مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

عقد المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج مؤتمره الثاني في اسطنبول في 26-27 شباط/ فبراير 2022 بحضور أكثر من ألف شخصية جاءت من أكثر من خمسين بلداً. وقبل ذلك بيوم عقدت الهيئة العامة للمؤتمر اجتماعاً ناقشت فيه تقاريره الإدارية والمالية وقامت بإقرارهما.

وقد انتخب المؤتمر العام الأستاذ منير شفيق رئيساً له، كما انتخب هيئته العامة الجديدة المكونة من 333 عضواً برئاسة الأستاذ سمعان خوري، بينما قامت الهيئة العامة بدورها بانتخاب الأستاذ أحمد محيسن رئيساً للأمانة الجديدة والمكونة من 45 عضواً.

كان هناك ثمة شعور بالإعجاب والتقدير للجهود الضخمة التي قام بها منظمو المؤتمر لاستضافة هذا العدد الكبير من الشخصيات، وتنفيذ برنامج حافل بالندوات والمعارض الفنية والأنشطة التي عكست هموم وإبداعات وتطلعات فلسطينيي الخارج. كما كان ثمة شعور بالتقدير لتركيا لسماحها بقيام هذا المؤتمر، بعد أن ضاقت بهم (أو ضَيَّقت عليهم) أقطار العالم العربي والإسلامي وغيرها؛ وبعدما قامت قيادة السلطة الفلسطينية بمحاولات حثيثة لمنع انعقاده، لمجرد أن أجواء هذا العمل الشعبي تخالف سياساتها والتزاماتها في مسار التسوية ومع الاحتلال.

جاء الانعقاد الثاني لهذا المؤتمر بعد خمس سنوات على انعقاده الأول وانطلاقته أيضاً في اسطنبول. ولعل ما حققه خلال هذه الفترة كان دون طموحات الكثيرين، الذين رأوا فيه إطاراً لتنظيم وتفعيل طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج، واسترجاع دورهم الكبير الذي تم تغييبه وتهميشه، خصوصاً بعد اتفاقات أوسلو 1993، وبعد تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية. كما وضع البعض آمالهم في أن ينجح في إحداث اختراق في الحالة الفلسطينية يؤدي إلى إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس تمثيلية عادلة وشفافة، وليكون لفلسطينيي الخارج دورهم الذي يعكس حجمهم وتأثيرهم الفعال في إعادة بناء منظمة التحرير وصناعة القرار الفلسطيني. وهو ما لم يحدث حتى الآن.

وانتقد البعض الحضور القوي للون واحد هو اللون الإسلامي والمقاوم، وعدم تمكّن القائمين على المؤتمر طوال السنوات الماضية من توسيع دائرة الأعضاء بالشكل المأمول، وخصوصاً من التيارات الأخرى، ومن الرموز والشخصيات والفعاليات المستقلة في الخارج. كما واجه المؤتمر انتقادات بعدم وجود تمثيل كافٍ للشباب والمرأة، خصوصاً في أطره القيادية؛ وكذلك تضخم أمانته العامة (45 عضواً) التي أصبحت أقرب إلى هيئة تمثيلية أكثر منها عملاً تنفيذياً يجب أن يتمتع بـ”الرشاقة” والدينامية العالية؛ في ضوء الصعوبات اللوجستية في إدارتها وعقد اجتماعاتها، وتوزيع الأعمال والمهام على أعضائها ومتابعتها.

غير أن المطلع على تفاصيل الأمور يعلم أن القائمين على المؤتمر يعملون وفق إمكانات محدودة جداً، وبشكل تطوعي. وقد واجهوا وما زالوا يواجهون صعوبات ميدانية في العمل الشعبي في معظم البلدان العربية، خصوصاً حيث تتواجد تجمعات فلسطينية كبيرة؛ حيث لا ترغب عدد من الدول بوجود فعاليات فلسطينية شعبية ذات مضمون سياسي (خصوصاً إذا كان مخالفاً لمسار التسوية) أو أن تقوم هذه التجمعات بتنظيم نفسها في نقابات واتحادات مهنية وجاليات ذات هيئات منتخبة، في ضوء أن عدداً من هذه الدول لا تمارس العملية الانتخابية مع شعوبها، أو أن ذلك يتجاوز سقف العمل المسموح به للفلسطينيين أو للمقيمين على أرضها بشكل عام.

وفوق ذلك، فإن قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية التي أزعجها هذا الحراك الشعبي، والتي للأسف ما تزال تُصرّ على تغييب دور فلسطينيي الخارج وتهميشه، قد استخدمت كافة وسائل الضغط المتاحة لديها، مستفيدة من وضعها الرسمي وسفاراتها وإمكاناتها الدبلوماسية والإعلامية، لمنع هذا العمل من الوقوف على رجليه، ولتشويهه وتعطيله. ولعل ذلك أسهم في تضييق العديد من الأنظمة على المؤتمر؛ كما تسبَّبَ من ناحية أخرى، في تردُّد العديد من الشخصيات والرموز الفلسطينية للانضمام إلى عضوية المؤتمر سواء كان ذلك لعدم رغبتهم في استعداء السلطة الفلسطينية والتيار المساند لها، أم في عدم رغبتهم بانعكاس هذه العضوية سلباً على أوضاعهم في أماكن إقامتهم، أم لأنه لم يصل بعدُ إلى مستوى تطلعاتهم وآمالهم.

ومن ناحية ميدانية، فثمة مصاعب من بينها العيش في بيئات مختلفة وتحت نظم سياسية مختلفة، وصعوبة الاحتكاك والتنقل والتفاعل الوجاهي. وكذلك التواجد في بلدان تسمح بلغة سياسية مرتفعة، لكنها تُعطِّل العمل الفلسطيني الحر وسط الجاليات وفي تشكيل الاتحادات والنقابات، كما في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية؛ يقابلها بيئات لا تمنع العمل النقابي والشعبي الفلسطيني، لكنها تُجرِّم المقاومة وتُجرم الخطاب السياسي المرتفع، كما في الكثير من بلدان العالم الغربي.

من جهة أخرى، فإن قدرة المؤتمر على تحشيد أكثر من ألف شخصية من أكثر من خمسين بلداً، يُعدّ إنجازاً معقولاً وإن كان دون الطموحات. ويُحسب للمؤتمر نجاحه في أمريكا الجنوبية وانضمام أحد أكثر الاتحادات الممثلة لفلسطينيي أمريكا الجنوبية إليه، بل وتولَّى أحد أبنائها رئاسة الهيئة العامة للمؤتمر؛ كما يُحسب للمؤتمر نجاحه في تشكيل عشرين تنسيقية لجاليات الفلسطينية في عشرين بلداً؛ ووجود حضور شبابي ونسائي جيد في عضوية المؤتمر؛ وصعود عدد أكبر من الشباب والنساء في الهيئة العامة وفي عضوية الأمانة العامة مقارنة بالمؤتمر السابق. ولعل وجود حالة تمثيلية أكبر للشباب والمرأة بحاجة إلى مزيد من الوقت، ريثما يتعرف الناس على قدراتهم المذخورة، وتتاح لهم الفرصة المناسبة للتعبير عن إمكاناتهم.

وبالرغم من جائحة كورونا التي عطلت العالم على مدى عامين؛ فإن المؤتمر الشعبي قام بتنفيذ عشرات الفعاليات السياسية والإعلامية والخيرية ضمن إمكاناته المتاحة.

أما موضوع “اللون الواحد” فيمكن أن يُنظر إليه من زاويتين، الأولى: أن القائمين على المؤتمر بينهم عديدون في أطره القيادية من تيارات مختلفة، وهم يعلنون سياسة منفتحة على الجميع على قاعدة المحافظة على الثوابت، وتفعيل دور فلسطينيي الخارج، وسلوكهم على الأرض يؤيد ذلك. غير أنهم مطالبون بأن يكونوا أكثر انفتاحاً وأكثر تخفيفاً للحسابات “الحزبية”، وأكثر مبادرة في التواصل مع الشخصيات والرموز والكفاءات، وإنزالها منازلها، وإيكالها مهام متناسبة مع قدراتها وإمكاناتها. أما الاتجاه الثاني فهو أن الذين ينتمون أو يميلون إلى “ألوان أخرى” أو المستقلّون مطالبون أيضاً بأن يخرجوا من مخاوفهم، ومن أحكامهم المسبقة، ومن تصنيفاتهم الحزبية ومن عقليات المحاصصة؛ وأن يتعاملوا مع المؤتمر كمظلة عامة للعمل وتحمل المسؤولية، وألا يتوقعوا أن يكون مجرد منصة لمناصب فخرية، أو معبراً لمقاعد انتخابية في المجلس الوطني وغيره؛ دون أن يحملوا بأنفسهم عناء إنجاح المؤتمر ومؤسساته، وشرف خدمة الشعب الفلسطيني في الخارج وتطلعاته، وتحمّل أثمان ذلك.

لقد قدم المؤتمر نموذجاً حضارياً مقبولاً لاجتماع فلسطينيي الخارج من أكثر من خمسين بلداً، ومن مختلف المستويات والمشارب السياسية والثقافية والعلمية والتخصصية؛ وهو نموذج يكن توسيعه والبناء عليه. كما حقق نموذجاً انتخابياً، حتى لو كان عليه بعض الملاحظات الإجرائية، إلا أنه يظل متقدماً بشكل كبير عما يحدث في بيئتنا الفلسطينية والعربية والإسلامية. كما توافق المشاركون على برنامج يؤكد المحافظة على الثوابت وتحرير كل فلسطين ودعم خط المقاومة، وتشكيل اصطفاف وطني عريض يدعم هذا الاتجاه، واستلام زمام المبادرة لتفعيل فلسطينيي الخارج وعملهم الشعبي والنقابي ووسط الجاليات. وهو ما يُشكل أساساً لاستعادة فلسطيني الخارج دورهم الحيوي والمركزي والرائد في مشروع التحرير والعودة.

المصدر: موقع ”عربي 21“، 11/3/2022


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: