مدة القراءة: 5 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

يبدو أن الموجة المضادة للثورات وحركات النهضة في المنطقة العربية قد وصلت إلى مداها؛ وبدأت تظهر عليها مظاهر الانهاك والاستنزاف، وبدأت الشقوق والصدوع تظهر في جدرانها، بحيث بدأت تتجه نحو الانحسار.

تميل دراسة اتجاهات ومسارات الأحداث للسنوات الثلاث القادمة، التي قام بها كاتب هذه السطور، إلى ترجيح فرص صعودٍ لقوى التغيير والنهضة، وتحسن إمكانات تموضعه في البيئة الاستراتيجية للمنطقة، بالرغم من استمرار المعركة الشرسة مع القوى المضادة للإصلاح والتغيير، مستفيدة من تصاعد عناصر الأزمة لدى القوى المضادة، ومن المراجعات التي تقوم بها تيارات التغيير، ومن تراكم الخبرة وإعادة تنظيم نفسها وتطوير أدائها.

لقد حافظت قوى التغيير، وخصوصاً التيار الإسلامي المعتدل الذي كان له دور ريادي في قيادة “الربيع العربي”، على أنويتها الصلبة وعلى تماسكها، وتمكنت من امتصاص الموجات الكبرى، بل وأخذت زمام المبادرة في عدد من البلدان وإن بدرجات متفاوتة. وبالرغم من أن الفجوة بين الطرفين ما زالت كبيرة، فإنها توقفت عن الاتساع، وتزايدت الفرص أمام القوى النهضوية لترتيب أوراقها، وإحداث اختراقات في المدى الوسيط. إلا أنه من السابق لأوانه الحديث عن الاقتراب من “النقطة الحرجة”، لامتلاك أدوات التغيير والتمكين.

نتوقف هنا عند عدد من المؤشرات البارزة التي تصب في الاتجاه الذي أشرنا إليه أعلاه:

1. تتجه السعودية نحو مزيد من الاستنزاف والفشل والتراجع في إدارة ملفاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، إذا ما أصرت على متابعة السياسات نفسها. وستتصاعد الأثمان والأعباء ودرجات الاحتقان الداخلي والضغوط الخارجية، نتيجة القمع الداخلي للمنافسين المحتملين في العائلة، وللعلماء ورجال الإصلاح، ونتيجة السير في مسارات التطبيع واسترضاء الجانب الأمريكي والإسرائيلي، ونتيجة الفشل في إدارة الحرب في اليمن، وفي إدارة حصار قطر، وفي إدارة النزاع مع إيران، وفي استعداء تيارات “الإسلام السياسي” في المنطقة.

إن الميزانية العسكرية السعودية تزيد عن 80 مليار دولار سنوياً، وهي ثالث أكبر ميزانية عالمية بعد أمريكا والصين، ومع ذلك يتم استنزافها بطرق غير مجدية وبكفاءة أقل.

أما المسار الاقتصادي والإجراءات تجاه العمالة الوافدة، فقد أثبتت حتى الآن عدم جدواها، وتضرر الاقتصاد السعودي بسببها.

ثم إن ملف خاشقجي رحمه الله قد تسبب بنتائج كارثية على النظام السعودي ومكانته في البيئة الدولية، فضلاً عن انعكاساته الداخلية السلبية.

2. ما تظن السعودية أنه إدارة “ذكية” للملف اليمني، ثبت أنه وصفة لإدارة “كارثية” على اليمن والسعودية كلتيهما. فالرغبة في إبقاء اليمن ضعيفاً تحت الجناح السعودي، مع الرغبة باستبعاد قوى الإصلاح (الإسلام السياسي) ومحاربة أي تحول نهضوي ديموقراطي، باعتبار ذلك نقيضاً لمنظومة وطبيعة الدولة السعودية وبنيتها السياسية؛ مع الرغبة في الوقت نفسه في إضعاف الحوثيين… كل ذلك أدخلها في إدارة معادلة دمرت اليمن، وأنهكت السعودية، لكن الحوثيين والإيرانيين خرجوا كطرف رابح حتى الآن من الصراع. والأفق القريب والوسيط يحمل مزيداً من الفشل والاستنزاف للطرف السعودي إذا واصل السياسات نفسها.

3. سيتجه المسار السعودي والإماراتي نحو تخفيف كثافة التدخل لدعم الأنظمة والاتجاهات المعادية بـ”الإسلام السياسي” وقوى التغيير، بسبب حالات الفشل التي مُنيا بها، وبسبب التكاليف المالية الكبيرة التي استنزفت جانباً مهماً من ميزانياتهما؛ مما خفف من حالة الاندفاع السابقة. والانسحابات الإماراتية من اليمن مؤشر يحتمل أن يتسع في الأيام القادمة. وهو ما يعني فرصاً أفضل لقوى التغيير للتحرك الشعبي.

4. تتجه دول الخليج إلى مراجعة العداء المكشوف لإيران، وتخفيف درجة “الغرور” أو الثقة بالنفس في إمكانية مواجهتها وإسقاطها من خلال الدعم الأمريكي والإسرائيلي. ولعل ضرب السفن في ميناء الفجيرة، وإسقاط إيران لطائرات أمريكية مسيرة، والتفجيرات التي حدثت لمنشآت أرامكو في ابقيق، تشير إلى استمرار مظاهر الابتزاز الأمريكي لدول الخليج، مع عدم وجود أي بوادر جدية أمريكية لمواجهة عسكرية مع إيران. ولذلك قد تضطر هذه الدول للعودة إلى حالة التعايش السابقة مع إيران؛ بالإضافة إلى السكوت عن النفوذ الإيراني الذي تم تحصيله في العراق وسورية واليمن، مقابل الحفاظ على بقاء وأمن الأنظمة الخليجية نفسها. والسلوك الإماراتي في تحسين العلاقة مع إيران يصب في هذا الاتجاه.

5. بالرغم من تفاعل دول “الاعتدال” الإيجابي مع “صفقة القرن” في البداية؛ إلا أنها اضطرت إلى التزام خطوات أكثر حذراً في استرضاء الأمريكان والإسرائيليين في ضوء الإجماع الفلسطيني على رفضها، وفي ضوء العداء الشعبي العربي لها، وفي ضوء أزمات أنظمة الاعتدال نفسها. إذ إن انكشاف علاقة عدد من الأنظمة بالعدو الصهيوني، وسعيها للتطبيع معه، وسيرها في ركاب “صفقة القرن”؛ انعكس بشكل سلبي على مكانة هذه الأنظمة وسط شعوبها، ولدى الأمة.

كما أن ملف اعتقالات الفلسطينيين في السعودية، وخصوصاً المحسوبين على حركة حماس، قد انعكس سلباً على صورة النظام السعودي في البيئة الشعبية العربية والإسلامية.

6. إن أزمات النظام المصري الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية مرشحة للتصاعد، وقد تتحسن بيئة عمل المعارضة… وما حدث مؤخراً من حراك وتفاعل شعبي مع تسريبات وتغريدات المقاول الممثل محمد علي، يعطي مؤشرات مقلقة للنظام؛ بغض النظر عمن يقف خلف محمد علي ومن يحاول أن يوظفه لأجندته. غير أنه ما زال أمام المعارضة التغييرية الحقيقية الكثير لتعمله، لإجبار النظام على تقديم تنازلات أو الدخول في مصالحات أو تغيير سلوكه السياسي.

7. إن الحراك الثوري الشعبي الحادث في السودان والجزائر، يثبت أن القوى الشعبية والشبابية لم تغادر مُربع التغيير، ولم يصبها اليأس، وأنها قادرة على الإبداع وتطوير الإمكانات وفرض شروطها، وعلى مفاجأة الأنظمة التي تظن أنها مُستقرة.

8. إن البلدان التي لم تنجح فيها الثورات، هي بلدان ما زالت غير مستقرة، وتعاني من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية مرشحة للتصاعد (مصر، اليمن، ليبيا، سورية)؛ وأن أنظمتها السياسية لا تستند إلى قاعدة شعبية صلبة؛ وأن المعارضة ما زالت تملك إمكانات تطوير ذاتها وأدائها.

9. تراجع قدرة الأنظمة الدولية و”إسرائيل” وحتى القوى الإقليمية، على التدخل المباشر، وعلى الدخول في معارك استنزاف طويلة المدى، ذات تكاليف هائلة. وإن المزاج العام الأمريكي والغربي لم يعد راغباً في التدخل العسكري المباشر؛ كما أنه غير قادر على التدخل بجيوشه في مناطق متعددة في وقت واحد، بالإضافة إلى أنه غير راغب في استمرار تدفقات اللاجئين إلى أراضيه… وبالتالي فإن صبر وإصرار قوى التغيير الحضارية المعتدلة على مسيرتها، وقدرتها على التعبئة والتحشيد وتقديم الحلول والرموز، سيعطيها فرصة قوية للصعود من جديد.

10. إن “تخبط” السياسة الأمريكية واستعداءها أو استفزازها لقوى دولية مختلفة، سيعطي دفعاً أكبر لقوى صاعدة للظهور بشكل أكثر فاعلية على المسرح الدولي كروسيا والصين والهند، كما قد يدفع قوى أوروبية لمزيد من السياسات الأكثر استقلالاً عن السياسة الأمريكية… ويعطي فرصاً أفضل للأداء السياسي لقوى التغيير في نظام متعدد القطبية.

11. إن حملات الدعاية والتشويه والشيطنة التي تعرضت لها قوى الإصلاح والتغيير (وخصوصاً التيار الإسلامي) قد انكشف زيف معظمها، ولم تعد تنطلي على الناس؛ بينما تأكدت مصداقية قوى التغيير تجاه الأنظمة الفاسدة والمستبدة. وإن هناك تراكماً في الخبرة والتجربة لدى قوى التغيير، للإعداد لموجة ثورية جديدة أكثر قوة ونجاحاً.

***

من جهة أخرى، فنحن ندرك أن الموجة المضادة لم تستنفذ أغراضها بعد، وأن الديكتاتوريات والأنظمة الفاسدة قد تزداد سوءاً. وأن الحملة على “الإسلام السياسي” قد تزداد وتشتد، وأن مشروع التفتيت الطائفي والعرقي ما زال مستمراً، وستجرى متابعته لتكريسه في سورية والعراق واليمن وليبيا والسودان؛ وأن الأوضاع في بعض البلدان قد تتجه نحو الأسوأ، وأن المشروع الصهيوني والإدارة الأمريكية اليمينية المتصهينة تريان أن هذا هو الوقت الأفضل لإغلاق الملف الفلسطيني من خلال “صفقة القرن”؛ كما أن الآفاق القريبة للقدرة على التغيير الجذري أمام التيارات الإصلاحية ما زالت غير قوية أو متضعضعة.

***

ولذلك، فقد تسير المنطقة نحو مزيد من الصعوبات والتعقيد والمعاناة في عدد من البلدان، غير أن قوس الأزمات بدأ يشمل قوى الموجة المضادة وينهكها، مما يفتح فرصاً متزايدة ستتسع مع الزمن لقوى التغيير، لأخذ زمام المبادرة وإطلاق موجة جديدة، في ضوء المشاكل المتعاظمة للأنظمة القائمة، وفشل المنظومة الإسرائيلية الأمريكية الغربية في فرض إرادتها على الأمة، مع ارتفاع تكاليف التدخل وتحوله إلى أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية داخلية لتلك البلدان.

المصدر:  موقع “عربي 21″، 27/9/2019


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: