مدة القراءة: 22 دقائق

إعداد: أ. وائل المبحوح.[1]
(خاص بمركز الزيتونة).

المقدمة:

تُشكلُ مدينةُ بيتِ المقدسِ العربيةُ المحتلةُ عنوانَ صراعٍ ومواجهةٍ بين “إسرائيل” والفلسطينيين على مدارِ أكثرِ من سبعينَ عاماً؛ ففي حين تعدّ “إسرائيل”، التي احتلت الجزء الشرقي الذي كان يسيطر عليه الأردن سنة 1967، القدسَ بأكملها عاصمةً لها، يصرّ الفلسطينيون على أن يكون شرقي القدس؛ موطنُ أكثرِ من قرابة 350 ألف فلسطيني، عاصمةً لدولةٍ مستقلةٍ، يأملون في الحصول عليها. ومدينة بيت المقدس هي مدينةُ الحضاراتِ والدياناتِ، ونقطةُ ارتكازِ القوى على سطح الأرض، إذ إنها كانت، وما زالت، رمزاً للسيادة والقوة على مدار التاريخ؛ حيث إن كل أمةٍ من الأممِ التي مرّت بهذا الكون، أو حضارةٍ من الحضارات التي أُنشئت على هذه البسيطة، كانت إذا أرادت أن تثبت قوتها وسطوتها، فإنها تثبت ذلك بالاستيلاء على القدس واحتلالها؛ هذا ما فعله الصليبيون ذاتَ مرة، وهو ما أعلنه الفتحُ الإسلامي لها؛ بأن الغلبة له، وأنه صاحب السيادة حينها على ربوع الأرض.

في قطيعةٍ مع سبعة عقودٍ من السياسة الأميركية نحو القدس، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب Donald Trump (2017–2021)، في 6/12/2017، اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”، كما وجّه وزارةَ الخارجية لـبدء التحضيرات لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وكان الكونجرس Congress الأميركي تبنّى بأغلبية كبيرة من الحزبين الديموقراطي Democratic والجمهوري Republican، قانون سفارة القدس Jerusalem Embassy Act سنة 1995؛ ذلك القانون الذي تنكّر لتاريخ القدس، والسيادة الفلسطينية العربية الإسلامية عليها، حيث تضمن القانون ثلاثة بنود؛ الأول أن تبقى القدس موحدةً غيرَ مجزأة، والثاني يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لـ”إسرائيل”، أما البند الثالث فيُلزم الإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في أي وقتٍ مناسبٍ يحين. ونصّ على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في سقفٍ زمني لا يتجاوز 31/5/1999، إلا أن هذا القانون تضمن بنداً يسمح للرئيس الأمريكي بتوقيع إعفاءٍ مدتُه ستةُ أشهرٍ، قابلة للتجديد، إذا رأى أنه ضروري لـحماية المصالح الأمنية القومية الأمريكية.[2]



للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: تحليل السياسة الأمريكية تجاه مدينة القدس من 1982–2020 … أ. وائل المبحوح (31 صفحة، 3.8 MB)


لم ينتقل هذا القانون إلى حيّز التنفيذ؛ لأن المستشار القانوني لوزارة العدل الأمريكية، رأى أن هذا القانون غيرُ دستوري، وينتهك صلاحيات الرئيس في مجال السياسة الخارجية من ناحية، وأن الرؤساء الأمريكيين رفضوا التخلّي عن مسؤوليتهم الدستورية في هذا الجانب من ناحية ثانية.[3]

منذ إدارة الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton (1993–2001)، والإدارات الأمريكية المتعاقبة تُوقّع الإعفاء تلقائياً كل ستة أشهر، على الرغم من أن الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن George W. Bush (2001-2009)، وقّع في أيلول/ سبتمبر 2002، قانوناً أقرّه مجلس الشيوخ الأمريكي؛ ينصّ على أن “القدس الموحدة” عاصمةٌ للاحتلال الإسرائيلي.[4]

أما حقبة الرئيس السابق باراك أوباما Barak Obama (2009-2017)، فشهدت تفادياً لتطبيق القرار؛ خوفاً من تفجير حالةٍ من الغضب لدى الفلسطينيين؛ إذ أرجأ أوباما أكثر من مرة قرار نقل السفارة، بموجب قانون سنة 1995؛ الذي كان يجيز تأجيل العملية مدة ستة أشهر.[5]

يكاد يُجمعُ المتابعون للشأن الشرق أوسطي بشكل عام، والشأن الفلسطيني بشكلٍ خاص، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو صاحبُ الموقفِ الأكثر وضوحاً وقوةً بخصوص موضوع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فقد سبقه رؤساء أمريكيون؛ جمهوريون وديموقراطيون، أعلنوا عزمهم نقل السفارة، لكنهم لم ينفذوا هذه الوعود، وهو ما نفذه ترامب بالفعل يوم 14/5/2018.

تقدم هذه الورقة العلمية تحليلاً لمواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة وسياساتها، منذ رونالد ريجان Ronald Reagan (1981-1989) حتى دونالد ترامب. وتبرز أهمية هذه الدراسة في بيان موقع ما سمي بـ”صفقة ترامب” أو “صفقة القرن” من تلك المواقف والسياسات وتحليلها.

أولاً: الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط:

لا يمكن دراسة السياسة الأمريكية تجاه القدس وتحليلها، بمعزلٍ عن فهم الرؤية الأمريكية تُجاه إقليم الشرق الأوسط بوجهٍ عام، وتُجاه القضية الفلسطينية بوجهٍ خاص. ويرى محسن صالح أن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الوسط تتلخص في ما يلي:[6]

“1. “إسرائيل” هي حَجَرُ الزاوية في السياسة الأميركية الشرق أوسطية، والحفاظ على أمن “إسرائيل” وهيمنتها كقوة إقليمية؛ هو جوهر السياسة الأميركية.

2. الهيمنة على مناطق البترول في المنطقة لتأمين احتياجات أميركا، وكأداة ضغطٍ أميركية في الاستراتيجية الدولية.

3. دعم الأنظمة السياسية الموالية، أو ذات العلاقة الجيدة معها، وإعادة بناء النظم السياسية الأخرى، بما يخدم الأهداف والمصالح الأميركية.

4. تأمين خطوط الملاحة وخطوط التجارة الدولية في المنطقة في المنطقة (مضيق هرمز، قناة السويس، باب المندب…)، بما يضمن تدفق النفط والبضائع، من المنطقة وإليها، بشكل آمن وبأسعارٍ “معقولةٍ”، وبما يخدم الاحتياجات والمتطلبات التجارية والاقتصادية للمنظومة الغربية وشركائها.

5. الاستفرادُ بالهيمنة على المنطقة، ومنعُ أية قوةٍ كبرى أخرى من المنافسة على النفوذ فيها.”

هذه السياسة الأميركية التي استعْدَت شعوب المنطقة؛ بسب دعمها لـ”إسرائيل”، وبسبب دعمها لأنظمةٍ سياسيةٍ فاسدةٍ ومستبدة، وهو ما رسّخ في عقلية الإنسان العربي؛ أن أميركا تعاني من إشكاليةٍ أخلاقيةٍ، ومن أزمةٍ في المعايير، ومن عقليةِ الكيل بمكيالين، ومن تناقضٍ بين ما تقول إنه مُثُلها وقيمُها، وبين تطبيقاتها المعاكسة لذلك بشكلٍ مقيتٍ، يقف مع القهر، والاحتلال، والظلم، والاستبداد.

يؤكد محمد الشرقاوي أن القرارات الرئاسية في البيت الأبيض لا تتبلور في العدم، أو تأتي بفعل نزوةٍ سياسيةٍ، قد تنتاب فجأة مزاج الرئيس في أي لحظة، فتغدو إحدى ركائز السياسة الخارجية، كما هو قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”، بل هي نتاج عمليةٍ مُمنهجةٍ متناميةٍ تتحرك ضمن نسقَين متكاملين؛ يحددان جدلية صنع القرار: أولهما، سياق استباقي Proactive، تستهله جماعات الضغط في واشنطن بالاستثمار؛ مادياً، وسياسياً، وأيديولوجياً، في المرشح، بدايةً بحملته الانتخابية، وحشد الرأي العام لمصلحته، ونهايةً بكبح جماح حظوظ خصومه المتنافسين معه في السباق الرئاسي. أما ثانيهما، فهو تفاعلي لاحق Reactive، يستهدف التبشير الإعلامي بمدى التزام المرشح بوعوده الانتخابية، وتركيب خطابٍ يشيد بصدقيته بموازاة تطبيع المسار Trajectory، لقراراته، وتعزيز سردية أنها تخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.[7]

ويشير التقدير الاستراتيجي (96)؛[8] الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت إلى البعدين؛ الدستوري والقانوني، في القرار الأمريكي في موضوع القدس بالقول:

تُقر الولايات المتحدة من الناحية القانونية، وعبر مواقفها المعلنة في المنظمات الدولية، وخصوصاً مجلس الأمن الدولي، وفي بيانات اللجنة الرباعية” [Quartet] المختلفة، وفي تأييدها لما ورد في المعاهدات العربية الإسرائيلية (مع الأردن ومع مصر)، وفي اتفاق أوسلو [Oslo Agreement] بما يلي:

1. عدم الاعتراف بقرار الضم الإسرائيلي لمدينة القدس، وهو ما تجلى في امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بموافقة 14 دولة، وهو القرار الذي يَعد الضمّ الإسرائيلي مخالفاً للقانون الدولي.

2. أن التصريحات الأمريكية المختلفة تؤكد أن موضوع القدس هو من ضمن ترتيبات الحل النهائي، مما يعني أنه ليس لأحد الأطراف أن يقرر فيه منفرداً.”

ثانياً: السياسة الأمريكية تجاه مدينة بيت المقدس قبل قرار ترامب:

لم تغبْ مدينةُ بيت المقدس عن رؤى الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتصوراتها للقضية الفلسطينية بشكلٍ عام. ففي مرحلة ما قبل إنشاء “إسرائيل”، تبنت الولايات المتحدة سياسة الوكالة اليهودية Jewish Agency for Israel في الضغط على بريطانيا؛ لتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتسريعها؛ وخصوصاً إلى القدس. كما أسهمت ممارسات أمريكا، الضغوطَ الشديدةَ، في تمرير قرار التقسيم، وتدويل القدس بالحدود التي تضمنها قرار الجمعية العامة General Assembly of the United Nations رقم 181 لسنة 1947.

وفي مرحلة ما بعد إنشاء “إسرائيل”، تجلى الموقف الأمريكي في المحافظة على الوضع القائم في فلسطين، وتأمين خطوط الهدنة داخل القدس، مع تراجعٍ واضحٍ بالاهتمام بمسألة القدس، والتركيز على قضية اللاجئين.

يحاول الباحث هنا رصد السياسة الأمريكية وتحليلها، قبل قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن المدينة المقدسة؛ بدءاً برونالد ريجان، وجورج بوش الأب George Bush (1989-1993)، مروراً ببيل كلينتون، وجورج بوش الابن، والجهود المبذولة في عهد الرئيس باراك أوباما، وصولاً إلى دونالد ترامب، وذلك على النحو التالي:

1. في عهد الرئيس رونالد ريجان:

في 2/9/1982، أي بعد عدة أيام من خروج المقاومة الفلسطينية، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، أُعلن عن مشروع الرئيس الأمريكي آنذاك (رونالد ريجان)؛ حيث دعا إلى عدم تقسيم مدينة القدس، والاتفاق على مستقبلها عن طريق المفاوضات، وتعهّد بحماية أمن “إسرائيل”. ويبدو أن هذا المشروع الأمريكي كان مقدمةً لاستثمار الظروف السياسية والميدانية التي نتجت عن حرب لبنان 1982. وبيّن الرئيس ريجان أن جوهر المسألة يقوم على التوفيق بين المطالب الأمنية المشروعة لـ”إسرائيل”، والحقوق المشروعة للفلسطينيين، وأن البحث عن الطريقة لتحقيق هذا التوفيق، لا يمكن أن يتم إلا في لقاء الأطراف المعنية حول طاولة المفاوضات.

رسم الرئيس ريجان إطاراً عاماً لحل قضية فلسطين والشرق الأوسط؛ وهذا الإطار هو اتفاقيات كامب ديفيد Camp David Accords التي هي “السبيل الوحيد لحل النزاع العربي – الإسرائيلي”. وقال: “إن اتفاقيات كامب ديفيد لا تزال تشكل أساس سياستنا”.[9] كما رسم الرئيس الأمريكي إطاراً تنفيذياً لبلوغ الحل المنشود، وتتوضح معالم هذا الإطار في خطواتٍ ثمانيةٍ، كانت السابعة منها تشير إلى مدينة القدس بالقول: بقاء مدينة القدس “غير مجزأة، إلا أن وضعها النهائي يجب أن يتقرر بالتفاوض”.[10]

جاء الردّ العربي على المبادرة الأمريكية بتبني مشروع فاس (1982)؛ الذي دعا إلى انسحاب “إسرائيل” من جميع الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967، بما فيها القدس، وضمان حرية العبادة، وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان في الأماكن المقدسة، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. تبع ذلك في 15 أيلول/ سبتمبر، عرضُ الرئيس ليونيد بريجينيف Leonid Brezhnev مشروعاً يمثل التصور السوفييتي للحل؛ ويرتكز على حقّ شعب فلسطين في تقرير مصيره، وإقامة دولةٍ مستقلةٍ في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس، وقطاع غزة.[11]

ويرى الباحث أن صراع الحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك؛ الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، وعلاقة الولايات المتحدة بـ”إسرائيل” ألقى بظلاله بهذا الشأن؛ إذ رحبت منظمة التحرير الفلسطينية ومعها الدول العربية بالمشروع السوفييتي؛ الذي لا يختلف في جوهره عن مشروع فاس، كما أيّد المجلس الوطني الفلسطيني الـ 16، المنعقد في الجزائر في 22/2/1983، مشروعي فاس وبريجينيف، ورفض مبادرة ريجان.

استمر ذلك العرض الأمريكي قائماً في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، مع التأكيد على اقتصار نطاق الشرعية الدولية وقرارتها على الشطر الشرقي من القدس، والتراجع عن سياساتها الرافضة للاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية بما فيها القدس، وتأجيل النظر في مستقبل القدس إلى مفاوضات الحلّ النهائي؛ وهو المبدأ الذي اعتمد في اتفاقية أوسلو، أيلول/ سبتمبر 1993 لاحقاً.

وربما يُفسر ذلك، من وجهة نظر الباحث، بأن حقبة جورج بوش الأب، كانت امتداداً طبيعياً لحقبة ريجان؛ إذ إنه علاوة على أنهما من الحزب الجمهوري ذاته؛ فقد كان بوش الأب يشغَلُ منصب نائب الرئيس، إضافةً إلى التطورات السياسية التي حدثت في الشرق الأوسط؛ عقب احتلال العراقِ الكويتَ في 2/8/1990، وانشغال الإدارة الأمريكية بالحشد السياسي والعسكري لغزو العراق، أو ما سُمي حينها حرب الخليج الأولى أو حرب تحرير الكويت.

2. في عهد الرئيس بيل كلينتون:

تُوّج المسار التفاوضي بين الطرفين؛ الفلسطيني والإسرائيلي في عهد الرئيس بيل كلينتون بتوقيع اتفاقية أوسلو في 13/9/1993، بحضور كلينتون والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين Yitzhak Rabin.

عُدّت الاتفاقية منعطفاً مهماً في مسار القضية الفلسطينية؛ فقد أنهت النزاع المسلح بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، ورتّبت لإقامة سلطةٍ فلسطينيةٍ في الضفة الغربية، وغزة. كما نصّت على تأجيل المفاوضات بشأن الوضع النهائي لمدينة القدس، بالإضافة إلى قضايا اللاجئين، والمستوطنات، والحدود، والمياه إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، غير أن “إسرائيل” وقبل أن يجفّ الحبر الذي كُتبت به الاتفاقية؛ أعلنت في آب/ أغسطس 1994، أن القدسَ الموحدة ستبقى عاصمة “إسرائيل” الأبدية، وذلك بموافقة الكنيست Knesset الإسرائيلي بالأغلبية.[12]

بعد فشل قمة كامب ديفيد 2000، طرح الرئيس الأمريكي كلينتون في 23/12/2000، مبادرةً أمريكيةً جديدةً لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ كانت فيما يتعلق بشأن القدس تعتمد على مبدأٍ ينص على بقاء المناطق العربية تحت السيادة الفلسطينية، والمناطق اليهودية تحت السيادة الإسرائيلية، وسينطبق هذا على البلدة القديمة أيضاً، واقترح كلينتون إخضاع الحرم الشريف، والساحة، والمساجد المقامة عليها للسيادة الفلسطينية، بينما يخضع للسيادة الإسرائيلية الحائطُ الغربي (حائط البراق)، والمساحة المقدسة لدى الديانة اليهودية الذي يعدّ جزءاً منها، إضافة إلى سيادة وظيفيةٍ مشتركةٍ على الحفريات أسفل الحرم، ووراء الحائط.[13]

يمكن هنا القول: إن مقترحات الرئيس بيل كلينتون بشأن مدينة بيت المقدس كانت قديمةً جديدةً، غير أنها تتصف بالعمومية، على الرغم من بعض التفاصيل، لكن الأساس الذي قامت عليه تلك المقترحات كان هو الوضع القائم الذي فرضته “إسرائيل”، بعد احتلالها الكامل للمدينة سنة 1967؛ بما يعني أن المقترحات كانت أقربَ إلى التصورات الإسرائيلية منها إلى الرؤية الفلسطينية، ويؤكد ذلك أن قرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس سنة 1995، كان في عهد كلينتون، وقد وافق كلينتون عليه، محتفظاً لنفسه بحق توقيت تنفيذه.

اللافت أيضاً في عهد كلينتون، أن إدارته لم تُولِ أي معارضةٍ لمصادرة الأراضي، والنشاطات الاستيطانية في شرقي القدس، مع رفضها وصف الاستمرار ببناء المستوطنات في شرقي القدس، على أنه عملٌ أحادي الجانب؛ كما كانت تصفه الإدارات الأمريكية السابقة.[14]

3. في عهد الرئيس جورج بوش الابن:

مع اندلاع انتفاضة الأقصى أيلول/ سبتمبر 2000، نشطت المساعي الأمريكية؛ للتحقيق في أسباب الانتفاضة، وإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فتشكلت لجنة تقصي الحقائق في الأراضي الفلسطينية المحتلة برئاسة جورج ميتشل George Mitchell؛ العضو السابق، ورئيس الغالبية، في مجلس الشيوخ الأمريكي، واشتهرت باسم “لجنة ميتشل Mitchell Committee”، وكذلك مساعي جورج تينيت George Tenet؛ مدير وكالة المخابرات المركزية Central Intelligence Agency (CIA) الأمريكية؛ لوقف إطلاق النار، ومساعي اللجنة الرباعية التي تشكلت في أواخر سنة 2001؛ وتضم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي European Union (EU)، والأمم المتحدة United Nation، وروسيا، وكانت مهمتها وضع خطة خريطة الطريق؛ لبدء محادثات للتوصل إلى حلّ نهائي لتسويةٍ سلميةٍ، من خلال إقامة دولةٍ فلسطينية بحلول 2005.[15]

إثر فشل الجهود السابقة، تحرك الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ لتنشيط مفاوضات “السلام” العربية الإسرائيلية، وتقدم في خطاب له حول الشرق الأوسط في 24/6/2002 برؤيته للتسوية،[16] حيث جاء فيه:

“رؤيتي هي لدولتين تعيشان جنباً إلى جنبٍ في سلامٍ وأمنٍ، وليس هناك من سبيلٍ إلى تحقيق هذا السلام، حتى تكافح كل الأطراف الإرهابَ، ومع ذلك، ففي هذه اللحظة الحرجة إذا تجاوزت كل الأطراف الماضي، وانطلقت في طريقٍ جديدٍ فإننا نستطيع التغلب على الظلام بنور الأمل.

السلام يتطلب قيادةً فلسطينيةً جديدةً ومختلفةً، حتى يمكن أن تولد دولة فلسطينية، إنني أدعو الشعب الفلسطيني إلى انتخاب زعماء جدد، لا يشينهم الإرهاب.

أدعوهم [أدعو] إلى بناء ديمقراطية حقيقية، تقوم على التسامح والحرية. إذا سعى الشعب الفلسطيني بفاعليةٍ نحو هذه الأهداف، فإن أمريكا والعالم سوف يساندان جهوده. إذا حقق الشعب الفلسطيني هذه الأهداف، فسوف يتمكن من التوصل إلى اتفاقٍ مع إسرائيل ومصر والأردن، بشأن الأمن وغيره من الترتيبات من أجل الاستقلال.”

يرى عزمي بشارة أن رؤية بوش ركزت على قيام دولة فلسطينية باعتبارها الحل الكامل للصراع، وهي الفكرة نفسها التي طرحها أريل شارون Ariel Sharon، سنة 2001؛ عندما كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية، حيث دعا إلى إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ في غزة، وعلى 40% من أراضي الضفة الغربية، بدلاً من حلّ قضايا الوضع النهائي؛ التي كانت مطروحةً في اتفاق أوسلو، وقد تجاهلت الرؤية الأمريكية والإسرائيلية موضوع القدس، ولم تأتِ على ذكرها.[17] كما إن الدولة المطروحة، ستكون ذات حدودٍ مؤقتةٍ، ولن يتم رسم حدودها بصورةٍ نهائيةٍ، إلا بعد عشرين أو ثلاثين عاماً، وبالتالي، يصبح الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبارة عن خلافٍ بشأن الحدود، وهكذا تتلاشى القضية الفلسطينية وتنتهي.[18] ورحّبت السلطة الفلسطينية بالخطاب، وعدَّته إسهاماً جيداً لدفع “عملية السلام” إلى الأمام.

اشتملت الرؤية الفلسطينية لنتائج مفاوضات الحل النهائي على أن الحدود بين دولة فلسطين و”إسرائيل”، ستكون خط الهدنة للرابع من حزيران سنة 1967، وسيتم إنشاءُ وسيلة ترابطٍ دائمٍ بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وفيما يتعلق بالقدس، سيكون الجزءُ الشرقي من القدس عاصمةَ دولة فلسطين، والجزءُ الغربي من القدس عاصمةَ “إسرائيل”، وستكون القدس؛ التي تقدسها أديان التوحيد الثلاثة، مدينةً مفتوحةً لجميع الشعوب، ويقوم الجانبُ الفلسطيني بنقل السيادة على الحي اليهودي، وعلى حائط المبكى (البراق)؛ الذي هو جزء من الحائط الغربي لشرقي القدس، إلى “إسرائيل”، بينما يقوم الفلسطينيون بالاحتفاظ بالسيادة على بقية المدينة القديمة.[19]

لاحقاً، وفي مؤتمر أنابوليس لـ”السلام” Annapolis Conference في الشرق الأوسط؛ الذي عقد في 27/11/2007، سعت الولايات المتحدة الأمريكية للمساعدة في التوصل إلى اتفاقية “سلامٍ” بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإحياء خطة خريطة الطريق، والعمل لقيام دولةٍ فلسطينيةٍ، قبل نهاية فترة الرئيس بوش الابن؛ الذي افتتح المؤتمر بخطاب أشار فيه إلى أن المؤتمر يهدف إلى وضع الأساس لإقامة الدولة الفلسطينية؛ دولةٍ ديموقراطيةٍ تعيش جنباً إلى جنبٍ مع “إسرائيل” بأمانٍ وسلامٍ.[20] وطُرح موضوع القدس في اللقاءات الثنائية التي جمعت الوفدين؛ الفلسطيني برئاسة محمود عباس، والإسرائيلي برئاسة إيهود أولمرت Ehud Olmert، حيث قدم أولمرت مقترح خطوطٍ عريضةٍ للحل النهائي، تتضمن ترسيم حدودٍ بين الدولتين. وفيما يتعلق بالقدس فقد ضمّ الجانب الإسرائيلي المستوطنات داخل حدود الضم، وفي محيط القدس، ضمن تعريف “القدس الكبرى” إلى “إسرائيل”، خلافاً للموقف الفلسطيني؛ الذي تحفظ على قبول وقائعَ جديدةٍ فرضتها “إسرائيل”، بعد انطلاق العملية السلمية. وأما بخصوص البلدة القديمة، و”الحوض المقدس”، وفق التعريف الإسرائيلي؛ فقد اقترح أولمرت إقامة نظام وصايةٍ دولي يضم كلا من: “إسرائيل”، وفلسطين، والأردن، والسعودية، والولايات المتحدة؛ لإدارة هذه المنطقة، دون البتّ في موضوع السيادة، وعليه؛ يحق لكل طرفٍ الإبقاء على الادعاءات السياسية له على هذه المنطقة.

اللافت هنا كما يرى رشيد الخالدي أنه:

“بدلاً عن وصف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في القدس، بأنه غير شرعي، وغير قانوني، وأنه يمثل خرقاً للقانون الدولي، كما فعلت جميع الإدارات الأمريكية السابقة، أصبح المسؤولون الأمريكيون، ابتداءً من سنة 1982م، والتي تولى فيها ريغان سدة الرئاسة، وحتى سنة 2008م؛ آخر سنةٍ لرئاسة جورج دبليو بوش، يصفون أعمال إسرائيل التي تشمل الاستيطان، والضم، والاستيلاء على الأراضي العربية، كعقبات أمام السلام، ولم يصفوها كالسابق أعمالاً غير شرعية وغير قانونية، ولم يصفوا القدس الشرقية العربية بأنها أراضٍ محتلةٌ، بل إنها أراضٍ متنازعٌ عليها. لقد أوقفت الإدارات المتعاقبة منذ عهد ريغان وحتى نهاية عهد بوش الأخير استعمال كلمة “غير قانونية” في وصف السياسات الإسرائيلية.[21]”

يمكن هنا القول: إن السياسة الأمريكية لم تتغير إلى الأحسن كما يبدو أن السلطة الفلسطينية فهمته، بل إن بروز مصطلح “القدس الكبرى” يشير ضمنياً إلى موافقة الإدارة الأمريكية على التغييرات التي أحدثتها “إسرائيل” على واقع القدس المحتلة، وهو ما يتعارض بالكلية مع الرؤية الفلسطينية. وعليه، فإن قيادة السلطة كما يرى ممدوح نوفل:

“أخطأت في قراءة رؤية بوش وتعلقت بأوهامٍ متخيلةٍ، لم يتضمنها الخطاب، وتسرعت، وسبقت جميع الدول العربية والأوروبية، دون مبرر، في التعليق على الخطاب، وكان تعليقها باهتاً، ودفاعها عن نفسها، وحقوق شعبها مرتبكاً ضعيفاً، و”بلعت”، إن جاز التعبير، الإهانة التي وُجهت إليها، وصمتت على التّهم الكبيرة التي تضمنها الخطاب، وضمنها، اتهامها برعاية الإرهاب، واتهام أعضائها والمجتمع الفلسطيني بالفساد.[22]”

4. في عهد الرئيس باراك أوباما:

يرى محسن صالح أن موقف الولايات المتحدة من التسوية السلمية، لم يتغير؛ ففي خطاب أوباما في 19/5/2011، تحدث عن الرؤية الأمريكية لقيام دولتين لشعبين، وأن “إسرائيل” يجب أن تكون دولةً يهوديةً، وأن يكون الأساس الذي تُبنى عليه حدود الدولة الفلسطينية، هو حدود 1967، وأن تكون هذه الدولة منزوعةَ السلاح، غير أن أوباما جعل القضايا الجوهرية كلها قضايا مؤجلة، ودونما سقفٍ زمني لحلها، بما في ذلك مستقبل القدس، واللاجئين، والمستوطنات، وغيرها.[23]

ويرى الخالدي أنه بمجيء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض سنة 2009، طرأ تغيرٌ هائلٌ، ومهمٌ في السياسة الأمريكية، حيث رأينا العودة إلى لغة ما قبل 1981، خصوصاً تلك اللغة التي تصف الأعمال الإسرائيلية في غربي القدس؛ بأنها أعمالٌ غير قانونية، وخارقة للقانون الدولي، وتصف شرقي القدس بأنها أراضٍ محتلةٌ.[24]

وفي نهاية سنة 2013، دار حديثٌ مهم في أوساط الفلسطينيين عن عرض لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري John Kerry، يتحدث فيه عن “القدس الكبرى”؛ عاصمة لدولتين، حيث كشف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واصل أبو يوسف، أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قدّم لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اقتراحاً بأن تكون “القدس الكبرى” عاصمة للدولتين؛ الفلسطينية والصهيونية، في إطار الحلّ النهائي، لافتاً إلى أن خطة “القدس الكبرى”؛ والتي ستضم مدينة القدس، والمستوطنات المحيطة بها، وقرىً وبلداتٍ فلسطينيةً محيطةً بالقدس، تصل لبيت لحم، ستحدد بلدة أبو ديس أو العيزرية، عاصمة للدولة الفلسطينية القادمة، وهو ما قوبل بالرفض من الجانب الفلسطيني، وأن المقترح جاء في إطار مشاوراتٍ، ولم يقدم كيري حتى الآن أي خطةٍ مكتوبةٍ للجانب الفلسطيني.[25]

يمكن هنا القول: إن كيري، وعبر استخدام مصطلح “القدس الكبرى” رمى إلى إعطاء انطباعٍ بأن الإعلان عن عاصمة الدولة الفلسطينية، في أي جزء منها، يمكن أن يغطي على حقيقة أن الجزء الغربي، سيظل عاصمة “إسرائيل” الأبدية، كما تؤكد ذلك “إسرائيل”، وأن حديث الفلسطينيين يجب أن يدور فقط حول الجزء الشرقي من المدينة، أو جزء منه، أو جزء حوله، كما إن مشروع “القدس الكبرى”، وفقاً لعرض كيري؛ جاء ليعبّر عن مشروعٍ صهيوني، ويهدف إلى الاستيلاء على ما نسبته 10% من مساحة الضفة الغربية؛ وتمتد من تجمعات غوش عتصيون Gush Etzion جنوب بيت لحم إلى مستوطنة معاليه أدوميم Ma`ale Adumim شرقي القدس.

جديرٌ بالذكر هنا أنه في خريف 1995، توصل محمود عباس، مع السياسي الإسرائيلي يوسي بيلين Yossi Beilin، إلى وثيقةٍ شكلت إطاراً لتطبيق اتفاق أوسلو، سُميت آنذاك وثيقة أبو مازن – بيلين، أو عباس – بيلين Beilin–Abu Mazen agreement، لكن اغتيال إسحاق رابين في 4/11/1995، وما أحدثه من زلزالٍ داخل “إسرائيل”، دفع شمعون بيريز Shimon Peres؛ الذي استلم مهام رابين مؤقتاً حتى إجراء انتخابات جديدة، لمنع نشر الوثيقة؛ حتى لا يتفاقم الوضع داخل “إسرائيل”.[26]

وقد جاء في الوثيقة فيما يتعلق بوضع القدس ما يلي:[27]

“يتم توسيع حـدود المدينة الكبرى لتشمل: (أبو ديس والعيزرية وسـلوان)، وتستطيع السلطة الفلسطينية فيما بعد أن تتخذ من الأحياء الجديدة المستحدثة عاصمـةً ومركزاً إدارياً لها، يصبح اسمها: (القدس AL-QUDS) بالعربية واللاتينية، وليس (Jerusalem)، بينما تُسمى بقية أنحاء المدينة القديمة بحدودها البلدية القائمة حالياً (أورشـليمJerusalem ) منعاً لأي التباس، ويُعترف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل، وتشكل الأحياء الجديدة المستحدثة من (أبو ديـس وسـلوان والعيزريـة) وحدة جغرافية وسياسية مستقلة، تشكل عاصمةً للدولة التي ستعلن عقب انقضاء فترة اختبار النوايا المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، وتجسيداً للتطلعات الروحية والتاريخية للشعب الفلسطيني.

وضمن مساعي الإدارة الأمريكية فيما بعد؛ لإعادة إطلاق مفاوضات “السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أطلق وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مرة أخرى خطة من ستّ نقاطٍ، جاءت الإشارة فيها إلى القدس بالقول: “إيجاد حلّ مقبولٍ من الطرفين للقدس كعاصمةٍ معترفٍ بها دولياً للدولتين، وحماية، وتأمين حرية الوصول إلى المواقع الدينية”.[28]”

يتضح من خلال استعراض ما سبق؛ أن مواقف الإدارات الأمريكية السابقة تركزت في محورين:

1. التأكيد على إبقاء القدس موحدة.

2.عدم اعتراف الإدارات الأمريكية السابقة، بحق الشعب الفلسطيني في الشطر الشرقي، ولا بحق الاحتلال فيها، وترك مناقشة هذا الحق لتقرره المفاوضات لاحقاً.

ويرى الباحث هنا أن موقف الإدارات الأمريكية قبل ترامب، بشأن القدس، على افتراض أنها وسيط محايد في “عملية السلام”، تراوح بين حلّ بالتفاوض بين الطرفين، مروراً إلى بقاء الوضع القائم، أو فرض وصاية دولية على الأماكن المقدسة، دون البتّ في موضوع السيادة، وصولاً إلى الحديث عن “القدس الكبرى”، الذي كان مفهوماً غامضاً أو ملتبساً، لا يشير صراحة إلى الحق الفلسطيني. كما إن هذه المواقف، وإن لم تقدم حلولاً ترضي الفلسطينيين من جهة، فهي لم تحسم أمرها تماماً لـ”إسرائيل” (على أرض الواقع)، من جهةً أخرى، بما في ذلك قانون 2002، وهو ما يفهم من الإبقاء على تأجيل تنفيذ قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بشكل دوري على مدار 22 عاماً؛ ما قد يفسر بأن تلك الإدارات لم تكن تمتلك الرغبة في القطيعة مع العرب، أو الفلسطينيين من جهة، أو أنها لم تمتلك الشخصية “الجريئة” التي تنفذ هذا القرار، بغض النظر عن الموقف العربي أو الصهيوني، أو تقاطع مصالحها مع العرب عامة.

ويمكن تفسير تلك المواقف أيضاً، على افتراض الانحياز الأمريكي لـ”إسرائيل”، بأنها حالةٌ من إطالة أمد الصراع بين الطرفين، على قاعدة بقاء الوضع على ما هو عليه “بما يحقق مصلحة إسرائيل”، ثم عرض أفكارٍ للنقاش تستغرق وقت الفلسطينيين في التفاوض، ما بين أخذٍ وردّ، وما إن يستقر الفلسطينيون على موقف ما، حتى تخرج فكرةٌ أخرى؛ تأخذ وقتها في النقاش والتفاوض من جديد، وهكذا دواليك؛ حتى يفقد الفلسطينيون الأمل في الاستجابة لمطالبهم أو التعاطي مع وجهة نظرهم، فيقبلوا لاحقاً بأي عرضٍ؛ حتى وإن لم يلبِّ الحد الأدنى من المطالب أو الحقوق.

ثالثاً: السياسة الأمريكية تجاه مدينة بيت المقدس بعد قرار ترامب:

يُعَد مسمى “صفقة القرن” مصطلحاً إعلامياً قد يتشابه مع تسميات لخططٍ سابقةٍ تتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أن المقصود به؛ ما يشير إلى الخطة الأمريكية لإدارة الرئيس ترامب حول “السلام” في الشرق الأوسط، إذ كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أول من ذكرها، وكان ذلك في مؤتمرٍ بجانب الرئيس الأمريكي.[29] وبعد طرح هذه الصفقة من قبل مصر بدا أن الفلسطينيين أيضاً كانوا متفائلين بها، ففي زيارة محمود عباس لأمريكا سنة 2017، ولقائه ترامب قال: “إن بإمكان فخامة الرئيس أن يمضي بهذه الصفقة هذا العام، وقد كان الفلسطينيون ولا سيّما حركة فتح موافقين على هذه الخطة المدعومة عربياً”.[30]

ويشير حسام بدران، إلى دوافع الإدارة الأمريكية لإنهاء القضية الفلسطينية عبر هذه الصفقة بما يلي:[31]

“1. وجود ظرفٍ إقليمي مثالي لتحقيق الأهداف الصهيونية، فالتجاذبات الإقليمية، ومن إفرازاتها الأزمة الخليجية، دفعت جميع أطراف الأزمة ونُظماً عربية أخرى نحو التنافس على كسب الرضا الأمريكي—رغبةً ورهبةً—عبر البوابة الإسرائيلية.

2. يرى ترامب في الصراع العربي – الإسرائيلي مدخلاً جيداً لتحصين نفسه في أزماته الداخلية، ولجمعِ مكاسبَ شخصيةٍ؛ لأن خطواته تُجاه القضية فوق النقد داخلياً، ومرغوبةً من الفواعل داخل الولايات المتحدة، ولأن آثارها الجانبية محدودة؛ تأثيراً وزماناً؛ وهو في عجلةٍ من أمره لطرح مقاربته الجديدة.”

خلال كشفه عن خطته الجديدة، أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن هذه الصفقة تضمن بقاء القدس عاصمةً غير مجزأةٍ لـ”إسرائيل”، مشيراً إلى أن أمريكا ستعلن عن سيادة “إسرائيل” على هذه المدينة. وعلى الطرف الآخر، قال الرئيس الأمريكي إن خطته ستوفر فرصةً للفلسطينيين لإقامة دولتهم المتصلة جغرافياً، والمستقلة، وعاصمتها شرقي القدس.

على الرغم من أن الرئيس ترامب حرص على تأكيد أن قراره الاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال يجب ألا يمس بقضايا الوضع النهائي، فإن إعلانه هذا كان ضربةً كبيرةً لـ”عملية السلام”. وبحسب رسالة بعثتها الخارجية الأمريكية إلى سفاراتها في العواصم الأوروبية، فقد طُلب من الدبلوماسيين الأمريكيين أن يوضحوا للمسؤولين الأوروبيين، أن القدس ما زالت قضية من قضايا الوضع النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأنه يجب على الطرفين تقرير أبعاد سيادة “إسرائيل” في القدس خلال مفاوضاتهم.[32] وهو ما أكده وزير الخارجية ريكس تيلرسون Rex Tillerson بقوله إن ترامب لم يُشر في اعترافه “إلى أي وضع نهائي بالنسبة للقدس، كان واضحاً للغاية أن الوضع النهائي بما في ذلك الحدود سيترك للتفاوض واتخاذ القرار بين الطرفين”.[33] وذلك في إشارةٍ ضمنيةٍ إلى أنه يمكن تقسيم المدينة إلى عاصمتين إذا توافق الطرفان.

وعلى الرغم من محاولة الإدارة الأمريكية التقليل من خطورة القرار، فإن تسويغ الرئيس الأمريكي ترامب قراره إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل”؛ بأنه يطبق القانون الذي أصدره الكونجرس سنة 1995، والمشار إليه سابقاً، فإن “إسرائيل” التي ترفض منذ سنة 1967، الاعتراف بحق الفلسطينيين في شرقي القدس؛ سوف تسعى لاستغلال هذا القرار الأمريكي لإخراج القدس من دائرة التفاوض، فيما يتعلق بقضايا الوضع النهائي؛ على اعتبار أنها أصبحت ملكاً لها، وعاصمة لها معترفاً بها دولياً، وعليه، فإنها لا تخضع للتفاوض. ومن هنا، يصبح أي حديثٍ عن أن قرار ترامب لا يتضمن مصادرةً لحق الفلسطينيين في مناقشة قضايا الوضع النهائي، ومن ضمنها القدس، في المفاوضات، ذراً للرماد في العيون.

يرى كمال قبيعة أنه بإعلان الرئيس ترامب في 6/12/2017، قراره الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”، ونقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، تدخلُ القضية الفلسطينية مرحلةً وتحدياتٍ جديدة؛ إذ إن هذا القرار يستهدف تصفية واحدة من أهم القضايا الوطنية؛ بما لها من قدسية، ومركزية، وحساسية؛ تطال الهوية، والتاريخ، والتراث، بل وكامل الرواية الوطنية.

بهذا الخصوص، فقد شبّه وليد المدلل؛ أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الإسلامية بغزة، نقلَ السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، بمنزلة “رصاصة الرحمة” في استمرار العلاقات بين السلطة الفلسطينية، والاحتلال؛ التي تشهد توتراً منذ توقف المفاوضات السياسية بين الجانبين منذ سنة 2014، مبيناً أن هذا القرار سيربك الحسابات السياسية في المنطقة لصالح دولة الاحتلال، وسيظهر “إسرائيل” قوةً سياسية تحظى بتأييد الإدارة الأمريكية، كما سيظهر قدرة جماعات الضغط الصهيونية في التأثير على القرار الأمريكي، بما يخدم مصالح دولة الاحتلال.[34]

فيما يرى نشأت الأقطش؛ أستاذ الإعلام بجامعة بيرزيت، أن هذا القرار لن يكون له أي تأثيرٍ على العملية السياسية بين الجانبين؛ الفلسطيني والإسرائيلي؛ لأن الدول العربية باتت تصطف بجانب “إسرائيل”؛ وهذا ما سيضعف موقف الجانب الفلسطيني، الذي سيرى نفسه يحارب وحيداً توجهات المجتمع الدولي.[35] وأما طلال عوكل، المحلل السياسي الفلسطيني، فيرى أن الخطوة الأمريكية الاستراتيجية تقطع الطريق تماماً أمام كل محاولةٍ أمريكيةٍ، أو غير أمريكيةٍ، في استئناف عملية التسوية، وتقوّض أي مسعىً للوصول إلى تسوية سياسية في المنطقة، مرجحاً أن تكون الخطوة ضمن رؤيةٍ معينةٍ سيطرحها الطرف الأمريكي عندما يحين موعد المفاوضات.[36]

يجمع الفلسطينيون إذاً على أن نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس ليس إلا صورةً من صور الاستيطان، وتكريساً له، في تحدّ للقرارات الدولية. وقد أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تصريحاتٍ؛ هي الأولى له بشأن نقل السفارة الأمريكية، أن إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقفه، ستكون له آثارٌ مدمرةٌ على “عملية السلام”، وعلى خيار حلّ الدولتين، وأمن واستقرار المنطقة.[37]

فيما رأت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قرار ترامب بأنه سيفتح أبواب جهنم على المصالح الأمريكية. ودعا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى إطلاق انتفاضةٍ جديدةٍ رداً على قرار ترامب، وقال إن السياسة الصهيونية المدعومة أمريكياً لا يمكن مواجهتها إلا بإطلاق شرارة انتفاضةٍ متجددةٍ. وقال إن جميع الانتفاضات الفلسطينية كان منطلقها القدس.[38] ووصفت حركة الجهاد الإسلامي في غزة القرار الأمريكي بأنه شهادة وفاةٍ لمشروع التسوية السياسية في الشرق الأوسط.[39]

وأوضح الأمين للعام للهيئة الإسلامية – المسيحية وأستاذ القانون الدولي حنا عيسى، أن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس يعني الاعتراف بوضع القدس تحت السلطة الإسرائيلية، وهو ما يخالف قرارات مجلس الأمن United Nations Security Council، وفتوى محكمة لاهاي. وأشار عيسى إلى أن كل القوانين والقرارات الدولية أكدت أن الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة هي أراضٍ محتلة، وبموجب القانون الدولي، لا يُسمح بنقل سيادة على إقليمٍ محتل، وخصوصاً أن وجود المحتل مؤقت. وأكد أن هذا القرار المتمثل بنقل السفارة يعني تدمير المنطقة، وإثارة الفتن، وقد يدفع المنطقة إلى حربٍ دينيةٍ.[40]

أما الخبير في القانون الدولي فادي شراكة، فبيّن أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هو اعتداءٌ على الأرض الفلسطينية، وتكريسٌ للاستيطان وضمّ الأراضي. وأكد شراكة أن نقل السفارة وحسب القوانين والأعراف الدولية لا يتم إلا بموافقة دولة فلسطين؛ صاحبة السيادة على الأرض، بيد أن أمريكا تجاهلت ذلك، ولم تُجرِ أي مشاوراتٍ مع الفلسطينيين بهذا الموضوع، واكتفت بمشاوراتها مع الإسرائيليين، ولفت إلى أن نقل السفارة الأمريكية ليس إلا قراراً سياسياً يتجاهل ما صدر من مجلس الأمن ويخالفه، غير أن أمريكا اتخذت هذا القرار لإرضاء الإسرائيليين الذين رفضوا قرار مجلس الأمن.[41]

فيما يرى خبير القانون الدولي رزق شقير، أن قرارَ الاعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال ونقلَ السفارة الأمريكية إليها، لن يؤثرا على وضعها القانوني في العالم، وأنه لن يكون هناك خطرٌ على سوء تفسير القانون الدولي، أو تحريفه، أو التراجع عن كافة مبادئه، موضحاً أن القرار الأمريكي خاطئٌ، ويتعارض مع القانون الدولي، ومع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومجلس الأمن؛ فكل هذه المؤسسات أكدت أن الوضع القانوني للقدس يراها أرضاً محتلةً، وعدّت التدابير الإسرائيلية المتخذة في المدينة، وخصوصاً بعد ضمها سنة 1967 لاغية وباطلة؛ من الناحية القانونية، ومخالفة لأحكام القانون الدولي.[42]

يشير محمد الشلالدة، أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس، إلى عدة ملاحظاتٍ حول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس:[43]

“أولاً: إن القرار الأمريكي يعتبر اعترافاً من واشنطن بأن القدس عاصمةُ دولة إسرائيل، وهذا تجسيدٌ وتكريسٌ للقانون الإسرائيلي القائلِ بأن القدس—بشطريها الغربي والشرقي—موحدةٌ بصفتها عاصمةً أبديةً لإسرائيل.

ثانياً: إن القرار الأمريكي يعتبر مخالفاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي؛ الذي يحرّم احتلال أراضي الغير بالقوة، بل ويحرّم الميثاق مجرد التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية.

ثالثاً: القرار الأمريكي يُعدّ مخالفاً لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947؛ والقاضي بقيام دولتين (يهودية وفلسطينية) ومنح القدس وضعاً قانونياً خاصاً تحت وصاية الأمم المتحدة.

رابعاً: القرار الأمريكي مخالفٌ لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، علماً بأن هناك العديد من القرارات التي تخصّ القدس كأرضٍ عربيةٍ محتلةٍ، وتنصّ على تحريم وإبطال الإجراءات التي تتخذها دولة إسرائيل بشأن القدس.

خامساً: القرار الأمريكي مخالفٌ لاتفاقية أوسلو [1993، وملحقاتها] والمعاهدات العربية الإسرائيلية.”

هذا يعني أنه يلغيها أو يتجاوزها، أو يقرر أمراً واقعاً خلاف ما هو منصوصٌ عليه في تلك الاتفاقية، وهو بالتالي يستبق التفاوض على القدس فيما يُسمى بترتيبات الوضع النهائي.

الخلاصة:

عطفاً على ما سبق: يرى الباحث أن الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”، وتنفيذ ذلك على أرض الواقع، يهدف إلى تسهيل ممارسة السيادة الإسرائيلية عليها، وإهدار حقّ الفلسطينيين فيها، فلا يجوز نقل السيادة على القدس المحتلة إلى “إسرائيل” كدولة محتلة، ولا يجوز وفقاً للقانون الدولي، أن تعترف واشنطن بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”؛ بوصفها دولة محتلة تمارس أبشع الانتهاكات الجسيمة ضدّ الشعب الفلسطيني، في كافة الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها شرقي القدس.

أضف إلى ذلك أن الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل” يعني الإبقاء على الوضع الراهن القائم على الاحتلال، والإقرار بضمّ الأراضي بالقوة. وإن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس يعزز، ويدعم السيادة الإسرائيلية على شرقي القدس، وغربيها؛ بناءً على قرار الكنيست الإسرائيلي بضمّ المدينة، بصفتها العاصمة الأبدية لـ”إسرائيل”، كما ويشرّع من الناحية القانونية ما أقامته “إسرائيل” من سلوك استيطاني في القدس، ويناقض الالتزامات والتأكيدات الصادرة عن جميع الإدارات الأمريكية السابقة.

يمكن القول هنا أيضاً: بأن الفعل الأمريكي هذا يعدُّ مخالفاً لمبدأ عدم الاعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة؛ وهذا المبدأ يؤكد على جميع دول العالم عدم الاعتراف بأي تصرفٍ مخالفٍ لمبادئ القانون الدولي، وهو التزامٌ على دول العالم بالامتناع عن الاعتراف بأي مكاسبَ إقليميةٍ غير مشروعة.

كما إن هذا الفعل يخالف الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويحول دون تمكينه من حقّ تقرير المصير بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وهذا الموقف يعدّ حالةً من حالات انتهاك قواعد القانون الدولي، كما إنه يفتح الباب أمام دول العالم المساندة لـ”إسرائيل” باتخاذ قراراتٍ مماثلةٍ لما اتخذته الولايات المتحدة.

كما إن القرار الأمريكي يعني بكل وضوح إخراج القدس من مفاوضات الحلّ النهائي، وهو ما يعني السماح لـ”إسرائيل” بإحداث تغييراتٍ على الأرض في القدس، دون حسيب أو رقيب.

وعليه، فإن الظروف تبقى مهيأةً أمام أي ردّ فعلٍ فلسطيني في مواجهة تداعيات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وربما تتدحرج الأمور؛ لإعادة تفعيل مسيرات العودة الكبرى، لتصل إلى مواجهاتٍ مباشرةٍ مع الاحتلال في أيّ وقت، وربما تستمر هذه المرة طويلاً.

النتائج:

يخلص الباحث هنا إلى النتائج التالية:

1. القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس يعني منح الاحتلال مزيداً من الشرعية، والاعتراف بكل ما يقوم به من اعتداءات في المدينة المقدسة. وهو ما يؤكد انحياز الإدارة الأمريكية للاحتلال في كل المواقف منذ إنشائه.

2. اتسمت السياسة الأمريكية تجاه القدس بالانسجام التام مع السياسات الإسرائيلية، بل وبوقوف الولايات المتحدة، دائماً، موقفاً متصلباً منحازاً بشكلٍ واضحٍ لـ”إسرائيل”، على الرغم من محاولتها إظهار شيءٍ من التوازن أحياناً.

3. ما تزال قرارات مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO)؛ المتعلقة بالقضية الفلسطينية بشكل عام، وبمدينة القدس بشكل خاص، حبراً على ورق فيما يتعلق بتنفيذ “إسرائيل” لهذه القرارات، وعادةً ما تقوم “إسرائيل” بتفريغها من مضمونها، متكئة في ذلك إلى الموقف الأمريكي المنحاز دائماً إلى الرواية الإسرائيلية، بل والمعطل لإصدار قراراتٍ أممية في صالح الفلسطينيين؛ بشأن القدس عبر استخدام حقّ النقض (الفيتو Veto).

4. القرار الأمريكي، وإن كان مناقضاً لكل المواثيق، والأعراف الدولية، فإن الحالة الدولية اليوم لا تسمح لأحدٍ بمعارضة أمريكا، وربما تكتفي بعضُ الدول العظمى؛ التي لم تبارك القرار، بالامتناع عن نقل سفارتها فقط، وذلك في أحسن الأحوال.

5. لا يبدو العرب اليوم—وخصوصاً دول الإقليم—في موقفٍ قوي يسمح لهم برفض نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو رفض “صفقة القرن” بشكل عام، أو حتى محاولة حشد أطرافٍ دوليةٍ لرفض ذلك.

6. يبقى موقف السلطة الفلسطينية ضبابياً؛ فهي وإن أبدت اعتراضها على القرار، فإنها لم تتخذ خطوةً واحدةً تجاه أمريكا، وسياساتها في المنطقة، إضافة إلى أنها لا تتحرك خطوة إيجابية إلى الأمام؛ من أجل إنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني، الذي يعزز حدوثه—أعني نهاية الانقسام— من فرص وقوف الفلسطينيين أمام تنفيذ “صفقة القرن” وتداعياتها المستقبلية.

7. لا يمكن إغفال أوجه التشابه بين بنود صفقة ترامب، فيما يتعلق بالقدس، وبين بنود وثيقة عباس – بيلين، فقد أعطت الوثيقتان السيادة التامة لـ”إسرائيل” على كامل حدود المدينة المقدسة الأصلية، ولم تقررا حقوق الفلسطينيين فيها بشكلٍ من الأشكال.

8. ربما يجمع الفلسطينيون على أن هذه الخطوة توجه ضربةً مدمرةً لـ”عملية السلام”، لكنهم في الوقت ذاته يبدون مترددين أو حذرين من التعاطي بقوة أكثر، ضدّ السياسة الأمريكية تجاه “عملية السلام” نفسها، أو تجاه مدينة القدس.

9. يبدو قطاع غزة كمن يقف وحده في الميدان، فهو الجهةُ الوحيدةُ التي انتفضت، قولاً وعملاً، رفضاً لنقل السفارة، أو لأمور تتعلق بالقدس، على الرغم مما يعانيه القطاع من أزماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ؛ بفعل الحصار المستمر منذ أكثر من 15 عاماً.

10. الفعل الأمريكي بما فيه من انحيازٍ واضحٍ للرؤية الإسرائيلية، هو يتجاوز أيضاً اتفاق أوسلو 1993؛ الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، وكذلك المعاهدات العربية – الإسرائيلية الأخرى.

11. “صفقة القرن”، وإن مرّت، فإنها ليست قدراً حتمياً على الفلسطينيين، لا يمكن تغييره، فقناعة الفلسطينيين تزداد يوماً بعد يوم أن الاحتلال إلى زوال، وأن نقل أمريكا سفارتها إلى القدس لا يعني بالضرورة التسليم بذلك الأمر الواقع إلى الأبد، فالظروف تتغير، والقوي لا يبقى قوياً إلى الأبد، وكذلك الضعيف.


[1] أكاديمي فلسطيني، وباحث في الشؤون السياسية، مقيم في غزة.
[2] Jerusalem Embassy Act of 1995, Public Law 104-45-Nov. 8, 1995, site of congress.gov, https://goo.gl/NTVrec (accessed on 11/12/2017)
[3] أحمد علي حسن، القدس عاصمة “إسرائيل”: أصل الحكاية وتبعاتها، موقع الخليج أون لاين، 7/12/2017، انظر: http://alkhaleejonline.net/articles/1512665539212822300
[4] “تقرير ندوة: قرار نقل السفارة الأميركية ووضع القدس القانوني والسياسي،” موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شباط/ فبراير 2018، انظر:
https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/Jerusalem-Embassy-Alquds-Legal-and-Political-Status-Report.aspx
[5] أحمد علي حسن، القدس عاصمة “إسرائيل”: أصل الحكاية وتبعاتها، الخليج أون لاين، 7/12/2017.
[6] محسن محمد صالح، الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية، موقع الجزيرة.نت، 7/2/2012، انظر: https://www.aljazeera.net/
[7] محمد الشرقاوي، “تحليل سياسات: ترامب والقدس: قراءة من الداخل،” المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شباط/ فبراير 2018، انظر: https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/Trump-and-Jerusalem-Reading-From-Within.aspx
[8] “تقدير استراتيجي (96): سيناريوهات ترامب لنقل السفارة الأمريكية للقدس،“ موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 17/1/2017، ص 1–2، انظر: https://www.alzaytouna.net/2017/01/17
[9] وائل عبد الحميد المبحوح، تداعيات نتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان 1982 على السلوك السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى اتفاق أوسلو 1993، سلسلة دراسات علمية محكمة (7) (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2018)، ص 41.
[10] المرجع نفسه، ص 43.
[11] للمزيد انظر: المرجع نفسه، ص 45.
[12] رؤساء أميركا، مبادرات سلام انتهت بالفشل، الجزيرة.نت، 7/12/2017.
[13] “مقترحات كلينتون لإنهاء النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي،” مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مجلد 12، عدد 45-46، شتاء/ ربيع 2001، ص 162–168.
[14] محمد رشيد عناب، موقف الولايات المتحدة من قضية القدس، موقع مدينة القدس، 18/11/2008، انظر: www.alquds-online.org\index.php?s=46&id=587
[15] ماهر الشريف، قرن على الصراع العربي الصهيوني (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 2011)، ص 398.
[16] خطاب جورج بوش حول سياسته في الشرق الأوسط وحل الدولتين 24/6/2002، موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني وفا، انظر: http://info.wafa.ps/atemplate.aspx?id=4940, مترجم ومنقول عن البيت الأبيض، انظر: www.whitehouse.go، وقد نشرت صحيفة الأيام الفلسطينية النص كاملاً في 1/7/2002.
[17] وردت كلمة القدس في خطاب الرئيس بوش في فقرة واحدة فقط عندما قال: “علينا أيضاً حسم القضايا المتعلقة بالقدس، ومحنة اللاجئين الفلسطينيين، والتوصل إلى سلام نهائي بين إسرائيل ولبنان، وبين إسرائيل وسوريا، يدعم السلام، ويكافح الإرهاب”، وهو ما يؤكد إغفال رؤية بوش عرض أي حلول بشأنها.
[18] عزمي بشارة، “مخاطر النظرة الأمريكية – الإسرائيلية إلى الدولة الفلسطينية،” مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مجلد 17، عدد 65، شتاء 2006، ص 20.
[19] سعيد جميل تمراز، “القدس في المفاوضات العربية الإسرائيلية: الواقع واحتمالات المستقبل 1991-2015،” في القدس في ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية: واقع ومستقبل: مؤتمر القدس العلمي العاشر 2016 (غزة: مؤسسة القدس الدولية، 2016)، ص 416.
[20] “كلمة للرئيس جورج بوش في افتتاح مؤتمر أنابوليس 27/11/2007،” مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، مجلد 18، عدد 22، خريف 2007، ص 175-179.
[21] رشيد الخالدي، السياسة الأمريكية تجاه القدس، مجلة حوليات القدس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 9، صيف 2010، ص 7.
[22] ممدوح نوفل، ما العمل بعد لقاء بوش خطبة الوداع لعملية السلام، الموقع الشخصي لممدوح نوفل، 1/7/2002، انظر: http://www.mnofal.ps/ar/2002/07/
[23] محسن محمد صالح، الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية، الجزيرة.نت، 7/2/2012.
[24] رشيد الخالدي، السياسة الأمريكية تجاه القدس، حوليات القدس، العدد 9، صيف 2010، ص 7.
[25] قدس برس، 5/1/2014.
[26] للمزيد حول الوثيقة المذكورة، انظر: وثيقة عباس – بيلين، موقع المعرفة، في: https://www.marefa.org/%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9_%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3-%D8%A8%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%86
[27] المرجع نفسه.
[28] الخطة كاملة منشورة على موقع سبوتنيك عربي، 29/12/2016، انظر:https://arabic.sputniknews.com/world/201612291021475329
[29] حسام بدران، “تطور السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية: صفقة القرن، المحتوى والسياق،” مجلة رؤية تركية، مركز ستا للدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المجلد 7، العدد 4، 2018، ص 22.
[30] حمد جاسم الخزرجي، صفقة القرن: الأسباب والنتائج، موقع مركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة كربلاء، 10/2/2020، انظر: http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/wp/blog/2020/02/10 (شوهد في 25/3/2020)
[31] حسام بدران، “تطور السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية: صفقة القرن، المحتوى والسياق،” رؤية تركية، المجلد 7، العدد 4، 2018، ص 23–24.
[32] “تقرير ندوة: قرار نقل السفارة الأميركية ووضع القدس القانوني والسياسي،” المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شباط/ فبراير 2018.
[33] تيلرسون: الاعتراف لا يحدد المصير النهائي للقدس، الجزيرة.نت، 8/12/2017.
[34] خالد أبو عامر، ما هي تداعيات ومخاطر نقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس؟، موقع عربي 21، 2/12/2017، انظر: https://arabi21.com/story/1053307
[35] المرجع نفسه.
[36] نقل السفارة يسجل فشلاً لمسار التفاوض: ما هي تداعيات ومخاطر نقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس؟، موقع فلسطين اليوم، 4/12/2017، انظر: https://paltoday.ps/ar/post/311914
[37] الفلسطينيون: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس شرعنة للاستيطان، موقع قناة روسيا اليوم RT، 10/1/2017، انظر: https://arabic.rt.com/news/858097
[38] أبرز ردود الفعل الرافضة لقرار ترامب بشأن القدس، الجزيرة.نت، 7/12/2017.
[39] المرجع نفسه.
[40] الفلسطينيون: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس شرعنة للاستيطان، موقع قناة روسيا اليوم RT، 10/1/2017.
[41] المرجع نفسه.
[42] 13 انتهاكاً للقانون الدولي في قرار ترامب بشأن القدس، موقع صحيفة العربي الجديد، 7/12/2017، انظر: https://www.alaraby.co.uk/
[43] (5) مقترحات لمواجهة آثار اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، موقع بوابة الوفد الإلكترونية، 6/12/2017، انظر: https://alwafd.news


للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:
>> ورقة علمية: تحليل السياسة الأمريكية تجاه مدينة القدس من 1982–2020 … أ. وائل المبحوح (31 صفحة، 3.8 MB)

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 24/12/2021



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من الأوراق العلمية: