مدة القراءة: 11 دقائق

إعداد: د. طارق أحمد حمّود.[*] (خاص بمركز الزيتونة). 


تقدير استراتيجي (140) – أيار/ مايو 2025.

ملخص:

يُشكّل سقوط نظام الأسد في 8/12/2024 نقطة تحوّل كبرى في التاريخ السوري الحديث، فتحت الباب أمام مرحلة سياسية جديدة بقيادة قوى الثورة، وسط حالة من الهشاشة الأمنية والانهيار المؤسسي. ضمن هذا السياق، يواجه اللاجئون الفلسطينيون في سورية تحديات كبيرة، تتراوح بين إعادة الإعمار، وملف المعتقلين، وعودة النازحين، وموقعهم القانوني والسياسي في الدولة الجديدة. فعلى الرغم من تمتّعهم سابقاً بحقوق مدنية كاملة، عدا الجنسية والحقوق السياسية، بفضل المرسوم 260 لسنة 1956، إلا أن سنوات الحرب أضعفت هذا الموقع.


لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:
>> التقدير الاستراتيجي (140): مستقبل الملف الفلسطيني في سورية (16 صفحة، حجم الملف 3.1 MB)

>> التقدير الاستراتيجي (140): مستقبل الملف الفلسطيني في سورية (16 صفحة، حجم الملف 1.4 MB)

تُعدّ إعادة إعمار المخيمات، خصوصاً اليرموك، من أبرز التحديات، إلى جانب ملف المختفين قسراً، الذي ما زال يفتقر للتنسيق المؤسسي الفعّال. كما أن مستقبل الفلسطينيين يتأثر بتحولات السياسة السورية الإقليمية، لا سيّما في ظلّ الضغوط الأمريكية لإنهاء وجود الفصائل الفلسطينية. وتبقى خيارات الدولة الجديدة بين الاستجابة الكاملة للضغوط، أو حظر العمل المسلح فقط، أو الإبقاء على الوضع السابق، وكل منها يحمل تداعيات سياسية داخلية وخارجية مختلفة.

مقدمة:

في 8/12/2024، طُويت صفحة ممتدة من تاريخ الجمهورية العربية السورية، مع سقوط النظام الحاكم منذ سنة 1970 بقيادة عائلة الأسد، لتبدأ مرحلة سياسية جديدة بقيادة قوى الثورة العسكرية التي توّلت إدارة شؤون البلاد.[1] وقد رافق هذا التحول حالةٌ من الهشاشة الأمنية، انعكست على مختلف مكونات المجتمع السوري، وفرضت تحديات جديدة على الفئات السكانية، ومنها اللاجئون الفلسطينيون.[2]

مرة أخرى، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة تأثير التغيرات السياسية الجذرية في الدول المضيفة، كما حدث سابقاً في محطات مختلفة من الشتات الفلسطيني. إلا أن ما يُميّز الحالة السورية هو أن أوضاع الفلسطينيين فيها، منذ نكبة سنة 1948 وحتى اندلاع الصراع سنة 2011، اتَّسمت بدرجة من الاستقرار النسبي مقارنةً ببلدان اللجوء الأخرى. ومع ذلك، فقد تعرّض الفلسطينيون في سورية لأشكال من التهميش القانوني والتضييق الإداري، تفاقمت خلال سنوات الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالحقوق المدنية والقانونية.

أولاً: خلفية عامة:

أثار سقوط نظام بشار الأسد تساؤلاتٍ جوهريةً بشأن مستقبل الدولة السورية وهويتها السياسية والاجتماعية، كما أعاد إلى الواجهة النقاش حول موقع الفلسطينيين ضمن هذا المشهد المتغيّر. فمنذ نكبة سنة 1948، شكّل اللاجئون الفلسطينيون في سورية مكوِّناً ديموجرافياً واجتماعياً فاعلاً، أسهم في مختلف مجالات الحياة العامة، وارتبط وجوده بموجات التهجير الأولى من مناطق صفد وطبرية وحيفا، التي وفد منها نحو 80 ألف لاجئ إلى الأراضي السورية.[3]

توزّع هؤلاء اللاجئون على عدد من المخيمات التي أُنشئت بين سنتي 1948 و1967، ليصل عدد المخيمات الرسمية حالياً إلى 12 مخيماً منتشرة في سبع محافظات سورية، تسعة منها رسمية وثلاثة غير رسمية،[4] إضافةً إلى تجمعات فلسطينية أخرى ضمن القرى والمدن. وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من نصف الفلسطينيين في سورية يُقيمون خارج المخيمات، نتيجة للزيادة السكانية الطبيعية مقابل محدودية التوسع الجغرافي للمخيمات.

وبحسب بيانات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا UNRWA) لسنة 2025، يبلغ عدد الفلسطينيين المسجلين لديها في سورية نحو 587 ألفاً.[5] إلا أن هذا الرقم لا يشمل، على الأرجح، شريحةً واسعة من مواليد الشتات خارج البلاد خلال سنوات الثورة. ووفقاً لتقديرات مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، فإن عدد المهجَّرين الفلسطينيين من سورية إلى الخارج يُقدّر بنحو 250 ألف لاجئ.[6]

لقد نُظّمت أوضاع الفلسطينيين في سورية قانونياً بموجب المرسوم التشريعي رقم 260 لسنة 1956، الذي ينصّ على معاملتهم أسوة بالمواطنين السوريين في معظم الحقوق والواجبات، باستثناء حقّ الترشح والانتخاب.[7] ويُعدّ هذا الإطار القانوني عاملاً رئيساً في تعزيز اندماج الفلسطينيين في المجتمع السوري، لا سيّما عند مقارنته بالتشريعات المقيِّدة المفروضة على اللاجئين الفلسطينيين في دول مجاورة مثل لبنان.

ثانياً: فرص أم تحديات؟

ما تزال الضبابية التي تلف المشهد السوري الجديد تطرح تساؤلات جوهرية أمام اللاجئين الفلسطينيين في البلاد، تتمحور حول ما إذا كان هذا التحوّل السياسي سيفتح آفاقاً جديدة لتحسين أوضاعهم القانونية والاجتماعية، أم أنه سيضيف مزيداً من التحديات، لا سيّما في ظلّ الانهيار المؤسسي الذي تشهده أجهزة الدولة وإدارتها.

وبغضِّ النظر عن طبيعة السياسة التي ستنتهجها السلطة الجديدة في تعاملها مع الفلسطينيين، فإن العديد من التحديات المرتبطة بالوضع العام في سورية سترخي بظلالها على اللاجئين الفلسطينيين في الأجلَين القصير والمتوسط. ويمكن تلخيص أبرز هذه التحديات في النقاط الثلاث التالية:

1. إعادة إعمار المخيمات الفلسطينية:

تعرّضت المخيمات الفلسطينية في سورية لأضرار واسعة النطاق نتيجة العمليات العسكرية التي رافقت سنوات النزاع منذ سنة 2011. وكان مخيم الرمل في اللاذقية أول منطقة في البلاد تتعرّض للقصف باستخدام الأسلحة الثقيلة، حين قصفت الزوارق الحربية السورية المخيم في تموز/ يوليو 2011.[8] كما تعرّضت مخيمات أخرى لكثير من الأضرار خلال النزاع، وكانت الأضرار الأوسع من نصيب ثلاثة مخيمات رئيسة:

• مخيم اليرموك: يُعدّ أكبر المخيمات الفلسطينية في سورية، إذ كان يقطنه قبل الحرب ما بين 120 إلى 170 ألف نسمة.[9] ويتميّز بكونه المخيم الوحيد الواقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة دمشق. تعرّض المخيم لدمار واسع النطاق بين سنتي 2014 و2018، حيث قدّرت الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب[10] أن نسبة الدمار تجاوزت 80%.[11] ويعيش اليوم في المخيم نحو 7 آلاف شخص فقط، فيما ما يزال معظم سكانه نازحين في مناطق مجاورة.[12]

• مخيم درعا: كان يسكنه نحو 18 ألف لاجئ فلسطيني،[13] وقد تعرّض لأضرار ناتجة عن القصف المدفعي والجوي، إلا أن حجم النزوح منه لم يكن طويل الأمد كما في حالة مخيم اليرموك.

• مخيم عين التل (حندرات): شهد عمليات عسكرية عنيفة بين سنتي 2016 و2018 إذ كان ساحة معارك بين المعارضة المسلحة وقوات النظام،[14] ما أسفر عن دمار شبه كامل وتهجير معظم سكانه.

تُشكِّل إعادة إعمار هذه المخيمات تحدّياً بالغ التعقيد، إذ تُدرَج ضمن إطار إعادة إعمار سورية الشامل، الذي يتطلب توافقات إقليمية ودولية وتمويلاً ضخماً، وهو أمرٌ قد يستغرق سنوات. غير أن خصوصية المخيمات كأماكن رعاية أممية تحت إشراف وكالة الأونروا قد تُتيح مسارات منفصلة للإعمار، وإن كان ذلك مرهوناً بتوفّر التمويل، في ظلّ الأزمة المالية العميقة التي تعاني منها الوكالة، والتي يُتوقع أن تتفاقم مع استمرار توجهات الإدارة الأمريكية المناهضة لها، خصوصاً في ظلّ ولاية الرئيس دونالد ترامب Donald Trump.

2. قضية المعتقلين والمختفين قسراً:

وثّقت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وجودَ 3,085 معتقلاً فلسطينياً[15] لدى النظام السوري خلال سنوات الحرب، إضافة إلى 333 مفقوداً.[16] وبعد فتح السجون السورية في 8/12/2024، لم يُفرَج إلا عن 42 معتقلاً فقط،[17] ما يعكس حجم التحدي الذي تمثله هذه القضية، التي تُعدّ من أبرز الملفات الحقوقية ذات التأثير النفسي والاجتماعي العميق على مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية. وتواجه عائلات المعتقلين صعوبات جمَّة في الكشف عن مصير ذويهم. فعلى الرغم من بعض التسريبات التي خلّفتها الأجهزة الأمنية المنهارة، ما يزال مصير الغالبية العظمى مجهولاً.

وتتقاطع هذه القضية إلى حدٍّ كبير مع ملف المعتقلين السوريين، الذين يُقدّر عددهم بنحو 112 ألف شخص، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.[18] إلا أن هناك تحدياً إضافياً يواجه ملف المعتقلين الفلسطينيين، يتعلَّق بمدى استعداد المؤسسات الحقوقية السورية، الحكومية منها وغير الحكومية، للتعامل مع هذه القضية باعتبارها جزءاً من الحالة السورية العامة، أو كملف ذي خصوصية فلسطينية.

ويعزِّز من هذا الإشكال ضعفُ المعرفة الحقوقية لدى المؤسسات السورية بما تعرّض له الفلسطينيون، بالإضافة إلى محدودية الاهتمام الفلسطيني الرسمي بهذه القضية، وغياب التنسيق الفعّال بين المؤسسات السورية والفلسطينية، الأمر الذي يعقِّد فرص تحقيق العدالة أو كشف الحقيقة في المدى المنظور.

3. قضية عودة النازحين:

تُشير التقديرات الواقعية إلى أن عدد الفلسطينيين المتبقّين في سورية لا يتجاوز 350 ألفاً،[19] مع أن السجلات الرسمية تتحدث عن 430 ألفاً. ويُقدّر العدد الإجمالي لفلسطينيي سورية، داخل البلاد وخارجها، بنحو 650 ألفاً، استناداً إلى معدلات النمو السكاني منذ سنة 2011، حيث كان عددهم آنذاك يُقارب 600 ألف.[20]

تنقسم قضية العودة إلى شقين:

• عودة النازحين داخلياً: وتُشكّل هذه الفئة الأغلبيةَ ضمن اللاجئين الفلسطينيين في سورية، لا سيّما من سكان مخيم اليرموك في دمشق ومخيم حندرات في حلب؛ حيث ما يزال الدمار الواسع في البنية التحتية والسكنية يشكّل عائقاً رئيساً أمام العودة الشاملة. وبالرغم من بدء عودة جزئية إلى مخيم اليرموك من خلال مبادرات فردية، ما تزال القدرةُ الاستيعابية للمخيم، في ظلّ الأوضاع الراهنة، محدودةً نتيجة غياب الترميم الشامل للمساكن والخدمات الأساسية. في المقابل، سجّلَت مخيمات الشمال السوري، خصوصاً في محافظة إدلب، مناطق المعارضة سابقاً، نِسبَ عودة أكبر للنازحين الفلسطينيين، وذلك عقب زوال العوائق الأمنية المرتبطة بسيطرة النظام السوري السابق، مما أتاح ظروفاً أكثر ملاءمة للعودة، على الرغم من هشاشة البنية الخدمية في تلك المناطق.

• عودة اللاجئين خارج البلاد: تُعدّ قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين المهجَّرين إلى خارج سورية، لا سيّما إلى الدول المجاورة، مثل لبنان والأردن وتركيا، من القضايا المتوقّع أن تشهد تحوّلات ملموسة في المرحلة المقبلة. ويُحتمل أن تدفع هشاشة الوضع القانوني لهؤلاء اللاجئين، إضافة إلى محدودية اندماجهم في سوق العمل، أعداداً كبيرة منهم إلى التفكير بالعودة الطوعية إلى سورية، إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك. في المقابل، من غير المتوقع أن تسجّل العودة من الدول الأوروبية نِسباً مرتفعة، نظراً لما توفره تلك الدول من استقرار قانوني واقتصادي، بما في ذلك فرص الإقامة الدائمة والتوظيف والحماية الاجتماعية.

إن عودة اللاجئين، سواء من الداخل أم الخارج، تظلّ مرهونة بوجود مبادرات جدية لإعادة إعمار المخيمات، وتأهيل البنى التحتية، وتوفير بيئة قانونية وإدارية تضمن الكرامة والأمان، بما في ذلك ضمانات أممية للعودة الآمنة والطوعية، وبرامج دعم اقتصادي واجتماعي تُراعي خصوصية المجتمع الفلسطيني في سورية.

إضافةً لذلك، ترتبط عودة اللاجئين بمشاريع إعادة الإعمار، التي تتم حالياً ببطء من خلال مبادرات فردية أو عبر برامج ترميم محدودة تديرها الأونروا وبعض المنظمات الإنسانية. وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرات، فإنها تفتقر إلى مقومات البنية التحتية والخدمات الأساسية الكافية. ومن المرجح أن تزداد هذه المشاريع بعد سقوط النظام، نتيجة زوال القيود الصارمة التي كان يفرضها على أنشطة الترميم والإعمار.

ثالثاً: الملف الفلسطيني السياسي وتَموضُع سورية الإقليمي بعد سقوط النظام:

في ظلّ تراكم التحديات الداخلية أمام الإدارة السورية الجديدة، لم يحظَ الملف الفلسطيني باهتمام يُذكر خلال الأشهر الأولى التي تلت سقوط النظام السابق. غير أن مؤشرات واضحة بدأت بالظهور في وقت لاحق، مع بدء الحديث عن الشروط الأمريكية لرفعٍ جزئيٍّ للعقوبات المفروضة على سورية، في إطار إجراءات بناء الثقة بين الجانبين.

وقد أفادت تقارير إعلامية[21] بأن من بين الشروط الثمانية التي طُرحت في هذا السياق، شرط يتعلق بإنهاء الوجود العسكري والسياسي للفصائل الفلسطينية على الأراضي السورية. وعلى الرغم من عدم صدور أي إعلان رسمي من السلطات السورية بهذا الشأن، فإن سلسلةً من الإجراءات، من قبيل اعتقال شخصيات بارزة، منها قياديان في حركة الجهاد الإسلامي، والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، طلال ناجي،[22] تُشير إلى استجابة بدرجة ما، ولكن غير معلنة.

ففي معرض الردِّ على هذا الشرط، أكّدت السلطات السورية التزامها بمنع وجود أي سلاح خارج إطار الدولة، وضمان عدم انطلاق أي تهديد من أراضيها تجاه الدول المجاورة، بما في ذلك “إسرائيل”.[23] غير أن هذا التصريح يعكس واقعاً معقّداً، بالنظر إلى استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، والتدخلات المتكررة في شؤونها الداخلية، ما يجعل الموقف السوري حرجاً، ومحاطاً باعتبارات داخلية وإقليمية شائكة.

رابعاً: السيناريوهات المحتملة:

في ضوء ما سبق، يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات محتملة للتعامل السوري مع هذا الملف:

1. تنفيذ الشرط الأمريكي بالكامل: إنهاء الوجود العسكري والسياسي للفصائل الفلسطينية:

يُعدُّ هذا السيناريو الأكثر تطرفاً، ويقوم على الاستجابة الكاملة للمطلب الأمريكي، من خلال منع الفصائل الفلسطينية من ممارسة أي نشاط عسكري أو سياسي في سورية. وبالرغم مما قد يحققه هذا الخيار من مكاسب ديبلوماسية مؤقتة، فإن تداعياته الداخلية قد تكون عميقة. فقد اعتاد المجتمع الفلسطيني في سورية على وجود مؤسسات تمثيلية سياسية، حتى وإن كانت تنتمي للفصائل التقليدية، ولذا فإن إغلاق المجال العام من شأنه أن يدفع بالحراك السياسي إلى العمل السري أو غير المنظم. كما أن هذا السيناريو يحمل مخاطر قانونية ومدنية؛ إذ من شأنه أن يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة السورية واللاجئين الفلسطينيين من علاقة ذات طابع مدني – سياسي يحكمها القانون 260 لسنة 1956، إلى علاقة ذات طابع أمني صرف. وهذا الأمر قد يُهدِّد مكتسبات قانونية راكمها الفلسطينيون في سورية على مدى سبعة عقود، ويزيد من هشاشة وجودهم القانوني والاجتماعي.

2. حظر النشاط العسكري والإبقاء على العمل السياسي المنضبط:

يفترض هذا السيناريو أن تُقدِم الإدارة السورية على منع العمل العسكري للفصائل الفلسطينية، في ضوء تعقيدات المشهد الأمني المحلي والإقليمي، واستمرار الغارات الإسرائيلية، التي غالباً ستتذرَّع بوجود تلك الفصائل. وفي الوقت ذاته، يُبقي هذا السيناريو الباب مفتوحاً أمام العمل السياسي ضمن أُطر قانونية محددة وإدارة منضبطة بواقع سورية الجديد.

يمثّل هذا الخيار مخرجاً وسطاً بين الالتزام بالشرط الأمريكي وتجنُّب الانفجار الداخلي ضمن المجتمع الفلسطيني، كما يمنح الإدارة السورية هامشاً أوسع للمناورة الإقليمية، دون أن تتخلّى عن رمزية “الاحتضان السياسي” للقضية الفلسطينية. وينسجم هذا السيناريو مع تاريخ العلاقة الفلسطينية – السورية، ويُعدّ الخيار الأرجح من حيث الواقعية السياسية وقابلية التنفيذ.

3. تجاهل الشرط الأمريكي، والإبقاء على الوجود السياسي والعسكري للفصائل الفلسطينية:

ينطلق هذا السيناريو من فرضية تمسُّك الإدارة السورية الجديدة بالاحتفاظ بدورٍ داعم للفصائل الفلسطينية، كما يمكن أن يُبنى على قاعدة التجاهل العملي للشرط الأمريكي بناء على وجود عشرات الأولويات الأخرى. ويمكن أن يحتجّ النظام بحساسية هذا الملف، ووجود دعم شعبي واسع للمقاومة، وبإمكانية الاكتفاء عملياً بالتصرف ضدّ بعض الفصائل التي دعمت النظام السابق، ولكن دون إعلانٍ رسميٍ. وبالرغم مما يعكسه هذا الموقف من تمسّك بخيارات “الممانعة التقليدية”، فإنه قد يكون مكلِّفاً سياسياً وأمنياً. فمن جهة، سيعزِّز هذا التوجه من ذرائع “إسرائيل” لمواصلة الاعتداءات على الأراضي السورية، وربما لتبنّي خطاب أكثر تصعيداً في المحافل الدولية. ومن جهة أخرى، قد يُعيق هذا السيناريو محاولات التموضع الإقليمي الجديد لسورية، ويُضعف فرصها في إعادة بناء علاقات متوازنة مع القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً. غير أن مواصلة الاحتلال الإسرائيلي لسياسات الهيمنة والعجرفة والاستفزاز، التي تتسبب بتعبئة الأجواء الشعبية الداخلية ضدّها، قد تجعل النظام ينظر للمقاومة كورقة قوة، بغضِّ النظر عن إمكانية استخدامها، ويتريّث في الاستجابة للشرط الأمريكي. وبالنظر إلى الظروف الداخلية المعقدة، والحاجة الملحة لرفع العقوبات، فإن هذا السيناريو يبدو غير مرجَّحٍ في المرحلة الراهنة، وإن كان لا يمكن استبعاده تماماً على المدى المتوسط إذا ما تغيَّرت المعطيات الجيوسياسية.

التوصيات:

1. التأكيد على حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، والمحافظة على ثوابته، وخصوصاً حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم التي أُخرجوا منها.

2. تعزيز التنسيق المؤسسي السوري – الفلسطيني، من خلال إنشاء آلية مشتركة لملف المعتقلين والحقوق المدنية، بالتعاون مع منظمات دولية مختصة، لضمان الشفافية وتحقيق العدالة الانتقالية.

3. العمل على إعداد وتنفيذ خطة وطنية لإعادة إعمار المخيمات الفلسطينية وتأهيلها وتطويرها، خصوصاً اليرموك وحندرات، بتمويل مشترك من الأونروا والدول المانحة، مع إعطاء الأولوية للسكن والبنى التحتية.

4. صياغة إطار قانوني انتقالي للفلسطينيين، من خلال تطوير القانون 260 والقانون 450 بما يضمن حقوقاً موسَّعة للاجئين في ظلّ الدولة الجديدة، ودونما الانتقاص من أيّ من الحقوق السابقة.

5. اعتماد سياسة متوازنة تجاه العمل السياسي الفلسطيني ومؤسساته، بما يشمل الإبقاء على التمثيل السياسي المدني للفصائل، وبما ينسجم مع السيادة الوطنية والمصالح الإقليمية للدولة الجديدة وللفلسطينيين على حدٍّ سواء.


الهوامش
[*] أستاذ العلوم السياسية في جامعة لوسيل بقطر، وباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة. متخصص في الشأن الفلسطيني والعلاقات الدولية. نشرت له الكثير من المقالات الصحفية والدراسات الأكاديمية باللغتين العربية والإنجليزية.
[1] المعارضة السورية تعلن هروب الأسد والاحتفالات تعم دمشق، موقع الجزيرة.نت، 8/12/2024، انظر: https://www.aljazeera.net
[2] كيف يبدو حال اللاجئين الفلسطينيين بسوريا بعد سقوط الأسد؟، الجزيرة.نت، 17/12/2024؛ ومحمد ياسين، تحديات اللاجئين الفلسطينيين بعد سقوط الأسد، موقع صحيفة الأخبار، بيروت، 23/12/2024، انظر: https://www.al-akhbar.com
[3] وائل الهرش، ورقة سياسات: أوضاع الفلسطينيين في سورية في ظل العهد السياسي الجديد، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2025، في: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1657147
[4] أين نعمل، سوريا، موقع وكالة أونروا، في: https://www.unrwa.org/ar/where-we-work/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
[5] المرجع نفسه.
[6] إنفوغرافيك – فلسطينيو سورية: إحصائيات وأرقام وحقائق، موقع مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، 20/6/2024، في: https://actionpal.org.uk/ar/post/20413
[7] الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في سورية قبل النزاع المسلح، موقع المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان – شاهد، انظر: https://pahrw.org
[8] زوارق حربية ودبابات تقصف أحياء في مدينة اللاذقية وسقوط عشرات القتلى، موقع فرانس 24، 14/8/2011، في: https://www.france24.com/ar/20110814-syria-army-tanks-in-damascus-suburbs-king-abdallah-obama-call-to-stop-violence
[9] نكبة فلسطين: مخيم اليرموك نموذجاً، موقع صحيفة الخليج، أبو ظبي، 16/05/2014، انظر: https://www.alkhaleej.ae؛ وأيهم السهلي، مخيم اليرموك، سوريا، موقع الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، في: https://www.palquest.org/ar/highlight/33653/%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B1%D9%85%D9%88%D9%83
[10] تأسست “الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب” سنة 1949 بموجب القانون 450، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن متابعة الشأن المدني والقانوني للفلسطينيين اللاجئين في سورية.
[11] مبادرة “فتح” لعودة فلسطينيي سوريا من لبنان لا تلقى تجاوباً، موقع صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 17/12/2018، في: https://tinyurl.com/58873ah7؛ وبعيداً عن الدمار: لمخيم اليرموك وجه آخر، مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سورية، 26/2/2025، في: https://www.actionpal.org.uk/ar/post/21196
[12] زيارة ميدانية للباحث لمخيم اليرموك، ومقابلة مع عدد من المؤسسات الإنسانية التي ترعى العائلات التي تقطن المخيم وفقاً لقوائم المساعدات لديها.
[13] مخيم درعا، سوريا، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، في: https://www.palquest.org/ar/highlight/38366/%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85-%D8%AF%D8%B1%D8%B9%D8%A7
[14] قوات الأسد تسيطر على معسكر حندرات، موقع قناة العربية، 29/9/2016، انظر: https://www.alarabiya.net
[15] مجموعة العمل تطالب بالكشف عن مصير المعتقلين الفلسطينيين في سورية في اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سورية، 30/8/2024، في: https://www.actionpal.org.uk/ar/post/20612
[16] 333 لاجئاً فلسطينياً مفقوداً خلال أحداث الحرب في سورية، مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سورية، 25/02/2021، في: https://www.actionpal.org.uk/ar/post/14929
[17] عائلات تطالب بمعرفة مصير المعتقلين الفلسطينيين في سجون نظام الأسد، موقع وكالة قدس برس للأنباء، 11/12/2024، في: https://qudspress.com/170526/
[18] فتح مراكز الاحتجاز يكشف استمرار الكارثة الإنسانية: أكثر من 112,414 شخصاً ما زالوا مختفين قسراً على يد نظام الأسد، موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 28/12/2024، انظر: https://snhr.org
[19] مبادرة “فتح” لعودة فلسطينيي سوريا من لبنان لا تلقى تجاوباً، الشرق الأوسط، 17/12/2018.
[20] التقرير اليومي الخاص بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، العدد 3809، مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سورية، 19/12/2022، في: https://actionpal.org.uk/ar/reports/daily/19-12-2022.pdf
[21]Timour Azhari and Maya Gebeily, Exclusive: Syrian letter delivers response to US conditions for sanctions relief, Reuters News Agency, 26/04/2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/syrian-letter-delivers-response-us-conditions-sanctions-relief-2025-04-26/
[22] توقيف أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة بدمشق، الجزيرة.نت، 03/5/2025.
[23] المرجع نفسه.

لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:
>> التقدير الاستراتيجي (140): مستقبل الملف الفلسطيني في سورية (16 صفحة، حجم الملف 3.1 MB)

>> التقدير الاستراتيجي (140): مستقبل الملف الفلسطيني في سورية (16 صفحة، حجم الملف 1.4 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 8/5/2025


المزيد من التقديرات الاستراتيجية: