إعداد: أ. شيماء بسام أبو سعدة [1].
(خاص بمركز الزيتونة).
| مُلخص الورقة: تتناول هذه الورقة الانهيار الكارثي للنظام الصحي في قطاع غزة، نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والحصار المفروض عليه. فقد استُهدفت المستشفيات والمراكز الطبية والطواقم الصحية بشكل مباشر، وأسفرت هذه السياسات عن نقص حادّ في الأدوية والمستلزمات الطبية، وارتفاع كبير في أعداد الوفيات، بما يُشكّل خرقاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، وجريمة إبادة صحيّة متعمّدة. ومع تدمير المستشفيات وتعطيل عمل الطواقم الطبية، أصبح النظام الصحي على شفا انهيار كامل، في ظلّ إجراءات إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تفكيك البنية الصحية، وفرض ضغط متواصل على السكان، وتحويل الرعاية الصحية إلى أداة إبادة مدروسة تستهدف وجودهم. تُقدّم الورقة قراءة شاملة لهذه الانتهاكات، مؤكّدة أنّ استهداف النظام الصحي في قطاع غزة يتجاوز البُعد الإنساني، ويعكس استراتيجية مقصودة، ويتطلب تدخّلاً عاجلاً على المستويات الدوليّة والسياسيّة والإنسانيّة لضمان حماية المدنيين والطواقم الطبية، واستعادة القدرة التشغيلية للمرافق الصحية. كما تستعرض الورقة مجموعة من البدائل والتوصيات العملية لمواجهة الأزمة الصحية ومعالجة تداعياتها. الكلمات المفتاحية: قطاع غزة، النظام الصحي، حرب الإبادة، المستشفيات، القانون الدولي الإنساني، الكوادر الطبية. |
| للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: استهداف النظام الصحي في قطاع غزة: تداعيات الإبادة والحاجة إلى استجابة دولية عاجلة … أ. شيماء بسام أبو سعدة |
المقدمة:
يشهد النظام الصحي في قطاع غزة انهياراً كارثياً نتيجة الاستهداف المتعمّد من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي للمرافق الطبية منذ بداية حرب الإبادة في 2023/10/7، بما يشمل المستشفيات، ومراكز الرعاية الأولية، والطواقم الصحية، إلى جانب حصار مشدد وندرة الأدوية وانعدام المقومات الأساسية، واستخدام المستشفيات كساحات عمليات عسكرية، وتعطيل وصول المساعدات الطبية الدولية، كل ذلك جعل آلاف المرضى والجرحى عرضة للموت البطيء.
وفي ظلّ هذا الواقع المأساوي، تغيب آليات الحماية والمساءلة الدولية، وتُنتهك مبادئ القانون الدولي الإنساني بشكل واضح، مما يعمّق حجم الكارثة الإنسانية والصحية. فالاستهداف المتكرر للمستشفيات في قطاع غزة، وخصوصاً في شماله، يهدف إلى تهجير السكان وتفريغ المنطقة منهم، مما أدى إلى خروج معظم المستشفيات عن الخدمة، وهو استهداف غير مسبوق في الحروب السابقة، ومُدمّر لكل المقومات الصحية.
تشكّل هذه الانتهاكات، بما فيها قصف المستشفيات، وقتل الكوادر الطبية واعتقالهم، ومنع المرضى من العلاج أو السفر، تهديداً خطيراً للحق في الحياة والرعاية الصحية وانتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني، الذي يحظر استهداف المنشآت الطبية والعاملين فيها. ويتضح من خلال قتل واعتقال الطواقم الطبية واستهداف سيارات الإسعاف، نية “إسرائيل” في تدمير المنظومة الصحية، ما يندرج ضمن ممارسات الإبادة الجماعية وفق اتفاقية سنة 1948،[2] إذ لا تستهدف فقط الأفراد وإنما وسائل حياتهم الأساسية.
وعلى هذا الأساس، تتطلب هذه التطورات تدخلاً عاجلاً على المستويين السياسي والحقوقي لحماية المدنيين والنظام الصحي، وضمان مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، لأنها تُمثّل واحدة من أوجه جريمة الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق سكان غزة.
تنص اتفاقية جنيف الرابعة Fourth Geneva Convention (المادتان 18 و19) على حماية المستشفيات المدنية التي تُعنى بالجرحى والمرضى، وتؤكد عدم جواز استهدافها،[3] ومع ذلك، يواصل الاحتلال الإسرائيلي استهداف المنشآت الطبية، متحدياً القوانين والأعراف الدولية.
استناداً إلى هذه المعطيات، تهدف هذه الورقة إلى تحليل الأزمة التي تواجه القطاع الصحي في غزة، وتبيان أبعادها القانونية والإنسانية، وتقديم بدائل سياسية وعملية قابلة للتنفيذ للحد من تفاقم الأزمة، كما تسعى إلى اقتراح توصيات ملموسة موجّهة لصنّاع القرار المحليين والدوليين، والمنظمات الحقوقية، والمؤسسات الأممية، لضمان حماية النظام الصحي وتفعيل المساءلة على الجرائم المرتكبة بحق العاملين والمرضى والجرحى.
السياسات والأهداف الإسرائيلية في التعامل مع النظام الصحي:
تجاوزت جريمة الإبادة الصحية في غزة مجرد إحداث خسائر بشرية لتستهدف النظام الصحي بشكل مباشر ضمن سياسات ممنهجة، شملت تعطيل قدرة المستشفيات والعيادات الطبية على العمل، واستهداف الطواقم والمرافق الصحية. ولا يقتصر هذا النمط على الأحداث الأخيرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بل يمتد لعقود، فقد نفّذت “إسرائيل” بين كانون الأول/ ديسمبر 2008 وأيار/ مايو 2021 نحو 180 غارة على المستشفيات والعيادات وسيارات الإسعاف في قطاع غزة، في أوقات كان فيها المئات، وأحياناً الآلاف من الجرحى، يسعون للحصول على العلاج أو الاحتماء داخل هذه المرافق. وعلى امتداد خمس جولات عدوانية حتى سنة 2023، وجّهت “إسرائيل” ضربات مدمّرة للبنية الصحية الفلسطينية، التي كانت تعاني أصلاً من نواقص حادة بفعل أشكال متعددة من العنف البنيوي على مر عشرات السنين.[4]
ولتبرير هجماتها على المنشآت الطبية، ادّعت “إسرائيل” أنّ حركة حماس بَنَت مئات الكيلومترات من الأنفاق تحت قطاع غزة، وأنّ المواقع المدنية، بما فيها المستشفيات، تُستخدم كدروع بشرية. وقبل اقتحام مجمع الشفاء الطبي في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شنّ الجيش الإسرائيلي حملة معلوماتية، نشر خلالها مقطع فيديو ثلاثي الأبعاد يُظهر المستشفى كغطاء لمقر قيادة الحركة تحت الأرض.[5]
ولا تقتصر الحرب على الممارسات الميدانية فحسب، بل جرى الترويج لها علناً من قِبل شخصيات وجماعات إسرائيلية مؤثّرة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني الذي يُجرّم استهداف المنشآت الطبية والكوادر الصحية في أوقات الحروب. فقد وجّه عدد من الحاخامات رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu وكبار المسؤولين الأمنيين، دعوا فيها صراحة إلى قصف المستشفيات وعلى رأسها مستشفى الشفاء، معتبرين ذلك متوافقاً مع الشريعة اليهودية والقوانين الوضعية.[6] كما أصدرت مجموعة “أطباء من أجل الجنود”، التي تضم مئات الأطباء الإسرائيليين، بياناً يدعو إلى استهداف المستشفيات باعتباره “حقاً وواجباً”،[7] في خرق فاضح لأخلاقيات الطب وللاتفاقيات الدولية التي تحمي المنشآت الصحية والعاملين فيها. ويظهر من هذا التلاقي بين الغطاء الديني والمهني أنه لم يقتصر أثره على الشرعية الاجتماعية والسياسية للهجمات فحسب، بل انعكس مباشرة على معاناة المدنيين وحرمانهم من حقهم في الرعاية الصحية.
منذ الأيام الأولى للحرب، اتّضح أنّ استهداف المستشفيات في غزة لم يكن عشوائياً، بل خطوة متعمّدة لإفراغها من دورها الحيوي. فخلال يومين فقط، تعطّل مستشفى بيت حانون بالكامل، وأعقب ذلك صدور أوامر إسرائيلية بإخلاء مستشفيات مدينة غزة وشمالها من المرضى والطواقم، وهي أوامر رفضها الأطباء، متمسّكين بواجبهم المهني على الرغم من التهديدات. بالتوازي، قُصف مستشفى المعمداني، وحوصرت مرافق كبرى مثل مستشفى الشفاء والعودة والإندونيسي، ما أدّى إلى تعطيل خدمات أساسية، ودفع آلاف المدنيين نحو النزوح القسري. ومع اتّساع رقعة الاعتداءات لتشمل وسط وجنوب القطاع، بدا واضحاً أنّ الهدف هو إحداث شلل كامل في المنظومة الصحية، بحيث تُترك المستشفيات القليلة العاملة تحت ضغط يفوق طاقتها.
ولم يتوقف الاستهداف عند المرافق المادية، بل طال الكوادر الطبية التي واجهت الترهيب والنزوح، مما فاقم الانهيار الوظيفي داخل المستشفيات، كما استُخدم الحصار أداةً مكمّلة لتدمير البنية الصحية، وهو ما جعل العمليات الجراحية الطارئة ورعاية مرضى الأمراض المزمنة شبه مستحيلة. هذه الممارسات، مجتمعة، لا تمثّل فقط انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، بل ترقى إلى جريمة حرب تهدّد الحقّ الأساسي في الصحة والحياة لملايين المدنيين.
الإجراءات المنهجية الإسرائيلية في تدمير المستشفيات والمستوصفات والخدمات الصحيّة ومنع وصول الأدوية طوال الحرب على قطاع غزة (تشرين الأول/ أكتوبر 2023 – آب/ أغسطس 2025)
اتّبعت “إسرائيل” إجراءات منهجية واسعة النطاق أضعفت المنظومة الصحية في قطاع غزة. تمثّلت هذه الإجراءات في قطع الوقود والكهرباء والإمدادات الطبية، على الرغم من الدعوات المتكررة لإدخالها، والتحذيرات من انهيار الخدمات الأساسية. كما فرضت قيوداً صارمة على حركة القوافل الإنسانية والطبية، وحصاراً مشدداً منع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية بشكل شبه كامل، ما أدّى إلى تعطيل الإمدادات اللوجستية. إضافة إلى ذلك، استهدفت القوات الإسرائيلية المستشفيات بالهجمات أو بالحصار، وحوّلت محيطها إلى مناطق قتال، الأمر الذي قيّد عمل الطواقم الطبية، وأدّى إلى عمليات إخلاء جزئية أو كلية للمرضى.
أبرز استهدافات المستشفيات في غزة منذ بداية الحرب:
• 17/10/2023: مجزرة مستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، أسفرت عن استشهاد أكثر من 500 شخص.
• استُهدف المستشفى الإندونيسي في شمال قطاع غزة عدّة مرات بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر وبداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ما أدى إلى وقوع شهداء وجرحى وأضرار بالمبنى.
• أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023: تعرّض مستشفى الصداقة التركي – الفلسطيني (الأورام) لأضرار جراء ضربات جوية، وأصبح خارج الخدمة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر بسبب نفاد الوقود. وفي آذار/ مارس 2025، تمّ تدميره بالكامل.[8]
• تدمير مستشفى العيون الدولي في غزة بالكامل في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر2023.[9]
• تشرين الثاني/ نوفمبر 2023: قصف واستهداف مستشفى الشفاء، وقطع التيار الكهربائي عن أجزاء وأقسام كبيرة منه، بما في ذلك قصف الطابق الرابع من مستشفى النسائية والتوليد والعيادات الخارجية، وانقطاع التيار الكهربائي عن العناية الحثيثة للأطفال. كما تمّ قصف مستشفى العودة وتدمير أجزاء من المبنى، بالإضافة إلى تدمير عدد من مركبات الإسعاف، وساحات المستشفى، وتمّ إبلاغ الطواقم الطبية بضرورة الإخلاء. إلى جانب ذلك، تمّ قصف مستشفى الطب النفسي، وتدمير 50% من مبناه، كما خرج مستشفى القدس التابع لجمعية الهلال الأحمر عن الخدمة، نتيجة استهدافه بشكل مباشر.[10]
• تشرين الثاني/ نوفمبر 2023: حصار واقتحام مستشفى الشفاء (أكبر مستشفيات غزة): قُصفت سيارات إسعاف خارج المستشفى (3 تشرين الثاني/ نوفمبر)، تلاه قصف مباشر لأجنحة داخلية واقتحام بري نفّذته القوات الإسرائيلية، حيث استمر الحصار لعدة أيام (14 تشرين الثاني/ نوفمبر). وخلال الاقتحام، قُتل أكثر من 21 مريضاً داخل أقسام المستشفى.[11]
• كانون الثاني/ يناير – آذار/ مارس 2024 – مجمّع الهلال الأحمر/ مستشفى الأمل (خان يونس): حصار واستهداف متكرّر استمرّ أكثر من 40 يوماً. وأعلن الصليب الأحمر/ الهلال الأحمر لاحقاً توقّف المستشفى عن العمل.[12]
• خلال حصار مخيم جباليا شمال قطاع غزة، والذي استمرّ لمدة ثلاثة أشهر (تشرين الأول/ أكتوبر – كانون الأول/ ديسمبر 2024)، خرجت ثلاثة مستشفيات رئيسية عن الخدمة: المستشفى الإندونيسي، ومستشفى العودة، والمستشفى الميداني التابع لمجمّع كمال عدوان، الذي أُنشئ بعد تدمير المستشفى الأصلي. وفي اليوم التاسع عشر من الحصار، أجبرت قوات الاحتلال طواقم الإسعاف والطوارئ والدفاع المدني على التوقّف الكامل عن العمل، ما أدى إلى عزل المنطقة صحياً بشكل تام. كما تمّ إحراق مستودعات الأدوية التابعة لمستشفى العودة، ما ترك شمال القطاع بلا أي مستشفيات أو خدمات صحية.[13]
• آذار/ مارس 2025: تعرّض مستشفى ناصر لقصف استهدف الجناح الجراحي الداخلي، وأدى إلى وقوع شهداء وجرحى وأضرار جسيمة، وفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود MSF. كما واجه المستشفى حصاراً واقتحامات متكررة خلال شهرَي شباط/ فبراير وآذار/ مارس 2024، مع تدخّلات عسكرية مباشرة على الرغم من التعهدات بحماية الطاقم والمرضى، ما أدّى إلى توقف العمل تماماً والعمل تحت ظروف شبه كارثية.[14]
• خرج مستشفى غزة الأوروبي في خان يونس عن الخدمة إثر قصف عنيف تعرّض له في 13/5/2025، استهدف ساحة المستشفى ومحيطها بتسع قنابل ثقيلة مكثّفة. وأدى ذلك إلى التوقف عن تقديم الخدمات التخصصية الحيوية، بما في ذلك جراحة الأعصاب، وجراحة الصدر، ومركز القسطرة القلبية، وجراحة القلب والأوعية الدموية، وجراحة العيون، وهي خدمات لا تتوفر إلا في المستشفى الأوروبي.[15]
• بالإضافة إلى العديد من المستشفيات التي تم تعرّضت للقصف ودُمّرت بالكامل أو خرجت عن الخدمة بشكل جزئي، وهي: مستشفى د. عبد العزيز الرنتيسي التخصصي للأطفال، ومستشفى الشهيد أبو يوسف النجار، والمستشفى الجزائري التخصصي، ومستشفى الوفاء للتأهيل الطبي والجراحة التخصصية، ومستشفى الحياة التخصصي، ومستشفى الشهيد محمد الدرة للأطفال، ومستشفى الهلال الإماراتي، ومستشفى العودة – النصيرات، ومستشفى الكويت التخصصي، ومستشفى الكرامة التخصصي، ومجمع الصحابة الطبي، ومستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية، ومستشفى الحلو الدولي.
إنّ استهداف الاحتلال للمستشفيات والبنية التحتية الصحية أدّى إلى انهيار شبه كامل للنظام الصحي في قطاع غزة، مما أوجد أزمة إنسانية طارئة يعاني منها السكان المدنيون يومياً، بما في ذلك نقص الأدوية، وتوقّف العمليات الجراحية الحيوية، وارتفاع معدلات الوفيات بين المرضى والمواليد. وتُحتِّم هذه الظروف على المجتمع الدولي إصدار توصيات عاجلة، تشمل: حماية المنشآت الطبية والطواقم العاملة فيها، وضمان إيصال المساعدات الطبية دون عوائق، وإعادة تأهيل المستشفيات المتضررة، وفرض آليات مساءلة صارمة بحقّ المسؤولين عن الانتهاكات، لتفادي استمرار الكارثة الصحية.
أوضاع المرضى وانعدام الخدمات الصحية والأدوية:
في غزة، لا يقتصر القتل على القصف المباشر، بل يمتد ليشمل حرمان الناس من الحق في الحياة والعلاج، في جريمة مكتملة الأركان تُعرف بـ”الإبادة الصحية”. هذه السياسة تستهدف تفكيك النظام الصحي لشعب بأكمله، من خلال استهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف، واعتقال الأطباء والممرضين، وفرض الحصار ومنع دخول الأدوية الأساسية، وحرمان المرضى من السفر لتلقي العلاج. كما تؤدي إلى تجويع السكان، وانتشار الأوبئة، وغياب اللقاحات، وانهيار الصحة النفسية للأطفال والبالغين، ما يترك جيلاً كاملاً في حالة هشاشة صحية ونفسية قصوى.[16]
وتُظهر الأرقام والإحصاءات التي نشرها مدير عام وزارة الصحة الفلسطينية في غزة الدكتور منير البرش في 11/8/2025 حجم الانهيار الصحي الفعلي في قطاع غزة ومدى الإبادة الصحية، حيث يواجه 300 ألف مريض مزمن تهديداً مباشراً لحياتهم، بينهم 6,758 حالة وفاة نتيجة نقص الأدوية. كما يُسجل معدل وفاة 41% بين مرضى الكلى بسبب نقص العلاج، في حين أنّ 52% من أدوية الأمراض المزمنة غير متوفرة، وبلغت نسبة نفاد أدوية السرطان 64%. أما التطعيمات الأساسية للأطفال، فـ 47% منها غير متوفرة. كما اختفت محاليل التغذية الوريدية (مثل TPN، وHuman Albumin، وPediasure)، ما يزيد من خطر وفاة المرضى، حيث سُجّلت وفاة 1,000 مريض قلب بسبب انعدام العلاج، فيما ينتظر 16 ألف مريض الحصول على تحويلات للعلاج خارج القطاع، توفي منهم 633 قبل صدور الموافقة.[17]
وأشار الدكتور منير البرش في 16/8/2025 إلى انتشار واسع للأمراض المُعدية، مع تسجيل 71,338 إصابة بالتهاب الكبد الوبائي، و167 ألف حالة إسهال مزمن، و1,116 حالة حمى شوكية، و64 إصابة بمتلازمة جيلان باريه Guillain-Barré Syndrome (GBS)، بينها 3 وفيات.[18]
كما أفادت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA) بمتوسط أسبوعي بلغ 10,300 حالة إصابة بأمراض مُعدية، مع تسجيل 9,915 حالة خلال الفترة 4-10/8/2025. وكانت التهابات الجهاز التنفسي والإسهال المائي من أكثر الحالات شيوعاً، إلى جانب تزايد حالات الإسهال الدموي، وتسجيل 76 إصابة بمتلازمة جيلان باريه حتى 7/8/2025، دون توفر أيّ أدوية لعلاجها. ويُعيق نقص المضادات الحيوية والأدوية المضادة للطفيليات والفطريات إمكانية علاج هذه الحالات، التي تتزايد بفعل الاكتظاظ وسوء الظروف الصحية ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) – الأرض الفلسطينية المحتلة United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs occupied Palestinian territory (OCHA-oPt).[19]
كما تعطّلت خدمات الرعاية الصحية الأولية التي تقدّمها الأونروا منذ 2/3/2025 لأكثر من خمسة أشهر، نتيجة نقص الأدوية والمستلزمات الطبية المنقذة للحياة، بالإضافة إلى نقص الوقود. وقد نفدت نحو 60% من الأدوية الأساسية (56 صنفاً من أصل 95)، فيما لا تكفي سوى 12% من الأدوية الأساسية (11 صنفاً من أصل 95) لتغطية احتياجات شهر واحد فقط. ويزداد عجز مرضى الأمراض غير المُعدية، بمن فيهم مرضى السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، عن الحصول على علاجهم، بما في ذلك الأنسولين الضروري لمرضى السكري من النوع الأول، وخصوصاً الأطفال.[20]
ويواجه المرضى في قطاع غزة، من المصابين بالأمراض المزمنة وغير المُعدية والمُعدية ومرضى السرطان، أزمة صحية غير مسبوقة، نتيجة الاستهداف المستمر للنظام الصحي، ونقص الأدوية، وتعطّل الخدمات الطبية الأساسية، ومنع خروج المرضى لتلقّي العلاج خارج القطاع. ويشهد القطاع أيضاً انتشاراً واسعاً للأمراض المُعدية نتيجة الاكتظاظ وسوء الصرف الصحي ونقص الرعاية، مما يضاعف من المخاطر ويؤدي إلى ارتفاع متزايد في أعداد الوفيات اليومية. والنتيجة النهائية هي انهيار كامل للنظام الصحي، حيث لم يعد بمقدور أي فئة من المرضى الحصول على الرعاية الحيوية، وهو ما يُعد بمثابة إبادة صحية ممنهجة بحقّ السكان. وتُمثّل هذه السياسات انتهاكاً صارخاً للحقّ في الحياة والرعاية الصحية، وتحوّل المرضى إلى ضحايا صامتين وسط أزمة إنسانية حادة.
وفي السياق، يعاني أكثر من 2,000 مريض سرطان من مخاطر مباشرة بعد إخلائهم القسري من المستشفيات المستهدفة، أبرزها مستشفى الصداقة التركي الذي استُهدف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ما عرّض حياتهم للخطر في ظلّ غياب الأدوية وتعطّل التحويلات الطبية. أمّا مرضى الكلى، فيموتون يومياً بسبب فقدان أجهزة الغسيل في شمال القطاع، بعد تدمير المراكز الطبية، فيما دُمّرت أجهزة القسطرة القلبية في مجمع الشفاء الطبي، وخرج مركز نور الكعبي لغسيل الكلى عن الخدمة، ما فاقم من حجم المعاناة.
تعمل المستشفيات في قطاع غزة فوق طاقتها القصوى في ظلّ نفاد 68% من المستلزمات الطبية، ما أدى إلى ارتفاع الوفيات المرتبطة بسوء التغذية والأمراض. وسُجلت 452 حالة التهاب سحايا مشتبه بها بين شهرَي تموز/ يوليو وأوائل آب/ أغسطس 2025، إلى جانب 76 حالة لمتلازمة جيلان باريه منذ حزيران/ يونيو 2025، وهي أمراض يصعب علاجها في غياب الأدوية الحيوية اللازمة.[21]
كما مُنِع دخول العديد من المواد الضرورية، مثل الأجهزة المساعدة، وأسرّة العناية المركزة، والمجمدات، وأدوية سلسلة التبريد، وأجهزة التخدير، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية World Health Organization (WHO).[22]
كلّ هذه المؤشرات تؤكد أنّ ما يجري في قطاع غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل هو إبادة صحية منظّمة تستهدف الحق في الحياة، وتستهدف الجسد الفلسطيني بالرصاص والجوع والمرض، وتدمّر المنظومة الصحية بالكامل.
الواقع الحالي:
تُظهر المعطيات الميدانية أنّ النظام الصحي في قطاع غزة يواجه انهياراً ممنهجاً وكارثة إنسانية وصحية غير مسبوقة، نتيجة استهدافه المباشر والمستمر خلال حرب الإبادة، وذلك على النحو التالي:
استهداف مباشر للمستشفيات: وبحسب أرقام منظمة الصحة العالمية في أيار/ مايو 2025، تم تسجيل 697 هجوماً على مرافق الرعاية الصحية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.[23]
تعرّضت 94% من مستشفيات غزة لأضرار، وتوقّف 23 مستشفى عن العمل كلياً أو جزئياً،[24] ولم يتبقَ سوى 15 مستشفى تعمل جزئياً وتحت ظروف شديدة الصعوبة، من بينها 5 مستشفيات حكومية، 3 منها تستقبل المصابين بشكل مباشر (الشفاء، وناصر، وشهداء الأقصى).[25] وقد خرجت كافة مستشفيات شمال غزة عن الخدمة بشكل كامل، بعد تدمير مستشفى بيت حانون، ومستشفى كمال عدوان، والمستشفى الإندونيسي.[26]
تصاعد أعداد الشهداء واستهداف ممنهج للكوادر الطبية: شَهِدَ قطاع غزة تصاعداً مروّعاً في أعداد الشهداء جراء حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ 7/10/2023، حيث بلغت حصيلة الشهداء حتى 19/8/2025 نحو 62,064 شهيداً. ومنذ استئناف العمليات العسكرية في آذار/ مارس 2025، تمّ تسجيل 10,518 شهيداً،[27] مما يعكس اتّساع رقعة الاستهداف وزيادة شراسة الهجمات.
كما تعرّض القطاع الصحي لضربات متتالية أدّت حتى 11/8/2025 إلى استشهاد 1,590 من الكوادر الطبية بينهم 157 طبيباً، واعتُقل 360 من الكوادر الطبية. إضافة إلى ذلك، استُشهد 1,300 من طواقم الإسعاف والفرق الإنسانية، ووُثّق 3,623 هجوماً أو عائقاً صحياً خلال سنة 2024 وحدها، وهو الرقم الأعلى تاريخياً.[28] تأتي هذه الأرقام في ظلّ نقص حادّ في الأدوات والمعدات الطبية، واستهداف مباشر للمنشآت الصحية، ما يعكس محاولة متعمدة لإضعاف بنية النظام الصحي، وتجريد المدنيين من الحق في الرعاية الصحية.
انهيار مراكز الرعاية الأولية: يعمل 38% من مراكز الرعاية الأولية فقط، مع نقص حادّ في النقاط الطبية.[29]
شلل شبه كامل في المجمعات الطبية المركزية: تجاوزت نسبة إشغال الأسرّة السعة الاستيعابية في المستشفيات، حيث بلغت 250% في الشفاء، و210% في الرنتيسي، و180% في ناصر، و300% في المستشفى الأهلي.[30]
يعمل مجمع الشفاء بنسبة لا تتجاوز 15–20% من قدرته التشغيلية، نتيجة النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات والكوادر، مع أعداد مصابين تفوق خمسة أضعاف طاقته الاستيعابية. أمّا مجمع ناصر الطبي فيعمل جزئياً بعد استهداف أقسام الجراحة والمخازن. ويعمل مستشفى شهداء الأقصى بأدنى طاقته وسط ضغط كبير، نتيجة وجود أكثر من نصف مليون نازح في محيطه.
كارثة إنسانية للمرضى المزمنين: أكثر من 300 ألف مريض بأمراض مزمنة (الكلى، والقلب، والسرطان، والسكري) مهدّدون بالموت نتيجة انقطاع الدواء وإغلاق المعابر.[31]
موقف المؤسسات الدولية من استهداف المستشفيات في قطاع غزة:
يشكّل موقف المؤسسات الدولية من استهداف المستشفيات والمرافق الصحية في قطاع غزة أحد أبرز مؤشرات التباين بين الخطاب الحقوقي والتطبيق العملي، فقد أجمعت المنظمات الصحية والأممية على إدانة هذه الهجمات واعتبارها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، وتهديداً مباشراً للحق في الحياة والعلاج.
شدّدت منظمة أطباء بلا حدود، على سبيل المثال، على ضرورة حماية المرافق والطواقم الصحية والمرضى، ودعت إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وضمان التدفق العاجل وغير المقيّد للمساعدات الإنسانية، إلى جانب مساءلة المسؤولين عن قتل وإصابة العاملين في المجال الطبي. كما أكّدت المنظمة على رفض عسكرة المستشفيات أو استهدافها بأي شكل.
وبالمثل، ركّزت منظمة الصحة العالمية على أولوية إدخال المساعدات الإنسانية عبر جميع الطرق الممكنة وتوزيعها دون عوائق، مشيرة إلى أنّ نجاح أي خطة إنسانية مرهون بوقف فوري ودائم لإطلاق النار.
أما الأمم المتحدة، فقد عدّت قصف المستشفى الأهلي المعمداني مثالاً صارخاً على انتهاك حماية المستشفيات والعيادات والطواقم الطبية، وهو ما أكّده أيضاً صندوق الأمم المتحدة للسكان United Nations Population Fund باعتبار أنّ استهداف المنشآت الصحية والعاملين في المجال الطبي يشكّل جريمة لا يجوز التساهل معها.
وعلى الرغم من وضوح هذه المواقف وقوة الإدانات الصادرة، إلا أنها ما زالت محصورة في إطار التصريحات والخطاب الحقوقي دون أن تتحول إلى آليات تنفيذية تضمن حماية فعلية للنظام الصحي الفلسطيني. هذا التناقض بين الموقف المبدئي والقدرة العملية على فرض حماية ميدانية يعكس محدودية الإرادة السياسية للمجتمع الدولي، ويكشف في الوقت نفسه هشاشة منظومة المساءلة في مواجهة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.
إنّ استمرار غياب أدوات ردع فعّالة، سواء عبر مجلس الأمن Security Council أم من خلال آليات المساءلة الدولية المستقلة، يعني أنّ استهداف المستشفيات والطواقم الطبية سيظل قائماً دون عواقب رادعة.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل النظام الصحي في قطاع غزة:
في ظلّ الوضع الحالي، يواجه النظام الصحي في قطاع غزة خيارات محدودة للغاية، وقد يتحدّد مستقبله وفق مسارات متعددة تعتمد على استمرار الحرب، ومستوى الدعم الدولي، وقدرة المنظمات الصحية على العمل.
السيناريو الأول: استمرار الانهيار الكامل للنظام الصحي، حيث يؤدي استمرار الاستهداف المباشر للمستشفيات، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وحصار المرضى ومنع العلاج خارج القطاع، إلى فقدان القدرة على تقديم الرعاية الأساسية، وارتفاع معدلات الوفيات بين مرضى الأمراض المزمنة، والأطفال، والنساء الحوامل، مع تزايد انتشار الأمراض المُعدية والأوبئة. هذا المسار يعكس تحوّل الوضع الصحي إلى كارثة مستمرة قد تتطور إلى إبادة صحية واسعة النطاق، كما تشير جميع المؤشرات الحالية.
السيناريو الثاني: الاستقرار الجزئي تحت ظروف كارثية. وقد يتحقق في حال تمكّنت بعض المساعدات الدولية من الوصول ببطء، وتمكَّن عدد محدود من المستشفيات من العمل جزئياً، مع استمرار نقص الأدوية الحيوية وتدهور البنية التحتية الصحية. في هذه الحالة، ستظلّ معظم الخدمات الصحية غير متاحة لغالبية السكان، وسيظل المرضى معرّضين لخطر الموت البطيء، بينما ستستمر الضغوط على الطواقم الطبية وتتفاقم معاناتهم.
السيناريو الثالث: تحسّن محدود بفضل تدخّل دولي عاجل ووقف لإطلاق النار، حيث تسمح حماية المستشفيات وتدفّق الإمدادات الطبية الحيوية بإعادة تشغيل المرافق الرئيسية، واستعادة جزء من خدمات الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات المتخصصة. حتى في هذا السيناريو، سيظلّ النظام الصحي هشّاً للغاية، مع الحاجة إلى جهود مستمرة لتعويض النقص في المعدات، والأدوية، والكادر الطبي.
بشكل عام، تُظهر جميع السيناريوهات المحتملة أنّ مستقبل النظام الصحي في قطاع غزة مرهون بمدى احترام الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي الإنساني، وتدخل المجتمع الدولي لضمان إيصال المساعدات، وحماية المنشآت الصحية والكوادر الطبية، وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وإلا ستستمر كارثة الإبادة الصحية في التفاقم بلا توقف.
البدائل الممكنة لمواجهة الانهيار الصحي والإمكانات الواقعية للتنفيذ:
في ظلّ تصاعد الانهيار الكارثي في النظام الصحي لقطاع غزة نتيجة حرب الإبادة المستمرة والحصار المشدد، تبرز عدة بدائل سياسية واستراتيجية يمكن اعتمادها للتعامل مع هذا التدهور. تهدف هذه البدائل إلى إنقاذ ما تبقى من المنظومة الصحية، وتأمين الحد الأدنى من الرعاية للمواطنين، والضغط على الاحتلال لوقف استهدافه المتعمّد للبنية التحتية الطبية. تتوزّع هذه البدائل بين تحركات إنسانية عاجلة، وخطوات قانونية دولية، ومسارات ديبلوماسية. وفيما يلي أبرز هذه البدائل:
البديل الأول: تفعيل قنوات إنسانية دولية لضمان وصول الأدوية والمعدات الطبية:
يركّز هذا الخيار على تحريك القنوات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر International Committee of the Red Cross (ICRC)، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها من الهيئات المعنية، لتسهيل إدخال المستلزمات الطبية، وفتح ممرات إنسانية دائمة وآمنة، وإنشاء نقاط طبية متنقلة ومؤقتة بإشراف دولي. يتميّز هذا البديل بمرونته وإمكانية تنفيذه الفوري نسبياً، كما يتيح تقليل نسبة الوفيات والحد من تفاقم الأزمات الصحية، خصوصاً في ظلّ تعذر الخيارات السياسية أو القانونية الأكثر تعقيداً. ومن خلال الدعم اللوجستي والدولي، يمكن تعزيز قدرة المستشفيات على العمل، وحماية الكوادر الصحية من الانهيار التام.
البديل الثاني: الضغط الدولي لإعلان غزة منطقة كوارث صحية وإنسانية:
يرتكز هذا البديل على تفعيل الأدوات الديبلوماسية الدولية من خلال حشد المواقف داخل الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان Human Rights Council لإصدار قرار عاجل باعتبار قطاع غزة منطقة كوارث صحية وإنسانية. ومن شأن هذا الإعلان أن يمنح غطاءً قانونياً لتدخل إنساني واسع النطاق، ويُسرّع من إدخال المساعدات، كما يوفر حماية رمزية وقانونية للطواقم الطبية والمنشآت الصحية. يُمكن أن يشكّل هذا المسار رافعة دولية للضغط على الاحتلال وفضح ممارساته في المحافل السياسية.
البديل الثالث: تدويل قضية استهداف القطاع الصحي كجريمة إبادة أمام المحاكم الدولية:
يمثّل هذا البديل مساراً استراتيجياً طويل المدى، يقوم على توثيق منهجي لانتهاكات الاحتلال بحق القطاع الصحي، وتقديمها كأدلة ضمن ملفات جنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الأطر القانونية، بالتعاون مع مؤسسات حقوقية محلية ودولية. وبالرغم من أنّ نتائجه قد تكون مؤجلة، إلا أنّه يُسهم في إرساء آليات للمحاسبة الدولية، ويُحرج “إسرائيل” قانونياً وسياسياً، ويزيد من عزلها دولياً. كما قد يؤدي إلى إصدار مذكرات توقيف بحق قادة الاحتلال.
البديل المُرجَّح:
من بين البدائل المطروحة، يُعدّ تفعيل القنوات الإنسانية الدولية لضمان وصول الأدوية والمعدات الطبية هو البديل المرجح والأكثر واقعية في الوقت الراهن، نظراً لكونه حلّاً سريعاً ومباشراً يمكن البدء بتنفيذه فوراً، بعيداً عن التعقيدات السياسية والقانونية. كما أنّه يُمثّل الخيار المتاح حالياً لإنقاذ الأرواح والحدّ من الانهيار الكامل للمنظومة الصحية في قطاع غزة.
التوصيات:
بناءً على تحليل الواقع وطرح البدائل السابقة، توصي الورقة بما يلي:
1. إرسال بعثات طبية دولية من منظمة الصحة العالمية لتقديم الدعم وتقييم الأوضاع الصحية في قطاع غزة، بالتزامن مع تأمين المستلزمات الطبية العاجلة بالتعاون مع منظمات دولية.
2. إعلان غزة منطقة كوارث صحية وإنسانية من قِبل الأمم المتحدة، مع تفعيل ممرات آمنة بإشراف منظمات دولية مختصة لضمان وصول المساعدات. كما يجب ممارسة ضغط سياسي وقانوني لإنهاء الحصار وفتح المعابر، وتأمين حرية حركة المرضى والجرحى للعلاج خارج القطاع.
3. تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تحت إشراف مجلس حقوق الإنسان لجمع الأدلة وتحريك ملف جرائم الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC)، مع توسيع التحالفات الدولية لدعم حملات الضغط السياسي والقانوني على الاحتلال.
4. إنشاء آلية دولية مستقلة لمراقبة وتوثيق الانتهاكات الصحية في قطاع غزة، تتألف من خبراء دوليين ومحليين، تُصدر تقارير دورية تُستخدم كأدلة قانونية أمام المحاكم الدولية والمؤسسات الأممية، ويُرافق ذلك الدفع باتجاه اعتماد قرار دولي مُلزم من الجمعية العامة للأمم المتحدة United Nations General Assembly (UNGA) ومجلس حقوق الإنسان، يُجرّم استهداف القطاع الصحي في أثناء الحرب، مع توسيع النقاش حول تصنيف هذا الاستهداف كـ”جريمة إبادة”.
5. تعزيز صمود النظام الصحي من خلال دعم متكامل وتوفير دعم نفسي واجتماعي ومادي مستدام للطواقم الطبية عبر برامج متخصصة، وتطوير برامج تدريبية مستمرة لرفع كفاءة الكوادر في مواجهة التحديات الطارئة، مع تعزيز المبادرات المجتمعية التي تدعم الرعاية الصحية الأولية، لتخفيف العبء عن المستشفيات وضمان استمرارية تقديم الخدمات الصحية في ظلّ الظروف الصعبة.
6. وضع آليات حماية عاجلة وفعّالة للكوادر الطبية والمستشفيات، تشمل تأمين بيئة عمل آمنة، وضمان وصول الطواقم الطبية إلى أماكن عملها دون تهديد، وحماية المنشآت الصحية من الاستهداف المباشر.
7. مواصلة الضغط الدولي على الاحتلال الإسرائيلي، ومتابعة إصدار قرارات دولية ملزمة للاحتلال بعدم استهداف البنى والخدمات والكوادر الصحية، وفتح المجال لدخول كافة المستلزمات الطبية. والسعي لفرض عقوبات رادعة للاحتلال في حال عدم تجاوبه.
8. القيام بحملات إعلامية عالمية فعالة لكشف جرائم الاحتلال تجاه القطاع الصحي، وإيجاد بيئات رسمية وشعبية عالمية داعمة للضغط على الاحتلال، ولرفع المعاناة عن القطاع.
الهوامش:
[1] شيماء بسام أبو سعدة: باحثة فلسطينية. حاصلة على بكالوريوس صحافة وإعلام وماجستير دبلوماسية وعلاقات دولية من جامعة الأقصى في غزة. معدة تقارير ومحررة لدى عدة وكالات أنباء ومواقع إلكترونية.
[2] ما هي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية: 7 نقاط أساسية، موقع أخبار الأمم المتحدة، 11/1/2024، في: https://news.un.org/ar/story/2024/01/1127587
[3] اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/ أغسطس 1949، موقع مفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في: https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/geneva-convention-relative-protection-civilian-persons-time-war
[4] نيكولا بيروجيني ونيف غوردون، ورقة سياسات: “الإبادة الصحية” في غزة والقانون الدولي: حان الوقت لحظر قصف المستشفيات ومهاجمتها، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024، في: https://gazahcsector.palestine-studies.org/ar/node/2684
[5] Israel Defense Forces (@IDF), site of X (Twitter), 28/10/2023, 12:02 a.m., https://x.com/IDF/status/1718010359397634252
[6] حاخامات لنتنياهو: قصف المستشفى جائز إذا كان العدو يختبئ فيه، موقع القناة 14 العبرية، 30/10/2023، في: https://www.c14.co.il/article/866284 (باللغة العبرية)
[7] أطباء وأساتذة: “اقصفوا مقرات حماس في مستشفيات غزة”، موقع “في الحريديم”، 4/11/2023، في: https://www.bhol.co.il/news/1613301
[8] غزة: القصف الإسرائيلي غير القانوني للمستشفيات يفاقم الأزمة الصحية، موقع هيومن رايتس ووتش، 14/11/2023، في: https://www.hrw.org/ar/news/2023/11/14/gaza-unlawful-israeli-hospital-strikes-worsen-health-crisis
[9] صفحة المستشفى الدولي للعيون، موقع فيسبوك، 21/10/2023، في: https://www.facebook.com/share/p/15jPWgcPx2/
[10] وزيرة الصحة: استهداف المستشفيات والطواقم الطبية في غزة “جريمة حرب” وإبادة جماعية، صفحة وزارة الصحة الفلسطينية، فيسبوك، 11/11/2023، في: https://www.facebook.com/share/p/1Zb6sGkhrY
[11] Gaza: Israeli forces leave Al-Shifa Hospital in ruins, site of Doctors Without Borders/Médecins Sans Frontières (MSF), 18/2/2025, https://www.doctorswithoutborders.ca/gaza-israeli-forces-leave-al-shifa-hospital-in-ruins
[12] IFRC statement on the closure of Al-Amal Hospital in Gaza, site of International Federation of Red Cross and Red Crescent Societies (IFRC), 26/3/2024, https://www.ifrc.org/article/ifrc-statement-closure-al-amal-hospital-gaza
[13] مقابلة هاتفية مع فارس عفانة، مسؤول الإسعاف والطوارئ شمال قطاع غزة/ الخدمات الطبية، 29/5/2025.
[14] أطباء بلا حدود تدين الغارة الإسرائيلية على مستشفى ناصر في غزة وتدعو إلى حماية المرافق الصحية، موقع منظمة أطباء بلا حدود، 25/3/2025، انظر: https://www.msf.org/ar
[15] صفحة وزارة الصحة الفلسطينية/غزة، فيسبوك، 15/5/2025، في: https://www.facebook.com/share/p/16vL2J2Jgt/
[16] الإبادة الصحية: تدمير الحياة عبر تدمير الصحة، قناة د.منير البرش Dr. Muneer Alboursh، المدير العام لوزارة صحة غزة، موقع تلغرام، 16/8/2025، في: https://t.me/munirMoh1/433
[17] الإبادة الصحية في غزة، قناة د.منير البرش، تلغرام، 11/8/2025، في: https://t.me/munirMoh1/403
[18] الإبادة الصحية والنفسية في غزة، قناة د.منير البرش، تلغرام، 16/8/2025، في: https://t.me/munirMoh1/434
[19] UNRWA situation report #184 on the humanitarian crisis in the Gaza Strip and the West Bank, including East Jerusalem, site of United Nations, 15/8/2025, https://www.un.org/unispal/document/unrwa-sitrep-184-15aug25
[20] Ibid.
[21] غزة – الوضع الصحي كارثي، الأدوية تنفد، والجوع يتفاقم، أخبار الأمم المتحدة، 12/8/2025، في: https://news.un.org/ar/story/2025/08/1143179
[22] UN Geneva Press Briefing, site of The United Nations Office at Geneva, 12/8/2025, https://www.ungeneva.org/en/news-media/press-briefing/2025/08/un-geneva-press-briefing-1
[23] منظمة الصحة العالمية تحذر من أن النظام الصحي بات على حافة الانهيار مع تصاعد الأعمال العدائية في غزة، موقع منظمة الصحة العالمية، 22/5/2025، في: https://www.who.int/ar/news/item/24-11-1446-health-system-at-breaking-point-as-hostilities-further-intensify–who-warns
[24] المرجع نفسه.
[25] مقابلة هاتفية مع د. خليل الدقران، الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، 29/5/2025.
[26] صفحة وزارة الصحة الفلسطينية/غزة، فيسبوك، 18/5/2025، في: https://www.facebook.com/share/p/1GGegeBNzE/
[27] التقرير الإحصائي اليومي لعدد الشهداء والجرحى جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قناة وزارة الصحة الفلسطينية/ غزة، تلغرام، 19/8/2025، في: https://t.me/MOHMediaGaza/6860
[28] الإبادة الصحية في غزة، قناة د.منير البرش، تلغرام، 11/8/2025، في: https://t.me/munirMoh1/403
[29] UN Geneva Press Briefing, The United Nations Office at Geneva, 12/8/2025, https://www.ungeneva.org/en/news-media/press-briefing/2025/08/un-geneva-press-briefing-1
[30] Ibid.
[31] الإبادة الصحية في غزة، قناة د.منير البرش، تلغرام، 11/8/2025، في: https://t.me/munirMoh1/403
| للاطلاع على ورقة السياسات بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> ورقة سياسات: استهداف النظام الصحي في قطاع غزة: تداعيات الإبادة والحاجة إلى استجابة دولية عاجلة … أ. شيماء بسام أبو سعدة |
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2025/9/15
أضف ردا