إعداد: أ. ياسر علي [*]
(خاص بمركز الزيتونة).
لا بدّ أنك سألتَ نفسك ما هي الظروف التي يمرّ بها أسرى الضفة الغربية وهم يخرجون من السجن طويلي الشعر واللحى نحيلي الأجساد؟ وكيف حدث هذا التغيّر بالأسرى الذين اعتقلوا بعد عملية طوفان الأقصى؟
هل أحسستَ بما يحمله الأسير المحرر بين ضلوعه؛ القلب المهشّم والروح المثلّمة بين انكسارهما أو تحدّيهما لسلطة الاحتلال المتمثلة والمتركز ظلمُها في سلطة السجون؟
هذه القلوب والأرواح التي عانت وكابدت وناضلت وتعبت… كانت تتقوّى في سجنها وتقول:
مهما انكسرتَ… كُن مثالاً للتحدي
مهما أوذيتَ… كن مثالاً للصمود
مهما أفرغوا فيك حقدَهم… ابتسم وتصبّر واحتسب.
في هذا الكتاب؛ كتاب “ذاكرة الجُدران المعتمة” سيُدخلك الدكتور فاروق عيسى عاشور إلى عالم الأسرى كأنك واحد منهم، وكأنك جزء من التجربة، بكل المشاهد والتفاصيل التي عاشوها بعد 7/10/2023 وحتى الإفراج عنهم.
لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي: >> كتاب: ذاكرة الجدران المعتمة: سيرة ذاتية وجماعية للأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي في أثناء معركة طوفان الأقصى ![]() |
– الكتاب متوفر للشراء، عبر: ||
||
||
||
أدب الأسرى:
ينقسم أدب الأسرى إلى مسارين:
1. كتبٌ يكتبها الأسرى عن عموم الحياة في الأسر وخارج الأسر.
2. كتب يكتبها باحثون وأدباء عن حياة الأسرى وظروفهم في سجون الاحتلال وغير ذلك.
الأول يكون كُتّابُه أسرى، والثاني يكون موضوعه الأسرى وحياتهم.
المثال على المسار الأول، كتب الأسرى؛ وليد الهودلي، ووليد دقة، وعبد الله البرغوثي، وعمار الزبن، وباسم خندقجي الذي فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية، ومعظمها في مجال الرواية. ومنها مذكرات الأسرى مثل كتاب حسن سلامة الأخير “خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ”، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا. ومنها كتب محمد ناجي صبحة عن حياة المعتقلات وظروفهم، ومعظمها دراسات مثل الحياة الثقافية للسجون، أو أمن المطاردين وما شابه ذلك… وظهرت أيضاً قصائد لشعراء السجون في فلسطين.
أما المثال الثاني، فمعظم الكتب رعتها مؤسساتُ دعم الأسرى، وتضمنت إحصاءات وأحوال وأوضاع السجون. ومنها روايات صدرت في السنوات الأخيرة مثل “باب العمود” لنردين أبو نبعة، و”نطفة” لأدهم شرقاوي، و”ستة” لأيمن العتوم.
وقد نشأ مسار ثالث بعد عمليات التبادل الكبيرة، وهو ظهور مذكرات الأسرى المحررين، مثل كتاب قصتي لسمير قصير وشرايين القسام لزاهر جبّارين…
وقد مرّت إصدارات الأسرى بعدة مراحل، صعوداً وهبوطاً. بِدءاً من الإضراب الكبير في السبعينيات، وما تلاها من مرحلة دخول الكتب إلى المعتقلات، وصدور مجلات بخط اليد أو نشرات الحائط، وكتب وجدت طريقها إلى دور النشر في الخارج. ثم مرحلة الانتفاضة الأولى سنة 1987، حين دخل عدد كبير من الأسرى المثقفين الثوريين، الذين ارتقوا بالحالة الإبداعية لتواكب الحركة الثورية في الخارج. ثم مرحلة أوسلو سنة 1993 التي شهدت تراجعاً في الكتابة الإبداعية. ثم مرحلة ما بعد سنة 2000 وفشل عملية التسوية وثورات الأسرى في السجون.
عن المؤلف والكتاب:
بقلم أديب، ومنهجية طبيب، وأسلوب داعية، وصبر مُمتَحَن، وتحدي مبتلى… يكتب الكاتب الدكتور فاروق عيسى عاشور تجربته، كواحد من 6 آلاف أسير اعتقلوا من الضفة الغربية خلال العدوان القائم منذ 7/10/2023 وفق تقرير مؤسسة تضامن في يوم الأسير الفلسطيني في 17/4/2025، بتفصيل مفيد يسلط الضوء على كل شيء في تجربته، بدءاً من البيت إلى التوقيف إلى الحبس إلى المحاكمة… وتفرّد في توصيف الوضع الحالي للأسرى والإجراءات القاسية غير المسبوقة في سجن عوفر، وعزّز مصداقية وواقعية الكتاب حين أورد الأمثلة الحيّة بالقصص والأسماء والأحداث، من دون أن يغيب عنه التذكير بأن السجون الأخرى فيها ممارسات أقسى وأصعب.
وهو إن ذكر التعذيب والتضييق والحياة الصعبة، لم ينسَ الإشراقات الدينية والصحية والعلمية والثقافية والنفسية والمهارية التي اكتسبها الأسرى في السجون… وسوف نأتي على التفاصيل في سياق هذه القراءة.
عرفتُ الدكتور فاروق منذ سنوات، من خلال العالم الأزرق، الفيسبوك Facebook، ونشأت بيننا صداقة راقية، وكانت مشاركاته (بوستاته)، تفصح عن همّة عالية وإخلاص في الحياة وقلب نظيف وروح شفافة، ويتميز بالذوق الرفيع والأدب الجمّ والإيثار الطيب والخدمة العامة لمن يستحقّون.
يقع الكتاب في 112 صفحة من القطع الوزيري، بين الوسط والكبير 24*17 سم. يتضمن تقديميْن للشاعر عقل ربيع والكاتبة لمى خاطر، ثم مقدمة المؤلف، ثم متن الكتاب، الذي يُعدّ شهادة فريدة وواقعية وطازجة على مرحلة مختلفة عن مراحل حياة الأسرى السابقة. ولعلّه أول كتاب يكتب بهذا التفصيل عن هذه المرحلة.
في البداية أصّل الكاتب للسجن ومساوئه في التاريخ وفي الموروث الديني، في قصص القرآن عن الأنبياء وتجاربهم، ليصل إلى أن السجن مصيبة تجرّد الإنسان من إنسانيته وتجمّد حياته وتسلبه طاقته وحيويته، بالإضافة إلى تأثيرها على محيطه وعائلته. ويسرد الكاتب مسيرة نضال الأسرى والمكتسبات التي حققوها في سجونهم من خلال الإضرابات والمفاوضات مع إدارة السجون. فشكلوا الهيكليات والقيادة الموحدة لهم، وانتزعوا الحقوق المعيشية والقانونية، واعتنوا بالحياة الثقافية والتعليمية والتربوية وتنمية المهارات، وحلّوا النزاعات الداخلية وتواصلوا مع العالم الخارجي.
كل هذه المكتسبات بدأت تُنتزع من الأسرى عندما استلم إيتمار بن جفيرItamar Ben- Gvir وزارة الأمن الداخلي، وألغيت جميعها بعد عملية طوفان الأقصى في 7/10/2023.
سردية الاعتقال التي طُبقت على جميع الأسرى، يوثقها الكاتب بدءاً من مداهمة البيت فجراً إلى تفصيل صغير جارح ومؤذٍ لن يعرفه إلا من جرّبه، وهي القيود البلاستيكية التي تنغرز بالمعصميْن، وعصب العيون والضرب المستمر والعنف في نقلهم بالحافلات العسكرية الحديدية إلى مركز التوقيف، في معسكر عتصيون، والضرب العشوائي والعقاب الجماعي بسبب شكوى أحد الأسرى من العطش، واختناقهم إلى حدٍّ كانوا ينتظرون ضرب أحدهم لكي تفتح الحافلة ويتنفسوا قليلاً… ومحاولة زرع الخوف وكسر النفوس من البداية، وهو تحدٍّ بقي قائماً طوال مدة السجن. ودور الطبيب المجرم الذي كان شاهد زور على أوضاعهم، وحقيقة الأمر أنه لم يكن طبيباً، ولم يرتقِ ليكون ممرضاً أيضاً…
وعند انتقالهم إلى سجن عوفر ومقابلتهم للأسرى السابقين، أدركوا كم أن الأمور اختلفت عن فترات السجن السابقة. وكيف انتُزعت منهم المكتسبات النضالية وحقوق الإنسان في هذه السجون.
ويفصّل الكاتب في الحديث عن أوضاع السجون الحالية من النواحي الإدارية والحرمان من المقتنيات؛ كل المقتنيات بدءاً من أدوات الاستخدام اليومي وصولاً إلى أدوات التواصل مع الخارج كالراديو والتلفزيون، حتى أدوات النظافة المكانية والشخصية؛ ماكينات الحلاقة، ومقصات الأظافر، وسكاكين المطبخ، وحقّ الاغتسال، وغسيل الثياب، ومنع الأذان وصلاة الجماعة، وقطع الكهرباء والتعتيم في النهار، وسحب الكتب والمجلات، وحتى حرمانهم من أحذيتهم وثيابهم.
ويفصّل الكاتب، وهو طبيب، بالإهمال الطبي المتعمد ما أدى إلى وفاة عشرات الأسرى خلال السنة الماضية، بلغ حتى كتابة هذه السطور 64 شهيداً منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكيف أن ممرضاً يشرف على الوضع الصحي لمئات الأسرى، وإذا أُصيب أحد الأسرى بإغماء، سواء من كسر في الجمجمة أم مشكلة في الأمعاء أم هبوط في السكر، وهي حالات وقعت معهم، فإنهم يضربونه بقوة حتى يستيقظ مُدَّعين أنه يتصنع الغيبوبة. ناهيك عن الأمراض الجلدية التي أصابت الأسرى ورفض الاحتلال علاجها…
هذا الفصل تحديداً، هو وثيقة دامغة بالأسماء على انتهاكات قانونية لحقوق الأسرى الصحية والإنسانية، يصلح أن يكون وثيقة تُرفع إلى الهيئات الحقوقية الدولية.
ولكي تعرف سبب الهزال الذي يظهر على المحررين، اقرأ كيف أن الطعام الذي يقدم لهم لا يكفي وبلا طعم، صفحة 58، “فهو أقل من أن ينفع، وأهم من أن يُترك”. فقد كان الفطور 50غ من اللبنة، والغداء سبع ملاعق من الأرز غير الناضج وملعقتين من الحمص المطحون والعدس. وكثير من تفاصيل الحرمان من الطعام أدّت إلى فقدان الكتلة الدهنية في الأجساد وتعدّتها إلى الكتلة العضلية، فبرزت العظام وغارت العيون وفَقَدَ كل الأسرى ما بين 10–40 كغ… هذه التفاصيل نبّهت الأسرى للقيام بتمارين رياضية تحافظ على الكتلة العضلية بالحدّ الأدنى المستطاع.
وسلّط الكاتب الضوء على محاولات الاحتلال بثّ الفرقة والخلاف بين الأسرى، وكيف تمّ حلّ الخلافات بسرعة.
ويكتمل التوثيق القانوني بفصل عن مهزلة محاكم الاحتلال الصُّوَرية المليئة بالاستبداد المعتمِد على “الأدلة السرية” أو تقرير كيديّ من عميل بلا ضمير. ويصف التمثيلية المتبادلة بين القاضي العسكري والادعاء ووقوف المحامي والمتهم بلا حول لا قوة.
لم يكسر السجن صمود الأسرى، فخاضوا التحدي بإرادة صلبة، على الرغم من كل ما أحدثه الاحتلال من تغيير، وخصص الكاتب فصلاً عن مظاهر الصمود، من خلال عناوين محددة: مجتمع السجن، وإدارة خدمات الأسرى، والحالة النفسية والعاطفية للأسرى والتفاؤل الدائم حتى في تأويل الأحلام والرؤى، ودور الأدباء والشعراء في رفع معنويات الأسرى، والحرص على ممارسة الرياضة، وختمها بالحالة الصحية للأسرى، ص 78، التي يمكن اقتطاعها ونشرها بعنوان، نص لإغاظة الاحتلال، أو ربّ ضارة نافعة، وفيها عن شفاء مرضى السكري والدهون والسمنة وأوجاع الظهر والركبتين بسبب ذوبان الشحم من الجسم، وارتفاع المناعة بسبب فقدان السكر والملح في الطعام، وغياب الأنفلونزا عن الأسرى وعدم انتقال العدوى بسبب عزلهم.
أما سلبيات وإيجابيات مجتمع الأسرى فقد أفرد لهما الدكتور عاشور عنوانين وافيين فيهما رؤية الطبيب المثقف الحريص على الوئام والاتفاق ونشر الثقافة بين الأسرى… وبدا فخوراً بعدد الذين حفظوا القرآن ونالوا الإجازة بالسند المتّصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم حفظ أجزاء وافرة منه مع دروس التفسير والتجويد والقراءات…
ثم قدّم الكاتب الأسير المحرر الأسباب، والدوافع الإيمانية والإنسانية والشخصية، والقدرة على التحمل والتكيف التي أدّت إلى صمود الأسرى.
وختم الكاتب هذا الكتاب النفيس بسرد تفاصيل يوم الحرية وما بعدها بخواطر ونفحات جميلة، وبتفاؤل الواثق بالنصر والتحرير، موجهاً سلامه للأسرى الذين تركهم.
لم يكن هذا الكتاب مجرد شهادة شخصية على تجربة السجن، مع أنه الأول وربما الوحيد حتى الآن، ولا وثيقة حقوقية تجاه مجرم أو مستبد. بل هو شهادة شعب كامل على خطأ تاريخي استبدادي إحلالي يجب أن يصحح، إحقاقاً للحق وإنهاء للظلم وانتصاراً للإنسانية.
[*] كاتب وباحث وناشط فلسطيني.
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 28/4/2025
أضف ردا