مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والسبعون على نكبة فلسطين، وإنشاء الكيان الإسرائيلي على أرضها. وفي هذه الذكرى سنقف فقط على ثلاث حقائق وأوهام حول النكبة، ما زالت غير واضحة أو مشوشة لدى الكثيرين في العالم العربي والدولي:

حقيقة الجيوش العربية السبعة:

يتساءل الكثيرون كيف تمكن الكيان الصهيوني الوليد والعصابات الصهيونية من هزيمة جيوش سبع دول عربية في حرب 1948؟! كما يتحدث الصهاينة كيف أن كيانهم كان تحت خطر ساحق من هذه الجيوش في محاولة لاستدرار التعاطف، وكذلك لإثارة الإعجاب على ما يُسمونه “انتصاراتهم” هذه الجيوش، وإبراز حالة “بطولة” مصطنعة في إنشاء الكيان.

والحقيقة أن الجيوش العربية المشاركة في الحرب عند انتهاء الاحتلال البريطاني في منتصف أيار/ مايو 1948 لم يكن مجموعها يتجاوز 21 ألفاً، بينما كان مجموع القوات اليهودية الصهيونية 67 ألفاً، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش العربية. وحتى مع استمرار جولات القتال، وصولاً إلى نهاية الحرب، فإن عديد الجيوش العربية وصل إلى نحو 40 ألفاً مقابل الجيش الصهيوني الذي زاد عديده إلى 106 آلاف. وبالتالي فإن الوهم المرتبط بـ”الجيوش السبعة” يفقد معناه عند الخطوة الأولى من المقارنة.

من ناحية ثانية، فإن الجيوش العربية المشاركة كان معظمها ما يزال تحت النفوذ الاستعماري أو حديث التأسيس والاستقلال، فالجيش الأردني مثلاً كان ما يزال تحت قيادة رئيس الأركان الضابط البريطاني جون باجوت جلوب (John Bagot Glubb)، وكان في الرتب العليا نحو 45 ضابطاً بريطانياً من أصل 50 ضابطاً؛ وأصدر “جلوب باشا” أوامر صارمة بعدم تجاوز خطوط قرار تقسيم فلسطين، أي أنه كان معنياً بتثبيت قرار التقسيم لا بتحرير فلسطين.

أما الجيش العراقي فجاء للحرب دون خرائط، وكانت معلومات معظم الجيوش ضعيفة أو منعدمة عن الجانب الصهيوني. ولم تعبّئ الأنظمة العربية طاقاتها الكاملة للمعركة، وذهبت جيوشها إليها وكأنها في نزهة عسكرية، مُهوّنة تماماً من شأن القوات اليهودية الصهيونية. وبدلاً من أن تقوم الجيوش بتعبئة الفلسطينيين وتسليحهم، فقد قام بعضها بنزع أسلحة الفلسطينيين. وعانت الجيوش العربية من ضعف التسليح وفساد الأسلحة، ومن حظر الدول الكبرى لتصدير الأسلحة إليها في أثناء الحرب.

ومع التأكيد على شجاعة الجنود العرب في القتال وبطولاتهم (مثلاً: كانت هناك بطولات مشهودة للجيش الأردني في القدس والجيش العراقي في جنين والجيش المصري في الجنوب..)، فإنهم ابتُلوا بكثير من القيادات العسكرية والسياسية غير الكفؤة، أو بظروف قاسية لا تمكنهم من القتال المتكافئ ولو نسبياً، سواء من ناحية الإمكانات العسكرية أو التجهيزات اللوجستية.

أما العدو الصهيوني، فكان قد استكمل بناه السياسية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية تحت رعاية الاحتلال البريطاني، وتوفّرت لديه قيادة سياسية وعسكرية ميدانية فعّالة على الأرض، بينما كانت القيادة الفلسطينية مُغيَّبة خارج فلسطين. وتمكن الصهاينة من الحصول على صفقات أسلحة نوعية أعطتهم مزايا متفوقة في القتال، كحصولهم على 24 طائرة بريطانية، وعلى كمية ضخمة من الأسلحة التشيكية (بإذن وتوجيه من الاتحاد السوفييتي) منها 40 طائرة مقاتلة، وحصلوا على ثلاث طائرات قاذفة أمريكية.

ضياع معظم فلسطين بعد دخول الجيوش العربية:

يظن كثيرون أن حرب فلسطين 1948 بدأت مع انتهاء الاحتلال البريطاني ودخول الجيوش العربية لفلسطين؛ وربما ظن البعض أن الجيوش حافظت على ما تبقى من فلسطين بعد دخولها. وفي الحقيقة، فإن حرب فلسطين بدأت مباشرة بعد صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أي قبل نحو خمسة أشهر ونصف من دخول الجيوش العربية؛ وأن شعب فلسطين (الذي قام البريطانيون طوال الاحتلال بقمعه وسحق ثوراته وقتل وتهجير قادته) خاض معارك واسعة بإمكانات ضعيفة طوال تلك الفترة، وعانت قوات الجهاد المقدس وجيش الإنقاذ ومتطوعو الإخوان المسلمين وغيرهم من ضعف شديد في التسليح والدعم اللوجستي والتعبئة العسكرية، في ضوء السلوك السلبي للأنظمة العربية، بل ومن منع دخول المتطوعين (خصوصاً عبر مصر) أو التضييق الشديد في ذلك.

ومع ذلك، فقد حافظ شعب فلسطين على أكثر من نحو 80 في المئة من أرض فلسطين طوال تلك الأشهر. وجاء معظم التوسع الصهيوني بعد 15 أيار/ مايو في أثناء وجود الجيوش العربية؛ فسقطت عكا في 17 أيار/ مايو، وسقطت مناطق اللد والرملة والناصرة وشفا عمرو في 9-17 تموز/ يوليو 1948، وسقطت في النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر مناطق المجدل وأسدود وعراق السويدان، وما تبقى من شمال فلسطين. أما منطقة النقب (وهي تمثل نحو نصف مساحة فلسطين) فسقطت في آذار/ مارس 1949.

قرار تقسيم فلسطين:

كانت بريطانيا قد تراجعت بعد الحرب العالمية الثانية عن كتابها الأبيض الصادر سنة 1939 والذي يلتزم بدولة فلسطينية خلال عشر سنوات، وبعدم تحويل فلسطين لدولة يهودية، والاكتفاء بما تم تنفيذه من وعد بلفور؛ ورفعت مسألة مستقبل فلسطين للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ألّفت لجنة خاصة أوصت بتقسيمها إلى دولتين يهودية وعربية. ورُفع في النهاية مشروع قرار يُعطى 54.7 في المئة من أرض فلسطين للدولة اليهودية (14400كم2)، و44.8 في المئة للدولة العربية (11780كم2) ونحو 0.5 في المئة لمنطقة القدس، كمنطقة دولية.

وما لا يعرفه كثيرون أنه عندما صدر قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، كان ما يزال شعب فلسطين يملك نحو 94 في المئة من أرض فلسطين، وأن كل محاولات الصهاينة وإجراءات الاحتلال البريطاني وأساليب القمع والظروف القاهرة على مدى ثلاثين عاماً لانتزاع أرضهم قد فشلت. كما كان ما يزال شعب فلسطين يمثلون أغلبية السكان المقيمين على أرضها بنحو 68.5 في المئة، بالرغم من أن اليهود ضاعفوا أعدادهم 13 ضعفاً من خلال الهجرة والاستيطان (من 50 ألفاً سنة 1918 إلى 650 ألفاً سنة 1948) من خلال الهجرة التي تمت تحت رعاية وحماية الاحتلال البريطاني. وبالتالي، لم يكن قرار التقسيم لينفذ إلا من خلال المجازر والعدوان العسكري والتطهير العرقي الذي توفر له غطاء ورعاية دولية خصوصاً القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وغيرها.

وكان اتخاذ قرار التقسيم، يحتاج إلى أغلبية الثلثين الحاضرين المشتركين في التصويت، ولم تكن القوى الكبرى تملك أغلبية الثلثين قبيل اتخاذه، وكاد في يوم 26 تشرين الثاني/ نوفمبر أن يَحدث تصويتٌ، ولو تم لسقط مشروع التقسيم، لكن رئيس الجمعية -مندوب البرازيل- أجَّل الجلسة. وقام الصهاينة والأمريكان بحملة محمومة نجحت بمختلف الوسائل في زيادة الأصوات المؤيدة، فقد استلمت زوجات ممثلي أمريكا اللاتينية هدايا كثيرة معظمها ألماس ومعاطف فرو ثمينة.

وأَمَرت حكومة هايتي (التي كانت قد صوتت ضد التقسيم) مندوبها بالتصويت معه، بعد أن وعدتها أمريكا بالمساعدة الاقتصادية. واستخدم رجل الأعمال الأمريكي روبرت ناثان نفوذه الاقتصادي لشراء صوت جواتيمالا، وهدّدت شركة فايرستون ليبيريا اقتصادياً إن لم تتحول من الامتناع إلى التأييد، وتعرضت الفيلبين لضغوط شديدة، وتدخل رئيس جمهوريتها، فأمر مندوبه بالموافقة على القرار. ووفق هذه الألعاب القذرة تم تقرير مصير أحد أقدس وأطهر البقع في الأرض.

وفي يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 فاز قرار التقسيم بأغلبية 33 مقابل 13 وامتناع 10 دول.

إن قرار الأمم المتحدة هذا من أغرب القرارات الدولية فقد:

1- صدر القرار مخالفاً لأحد أهم أهداف المنظمة الدولية، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث تم تجاهل الشعب الفلسطيني، وحقه غير القابل للتصرف في تقرير مستقبله.

2- يفتقر القرار إلى أي سند قانوني، فالجمعية العامة لا تملك سلطة التصرف في شئون الأقاليم الموضوعة تحت الانتداب، ومنها فلسطين. فقد أنشأت الأمم المتحدة نظام “الوصاية” وكان عليها أن تدخل في مفاوضات لوضع فلسطين تحت الوصاية، وتقرر إنهاء الانتداب على فلسطين، إذا كان قد حقق أهدافه في تهيئة البلد للاستقلال.

3- ليس في ميثاق الأمم المتحدة أو أي هيئة رئيسية فيه سلطة تقسيم إقليم محدد دولياً خلافاً لرغبة سكانه.

4- هذا القرار يُعد في الفقه الدولي -السائد في حينه- توصية غير ملزمة، صدرت وفق المادة العاشرة من ميثاق الأمم المتحدة، وهي لا يمكن أن تمس الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.

5- قرار التقسيم -جدلاً- مخالف للعدل في التوزيع، فلا هو راعى نسبة ملكية الأراضي (اليهود لا يملكون أكثر من 6 في المئة)، ولا هو راعى نسبة السكان (اليهود 31.5 في المئة).

6- قرار التقسيم عندما أعطى 54.7 في المئة من أرض فلسطين للدولة اليهودية، كان ما يزال نصف سكان هذه الأرض من الفلسطينيين، ووفق الزيادة الطبيعية كان الفلسطينيون سيحصلون على الأغلبية وفق الزيادة الطبيعية في بضع سنين. ولذلك كان من المفهوم ضمناً أن الصهاينة سيقومون (بغطاء أو بسكوت دولي) بتهجير الشعب الفلسطيني لضمان أغلبية يهودية.

7- بالرغم من أن اليهود الصهاينة بذلوا جهد المستميت لإنجاح القرار واستقبلوه بفرحة عارمة، إلا أن الكيان الصهيوني لم يعترف مطلقاً “بشكل رسمي” بهذا القرار، وتعامل معه كأمر واقع ومسألة إجرائية. وسعى بعد ذلك إلى تجاوزه بشن الحملات الحربية التي وسعت كيانه إلى 77 في المئة نتيجة حرب 1948، وتم تهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني، من أصل نحو 925 ألفاً كانوا يقيمون في الأرض التي نشأ عليها الكيان. وبعد انتهاء حرب 1948، لم تقم الأمم المتحدة أو القوى الكبرى بإلزام الكيان الصهيوني بالعودة للحدود المقترحة في قرار تقسيم فلسطين، وإنما سعت إلى تثبيت خطوط الهدنة كحدود جديدة.

وبشكل عام، فإن قرار التقسيم قد قنّن الظلم، ووفر الغطاء لاغتصاب الأرض والمقدسات، وبما يعاكس الأسس التي قامت عليها المنظومة الدولية وحقوق الإنسان.


المصدر: موقع ”عربي 21“، 12/5/2023


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: