مدة القراءة: 18 دقائق

إعداد: أ. عبد القادر ياسين.[2]
(خاص بمركز الزيتونة).

في سياق تأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)”، على النحو المعروف صيف 1964، انعقد في مدينة غزة، المؤتمر الأول لاتحاد كتّاب فلسطين سنة 1966. وانتخب أمانة عامة للاتحاد؛ قوامها: خيري حمَّاد (رئيساً)، وعودة بطرس عودة (أميناً عاماً)، وعضوية كل من: هارون هاشم رشيد، وصبحي ياسين، ونادرة جميل السراج. وجعل الاتحاد من القاهرة مقراً له، “دار الأدباء”، شارع قصر العيني، دون فروع، أو نشاط ملحوظ.

في أحد أعدادها، خريف سنة 1971، فاجأت أسبوعية “فتح”، من دمشق، قراءها بمشكلة هذا الاتحاد، فرأت أنه نخبوي، تقتصر عضويته على مجرد 28 شخصاً، بالتحديد! ونسيت الصحيفة الفتحاوية بأن اتحادات الكتّاب في أركان الأرض الأربعة نخبوية، وليست جماهيرية!



للاطلاع على ورقة العمل بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة عمل: القصة الكاملة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين … أ. عبد القادر ياسين (20 صفحة، 1.4 MB)


تَمتْرس حمَّاد، ومن معه، في مواقعهم الانعزالية، ورأى أصحاب الصيغة الجماهيرية في وفاة خيري حمّاد، ربيع سنة 1972، سانحة ذهبية، فطفقوا يُلحّون على ضرورة تأسيس اتحاد للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين.

إلى أن انعقد المؤتمر الأول لهذا الاتحاد، في بيروت 6-9 /1972/9، وضمّ نحو ثلاثمئة عضو، يتفق والصيغة الجماهيرية “حِش وارمِ!”[3] إذ إن فصائل فدائية عمدت إلى نقل مقاتلين من قواعدها إلى داخل المؤتمر. حتى إذا ما وصل عميد النقاد العرب، د. إحسان عباس، ومعه كل من شفيق الحوت، وفيصل حوراني، حتى فزعوا من هذا الصخب الجماهيري. وقال الحوت كلمته المشهورة: “هذا مؤتمر الكتاب والقراء”، ولكن حوراني أضاف: “وذويهم! فبعض الحاضرين لا يقرأ ولا يكتب!” استطرد الحوت: “والله لو جاء المتنبي لسألوه على باب القاعة (من أي فصيل الأخ؟!)”

سرعان ما تأكد بأن السخط تخطى هؤلاء الثلاثة، والمؤكد انتسابهم إلى عالم الكُتّاب، واتسع نطاق النقد، حتى أن شهرية “شؤون فلسطينية”، الصادرة عن مركز الأبحاث، في بيروت، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان يرأسها المفكر الوطني الديموقراطي د. أنيس صايغ، لم تستطع أن تقاوم الطوفان، ففتحت صفحاتها لوجهات النظر الثلاثة حول ذاك المؤتمر؛ “حرصاً منها، أولاً على أن تُسجل وقائع كل مؤتمر فلسطيني، أو على علاقة بالقضية الفلسطينية… والأمر الثاني حرصاً على الموضوعية في المعالجة التي تستدعي إفساح المجال أمام أكثر من وجهة نظر”.[4]

لاحظ الكاتب السياسي، بلال الحسن[5] بأنه قبل الانعقاد؛ كانت هناك مشكلة “اتحاد الكتاب الفلسطينيين” القديمة، في القاهرة، وفي أثناء الانعقاد؛ برزت مشكلة عضوية المؤتمر، وطريقة تكوينه، وبعد الانعقاد؛ تركَّز النقد حول الأمانة العامة الجديدة، ومدى تمثيلها للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين.

استهجن الحسن، كيف نشرت صحيفة “فتح” خبر حلّ الاتحاد القديم، بمجرد وفاة خيري حمّاد، مباشرةً، فعقد من تبقى من الاتحاد القديم مؤتمراً، في القاهرة، في آب/ أغسطس 1972، المؤتمر الثالث للاتحاد، وانتخبوا عودة بطرس عودة رئيساً للاتحاد، وفشلت كل محاولات حلّ الخلاف بين “الجديد”، و”القديم”! وإن ردَّ عودة بموافقته على عقد مؤتمر يقتصر على الصحفيين، ما دام اتحاد الكتّاب موجوداً، ورُفض اقتراح عودة، وتقرَّر عقد المؤتمر في أيلول/ سبتمبر 1972، بقاعدته العريضة! وفي موضوع العضوية، فتحت اللجنة التحضيرية مجال العضوية أمام العاملين في مؤسسات الإعلام لحركة المقاومة؛ وأمام العرب العاملين في أجهزة الإعلام الفلسطينية. كما أقرَّت اللجنة التحضيرية ضرورة مراعاة التوزيع الجغرافي للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، والتيارات السياسية التي ينتمون إليها، مع إعطاء الأولوية لعنصر الكفاءة.

قدَّمت اللجنة التحضيرية أوراقاً إلى المؤتمر، متواضعة المستوى. كما خضعت اللجنة لضغوط الفصائل، بقبول الأولى تشكيل لجنة خماسية، من وراء ظهر اللجنة التحضيرية، تُمثل منظمات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، للبتِّ في عضوية المؤتمر! وكان طبيعياً أن تنطلق اللجنة الخماسية من “المبدأ النضالي”، والبعد عن الروح النقابية السليمة. فقد كان همْ ممثلي الفصائل جني أكبر عدد ممكن من مقاعد المؤتمر؛ مما أغرق المؤتمر بغير المؤهلين لعضويته.

انتقل الحسن إلى مناقشة بند الأمانة العامة، الذي كاد يُفجِّر المؤتمر. فقد قضت اللجنة الخماسية إيّاها بتشكيل الأمانة العامة للاتحاد، بما يعكس ميزان القوى، قوى الأصوات، بين الفصائل! وأخيراً، اتُّفِق على أن يُعيِّن كل فصيل عدداً من أعضائه، حسب نسبة اتُّفِق عليها، مع تعيين مستقل، يختاره كل فصيل. فجاء تركيب قائمة المرشحين للأمانة العامة معبِّراً عن توازن القوى الفصائلي، البعيد، كل البعد، عن الكتّاب والصحفيين.

لعل المثير للضحك، أن اللجنة الخماسية ناقشت طويلاً ترشيح الشاعر محمود درويش لعضوية الأمانة العامة، ولكن الأغلبية رفضت هذا الترشيح!

تشكَّلت القائمة المقترحة من عضويْن من “فتح”، ومستقل تختاره؛ وعضويْن للصاعقة، ومستقل تختاره؛ وواحد لكل من: الشعبية، والديموقراطية، والتحرير العربية، بالإضافة إلى مستقل تختاره كل واحدة منها.

سرعان ما تشكَّلت قائمة أخرى، ضمَّت كتّاباً وصحفيين مرموقين. وانتهى الأمر بفوز 13 من 15 مرشحاً للخماسية، ولم يفُز من الأسماء المرشحَّة خارجها، إلا غانم زريقات، ود. أنيس صايغ، وحلَّ محمود درويش محل بلال الحسن، الذي انسحب من قائمة الخماسية!

اكتُشِف أن تلاعب فصائل، كانت أعطت موافقتها على قائمة الخماسية، أدى إلى سقوط ممثلي “الصاعقة” الثلاثة. فطُلِب إلى رشاد أبو شاور (مستقل) الانسحاب، ليحل محله فايز قنديل (صاعقة)؛ كما طُلِب إلى د. أنيس صايغ إعلان استقالته، بما يسمح بإدخال ممثل آخر للصاعقة، ولكن صايغ رفض الطلب، كما طُلِب إلى كل من عبد الله حوراني، وزهدي النشاشيبي (آخر الناجحين) سحب ترشيحهما، بما يسمح بنجاح مرشح الصاعقة الثالث، عبد الرحمن غنيم. على أنه يُحسب للصاعقة أنها رفضت هذه التسوية المهينة، وأعلنت انسحابها من الأمانة العامة. ولكن اللجنة التنفيذية للمنظمة شكَّلت لجنة للمصالحة، قرَّرت “الصاعقة” على إثرها أن تعود وتُسهِم في عضوية الأمانة العامة للاتحاد! ما أخَّر إعلان أسماء أعضاء الأمانة العامة، أو أي من تشكيلاتها الداخلية. وانتهى الأمر بانتخاب ناجي علوش أميناً عاماً للاتحاد، وكان وقتها يُعدّ كبير مثقفي فتح.

بعد هذا كله، عمد الحسن إلى تفنيذ مقولة “إن المهمة النقابية هي مهمة سياسية، بالدرجة الأولى”، بقوله: “حتى هذه المقولة تفرض جسماً نقابياً، أولاً، حتى يستطيع أن يناضل، سياسياً، وإلا وجدنا أنفسنا، في النهاية، أمام قيادة عُليا (أمانة عامة) لا تُمثِّل إلا نفسها، بنضال بيانات، تُعبر عن أشخاص الأمانة العامة! وهنا يكون جرى اغتيال الأوليات النقابية”. كما تصدى الحسن للذين وضعوا الكفاءة مقابل الثورية، وافتعلوا تناقضاً بينهما.

انتهى الحسن باقتراح تحوَّل الأمانة العامة للاتحاد إلى لجنة تحضيرية لمؤتمر عام جديد؛ وتُعيد الأمانة المنتخَبة؛ النظر في عضوية الاتحاد؛ وأن تجري الدعوة لعقد مؤتمر ديموقراطي في وقت قريب ومناسب، تتحقَّق فيه الشروط النقابية للعضوية. وإلا فإن ما جرى في المؤتمر الأول، وما تمخَّض عنه من أمانة عامة، لا يُعبِّر عن الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين.

دخل على الخط الصحفي والكاتب السياسي، مدير مكتب منظمة التحرير في لبنان، شفيق الحوت،[6] بادئاً كلامه بأن “الثورة، أية ثورة، هي—في الأساس—رفض للواقع، يتم التعبير عنه بأسلوب ثوري، قادر على تجاوز الواقع المرفوض، وتحقيق (واقع) جديد، أكثر ملاءمة، وتطابقاً مع أهداف الثورة. والثورة عملية مستمرة، ومتصاعدة.. [و] ما يمكن اعتباره، في مرحلة ما، ظاهرة إيجابية، وقد يصبح – بعد تطوُّر ظروف النضال السياسية – ظاهرة سلبية، وربما قاتلة”.

شدَّد الحوت على ضرورة أن “ننقد أي جانب من جوانب نشاطنا، بإيجابية الثوار، وبابتعاد كامل عن العواطف الشخصية، فردية كانت أم تنظيمية”. مؤكداً بأن “الهدف الأساسي من إنشاء الاتحادات المهنية، والنقابية، والتنظيمات الشعبية، هو استقطاب أوسع للقواعد الشعبية – وبشكل خاص غير الملتزمة بتنظيمات سياسية محدَّدة، إلى الإطار السياسي العام…”، فماذا جرى بالنسبة لاتحاد كُتّاب وصحفيي فلسطين، على ضوء هذه البديهية التنظيمية؟ هنا، قدَّم الحوت ملاحظتيْن، أولاهما؛ “أن قضية الاتحاد (السابق) لم تزل معُّلقة، من حيث إلغائه، أو الإبقاء عليه. وهذا تقصير من قيادة (المنظمة)”. بينما تمثَّلت ثاني الملاحظات في “لجوء (اللجنة التحضيرية)، في طرحها لمشروع إنشاء الاتحاد الجديد، إلى الأسلوب التقليدي، الذي شلَّ، أو يكاد، كل الاتحادات التابعة للمنظمة؛ وهو الأسلوب التوفيقي”. وترتيباً على ذلك، فإن “اللجنة التحضيرية عمدت إلى تنسيب أعضاء للاتحاد، بالجملة، ودون أي اعتبار لشروط العضوية، ما أفقد الاتحاد قيمته النوعية… وقد شهد المؤتمر لهذا السبب، مآسي مخزية، بالفعل، أثارها جهل العديدين من الحاضرين”.

وعليه، تنبأ الحوت بالنتائج التالية:

• خسر الاتحاد الجديد القاعدة المثقفة، التي كانت فيه؛

• انعزلت الأمانة العامة، منذ تشكيلها؛

• عكس المؤتمر الأخير أزمة الثورة المزمنة، في علاقة الفصائل بالجماهير؛

• كشف المؤتمر أخلاقيات بعض العاملين في الثورة، من المثقفين البرجوازيين الذين يمارسون عكس ما يزعمون من ثورية؛

• كان من الطبيعي، بعد اعتماد “الكوتا” أن يستبد التناقض بين ممثلي الفصائل أنفسهم، ما فجَّر ما تبقى من نتائج المؤتمر؛

• ما أضاف إلى سلسلة الاتحادات اتحاداً جديداً، ليس إلا.

أما ما العمل؟ فإن الحوت لخَّصه بالإجابة على: “لماذا نريد الاتحاد؟ ومن هم الذين نريد استقطابهم، لتوسيع وتعميق دائرة الاتصال بين الثورة والجماهير. هذا بالطبع، إن أردنا اتحاداً للشعب، لا للمنظمات، أو الأفراد!”

من الضفة الأخرى، جاء صوت كبير مثقفي فتح، ناجي علوش،[7] مشيراً إلى أن معظم الحاضرين في المؤتمر، هم من سورية ولبنان، بينما لم يحضر أحد من ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب. مؤكِّداً بأن عدد الأدباء، والكتّاب، والصحفيين الفلسطينيين أكبر من المشاركين في المؤتمر كثيراً.

فيما يخصّ الأبحاث المقدَّمة للمؤتمر، أشار علوش إلى عزوف كثيرين عن الإسهام في كتابة الأبحاث؛ كما أن الجميع اكتفوا بالفُرجة على “اللجنة التحضيرية”. وحين اقترب موعد المؤتمر، بدأت الفصائل الفدائية ترمي بثقلها، فاتَّهموا “فتح” بأنها تعمل للسيطرة على المؤتمر؛ وطالب آخرون بضمانات لعدم تحيُّز اللجنة التحضيرية، فنشأت اللجنة الخماسية الفصائلية لمساعدة التحضيرية ومراقبة أعمالها، ما زاد في بلبلة التحضيرية وعرقلة أعمالها. وقد رأى البعض في الأمانة العامة القضية الأهم، بينما رأى علوش أن الأهم هو الحوار، والتفاعل داخل المؤتمر، بالإضافة إلى النظام الداخلي للاتحاد، ناهيك عن قرارات المؤتمر، وتوصياته. وكاد التركيز على قضية الأمانة العامة أن يُفجِّر المؤتمر، قبل بدايته. وكشف مثقفو “فتح” بأنه ضدّ “الكوتا” الفصائلية، وأن يُؤخذ بالصفة الشخصية لا التنظيمية. وفي مواجهة القائمة الفصائلية، تمّ ترشيح قائمتيْن، تصدَّر الأولى شفيق الحوت، بينما ضمَّت القائمة الثانية رشاد أبو شاور، وغانم زريقات، وعبد الكريم عبد الرحيم. وقد اقتحمت القائمة الأولى اللائحة الفصائلية بالدكتور أنيس صايغ، بينما اخترق اللائحة نفسها كل من رشاد أبو شاور، وغانم زريقات، من القائمة الثانية.

أما العوامل التي كان يمكن أن تُنجِح المؤتمر أكثر، فتمثلت برأي علوش في:

• عدم مشاركة عدد من أعضاء التحضيرية في أعمالها؛

• عدم الاهتمام بإعداد الدراسات اللازمة للارتقاء بمستوى المؤتمر؛

• اضطرار المشرفين على المؤتمر لإلغاء الندوات العلنية، واختصار المناقشات، تجنباً لرد فعل العدو الصهيوني على عملية ميونيخ.[8] ولكن إنجازات المؤتمر كلها كادت تغيب في الضباب، الذي أحدثته نتائج الانتخابات، وفي البيانات التي انطلقت تُهاجم، من هنا وهناك. ومع تسليم علوش بتواضع نجاح المؤتمر، فإنه رأى “…ومقدار نجاحه، أو فشله، ستُبرزه أمانته العامة الجديدة، خلال الأشهر المقبلة”.

من سورية، جاء صوت عبد الرحمن غنيم[9] أحد مرشحي “الصاعقة”، فأخذ على علوش اعتباره المؤتمر ناجحاً، لمجرَّد أن عضويته فاقت كثيراً عضوية مؤتمريْ “اتحاد الكتاب” في سنتيْ 1966 و1969. ورأى غنيم بأن “التفوق العددي” والذي نجم عن إعطاء العضوية في المؤتمر لمن يستحق، ولمن لا يستحق، ومن التسهيلات المالية لوفود بعض الفصائل، والمبالغ الكبيرة التي وُضِعت تحت تصرُّف التحضيرية، كلها لا تُضفي الشرعية على مؤتمر دعت إلى عقده، وأشرفت على عقده، لجنة غير شرعية، يُشكِّل تكوينها اعتداء على اتحاد قائم، يضمّ أكثر من مئة وعشرين كاتباً، لا مجال للتشكيك بحقهم في عضويته، وأن مسؤولية ضعفه تقع على الجهة المسؤولة في المنظمة، والتي حجبت كل عون عن الاتحاد؛ كما تتحمَّل مسؤولية ضعف هيئاته الإدارية، وعلى رأسها ناجي علوش (الأردن)، وعبد الله حوراني (سورية)، وعابدين بسيسو (الكويت)، وهارون هاشم رشيد (مصر). بينما قبلت تحضيرية المؤتمر الأخير عضوية من وردت أسماؤهم في برقيات من مكاتب منظمة التحرير، أو معتمدي “فتح”، دون أن تتوقَّف عند أي اسم من الأسماء.

نفى غنيم أن تكون التحضيرية “تُمثِّل أجيالاً مختلفة، واتجاهات مختلفة… وتضم عدداً من كُتّابنا الكبار”، كما ادَّعى علوش، بينما أُعطيت إحدى التنظيمات (فتح)، من البداية، أغلبية مطلقة… وكان من المستحيل ألَّا يقود هذا المنطق إلى الانشقاق. وقد تحفَّظت الخماسية على نحو 40 اسماً من مقدِّمي طلبات الانتساب من سورية، بحُجج أوهى من أن تُقبل؛ فالشاعر أو الأديب، إن لم يكن عاملاً في الصحافة تحفَّظوا عليه، والكاتب أو الأديب، إن كان عسكرياً تحفظوا عليه… [كما] تحفَّظوا على واحد بدعوى أنه في السجن، وهو ليس سجيناً! وناقشت الخماسية هذه الطلبات وأقرَّت من بينها30 طلباً، وأحالتها إلى التحضيرية للتنفيذ؛ فجاء الصباح، لتثور ثائرة اللجنة التحضيرية، وتتمرَّد على قرار اللجنة الخماسية.

أما القرارات والمواقف التي تسبَّبت في البلبلة، فحصرها غنيم فيما يلي:

1. لم توجِّه التحضيرية الدعوة إلى أعضاء الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين الأصلاء، بالرغم من قرار الخماسية بتوجيه الدعوة ، فوراً، لهم؛

2. ارتفع عدد المنتسبين في كشوف التحضيرية إلى نحو 475 عضواً، أقرَّت الخماسية منهم نحو ثلاثمئة فقط؛

3. كان ثمَّة تعمُّد واضح في عدم تمكين البعض من الحضور إلى المؤتمر.

“لقد اعتمدنا تمرَّد (التحضيرية) على (الخماسية)، إخلالاً بالاتفاق، لا نستطيع معه الحضور إلى المؤتمر، لكن ميل المنظمات الفدائية للتفاهم، بأي شكل… ثم تأكيدات (فتح) بالالتزام بقائمة ائتلافية… جعلتنا نذهب إلى المؤتمر”.

اتَّهم مرشح “الصاعقة”، مجموعة “فتح”، بالخروج على الالتزام بالقائمة الائتلافية، وتزييف عملية التصويت؛

“مثلما زيَّفوا عملية الفرز. وكان على رئيس لجنة الرقابة، بعد أن كشف للرئاسة عن وجود التزييف، أن يسكت باسم الوحدة الوطنية، وباسم سمعة ثورتنا المصانة… وكان علينا نحن، أيضاً، أن نطمئن الضارعين بنا، ألا نُفجِّر الجلسة الختامية، وأن نسمح بلفلفة المؤتمر… ولكننا رفضنا التسوية المقترحة، والتي تقضي بحلول عبد الرحمن غنيم محل ماجد أبو شرار… وكان رد ناجي علوش أن الأمانة ستستقيل، لتُسمي اللجنة التنفيذية [“لمنظمة التحرير”] أمانة مؤقَّتة، تدعو لعقد مؤتمر جديد، بعد ستة أشهر، وقلنا له هذا هو الحل الأمثل. وتدليلاً على حسن نوايانا، غادرنا الجلسة، قبل الختام، لنفاجأ بتتويج لسلسلة المناورات، بإعلان أمانة تسوية… وبإقالة د. أنيس صايغ، رغم أنفه، ليوضع مكانه عبد الرحمن غنيم، رغم أنفه، أيضاً. لقد قيَّمناها على أنها تصرُّف، يرمى إلى الإيقاع بين (الصاعقة)، والمستقلين، وإلى تحطيم سمعة ممثل (الصاعقة)، الذي حلَّ محل د. صايغ، الذي أصبح، بنجاحه في عمله، وبتضحيته، رمزاً يعتز به شعبنا كله.”

واصلت الأمانة “التلفيقية” للاتحاد مسيرتها، فعمدت إلى تأسيس فروع للاتحاد، هنا وهناك، واستقال هارون هاشم رشيد، الشاعر الفلسطيني المرموق، من عضوية الأمانة العامة، احتجاجاً على تجاهل دعوته إلى اجتماعاتها، المنعقدة في بيروت! وبعد أن كانوا تجاهلوا دعوة الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين المقيمين في مصر[10] لحضور المؤتمر الأول للاتحاد، مكتفين باثنين فقط، هما: زين العابدين الحسيني، القاصِّ المعروف، وحسيب القاضي، الشاعر المعروف، بينما غصَّ وفد كتّاب وصحفيي مصر بعناصر من “فتح”، وضاربي الآلة الكاتبة، وموظفي الأرشيف، إلى المذيعين!

قصة فرع مصر:

إلى مصر، أتى كل من الأمين العام للاتحاد، ناجي علوش؛ وعضوا الأمانة العامة: عبد الرحمن غنيم وغانم زريقات، صيف 1973، وجمعوا مذيعين، وكتّاباً، وصحفيين، وموظفين إداريين يعملون في “مكتب إعلام فتح” بالقاهرة، وجرت انتخابات “نُص كُم”، أسفرت عن نجاح: د. كامل السوافيري، وزين العابدين الحسيني، وعبد القادر ياسين، والطيب عبد الرحيم، وحسيب القاضي. واجتمعنا لتوزيع الحقائب علينا، هنا رشَّحني الحسيني رئيساً للفرع، ما أثار حفيظة عبد الرحيم، وأراد القاضي أن يُكحِّلها فرشَّح عبد الرحيم، بينما سحبت ترشيحي منعاً للصدام.

على مدى خمسين شهراً، لم تطأ قدما الطيب عبد الرحيم أرض الفرع، إلا في الانتخابات الثانية للهيئة الإدارية للفرع. ووصل الأمر بعبد الرحيم أن طلبني ذات مرَّة، بالهاتف، في صيف 1977، وعاتبني لأننا لم نمد خط هاتف للفرع. فاستهجنتُ موقفه، وهو الذي يكلمني عبر هاتف الفرع! ورددت عليه: “لدينا خطيْ هاتف، الذي تكلمني عبره، وهو خط مباشر؛ وآخر عبر التحويلة الخاصة بدار الأدباء”!

اغتيل الفرع بحملتيْ ترحيل، الأولى في خريف 1976، وأصابت الروائي الأردني المعروف، غالب هلسا؛ وكل تهمته أنه أدار ندوة، لستة أيام بلياليها، في مقر فرع اتحاد طلبة فلسطين بالقاهرة، نظمها فرع اتحادنا، حول “الأطماع الأمريكية في الوطن العربي”، وضمَّت قائمة المحاضرين أسماء معروفة بتمكُّنها الفكري، واليساري، أمثال: د. لطيفة الزيات، وفريدة النقاش، وأحمد صادق سعد، ومندوب عن “جبهة التحرير الوطني البحرينية، وآخر عن “الحزب الشيوعي السوداني”، وأحمد بهاء الدين شعبان، وعبد القادر ياسين، وسامي السلموني، وعدّها الكثير من النشطاء السياسيين أمثال الناشط السياسي عميد خبراء الشؤون الإفريقية حلمي شعراوي، والأمين العام للحزب الاشتراكي المصري المهندس أحمد بهاء الدين، والروائي المصري عبده جبير “أهم ندوة سياسية، عُقدت في مصر، في النصف الثاني من القرن العشرين”.

أما حملة الترحيل الثانية، فجاءت يوم زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، تنفيذاً لمبادرته بالصلح مع العدو الصهيوني في 19/11/1977، وشملت من أعضاء الهيئة الإدارية للفرع: الروائي أحمد عمر شاهين، والشاعر مريد البرغوثي، والصحفي محمد أحمد رمضان، والكاتب عبد القادر ياسين، ومن خارج الهيئة الإدارية الشاعر هارون هاشم رشيد. ولوحظ أن الفتحاويين استُثنوا من هذه الحملة، الأمر الذي عثرنا على تفسيرٍ مؤكد له، لاحقاً، فقد تصادف في 19/11، أول أيام عيد الأضحى، وقد دأبتُ على المرور ببعض أعضاء الفرع، وكانت آخر من مررت بها السيدة/ مديحة عرفات، أخت أبو عمار، وما أن رأتنْي، حتى بادرتني:

“ما هذا البيان السخن الذي أصدره الفرع عن مبادرة السادات؟!” نفيتُ لها أن نكون أصدرنا بياناً. فردّت، من فورها: “لقد قرأه فلان، في حشد غاضب من الطلبة الفلسطينيين، تجمعوا في مقرهم الثاني، بمصر الجديدة”. رددتُ: “ولكن فلاناً هذا عضو في أمن فتح، وليس حتى عضو في الفرع”. بعدها، اتضح بأن معتمد “فتح” في مصر، ربحي عوض، جلس مع أنور عبد الرحمن، عضو الهيئة الإدارية للفرع عن “فتح”، والمعروف بصلاته الوثيقة بأجهزة الأمن المصرية، وكتبا سوياً هذا البيان الأكذوبة، وأوكل ربحي أمر قراءته لأحد عناصر أمن حركته. ما يشي، أيضاً، بأن ثمَّة اتفاقاً بين الأمن المصري، وعوض على افتعال ذريعة لترحيل “اليساريين”، الذين يشتبه الأمن المصري بأنهم يسيطرون على الفرع، ويشاركه في ذلك ربحي عوض. خصوصاً، بعد أن كان الفرع نظّم سبعة وأربعين محاضرة سياسية، في تجمعات جماهيرية شتى، في المدن المصرية.

بترحيلنا، أقفل الفرع أبوابه؛ ولم يستمر في نشاطه، اعتماداً على أعضائه الفتحاويين، الذين كانوا يمثلون قرابة ثلثيْ عضوية الفرع، نحو خمسين عضواً.

المؤتمر العام الثاني:

بدأت الاستعدادات لعقد المؤتمر العام الثاني للاتحاد، في ربيع 1976، إلا أن الحرب الأهلية المندلعة في لبنان، منذ 13/4/1975، حالت دون عقده، الأمر الذي تأجل، إلى آذار/ مارس 1977، وفي تونس العاصمة هذه المرة، ومما له دلالته أن المؤتمر انعقد قبل أيام معدودة من الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، في آذار/ مارس 1977. وحسب تقرير في المجلة نفسها،[11] قال كاتبه: “كان واضحاً أن الجو السياسي سوف يطغى على كل شيء”، وإن سجَّل الكاتب نفسه تعطُّل المؤتمر، يوميْن كامليْن، “وراء الصراع الانتخابي”. ورأى الكاتب بأن المؤتمر عبَّر، “في أزمته التنظيمية عن أزمة عامة تجتاح الوضع التنظيمي”، وإن بررها بأنها ليست سوى أزمة نمو! على أن الكاتب نفسه استهجن كيف أن المؤتمر لم يستطع “إنجاز تقرير سياسي خاص به”! وإن أعاده الكاتب إلى “الصراع على قيادة الاتحاد، وهو صراع سياسي، كما يفترض، حجب النقاش السياسي”. لكن الكاتب سجَّل “الجو الديمقراطي الفعلي، الذي ساد انتخابات الأمانة العامة الجديدة… كما أن التعديل، الذي أقرته لجنة النظام الداخلي حول العضوية، يشير إلى نضج سياسي، ونقابي، يستطيع أن يُنقذ الاتحاد من كثير من المزالق”!

أشار الكاتب إلى “مجموعة من الدراسات، الأدبية والثقافية”،[12] وإن أخذ على المؤتمر “الغياب الشامل لأي نقاش، أدبي أو ثقافي، عن أجواء المؤتمر… [ و] ربما كانت بعض النشاطات الثقافية، والتي جاءت على هامش المؤتمر، محاولة لتغطية هذا النقص الفادح”.

تمنى خوري بأن “تستطيع الأمانة الجديدة أن تنتقل بالاتحاد، من صعوبات مرحلة التأسيس، إلى وضوح الدور، الثقافي والسياسي… هذا الدور هو مبرِّر وجود، وهو قاعدة نمو، وهو جزء من العملية الثورية، الطويلة والمعقَّدة، التي يخوضها شعبنا”!

لقد ترك الكاتب مسألة “الصراع الانتخابي” دون تفصيل؛ ذلك أنه في اليوم الثاني للمؤتمر، اقتحم أربعة وأربعون شخصاً قاعة المؤتمر، يتقدمهم عنصر أمن فتحاوي، يهتف ضدّ ناجي علوش، ومع ياسر عرفات! هنا، استدار ممثل اتحاد كتَّاب ألمانيا الديموقراطية، يسأل مرافقه الفلسطيني عما إذا كان عرفات مرشحاً لتولي الأمانة العامة للاتحاد في مقابل علوش!

تقدم عنصر الأمن، وهو يهتف إلى منصة المؤتمر، محاولاً الانقضاض على رئيس المؤتمر، اللواء محمد الشاعر، مدير مكتب منظمة التحرير في موسكو، أي أن أخانا المخبر ظنَّه ناجي علوش!

كنت نائباً لرئيس المؤتمر، فنزلت عن المنصة، وتوجهت إلى الأخ أبو ماهر غنيم، عضو مركزية “فتح”، ورأس اللجنة الحركية المشرفة على المؤتمر، واستهجنت سعادته مما يجري، فأفهمني بأن الأخ القائد العام، ياسر عرفات، حزين، لأن المؤتمر لم يسمح للأربعة والأربعين بالمشاركة فيه. رددت عليه بأن ليس في الجزائر فرع للاتحاد، فمن أين أتى هؤلاء، قال: “الأخ ماجد (أبو شرار)، عضو الأمانة العامة للاتحاد، ذهب إلى الجزائر، وقبل المرشحين لعضوية الاتحاد، فكانوا 44، يمثلون أعضاء الفرع المئتين وعشرين”! فرددتُ، من فوري: “أولاً، قبول المرشحين له لجنة عضوية في الأمانة العامة، وليس من سلطة حتى الأمين العام أن يقبل عضوية مرشح واحد؛ والأمر نفسه بالنسبة لاعتماد فرع، في هذا القطر أو ذاك، وثالثاً، ألم تلاحظ بأن رقم 220 كاتباً وصحفياً فلسطينياً في الجزائر، كبير جداً. وأنت رأيتَ المخبر الذي يجرهم وراءه”.

عُلِّقت جلسات المؤتمر يوميْن، جرت خلالها حوارات ومساومات، في الكواليس، انتهت إلى حلّ غير مبدئي، مؤداه أن يُكتفى بسبعة مندوبين للجزائر، ينتخبهم الأربعة والأربعون.

ملحوظة: كان اللواء الشاعر يتندر بأننا رُزقنا بأم أربعة وأربعين، لتُعطِّل المؤتمر!

معروف بأن الخلافات السياسية داخل الساحة الفلسطينية قد تعمقت، منذ النصف الثاني لسنة 1974؛ حيث توزَّعت الساحة ما بين مؤيد للتسوية مع الكيان الصهيوني، ورافض لها. بينما لم يكن أي من المعنيين بالتسوية (واشنطن وتل أبيب) قد طرحها، وبالتالي، كان الطرفان—التسووي والرافض —أشبه بمن يوافق أو يرفض الزواج من الممثلة الأمريكية العالمية “مارلين مونرو”، بينما الأخيرة “غايبة فيلة” لا تدري شيئاً!

نال الرافضون أغلبية في الأمانة العامة للاتحاد، مكَّنتهم من الظفر بموقعيْ الأمين العام للاتحاد، وأمين السر؛ ما خصَّب الأرض لاحتدام المعركة السياسية حول وهم التسوية، وسرعان ما تعرَّض أمين السر، حنا مقبل للاغتيال، على أيدي عناصر من “الاستخبارات العسكرية” لفتح، ولكن مقبل نجا بأعجوبة. في الوقت الذي أفلت الأمين العام علوش من محاولة اعتقاله، بأمر من القائد العام عرفات. وإن تمّ اعتقال مقبل، وهو في الطائرة، متوجهاً من بيروت إلى بغداد، لحضور اجتماع لاتحاد الصحفيين العرب، وكان مقبل وقتها، أمين سر هذا الاتحاد!

من بغداد، اتفق الأمين العام للاتحاد مع الحكومة العراقية على عقد المؤتمر الثالث للاتحاد هناك. ولكن عرفات تدخَّل، واتفق مع حكومة العراق على إلغاء الموعد، بذريعة “أن المؤتمر لا بدّ وأن يلتئم في أرض المعركة!” فعقد الأمين العام اتفاقاً آخر مع حكومة الجزائر، ألغاه عرفات، بالذريعة نفسها!

أخيراً، جاءت الطامة الكبرى، المتمثلة في المؤتمر الثالث للاتحاد.

المؤتمر العام الثالث:

انتهى الأمر بأن تحدَّدت بيروت مكاناً لانعقاد المؤتمر الثالث للاتحاد. الذي انعقد في فندق البوريفاج، على شاطئ بيروت، فيما بين 19 و24/4/1980، وضمّ 139 مندوباً، لم يدل بصوته منهم سوى 113 مندوباً. وقد غطت المجلة نفسها هذا المؤتمر.[13]

تحدث ماجد أبو شرار، نيابة عن الأمانة العامة للاتحاد، فعدّ “الحياة الديمقراطية داخل الساحة حياة سليمة [ ومَن يقول] إن الحياة الديمقراطية غائبة مخطئ… [ في] الكثير من الأحيان، قدمنا القضية السياسية على القضية النقابية والمهنية. ولكن، سنحاول، في هذا المؤتمر، تغليب الاعتبارات المهنية”. لكن أبو شرار لم يُشر، من قريب أو بعيد، لماذا استُثني الأمين العام للاتحاد ناجي علوش من الدعوة لحضور المؤتمر!

اجتمع ياسر عرفات بمندوبي “فتح” في المؤتمر، وشدَّد عليهم بضرورة الالتزام بانتخاب “قائمة الفصائل”، ولكن بعض أولئك المندوبين فاجأ عرفات برفض هذا الالتزام، ما جعله يرد عليهم: “والله لآخدكوا على القواعد في الجنوب!”، كأن العمل في قواعد الفدائيين في الجنوب اللبناني عقوبة! أردف القائد العام: “إنتوا رفضتوا، وأنا هجيب الأمناء العامين للفصائل، وأخليهم يوافقوا زي (…) على هذه الصيغة!” وقد كان.

فاتني أن أذكر بأن مجموعة من سيارات اللاند روفر Land Rover العسكرية الفتحاوية قد طوَّقت مكان المؤتمر. وحين سألت هايل عبد الحميد (أبو الهول)، مسؤول الأمن المركزي لفتح، والمشرف على إدارة المؤتمر، عن سر هذا الحشد من السيارات المسلحة، حاول، عبثاً، إقناعي بأن موقع المؤتمر مكشوف للزوارق الحربية الإسرائيلية، وأن هذه السيارات جاءت لتحمي عقول الشعب الفلسطيني المجتمعين! أما المضحك، فإن هذه السيارات سرعان ما انسحبت، بمجرد إجراء انتخابات الأمانة العامة للاتحاد، وتركت عقول الشعب الفلسطيني يومين كاملين، بعد الانتخابات، تحت رحمة الغارات الإسرائيلية المحتملة.

تمنى عليَّ أبو الهول بأن أسحب ترشيحي لعضوية الأمانة العامة، حتى تنحج “قائمة الفصائل” بالتزكية! فرفضتُ، فألحَّ عليَّ كي أبيعها له، ولكنني تمسَّكتُ بالرفض. وبعد حين استدعاني عرفات إلى مكتبه، ليقنعني بالانسحاب، وأدّى تمثيلية متهافتة أمامي، حيث طلب أبو الزعيم، رأس الاستخبارات العسكرية لفتح، عبر الهاتف، وافتعل عرفات مشادة مع عاملة الهاتف، وهدَّدها بأنه القائد العام للثورة! ولم ألتقط بأنني المقصود بهذا التهديد. رفضتُ الإذعان للقائد العام، فقال لي: “أُناشدك بالانسحاب، حفاظاً على الوحدة الوطنية”! رددتُ عليه: “إذا كان هذا أمر، فسأغادر بيروت، الآن، وإذا كُنت مخيَّراً، فإني أرفض الانسحاب”. وغادرت، وأتى بعدي علي الخطيب، الذي انسحب غاضباً من المؤتمر، ولكنني وهاني مندس، تمسكنا بترشيح نفسيْنا. أما محمود قدري، فرشَّح نفسه خارج “قائمة الفصائل”، عن “الحزب الشيوعي الفلسطيني”، الذي كان ما يزال خارج م.ت.ف، ومع ذلك، فإن عرفات لم يقترب من ممثل هذا الحزب.

تمثَّلت المهزلة، حين خُيِّر مندوبو المؤتمر بين أن يكتبوا في أوراق الانتخاب “قائمة الفصائل”، وإما ان يختاروا من الأسماء الثلاثة؛ مندس، وقدري، وكاتب هذه السطور! وطبعاً، هذا وضع غير ديموقراطي، بل غير منطقي؛ فلنفترض أن الثلاثة نجحوا، والقائمة سقطت، عندها ما العمل؟!

على أي حال، وزَّع “إعلام فتح” مصوريه، من جهات موقع التصويت الأربع، لتصوير كل مندوب، في أثناء إدلائه بصوته، وكانت الكاميرات تُطِلّ على كل كلمة، وصفحة، بكل جرأة على الحق!

جاءت نتيجة انتخابات الأمانة العامة كما يشتهي عرفات، وتحوَّل الاتحاد، برمَّته، إلى مجرد بوق للقيادة الفلسطينية المتنفِّذة.

بعد نحو العاميْن، كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 6/6/1982، وتمكَّن صمود أسطوري للمقاومة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، والجيش السوري من الحيلولة دون احتلال الجيش الإسرائيلي لعاصمة البهجة، بيروت، أو على وجه الدقَّة، القسم الغربي منها؛ وإن انتهى هذا الاستعصاء، بالخروج المشرِّف للمقاومة الفلسطينية من بيروت؛8/21 – 1982/9/1.

بعد نحو تسعة أشهر، جاء انشقاق فتح، المدوِّي، والذي قاده نمر صالح (أبو صالح)، وسميح أبو كويك (قدري)، عضوا مركزية فتح، وسرعان ما حملت هذه الظاهرة اسم “فتح الانتفاضة”، وغدا وضع الأمانة العامة للاتحاد، التي اتخذت من دمشق مقراً لها، بعد الخروج من بيروت، شديد الحرج.

كان طبيعياً أن يُيمم يحيى يخلف وجهه شطر تونس، ويُسلِّم أوراقه إلى القيادة الفلسطينية المتنفِّذة، التي دبَّرت مؤتمراً رابعاً للاتحاد في ربيع 1987، جاء مطابقاً تماماً لمقاس هذه القيادة. بعد أن كانت قد لفلفت مؤتمراً ثالثاً للاتحاد، في اليمن، أواخر سنة 1983. حتى استقال محمود درويش، رئيس الاتحاد، من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في خريف 1993، احتجاجاً على توقيع القيادة المتنفِّذة “اتفاق أوسلو Oslo Accords”. وحين دلف عرفات إلى الداخل في 4/7/1994، قاطعه درويش، وأصدر ديوانه “لماذا تركتُ الحصان وحيداً”!

في الداخل، أرسل أحمد عبد الرحمن، الأمين العام الجديد للاتحاد، رسالة إلى رئيس اتحاد الكتّاب في الداخل، سلَّمه فيه اتحاد الخارج، “تسليم مفتاح”!!

ثم جاءت المهزلة الأخيرة.

لعل من الأمور المُستهجَنة في سلوك القيادة المتنفِّذة، أنها تعدّ مكان إقامتها هو الشعب الفلسطيني، وقضيته الوطنية! وقد زاد الطين بلَّة، أن تلك القيادة، بعد أن كانت محصِّلة للتوازنات الرسمية العربية، منذ كانت جامعة الدول العربية سنة 1945، وإلى أن دلف عرفات إلى قطاع غزة في 4/7/1994؛ وابتداءً من هذا التاريخ، لم تعد تلك القيادة إلا محصِّلة للتوازنات داخل العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية؛ وحين لم يُراعِ عرفات هذا الأمر، تخلَّص الأعداء منه، وحين فارق الحياة في 11/11/2004، كتب شمعون بيريز Shimon Peres بأن عرفات ظلَّ يسير في خطى صحيحة، من وجهة النظر الصهيونية، بالطبع، ولكنه أخيراً خرج عن الخط. غني عن القول بأن تكملة كلام بيريز تكون: “ولهذا قتلناه”!

مع هذا كله، أُدخِلت الاتحادات الشعبية الفلسطينية (النقابات)، إلى مناطق الحكم الإداري الذاتي المحدود (الضفة، والقطاع)، وتمّ إسدال الستار على الخارج، وفيه ما يربو قليلاً على نصف مجموع الشعب الفلسطيني، وتحوَّل مقاتلو الأمس إلى مجرَّد ملقاط جمر المقاومة الفلسطينية، لحساب الصهيونية وكيانها. وقبل ما يربو على العام ونصف العام، اتَّخذ مكتب “فتح” للمنظمات الشعبية قراره الذي قضى باستحداث “اتحاد كتّاب”، وقاطع معظم الكتّاب المعروفين الاتحاد الوليد، فدفع “المكتب الحركي” بممثلين عن الفصائل، مسقطاً من هذه الفصائل، تلك التي لم تزل تُنازِل الأعداء، ولم تُذعن لإملاءاتهم، باسم “التنسيق الأمني”، وأعني بهما الجهاد وحماس.

كان طبيعياً استبعاد الخارج، تماماً، من العملية، وإن اتَّخذت الأمانة المنبثقة عن اتحاد الفصائل قراراً باستحداث فروعاً للاتحاد بالخارج. على أن هذا القرار لم يرَ النور، إلا بعد أن تحرَّك بعض أعضاء الأمانة العامة نفسها، فاستقال بعضهم، وسجَّل بعضهم الآخر على المتنفِّذين في الأمانة العامة هذا التقصير. فتدخَّل “المكتب الحركي”، من جديد، دون أن يمنع هذا كله ماجد فرج، مدير المخابرات العامة في سلطة رام الله، من اللعب عبر وسطاء! المهم، انتهى الأمر بتقديم النسبة الأكبر من أعضاء الأمانة العامة استقالاتهم الجماعية في 1/9/2019، في انتظار تحرُّك “المكتب الحركي”، بينما لم تُحرِّك “دائرة التنظيمات الشعبية” في منظمة التحرير ساكناً! وهي المنوط بها هذا الأمر. أما الفصائل، فلم يزل اسمها مدوَّناً في سجل الغائبين.

المحصِّلة:

خدعوك بقولهم إن الاتحادات الشعبية الفلسطينية يجب أن تغرق في السياسة “من ساسها لراسها”. ووجه الخديعة هنا أن النقابات يجب أن تقوم، أولاً، على أسس ديموقراطية، وثانياً، على أساس مهني؛ أي تجمع بين كل أصحاب المهنة، أو الحرفة؛ بينما أولئك القائلين يقصدون بأن الاتحادات الشعبية إن هي إلا أبواق للمستوى السياسي، وأداة له! لذا، استمرأت القيادة الفلسطينية المتنفذة، منذ نحو نصف قرن، التدخل الفظ في الشأن النقابي، وتحديد قياداته، ما أفرغه من محتواه، وغدا جسداً بلا روح أو تأثير. وتحولت معظم الشخصيات القيادية في تلك الاتحادات إلى مجرد صنيعة للقيادة السياسية المتنفذة.

دون أن يعني هذا أن تكتفي النقابات الفلسطينية، شأن نظيراتها في المستعمرات، بالنضال المطلبي، بل إن جرعة النضال السياسي في المستعمرات، وبضمنها فلسطين، تفوق الجرعة المطلبية. وهذه هي حدود علاقة النقابة بالسياسة في فلسطين.

إن كل الحق مع الذين يرون بأن انحطاط الشأن النقابي وثيق الصلة بانحطاط الشأن السياسي الفلسطيني. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنه يمكن للنقابي أن يؤدي دوراً ضاغطاً على المستوى السياسي؛ إلا إذا كان الأول فاقد الأهلية؛ ومن هنا، دأبت القيادة المتنفذة على بذل قصارى جهدها في سبيل تفريغ المؤسسات النقابية من كل محتوى.

لقد اشتد أمر الشأن النقابي تدهوراً، أيضاً، مع تراجع دور فصائل المقاومة، وارتهانها لدولارات الدول المانحة، التي لا تخفي تعاطفها الكامل مع الصهيونية وكيانها.

ما يعني أن الأمر يقتضي النضال على الجبهة النقابية، كما على الجبهة السياسية، وإن كانت الثانية أكثر تعقيداً، وهي الأساس.


[*] هذه الورقة تعكس بشكل خاص التجربة الشخصية للأستاذ عبد القادر ياسين مع اتحاد الكتاب الفلسطينيين.
[2] ولد في مدينة يافا، بفلسطين، في 30/9/1937. وقد وصلت عدد كتبه إلى ثلاثين كتاباً، معظمها في التاريخ الفلسطيني المعاصر؛ أولها “كفاح الشعب الفلسطيني قبل العام 1948″، الذي صدر في أيار/ مايو 1975، ومؤلفات حول التجارب السياسية التي شارك فيها ياسين، بالإضافة إلى ثلاثة كتب عن مصر، وكتاب عن السودان. عمل سكرتيراً لفصلية “الكاتب الفلسطيني”، الصادرة عن الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في بيروت، خلال الفترة 1978-1980، ثم مديراً لتحرير شهرية “المصير الديمقراطي” البيروتية خلال الفترة 1980-1982. نظَّم ورشة لتعليم الكتابة السياسية والأكاديمية، تدرب فيها نحو 500 شاب، من مصر، وسورية، وفلسطين، حملت اسم “ورشة التحرير”، على مدى ثلاثين عاماً متصلة، في دمشق والقاهرة (آذار/ مارس 1990 – آذار/ مارس 2020).
[3] المعنى الحرفي: اقطع العشب أو البرسيم وقدِّمها للعجل (أو للماشية) إكراماً واحتراماً، وذلك تقرباً من أصحابه، وسعياً لتحقيق المصالح معهم. والقصد هنا تقديم أشخاص لا تنطبق عليهم المعايير إطلاقاً، إرضاءً للجهات المتنفذة.
[4] “ثلاثة آراء حول مؤتمر الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين،” مجلة شؤون فلسطينية، مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، العدد 14، تشرين الأول/ أكتوبر 1972، ص 211.
[5] المرجع نفسه، ص211-215.
[6] المرجع نفسه، ص 216-217.
[7] المرجع نفسه، ص 218-220.
[8] هاجمت مجموعة من أعضاء “منظمة أيلول الأسود” مجموعة من الفريق الرياضي الإسرائيلي في دورة ميونخ الألمانية، خريف 1972، وقتلت وجرحت عدداً منهم.
[9] عبد الرحمن غنيم، “رأي آخر في المؤتمر العام لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين،” شؤون فلسطينية، العدد 15، تشرين الثاني/ نوفمبر 1972، ص 206-211.
[10] الكتّاب هم: أحمد صدقي الدجاني، ود. كامل السوافيري، وعبد القادر ياسين، والروائي أحمد عمر شاهين. والصحفيون هم: مازن الشوا (المحرِّر بيومية الأخبار)، وأحمد عباس (المحرِّر في يومية الجمهورية)، ومحمد أحمد رمضان (رئيس قسم التحقيقات في وكالة أنباء الشرق الأوسط).
[11] إلياس خوري، “المؤتمر الثاني لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين (تونس، 4-9 آذار 1977)،” مجلة شؤون فلسطينيية، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، العدد 66، أيار/ مايو 1977، ص 197-199.
[12] الدراسات، بالترتيب الذي كتبه إلياس خوري: عبد القادر ياسين، الصحافة العربية في فلسطين والحركة الوطنية؛ وعلي الخطيب، الصحافة العربية في ظلّ الاحتلال الصهيوني؛ ومحمد رضا الطويل [مصري]، الفكرة القومية في شعر كمال ناصر؛ ويوسف اليوسف، دور الشعر في المعركة؛ وإلياس خوري، الموت الجانبي: قراءة راشد حسين في مجموعاته الثلاث.
[13] جابر سليمان، “المؤتمر العام الثالث للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين،” شؤون فلسطينية، بيروت، العدد 103، حزيران/ يونيو 1980، ص 145-149.

للاطلاع على ورقة العمل بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة عمل: القصة الكاملة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين … أ. عبد القادر ياسين (20 صفحة، 1.4 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 5/10/2023



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من الأوراق: