مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

يحسب للجزائر وشعبها ذلك الارتباط القوي العميق المتقدم بقضية فلسطين، إذ إن شعب المليون ونصف المليون شهيد يعي تماماً قسوة الاحتلال والاستعمار وظلمه وبطشه، كما يُكبر معاني التضحية والعزة والكرامة وتحرير الأرض والإنسان. وهو الشعب الذي اشتهرت عنه مقولة أن الجزائر مع فلسطين “ظالمة و مظلومة”!! كما يحسب للجزائر حالة الإجماع الفلسطيني عليها، لما تمثله من حضن دافئ للفلسطينيين، بعيداً عن خلافاتهم وانقساماتهم.

ولعل ذلك كان سبباً في نجاح الديبلوماسية الجزائرية برعاية ومتابعة الرئيس عبد المجيد تبون في صدور “إعلان الجزائر” المنبثق عن “مؤتمر لم الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية” المنعقد في الجزائر بمشاركة فصائل المقاومة الفلسطينية في الفترة 11–13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022. وكانت الجزائر قد عملت بشكل حثيث وهادئ، على مدى تسعة أشهر على استضافة القوى والفصائل والشخصيات الفلسطينية لبلورة تصور للخروج من المأزق الفلسطيني، واستعادة مسار العمل الوطني الفلسطيني بُنيتَهُ المؤسسية الجامعة، وقوتَه الفاعلة على الأرض.

غير أن السلوك التاريخي للجزائر كان عادة ما يترك موضوع المبادرات ورعاية المصالحات لدول عربية أخرى، وتحديداً مصر باعتبارها الطرف الذي يتولى عادة “الملف الفلسطيني” في المنظومة العربية. ولعل تغيّر السلوك الجزائري، لا يأتي فقط بسبب عدم تحقيق الجانب المصري تقدماً في التعامل مع هذا الملف طوال عدة سنوات؛ وإنما يمكن فهمه أيضاً من زاويتين؛ الأولى موقف الجزائر الحازم والحاسم تجاه التطبيع مع العدو الصهيوني، وإعطاء رسالة قوية للمغرب (التي قطعت شوطاً بعيداً في هذا المجال)، وللدول العربية في شمال إفريقيا وباقي دول القارة، بأن الجزائر ماضية بقوة في دعم فلسطين ورفض التطبيع. والثانية سعي الجزائر لتحقيق اختراق في معالجة ملف الانقسام الفلسطيني، بين يدي رعايتها واستضافتها لمؤتمر القمة العربي الذي سيعقد في الجزائر مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.

***

جاء إعلان الجزائر “فضفاضاً” يحوي خطوطاً عامة، هي في معظمها ليست موضع اختلاف؛ بينما تم ترحيل آليات التنفيذ إلى أوقات لاحقة. ومعظم المضامين هي تكرار لما ورد في وثائق واتفاقات سابقة لم يُكتب لها النجاح (اتفاق القاهرة 2005، وثيقة الوفاق الوطني 2006، اتفاق مكة 2007، اتفاق المصالحة (القاهرة) 2011، اتفاق الدوحة 2012، اتفاق الشاطئ 2014، اتفاق القاهرة 2017، ترتيبات المصالحة 2020-2021). وكان واضحاً أن الفصائل الفلسطينية وخصوصاً فتح وحماس لم تكن ترغب في إحراج الجزائر، وسعت إلى تحاشي أن يتحمل أي منها مسؤولية فشل المفاوضات.

قيادة حركة فتح التي تهيمن على منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية في رام الله، لم تُغيّر سلوكها السياسي في الإصرار على الاستمرار في السيطرة على “الشرعية الفلسطينية” وعلى صناعة القرار الفلسطيني. وتابعت حتى بعد إفشالها الانتخابات ومسار المصالحة السنة الماضية السياسات نفسها، سواء عندما عُقد المجلس المركزي للمنظمة في شباط/ فبراير 2022، أم في متابعة التنسيق الأمني وقمع قوى المقاومة في الضفة الغربية، أم في الإصرار على مسار التسوية وحلّ الدولتين واتفاقات أوسلو واستتباعاتها. بل إنها سعت إلى محاولة تضمين إعلان الجزائر بنداً متعلقاً بالالتزام بشروط الرباعية الدولية والاتفاقات التي وقّعتها المنظمة؛ ومع أنها لم تنجح في ذلك؛ إلاّ أن هذا يعني أنها ما تزال تعيش “أوهاماً” لا يمكن أن تكون أساساً لبرنامج وطني أو للخروج من المأزق الفلسطيني.

غير أن قيادة فتح التي تدرك مكانة الجزائر وتحرص على كسب ودّها، لم تُرِد أن تظهر كسبب في إفشال الجهد الجزائري؛ وهي تضع في ذهنها كذلك أن الجزائر كانت الداعم العربي الأكبر للسلطة الفلسطينية سنة 2021 حيث قدمت دعماً بنحو مائة مليون دولار أمريكي.

من ناحية ثانية، فإن قيادة فتح وجدت في إعلان الجزائر فرصة لإعادة “تدوير” وتأهيل نفسها في الساحة الفلسطينية بعد حالة الغضب والإحباط التي أصابت الشارع الفلسطيني تجاهها، عندما قامت بإلغاء الانتخابات وتعطيل المصالحة، ووصلت شعبيتها إلى الحضيض.

ولعل فتح من ناحية ثالثة وجدت في إعلان الجزائر فرصة لكسب الوقت لترتيب أوراقها في ضوء حالة التشرذم والانقسام التي تشهدها، وفي ضوء حالة التآكل والفشل التي تعاني منها سلطة رام الله.

ولربما أرادت قيادة فتح من ناحية رابعة، الاستفادة من إعلان الجزائر في محاولة إشغال الشارع الفلسطيني بالانتخابات والحملات الانتخابية، سعياً إلى محاولة “تنفيس” المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية، وإطفاء جذوتها. وبالتالي استفراد أجهزتها الأمنية ببؤر المقاومة في جنين ونابلس وغيرها، وإعادة بسط سيطرتها على الشعب الفلسطيني في الضفة، بما يؤهلها لمتابعة دورها “الوظيفي” الذي يشترطه الاحتلال الإسرائيلي عليها.

***

بالنسبة لحماس، ومعها الجهاد الإسلامي والشعبية وباقي الفصائل، فقد كانت فرصة مهمة للتواصل والاحتكاك مع المؤسسة الرسمية الجزائرية، وتقديم وجهة نظرها بقوة ووضوح؛ في الوقت الذي تهيمن فيه فتح على حالة التواصل الرسمي الفلسطيني، من خلال قيادتها للمنظمة والسلطة. ولذلك، فإن حماس حققت تقدماً ديبلوماسياً على صعيد العلاقة مع الجزائر، وكان لتفهّم الجزائر لوجهة نظر حماس والمقاومة، والاستقبال المميز الذي حظي به رئيسها إسماعيل هنية أثره في ذلك.

وبالطبع، فإن حماس أيضاً لم ترغب في أن تظهر بمظهر المُعطِّل أو المُعوِّق لمسار المصالحة وللمبادرة الجزائرية؛ فرضيت بنصوص مرنة، لتَحشُر قيادةَ فتح في زاوية اختبار الجدية وكشف المصداقية، خصوصاً فيما يتعلق بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني خلال عام واحد حسب إعلان الجزائر؛ وكذلك تفعيل آليات عمل الأمناء العامين لمتابعة إنهاء الانقسام وتحقيق الشراكة السياسية.

ومن البنود التي صبَّت في صالح المقاومة التزام الفصائل الموقعة بتطوير المقاومة الشعبية وتوسيعها؛ وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة بأشكالها كافة. فلم تقدم فصائل المقاومة أيّ تعهد بالتهدئة، وظل المجال مفتوحاً أمامها لممارسة العمل المقاوم وتصعيده حتى في ظل إعلان الجزائر.

ولعل وجود فريق عمل جزائري عربي للإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق بالتعاون مع الجانب الفلسطيني، يعطي بُعداً جدياً لإعلان الجزائر. غير أنه لا ينبغي المراهنة عليه كثيراً؛ إذ إن قيادة المنظمة والسلطة “برعت” في التّنصل من الاتفاقات السابقة، وتحميل غيرها مسؤوليات الإفشال والتعطيل.

***

إن “إعلان الجزائر” يظل محلّ تقدير الفلسطينيين للجهد الجزائري المبذول، بغض النظر عن مآلاته النهائية التي يتحمل مسؤولياتها أساساً الفلسطينيون أنفسهم.

ولربما كان يستحيل الوصول إلى اتفاق يتضمن خريطة طريق دقيقة، وضمانات أكيدة في ظل حالة التناقض الاستراتيجي والجوهري بين مساري التسوية والمقاومة، وفي ظل حالة تدني (أو انعدام) الثقة بين الطرفين؛ وفي ظل التدخلات والضغوطات العربية والدولية في الملف الفلسطيني؛ بالإضافة إلى وجود السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني واشتراطاته، وقدرته على إفشال الانتخابات في مناطق سيطرته.

أما وأن قيادة فتح (قيادة المنظمة وسلطة رام الله) لا تجد ما يُجبرها على المضي في الشراكة الحقيقية، مع احتمال خسارتها لقيادة “الشرعية الفلسطينية” في حال إجراء انتخابات شفافة، فمن المستبعد جداً أن ترضى بوجود قيادة انتقالية، أو بتوفير ضمانات حاسمة؛ وستُصر على إدارة الملف بنفسها، وعلى إصدار المراسيم والتشريعات وإعطاء “الشرعيات”، ولعلها تضغط لاستلام قطاع غزة بحجة “الشرعية”…، وستجد بعد ذلك ألف سبب وسبب لتعطيل أي انتخابات أو ترتيبات لا تضمن لها الاستمرار في الهيمنة على الشأن الفلسطيني.

ولذلك، فإن الشارع الفلسطيني لم يتلقَ الإعلان بحماس كبير، لأنه لا يُعوّل عليه كثيراً؛ وعاد لينغمس من جديد في مشاهد العمل المقاوم في فلسطين المحتلة، وفي مواجهة الاحتلال ومحاولات التهويد خصوصاً في الأقصى والقدس.


المصدر: موقع ”عربي 21“، 21/10/2022


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: