضفة الغربية بما يقوم به من قتل وأسر وتدمير وتعطيل وإفشال، ومنظومة السلطة الفلسطينية بما تعانيه من ضعف وترهل وفقدان اتجاه.. كلها تجعل من إمكانية نجاح عمل المجالس المحلية أمرا بالغ الصعوبة.

ومن جهة أخرى، فالانتخابات المحلية لا تعطي مؤشرا سياسيا دقيقا على شعبية الفصائل الفلسطينية وأحجامها في الساحة. إذ تدخل الحسابات العائلية والعشائرية والخدماتية بشكل قوي في العملية الانتخابية خصوصا في القرى والأرياف، حيث كان يُفترض أن يتم انتخاب 272 مجلسا قرويا من أصل 414 مجلسا بلديا. ومع ذلك، فإن حساسية الوضع الفلسطيني، ومحاولة الجهات المختلفة أخذ مؤشرات سياسية وشعبية لهذه العملية الانتخابية أعطى لها طعما خاصا.. وأوزانا أكبر من حقيقة حجمها.

وأخيرا، فإن تجربة الإعلان عن الانتخابات المحلية، ثم الإعلان عن تعطيلها، يؤكد مدى صعوبة المضي في عملية ترتيب البيت الفلسطيني، وفي برنامج المصالحة الوطنية، ويشير إلى تأثير الاحتلال والبيئة العربية والدولية على منظومة العمل الفلسطيني.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 29/9/2016