مدة القراءة: 18 دقائق

إعداد: رائد محمد حلس*.
(خاص بمركز الزيتونة).

المقدمة:

يتصف الاقتصاد الفلسطيني بأنه ضعيف البنية بسبب صغر مساحته وقلة موارده ويتأثر بشدة بالعوامل الخارجية، وترتبط هذه الخصائص بشكل كبير بالسياق السياسي والتاريخي للاقتصاد الفلسطيني، الذي لم يسفر منذ نحو قرن من الزمان عن وجود دولة فلسطينية سواء قبل إنشاء دولة الاحتلال أم بعدها. وعليه، فقد نما الاقتصاد الفلسطيني وتشكّل في ظلّ كيانٍ صهيونيٍ محتل، وقبلها في ظلّ دولة منتدبة، حيث ترتب على هذا الوضع أن الاقتصاد الفلسطيني نما وتشكّل بطريقة غير سليمة، مشوّهة من حيث الهيكل الاقتصادي، والعلاقات، والموارد، بل والجغرافيا.

وقد جاء ذلك في إطار مجمل السياسات التي بلورتها سلطات الاحتلال لتشكيل وتوجيه الاقتصاد الفلسطيني بما يخدم مصالحها، وبما يحول دون تحقيق تطوّر حقيقي يخدم قيام دولة فلسطينية.

النتيجة الرئيسية، إضافة لما سبق، تشير إلى أن الاقتصاد الفلسطيني أصبح تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي، وتعدُّ هذه النتيجة هي جوهر المشكلة، فقد حرمت التبعية الاقتصادية الاقتصاد الفلسطيني من تطوير مؤسساته وصياغة علاقاته الاقتصادية وفقاً لأهدافه وتطلعاته، ووضع السياسات الاقتصادية الملائمة لمصالحه، واتخاذ القرارات اللازمة، بالإضافة إلى السيطرة على الموارد المتاحة.

لقد أثّر هذا الوضع على الاقتصاد الفلسطيني تأثيراً سلبياً واسعاً، حتى بعد قدوم السلطة الفلسطينية سنة 1994، نتيجة لأن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تتمكن، بعد تأسيسها، من صياغة رؤية واضحة وتنفيذها، للتخلص من التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، وذلك بسبب عدم قدرتها على تغيير هذا الواقع من جهة، وفقدانها السيطرة على أدوات السياسات الاقتصادية (المالية، والنقدية، والتجارية)، وعلى معابرها ومواردها الطبيعية من جهة أخرى.

وبالتالي بقيت معظم أدوات السياسات الاقتصادية الرئيسية في أيدي الإسرائيليين، أهمها إيرادات المقاصّة التي استخدمتها “إسرائيل” في أحداث سياسية وأمنية مختلفة، للضغط على السلطة الفلسطينية، لابتزازها مالياً وسياسياً، ما يضع الحكومة الفلسطينية لتدارك هذا الوضع ومحاولة تعزيز استقلاليتها السياسية، وكذلك استقلالية مواردها المالية حتى لا تقع تحت الابتزاز المالي لـ”إسرائيل”.

في ضوء ذلك، تتناول الورقة نشأة إيرادات المقاصّة وتطورها، وتبحث في ثناياها جوهر الأزمة المتكررة من خلال تحليل سياقها السياسي ومناقشة أبعادها الاقتصادية، سواء من جهة إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، أم من جهة الخطوات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية في مواجهة هذه الأزمة، وتقدّم مقاربة اقتصادية جديدة، لبناء اقتصاد وطني، وتعزيز مقوماته، والحفاظ على عدم تراجعه، أو التخفيف من حدة الاختلالات الهيكلية والتشوهات فيه؛ ترتكز بشكل أساسي على خيار “اقتصاد الصمود” لتعزيز ودعم صمود الشعب في مواجهة الاحتلال في إطار الانفكاك الاقتصادي، على الرغم من وجود الاحتلال، ووجود إطار مقيّد ومعيق لهذا الاقتصاد، يتمثل في بروتوكول باريس الاقتصادي Paris Protocol.


للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:

>> ورقة علمية: أزمة إيرادات المقاصّة للسلطة الفلسطينية في سياقها السياسي وتداعياتها الاقتصادية … رائد حلس (25 صفحة، 23.5 MB)


أولاً: نشأة إيرادات المقاصّة:

نشأت إيرادات المقاصّة نشأة مشوّهة ومنقوصة السيادة على استحقاقات الوصول إليها، بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي سنة 1994، حيث أعطى البروتوكول الحق لـ”إسرائيل” في تحصيل ضريبة القيمة المضافة من الواردات من “إسرائيل”، وإدارة عمليات التخليص الجمركي على الواردات الفلسطينية التي تمر عبر الموانئ الإسرائيلية، وتحصيل الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة عن هذه الواردات (إيرادات المقاصّة)، ومن ثم تحويل هذه الإيرادات إلى السلطة الوطنية الفلسطينية شهرياً، بعد خصم 3% منها كرسم تحصيل.[1]

في ضوء ما سبق تُعرف إيرادات المقاصّة بأنها إيرادات الضرائب التي تقوم “إسرائيل” بجبايتها نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، بحسب ما جاء في بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي يحكم العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية، وتشمل هذه الإيرادات ثلاثة أنواع من الضرائب:[2]

1. ضرائب مباشرة: ضريبة الدخل على أجور العمال الفلسطينيين في “إسرائيل” والمستوطنات.

2. ضرائب غير مباشرة على المستوردات من “إسرائيل”: ضريبة القيمة المضافة على كافة السلع المستوردة من “إسرائيل”، وضريبة الشراء على مشتقات النفط والسجائر والكحول فقط.

3. الضرائب غير المباشرة على المستوردات من الخارج: ضريبة القيمة المضافة، والجمارك، وضريبة الشراء وغيرها.

وقد تمّ إدراج ضريبة الدخل على أجور العمال الفلسطينيين في “إسرائيل” والمستوطنات ضمن أنواع إيرادات المقاصّة، على الرغم من أنها لا تعدُّ جزءاً من آلية المقاصة، فعمليات المقاصة تتعلق فقط بتبادل (تقاص) فواتير المشتريات من الخارج (البيان الجمركي) والمشتريات من الطرف الإسرائيلي، لتسوية حسابات الضرائب غير المباشرة بينهما، لكن إحصاءات وزارة المالية الفلسطينية تعامل ضرائب الدخل على أنها أحد بنود إيرادات المقاصّة، وتُّحوَّل الضريبة على دخل العمال الفلسطينيين في “إسرائيل” والمستوطنات إلى وزارة المالية كل ثلاثة أو ستة أشهر، وليس شهرياً كما هو حال الضرائب غير المباشرة، وتستقطع “إسرائيل” لنفسها 25% من ضرائب الدخل هذه قبل تحويلها إلى السلطة الفلسطينية.[3]

وتخضع النسبة التي تستقطعها “إسرائيل” لقاء خدمات التحصيل والجباية التي تؤديها للرقابة الإسرائيلية فقط، أي أن النسبة غير محددة تماماً، وبالرجوع إلى وزارة المالية فإن هناك اختلافاً بين إيرادات المقاصّة على أساس نقدي، وإيرادات المقاصّة على أساس الالتزام الفعلي، وتكشف هذه الاختلافات الاختلال في تعامل الاحتلال مع ملف إيرادات المقاصّة.

ثانياً: تطور إيرادات المقاصّة:

تطوّر حجم إيرادات المقاصّة بشكل مستمر منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، نتيجة تزايد حجم الواردات في سياق ضعف القطاعات الإنتاجية، وتوفر تمويل لهذه الواردات من خلال المساعدات الخارجية، وارتفاع حجم الاستهلاك النهائي في الاقتصاد الفلسطيني.[4]
حيث تزايدت إيرادات المقاصّة خلال الفترة 1996–2020 بشكل كبير، إذ ارتفع حجمها من 351.7 مليون دولار سنة 1996 ليصل حجمها إلى 1,003.6 ملايين دولار خلال سنة 2020.

شكل رقم 1: تطور حجم إيرادات المقاصّة خلال الفترة 1996–2020

الشكل من إعداد الباحث بالاستناد إلى البيانات المدرجة في الملحق رقم 1.

وبالنظر في الشكل رقم 1، نلاحظ ما يلي:

• انخفاض حجم إيرادات المقاصّة في السنوات الأولى (1996–2006) ووصولها إلى أدنى حجم لها خلال سنة 2001، حيث بلغت إيرادات المقاصّة في تلك السنة صفر وبمعدل نمو -100%، نتيجة عدم استلام السلطة الفلسطينية أي أموال من إيرادات المقاصّة في تلك السنة، وذلك على خلفية تأثر أداء الاقتصاد الفلسطيني خلال سنة 2001 بمجريات الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما واكبها من ممارسات قمعية وتدميرية، تمثلت في قيام الاحتلال الإسرائيلي بفرض حصار شامل على الأراضي الفلسطينية، وإحكام إغلاق وعزل الأراضي الفلسطينية عن العالم الخارجي، وإغلاق الحدود والمنافذ المحلية والدولية، بجانب تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى 115 جزءاً، ومنع الانتقال بين المدن الفلسطينية بإقامة الحواجز المسلحة، وحفر الطرق الرئيسية بعمق وعرض خمسة أمتار.[5]

• ارتفاع حجم إيرادات المقاصّة في السنوات الأخيرة (2007–2020)، ووصولها إلى أعلى حجم لها خلال سنة 2017، حيث بلغت إيرادات المقاصة في تلك السنة نحو 2,483 مليون دولار وبنسبة نمو 6.5%، ويعود هذا الارتفاع في حجم إيرادات المقاصّة في هذه السنة إلى تحقيق الاقتصاد الفلسطيني معدل نمو في تلك السنة بنحو 3.1% مقارنة مع سنة 2016، بالإضافة إلى تزايد فجوة التجارة الخارجية، نتيجة لنمو الواردات بمعدل أكبر من الصادرات، لتبلغ 5.4 مليارات دولار سنة 2017.[6]

• وقد بلغ المتوسط السنوي لقيمة إيرادات المقاصّة نحو 457.6 مليون دولار، بمتوسط شهري 38.1 مليون دولار خلال الفترة 1996–2006، وبلغ متوسط نسبة إيرادات المقاصّة من الإيرادات المحلية نحو 51.6%، بينما بلغ متوسط نسبة إيرادات المقاصّة من النفقات العامة قرابة 31.9% خلال الفترة نفسها.

شكل رقم 2: إسهام إيرادات المقاصّة في الإيرادات المحلية والنفقات العامة خلال الفترة 1996–2006

الشكل من إعداد الباحث بالاستناد إلى البيانات المدرجة في الملحق رقم 1.

• في المقابل تزايدت قيمة إيرادات المقاصّة وإسهامها في الإيرادات المحلية والنفقات العامة بشكل كبير خلال الفترة 2007–2020، نتيجة لارتفاع قيمة إيرادات المقاصّة في تلك الفترة، حيث بلغ المتوسط السنوي لقيمة إيرادات المقاصّة نحو 1,709 ملايين دولار بمتوسط شهري 142.4 مليون دولار خلال الفترة 2007–2020، وبلغ متوسط نسبة إيرادات المقاصّة من الإيرادات المحلية نحو 65.9%، بينما بلغ متوسط نسبة إيرادات المقاصّة من النفقات العامة قرابة 49.3% خلال الفترة نفسها.

شكل رقم 3: إسهام إيرادات المقاصّة في الإيرادات المحلية والنفقات العامة خلال الفترة 2007–2020

الشكل من إعداد الباحث بالاستناد إلى البيانات المدرجة في الملحق رقم 1.

ثالثاً: أزمة إيرادات المقاصّة:

ترتبط أزمة إيرادات المقاصّة من حيث الجوهر بأزمة الاقتصاد الفلسطيني الذي نما وتشكّل في ظلّ وجود الاحتلال، وفي ظلّ إطارٍ مكبّلٍ ومقيدٍ للاقتصاد، يتمثل في بروتوكول باريس الاقتصادي الموقع في نيسان/ أبريل 1994، والذي أنشأ علاقات اقتصادية غير متكافئة، وأدى إلى إحداث اختلالات هيكلية وتشوهات عميقة في الاقتصاد الفلسطيني.[7]

ولفهم طبيعة العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة لا بدّ من التمعن في المحددات والظروف التي جرى في إطارها إبرام بروتوكول باريس، فبعد احتلال الأراضي الفلسطينية سنة 1967، عمدت “إسرائيل” إلى محاربة الاقتصاد الفلسطيني من خلال إيجاد اختلالات هيكلية وتشوهات عميقة في الاقتصاد الفلسطيني، وعزله عن محيطه العربي والإسلامي، وتحويله إلى اقتصاد تابع للاقتصاد الإسرائيلي.

وتواصلت هذه التشوهات حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو Oslo Accords وبروتوكول باريس الاقتصادي، حيث لم تتمكن السلطة الفلسطينية بعد تأسيسها من صياغة وتنفيذ رؤية واضحة للتخلص من التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، وذلك بسبب عدم قدرة السلطة على تغيير هذا الواقع، وفقدانها السيطرة على أدوات السياسات الاقتصادية (المالية، والنقدية، والتجارية)، وعلى معابرها، ومواردها الطبيعية.[8]

وعلى الرغم من أن ديباجة برتوكول باريس الاقتصادي أكدت أنها تؤسس لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، وتمكين الفلسطينيين من تطبيق قراراتهم الاقتصادية بما يتماشى مع أولوياتهم وخططهم التنموية، إلا أن بنود هذا البروتوكول حدّت من قدرة السلطة الفلسطينية على رسم سياسات اقتصادية مستقلة تتماشى مع أولويات الشعب الفلسطيني ومصالحه، وأبقت على نظام الغلاف الجمركي الذي كان سائداً قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، وحوّلتها من أمرٍ واقعٍ بقوة الاحتلال إلى اتفاق تعاقدي بين الطرفين، وألزمت السلطة الفلسطينية بالسياسات الضريبية الإسرائيلي.[9]

كما رافق تطبيق هذا البروتوكول المقيِّد والمكبل لتنمية وتطوير الاقتصاد، مواصلة الاحتلال الإسرائيلي إجراءات وممارسات بحق الشعب الفلسطيني تسببت أيضاً في إعاقة العمل التنموي وخنق الاقتصاد الفلسطيني، تتمثل في فرض الحصار الشديد على قطاع غزة، والاعتداءات العسكرية المتكررة على قطاع غزة خلال سنوات 2008، و2012، و2014، وسيطرة الاحتلال على أجزاء كبيرة من الأرض الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية بما فيها المنطقة ج وشرقي القدس، وبناء جدار الفصل العنصري، والاستمرار في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي، ومحاولات عزل وتهويد شرقي القدس، والتحكم بمقدرات الشعب الفلسطيني من حدود وأراضي زراعية وموارد طبيعية وأجواء، بجانب تقطيع الأوصال وتقييد الحركة والتجارة، مما تسبب في إعاقة العمل التنموي الفلسطيني من جهة، وربط الاقتصاد الفلسطيني بعلاقة قسرية مع الاحتلال وجعله تابعاً له من جهة أخرى.[10]

وفي ضوء ما سبق، يرى الباحث أن إجراءات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي القمعية، بجانب بروتوكول باريس الاقتصادي، أدت إلى تكريس التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال، نتيجة عدم قدرة السلطة الفلسطينية على الانعتاق من حالة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي في ظلّ هذه الإجراءات، وفي ظلّ هذا البروتكول المقيِّد والمعيق للتنمية، وفي ظلّ عدم السيطرة على الأرض والموارد والسياسات، وبالتالي كانت النتيجة الرئيسية هي زيادة الاعتماد على مصادر التمويل الخارجية؛ القروض الخارجية والمنح والمساعدات، وعلى إيرادات المقاصّة. كذلك فإن بقاء معظم أدوات السياسات الاقتصادية الرئيسية في أيدي الاحتلال الإسرائيلي، أدت إلى تحوّل هذه الأدوات بعد ذلك لأدوات ضغط، يستخدمها الاحتلال لتحقيق مكاسب سياسية من جهة، ومحاصرة السلطة الفلسطينية اقتصادياً ومالياً من جهة أخرى، تسببت في وجود اختلالات هيكلية وتشوهات عميقة في الاقتصاد الفلسطيني.

رابعاً: السياق السياسي لأزمة إيرادات المقاصّة:

تعرضت إيرادات المقاصّة الفلسطينية لسلسلة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة (تجميداً واستقطاعاً)، وتندرج هذه الاعتداءات المتكررة في سياق الضغط السياسي على السلطة الوطنية الفلسطينية سياسياً واقتصادياً، وقد ترافقت فترات التجميد مع التغيرات السياسية على الأرض، كما هو موضّح في الجدول رقم 1.

جدول رقم 1: الاعتداءات الإسرائيلية على إيرادات المقاصة الفلسطينية خلال الفترة 1996–2020[11]

ومن الجدير بالذكر أن “إسرائيل” كانت تقوم بخصم مستحقات لشركة الكهرباء الإسرائيلية ومستشفياتها، قبل أن تُفرج عن أموال المقاصّة المحتجزة في العديد من المرات.

ويظهر الجدول رقم 1 الارتباط الوثيق بين فترات التجميد والاستقطاع لإيرادات المقاصّة إلى السلطة الفلسطينية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وبين المسار السياسي على الأرض، حيث يظهر الضغط والابتزاز السياسي الذي مارسه الاحتلال الإسرائيلي على السلطة الوطنية في ملف إيرادات المقاصة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في سنة 2006، اعتراضاً على نتائج الانتخابات الفلسطينية التي جرت في كانون الثاني/ يناير 2006.

وقد واصلت “إسرائيل” اعتداءاتها المتكررة على إيرادات المقاصة واستخدامها كورقة ضغط للابتزاز السياسي والمالي على السلطة الفلسطينية خلال الفترة 2011–2016، لصدّ السلطة الفلسطينية عن جهودها السياسية والدولية أحادية الجانب، بعد إخفاق الوسيط الأمريكي في تعزيز الحضور الفلسطيني في المنظمات الدولية، وعدم التزام الاحتلال الإسرائيلي بالاتفاقيات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية.

وقد تبنى الاحتلال الإسرائيلي استراتيجية جديدة لفرض سياساته على إيرادات المقاصّة والمتمثلة في سياسة الاستقطاع من الأموال الفلسطينية، التي تجبيها نيابة عن السطلة دون الرجوع إليها أو الموافقة عليها، فقد اقتطع نحو 11.3 مليون دولار في شباط/ فبراير 2019، بحجة أنها تذهب إلى عوائل الشهداء والجرحى والأسرى، تحت ذريعة أن هذه الأموال هي عمليات مالية لتغذية “الإرهاب” حسب الاحتلال، وهو ما رفضته السلطة الفلسطينية، وكذلك رفضت استلام إيرادات المقاصّة منقوصّة.[12]

كما صادقت لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست Knesset الإسرائيلي بالإجماع، على مقترح اقتطاع أموال التعويضات التي تُدفع للمستوطنين في منطقة غلاف غزة، بسبب الحرائق، من أموال المقاصة الفلسطينية.[13] وبالإضافة إلى ذلك قام الاحتلال الإسرائيلي باستقطاع ما يعادل 3.6 ملايين دولار من أموال المقاصّة الفلسطينية في 15/8/2019، لصالح 51 فلسطينياً، وجّهت إليهم السلطة الفلسطينية تهمة التخابر مع الاحتلال الإسرائيلي “عملاء”، منذ بداية التسعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة، بعد فرارهم من السجون الفلسطينية إلى “إسرائيل” سنة 2002، خلال عملية السور الواقي.[14]

ويُعتقد على نطاق واسع، أن تدرُّج الاقتطاعات من أموال المقاصّة الفلسطينية المتكررة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، يُظهر مدى قدرة الاحتلال في التحكم والسيطرة في أهم مورد مالي للسلطة الفلسطينية، بغرض ممارسة الضغط عليها، سياسياً واقتصادياً، لإجبارها بقبول ما تفرضه عليها من إملاءات أو صفقات سياسية.

خامساً: التداعيات الاقتصادية لتكرار أزمة إيرادات المقاصة:

هناك انعكاسات سلبية على الاقتصاد الفلسطيني، نتيجة تكرار تجميد أو استقطاع جزء من أموال المقاصّة، ولا تزول هذه الآثار السلبية بمجرد عودة هذه الأموال، وكأن الأمر لا يتعدى تأخير السداد بدون آثار سلبية مستدامة تنعكس على الأداء الاقتصادي على المدى الطويل، وتشمل الآثار والتداعيات ما يلي:

1. تهديد الاستقرار المالي الفلسطيني:

يمثل احتجاز إيرادات المقاصة المتكرر من قبل الاحتلال الإسرائيلي تهديداً مباشراً للاستقرار المالي الفلسطيني، نظراً لما يتسبب به من تسرّب مالي واستنزاف لخزينة السلطة الفلسطينية، وحقيقة الأمر أنّ الاقتصاد الفلسطيني يواجه تهديدَين مختلفَين، نتيجة تحكّم “إسرائيل” بإيرادات المقاصة:

التهديد الأوّل: يتعلّق بعدم القدرة على التنبؤ بحجم هذه الإيرادات، على الرغم من أهميّتها بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني، كمكوّن رئيسي للإيرادات المحلّيّة، فهذه الإيرادات تُعدُّ صمّام الأمان للحكومة الفلسطينيّة في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ودفع المستحقات المترتّبة عليها، حيث تشكّل بالمتوسط ثلاثة أرباع الإيرادات المحلّيّة الفلسطينية.[15]

التهديد الثاني: يتعلّق بالتسرّب المالي من خزينة السلطة الفلسطينية، حيث تعاني هذه الأخيرة من خسائر مالية كبيرة، ناجمة عن ضياع حصيلة قيمة ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشراء، وجمارك المستوردات؛ بسبب الاستيراد غير المباشر عبر “إسرائيل”. وهذا التسرّب المالي ناتج عن أن “إسرائيل” لا تزوّد السلطة بالمعلومات الكافية عن حجم الاستيراد والجهة التي قامت بذلك، لأنّ اتفاق باريس لا يلزمها بذلك، إضافةً إلى أنّ بعض التجار لا يقدّمون فواتير المقاصة لوزارة الماليّة، حيث تدفع “إسرائيل” الضرائب على أساس الفواتير، وذلك حتى لا يكشفوا عن حجم أعمالهم، التي يدفعون من خلالها ضريبة الدخل.[16]

ومن مصادر التسرّب المالي أيضاً البضائع المهرّبة من السوق الإسرائيلية، التي تُقدّر قيمتها ما بين 25-35% من مجموع الواردات من “إسرائيل”، حيث إنّ البضائع المنتجة في “إسرائيل” والمهرّبة إلى السوق الفلسطينية تنتج عنها خسائر كافة الضرائب غير المباشرة (القيمة المضافة، والجمارك، وضريبة الشراء)، بينما البضائع التي منشؤها بلد ثالث، تكون الخسائر فقط في الجمارك وضريبة الشراء في حال تمّ استيرادها من “إسرائيل” بموجب فاتورة المقاصة. والمعضلة هنا أنّ السلطة الفلسطينيّة لا تستطيع إجراء رقابة على حركة مرور البضائع إلى السوق الفلسطينيّة، بسبب عدم تواجدها على المعابر الدوليّة، وعدم وجود حدود داخلية مع السوق الإسرائيلية، وهذا الأمر يزيد من حدّة تهريب البضائع من الأسواق والمستوطنات.[17]

وتشير التقديرات إلى أن التسرّب المالي للضرائب المباشرة وغير المباشرة المدفوعة من قبل المستهلك الفلسطيني والمحجوزة من قبل الجانب الإسرائيلي، يتسبب في خسائر تتكبدها الخزينة الفلسطينية تقدر بنحو 306 ملايين دولار سنويّاً على الأقل، أي ما يعادل 17% من إيرادات الضرائب للسلطة الفلسطينيّة، وهذا يشكل 3.6% من الناتج المحلّي الإجمالي.[18]

إضافةً للخسائر المالية، فإن هناك تكاليف وخسائر اقتصادية إضافية لهذا التسرّب المالي، تمسّ الزيادة في الناتج المحلّي الإجمالي وزيادة نسبة التشغيل، التي كان يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن يحقّقها لو تمّ توقيف هذا التسرّب المالي، ولو تمّ تحويل هذه الإيرادات من الخزينة الإسرائيلية إلى الخزينة الفلسطينية، فالتقديرات تشير إلى أنّه لو تمّ منع هذا التسرّب وأمكن توفير هذه الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية، لكان ممكناً زيادة الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 4%، وإيجاد ما يعادل عشرة آلاف فرصة عمل إضافية كل عام. كما يزيد هذا التسرّب المالي من هشاشة الوضع المالي للسلطة الوطنيّة الفلسطينية، ويقلّل من قدرتها على التخطيط المالي والإنفاق على الموازنات التطويرية، ويضع الاقتصاد كلّه في مرحلة نموّ حرجة لا يمكن الخروج منها، ويبقيه عرضةً لتأثير السياسات الاقتصادية والمالية الإسرائيلية.[19]

2. التأثير على الموازنة العامة الفلسطينية:

تشكّل عائدات التخليص الجمركي “إيرادات المقاصّة” والتي تقدر بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، العمود الفقري للموازنة الفلسطينية، فهي تؤمن أكثر من 65% من الإيرادات المحلية، وأكثر من نصف نفقاتها العامة، وبالتالي فإن تجميد أو استقطاع إيرادات المقاصّة يؤثر بشكل مباشر على قدرة الحكومة الفلسطينية في تأمين فاتورة الرواتب والأجور للموظفين العموميين، أي أن الحكومة الفلسطينية لن تتمكن من تسديد رواتب الموظفين كاملة والتي تقدر بنحو 150 مليون دولار شهرياً،[20] وفي مثل هذا الوضع ستنعكس تداعياته بصورة شبه شلل عام، سيصيب كافة مناحي الحياة الاقتصادية، بسبب حالة الركود الناجمة عن عدم استلام الموظفين رواتب كاملة، باعتبار أن رواتب الموظفين تعدُّ المحرّك الأساسي لحركة الطلب والاستهلاك.

3. التأثير على الدين العام والمتأخرات:

نتيجة لأزمة إيرادات المقاصّة والارتفاع الملحوظ والكبير في عجز الموازنة العامة، فقد ارتفع الدين العام وفقاً لبيانات وزارة المالية من 2,369.5 مليون دولار سنة 2018 إلى نحو 2,795.2 مليون دولار سنة 2019 بنسبة 17.9%، وتحديداً بسبب ارتفاع الدين المحلي نتيجة قيام الحكومة الفلسطينية بالاقتراض من المصارف، وذلك في محاولة منها للتغلب على أزمة المقاصّة وتوفير مصادر أخرى للدخل، من أجل الوفاء بالمستحقات والالتزامات المترتبة عليها، مما ترتب على ذلك أيضاً ارتفاع حجم المتأخرات المتراكمة على الحكومة، وبالتالي فإن ارتفاع حجم الدين المحلي والمتأخرات المتراكمة على الحكومة، يهدد سلامة الجهاز المصرفي ويهدد خطط التوسع والاقتراض في المستقبل.[21]

4. التأثير على المناخ الاستثماري:

إن تكرار الأزمات وخصوصاً أزمة إيرادات المقاصّة، وانخفاض القدرة على التنبؤ بالمستقبل وتراكم المتأخرات على القطاع العام تجاه الموردين، وارتفاع سعر الفائدة بتأثير الدين العام، يحبط مشاريع الاستثمار المستقبلية، وينعكس سلباً على الإنتاج والتشغيل المستقبلي.[22]
يتبين من قراءة هذا الوضع أن الاحتلال الإسرائيلي يتحكم في أكبر جزء من الإيرادات العامة الفلسطينية “إيرادات المقاصّة”، وبالتالي فإن غياب السيطرة والتحكم بهذا الجزء الجوهري من مكونات إيرادات الخزينة العامة يُمّكِن الاحتلال من استغلال هذه الأموال ضدّ الشعب الفلسطيني، كوسيلة للابتزاز والضغط السياسي والمالي، لذلك ينبغي على الحكومة الفلسطينية تدارك هذا الوضع ومحاولة تعزيز استقلالية مواردها المالية حتى لا تقع تحت الابتزاز السياسي والمالي لـ”إسرائيل”.

سادساً: الخطوات الاقتصادية لتجاوز أزمة إيرادات المقاصّة:

اتَّخذت السلطة الفلسطينية في معظم المرات السابقة لأزمة إيرادات المقاصّة عدَّة خطوات اقتصادية لتجاوز الأزمة الحادة في موازنتها، الناتجة عن تجميد إيرادات المقاصّة، وقد تراوحت في ثلاثة إجراءات في سياساتها الاقتصادية وهي: التوجه للدول المانحة والدول العربية لتقديم دعم إضافي لموازنتها، وتطبيق إجراءات تقشفية، والاستدانة الداخلية.

وغالباً ما كان يترتب على هذه الخطوات آثار اقتصادية ومالية سلبية، تزيد من حدَّة المشكلات المالية، وتؤثر في تخفيض النمو الاقتصادي.

1. التوجه للدول المانحة والدول العربية لتقديم دعم إضافي لموازنتها:

ناشدت السلطة الوطنية الفلسطينية الدول المانحة لتقديم دعم إضافي لدعم موازنتها في كل أزمة من أزمات إيرادات المقاصة السابقة، وقد لاقت مناشدة السلطة استجابة من الاتحاد الأوروبي وبعض الدول المانحة والدول العربية، إذ كان هناك تدخلات خارجية عن طريق الدول المانحة في ثلاث حالات فقط، وهي التي طالت مدتها، غالباً مثلما حدث في أزمة سنة 2000، وأزمة سنة 2006، بالإضافة إلى أول أزمة التي حدثت في سنة 1997، إذ تدخل الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر وكذلك بعض المانحين من خلال:[23]

• تقديم تسهيل ائتماني قصير المدى من الاتحاد الأوروبي European Union (EU) لمواجهة أزمة إيرادات المقاصة سنة 1997.

• تقديم تسهيل ائتماني خاص من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى قروض من المانحين العرب من خلال البنك الإسلامي للتنمية، ضمن مشروع دعم الخدمات الطارئة؛ وقام البنك بإدارة هذا التسهيل خلال أزمة إيرادات المقاصّة في سنة 2000.

• أما أزمة إيرادات المقاصّة في سنة 2006، فتم مواجهتها بآلية عمل دولية مؤقتة، لتوجيه مسار أموال المانحين خارج إطار السلطة الفلسطينية، لدفع المخصصات مباشرة إلى كوادر الخدمة المدنية والنفقات الخاصة بالخدمات الأساسية، تحت بنود الموازنة خارج بند الأجور.

وخلال الأزمات الخاصة بإيرادات المقاصة التي حدثت خلال الفترة 2011–2019، بدأت السلطة الفلسطينية البحث عن شبكة أمان عربية بديلة عن الدول المانحة التي تخلت عن السلطة الفلسطينية استجابة للتهديدات الأمريكية، نتيجة توجه السلطة الفلسطينية للحصول على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة، وكذلك انضمامها للمنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي توجّهت للدول العربية للالتزام بتوفير شبكة الأمان العربية التي تقدر بـ 100 مليون دولار لدعم الموازنة العامة الفلسطينية، والتي تعهد بها زعماء الدول العربية في القمم العربية التي عقدت في تلك الفترة.

وفي هذا الصدد فإن الدول العربية لم تلتزم بتعهداتها المالية لصالح شبكة الأمان باستثناء السعودية التي تدفع حصتها البالغة 14% بشكل مستمر كل ثلاثة شهور، أي ما يعادل 20 مليون دولار، وهو ما يفسر اتجاه السلطة الفلسطينية إلى الاستدانة المحلية من البنوك الفلسطينية لمواجهة أزمتها المالية الناتجة عن أزمة إيرادات المقاصّة.[24]

2. تطبيق إجراءات تقشفية:

واجهت الحكومة الفلسطينية أزمة إيرادات المقاصّة بالإجراءات نفسها في معظم الأزمات التي حدثت، وهي إجراءات تقشفية تمثلت بدفع نسبة من الراتب (60%)، وبحد أدنى 2000 شيكل (نحو 562 دولار أمريكي)، وراتب كامل لمن يتقاضى راتب أقل 2000 شيكل.
ولتخفيف أثر التقشف على الموظفين، كانت سلطة النقد الفلسطينية تصدر تعليمات إلى البنوك الفلسطينية تتمثل في عدم خصم ما يزيد عن 50% من قيمة القسط المستحق، وعدم تجاوز الخصم 50% من القيمة المحوّلة لراتب الموظف الحكومي، وعدم استيفاء المصارف لعمولة الشيكات المعادة، وألا تتجاوز الشيكات قيمة راتب الموظف.[25]

3. الاستدانة من البنوك المحلية:

أقدمت الحكومة الفلسطينية على الاقتراض من البنوك العاملة في السوق المحلية، في الأزمات التي حدثت وخصوصاً في الأزمات التي لم يكن الدعم الدولي بجانب الإجراءات التقشفية كافية لتجاوز الأزمة المالية ووقف الانهيار الاقتصادي، ولكن هذا أدى إلى تراكم الديون على الحكومة في السنوات التي حدثت بها أزمة.

سابعاً: مقاربة اقتصادية لمعالجة أزمة إيرادات المقاصة المتكررة ومعالجة أزمة الاقتصاد الفلسطيني:

من غير المعقول والمقبول أن يبقى الاقتصاد الفلسطيني رهينة اتفاقية أبرمت قبل 26 عاماً في إطار شبه جمركي منقوص ومشوّه، وأعطت الحق للاحتلال الإسرائيلي التحكم والسيطرة بأهم مورد مالي للسلطة الفلسطينية “إيرادات المقاصّة”، بجانب تحكمها في سوق العمل والتجارة الخارجية والجهاز المصرفي واستخدامها كأوراق ضغط للابتزاز السياسي والمالي بشكل متكرر، باتت مشكلة حقيقية تتطلب إعادة التفكير الجاد لإيجاد حلّ جذري لهذه المشكلة من خلال مقاربة اقتصادية جديدة تعتمد بشكل أساسي على بناء “اقتصاد الصمود”، لدعم صمود الشعب في مواجهة الاحتلال على الرغم من استمرار الاحتلال، ضمن إطار التوجه نحو الانفكاك الاقتصادي.

إن تجربة التعاطي والتعايش مع نتائج فقدان السيطرة على الأدوات والسياسات الاقتصادية ضمن منظومة الواقع الاحتلالي خلال أكثر من عقد من الزمن كانت صعبة، طالت تأثيراتها مختلف القطاعات الاقتصادية الحيوية والمكوّنة للاقتصاد الفلسطيني، وعليه يقدم الباحث في هذه الورقة مقاربة اقتصادية جديدة لمعالجة أزمة إيرادات المقاصّة على وجه الخصوص، ومعالجة أزمة الاقتصاد على وجه العموم، مع الإدراك على أنه يكون من الصعب تنفيذها في الوقت الراهن ولكن لن يكون مستحيل.

وتعدُّ المقاربة تصور ورؤية استراتيجية واضحة وبمكونات سياساتية محددة، يمكن تنفيذها بشكل كامل أو بشكل جزئي، لتحقيق نتائج إيجابية لدفع عجلة الاقتصاد الفلسطيني نحو النمو والتطور، بالإضافة أنها تعالج أو على الأقل تخفّف من الاختلالات الهيكلية والتشوهات العميقة التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني.

ويعتمد تنفيذ هذا التصور على ثلاث مراحل، وفقاً لما يلي:[26]

1. المرحلة الأولى: تحديد اتجاه السياسات:

تتطلب المرحلة الأولى ضرورة الوضوح التام في تحديد اتجاه السياسات الاقتصادية المناسبة بحيث تكون في اتجاه سياسات اقتصاد الصمود، وبالتالي سيكون المطلوب تبني سياسات تدعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وضبط الإنفاق العام من خلال تبني سياسة مالية تقشفية، تكون قادرة على تحمل الضغوط المالية تحقيقاً لسياسات “اقتصاد الصمود”، وإعطاء الأولوية لدعم القطاع الخاص، والتوجّه نحو دعم قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة لإيجاد فرص عمل، ودعم القطاعات الإنتاجية (الزراعة، والصناعة، والسياحة)، وتشجيع الاستثمار وبناء البنية التحتية الممكنة لعمل هذه القطاعات، وخصوصاً في مجال الطاقة الذي يعدُّ من أبرز مصادر عدم التوازن مع “إسرائيل”.

2. المرحلة الثانية: تحقيق المصالحة ومعالجة آثار الانقسام:

ويتطلب في هذه المرحلة المضي قدماً نحو تحقيق المصالحة الفلسطينية وإعادة اللحمة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشكيل حكومة فلسطينية جديدة تباشر عملها في قطاع غزة كما تباشره في الضفة الغربية، والعمل تحت مظلة الوطن الواحد وإدارة الاقتصاد الواحد، تكون أولويتها معالجة آثار الانقسام والحصار من خلال الإجراءات والخطط والبرامج التي سوف تنفذها الحكومة الفلسطينية في إطار اقتصاد الوطن الواحد “اقتصاد المصالحة”.

3. المرحلة الثالثة: التنمية الوطنية الشاملة:

بعد تحديد اتجاه السياسة الاقتصادية الملائمة وتحقيق المصالحة ومعالجة آثار الانقسام، يتطلب تبني خطة تنموية وطنية شاملة؛ يتم التركيز فيها على إعادة النظر في فلسفة التخطيط التنموي الفلسطيني، وإعادة هيكلة كافة الإجراءات الحكومية في مجال إدارة الشؤون الاقتصادية والمؤسسات، والتخلص من البيروقراطية والإجراءات المعقدة والمثبطة لأنشطة القطاع الخاص، والمتسببة بشكل رئيسي في توسع الاقتصاد غير الرسمي (غير المنظم)، بحيث يتم العمل على وضع منظومة محددة ومهنية وشفافة لاتخاذ أي قرار اقتصادي من جانب، ودعم المنتج الوطني ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والعمل على تنمية التبادل التجاري بين فلسطين والدول العربيّة من خلال دعم وتفعيل مبادرة التكامل الاقتصادي الفلسطيني العربي، التي أطلقها منتدى الأعمال الفلسطيني الدولي في عمّان في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، والتي تهدف إلى تحرير الاقتصاد الفلسطيني من التبعيّة لـ”إسرائيل”، التوجه نحو الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وإعادة هيكلة نمط الاستهلاك للمواطن الفلسطيني بحيث تكون في نطاق إنتاجيته لا أن تكون في نطاق مستوى نصيبه من الدخل القومي المتاح، والذي يتأثر بقوة بحجم المساعدات والمنح الدولية، وإعادة هيكلة شاملة لقطاع التعليم، من خلال العمل الجاد على الارتقاء الحقيقي بكفاءة مخرجات المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل المحلية والدولية.

خاتمة:

إن التوجه نحو تطبيق هذه المقاربة الاقتصادية يأتي في سياق انفكاك التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال التي كرسها بروتوكول باريس الاقتصادي، خصوصاً وأن “إسرائيل” نجحت في ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي بشكل قسري، وأفرزت العديد من الاختلالات والتشوهات في البنية الاقتصادية، وحالت دون بناء اقتصاد وطني مستقل يعتمد على قدراته الذاتية وعلى موارده.

مع إدراكنا إلى أن تطبيق انفكاك التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال قد لا يكون سهلاً، ولكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلاً، وبالتالي هناك خطوات وإجراءات تستطيع الحكومة الفلسطينية تطبيقها، من شأنها إحداث تغيير جوهري في العلاقات الاقتصادية القائمة، خصوصاً لجهة إحداث إصلاح جوهري للتشوهات والاختلالات التي سببها الاحتلال من خلال السيطرة على الأرض والموارد والحدود والمعابر والسياسات، وذلك باتباع توجهات استراتيجية بديلة تحل محل الزواج الأبدي مع الاقتصاد الإسرائيلي، والأسواق الإسرائيلية، والوسطاء الإسرائيليين للحدّ من التبعية الاقتصادية وإضعاف هيمنة الاقتصاد الإسرائيلي على النشاط التجاري الفلسطيني، وهذا يمكن تطبيقه بتعزيز القدرات الذاتية للاقتصاد الفلسطيني، وتقليص الارتهان المعيشي الفلسطيني لـ”إسرائيل”، وتنويع العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية ودول العالم الخارجي، وكذلك تقليص قدرة “إسرائيل” على استغلال الاعتماد المفرط عليها لتمرير سياسة التعايش مع الإملاءات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإسرائيلية والتأقلم معها، عبر التوصل إلى ترتيبات اقتصادية وتجارية بين الاقتصاد الفلسطيني والدول المجاورة ودول العالم الخارجي، بما فيها “إسرائيل”، ولكن على أسس جديدة وخارج إطار بروتوكول باريس الاقتصادي، وذلك لتفكيك علاقة التبعية مع اقتصاد الاحتلال والحد من استخدام مثلث الأمن والسياسة والاقتصاد في التعامل مع الأراضي الفلسطينية، والانتقال بالاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد صغير وضعيف وتابع، إلى اقتصاد قوي ومستقل ذي قاعدة إنتاجية قادرة على إيجاد فرص عمل وتوفير منتجات وطنية محلية ذات جودة عالية وقادرة على المنافسة، وتحل محل المنتج المستورد، وخصوصاً المنتج الإسرائيلي.

ملحق رقم 1: تطور إيرادات المقاصّة ومساهمتها في الإيرادات المحلية والنفقات العامة خلال الفترة 1996–2019 (بالمليون دولار) [27]

ملاحظة: البيانات الخاصة بسنة 2020 هي من كانون الثاني/ يناير حتى تشرين الأول/ أكتوبر.


للاطلاع على الورقة العلمية بصيغة بي دي أف، اضغط على الرابط التالي:

>> ورقة علمية: أزمة إيرادات المقاصّة للسلطة الفلسطينية في سياقها السياسي وتداعياتها الاقتصادية … رائد حلس (25 صفحة، 23.5 MB)


الهوامش:
[*] باحث ومختص في الشأن الاقتصادي، باحث دكتوراه في فلسفة الاقتصاد، وله العديد من الكتب والدراسات والأبحاث العلمية والتقديرات المنشورة.
[1] مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، تقرير التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض المحتلة (جنيف: الأونكتاد، 2016)، ص 8.
[2] نعمان كنفاني وسلام صلاح، “تجميد أموال المقاصة: أزمة متكررة وآثار طويلة الأمد،” المراقب الاقتصادي والاجتماعي التقرير السنوي 2014 (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس وآخرون، 2015)، ص 30.
[3] المرجع نفسه.
[4] مازن العجلة، “القرصنة الإسرائيلية على إيرادات المقاصّة الفلسطينية: السياقات والخيارات والتداعيات،” المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، غزة، 2019، ص 5.
[5] “الفصل الثالث عشر: الاقتصاد الفلسطيني،” في صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2001 (أبو ظبي: صندوق النقد العربي، 2002)، ص 195.
[6] “الفصل الثالث عشر: الاقتصاد الفلسطيني،” في صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2017 (أبو ظبي: صندوق النقد العربي، 2018)، ص 249.
[7] مسيف جميل مسيف، كيفية الارتهان الاقتصادي في ظل برتوكول باريس الاقتصادي: الانفكاك الاقتصادي عن “إسرائيل”، مجلة سياسات، معهد السياسات العامة، رام الله، العدد 47، 2019، ص 9.
[8] آمنة النتشة، “سبل زيادة حجم وتنوع مصادر الواردات الفلسطينية المباشرة وتقليص الاعتماد على الواردات المعاد تصديرها إلى إسرائيل،” رسالة ماجستير، جامعة بيرزيت، رام الله، 2013، ص 13.
[9] مسيف جميل مسيف، كيفية الارتهان الاقتصادي في ظل برتوكول باريس الاقتصادي، ص 12.
[10] سلطة النقد الفلسطينية، التقرير السنوي 2013 (رام الله: دائرة الأبحاث والسياسات النقدية، 2014)، ص 5.
[11] الجدول من إعداد الباحث بالاستناد إلى أعداد مختلفة من تقرير الأونكتاد: التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض المحتلة.
[12] معاذ العامودي، في الاقتصاد السياسي لأزمة المقاصّة الفلسطينية، منتدى السياسات العربية، 2019، ص 9.
[13] الاحتلال يقتطع تعويضات أضرار الحرائق من ميزانية السلطة، موقع عرب 48، 11/6/2018، انظر: http://bit.ly/2TOHsWB
[14] أحمد ملحم، إسرائيل تقتطع قرابة 13 مليون شيكل من أموال الضرائب لصالح متهمين بالتعامل معها، موقع المونيتور، 3/9/2019، انظر: http://bit.ly/2Uc6cXI
[15] رائد حلس ومحمود عيسى، “التحديات الاقتصادية للأمن القومي الفلسطيني،” في الأمن القومي الفلسطيني: مرتكزات وتحديات (غزة: مركز التخطيط الفلسطيني، 2016)، ص 108.
[16] سوسن الهدهد، “التسرب المالي لدى خزينة السلطة الفلسطينية وعلاقته بالمستوردات غير المباشرة،” رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح، نابلس، 2010، ص 103.
[17] حنين حميض، “تأثير المقاصة على الإيرادات الضريبية في فلسطين من (1995-2005)،” رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح، نابلس، 2006، ص 80.
[18] الأونكتاد، تسرب الإيرادات المالية الفلسطينية إلى إسرائيل في ظل بروتوكول باريس الاقتصادي (نيويورك وجنيف: الأونكتاد، 2014)، ص 39.
[19] المرجع نفسه، ص 41.
[20] “الفصل الثالث عشر: الاقتصاد الفلسطيني،” في صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2018 (أبو ظبي: صندوق النقد العربي، 2019)، ص 253.
[21] وسيم صافي، أزمة إيرادات المقاصّة وأثرها على بنود الموازنة الفلسطينية خلال نصف العام 2019، مجلة المرساة المصرفية، العدد 24، سلطة النقد الفلسطينية، رام الله، 2019، ص 17.
[22] نعمان كنفاني وسلام صلاح، “تجميد أموال المقاصة: أزمة متكررة وآثار طويلة الأمد،” ص 31.
[23] صندوق النقد الدولي، “الضفة الغربية وقطاع غزة: المستجدات الأخيرة في إيرادات التخليص،” تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ص 9.
[24] معاذ العامودي، في الاقتصاد السياسي لأزمة المقاصّة الفلسطينية، ص 13.
[25] تعليمات سلطة النقد للمصارف الفلسطينية، سلطة النقد الفلسطينية، رام الله، انظر: http://bit.ly/2x0IiXc (شوهد بتاريخ 16/3/2019).
[26] تم الاستعانة في صياغة مراحل المقاربة الاقتصادية بالمراجع التالية: مسيف جميل مسيف، كيفية الارتهان الاقتصادي في ظل برتوكول باريس الاقتصادي؛ ورائد حلس، سياسات لانفكاك الاقتصاد الفلسطيني من التبعية مع الاحتلال الإسرائيلي، مجلة شؤون فلسطينية، مركز الأبحاث الفلسطيني، رام الله، العددان 273 و274، خريف 2018 – شتاء 2019.
[27] الإيرادات والنفقات ومصادر التمويل للسلطة الوطنية الفلسطينية، سلطة النقد الفلسطينية، رام الله، 2020، انظر: http://bit.ly/2TJDQnE

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 7/1/2021



جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: