مدة القراءة: 4 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

أكدت المواجهة الأخيرة بين العدو والمقاومة في قطاع غزة، التي استمرت على مدى ثلاثة أيام (3-6 أيار/ مايو 2019) أن الاحتلال الإسرائيلي لا يفهم إلا لغة القوة، وأن غزة تنتزع حقوقها وحريتها انتزاعا. وكنا حذرنا في مقال سابق، في معرض الحديث عن التفاهمات التي أُعلن عنها بين الطرفين في مطلع نيسان/ أبريل الماضي، التي انبنى عليها تخفيف الحصار عن القطاع وتيسير حركة الأفراد والبضائع، وتوسيع مساحة الصيد البحري، وتحسين خدمات الكهرباء والماء، من أن الطرف الإسرائيلي يتعامل معها في إطار تكتيكي، وأنه سينتهز الفرصة للتنصل منها، ومحاولة إفراغها من محتواها، ومتابعة السعي لإخضاع وتطويع القطاع وقواه المقاومة.

ففي يوم الجمعة الماضي (3 أيار/ مايو 2019)، تجاوز العدو الإسرائيلي التزامه بعدم استهداف مسيرات العودة بالقوة النارية، فقام بإطلاق الرصاص على المتظاهرين المدنيين، حيث استشهد أربعة منهم، كما استهدف عددا من عناصر المقاومة بعيدا عن المسيرات، وبمسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات. وعندما قامت قوى المقاومة بالرد على انتهاكات العدو، قام بتوسيع دائرة استهدافه لتشمل بيوتا ومنازل ومقار حكومية ومؤسسات إعلامية، واستهدف نشطاء المقاومة، فاغتال القيادي القسامي حامد الخضري، كما استهدف منزل القيادي بحركة الجهاد الإسلامي خالد البطش. وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد تم استهداف 350 موقعا في القطاع، منها 30 موقعا عسكريا لقوى المقاومة، بينما أشارت المصادر الفلسطينية إلى أن الهجمات الإسرائيلية أدت إلى استشهاد 27 فلسطينيا معظمهم مدنيون (بينهم أربع سيدات ورضيعان)، وإلى جرح 170، وإلحاق الدمار بـ700 وحدة سكنية، منها مئة دمرت بالكامل.

كان من الواضح أن الجانب الإسرائيلي يريد أن يثبت شروطه وقواعده في إدارة اللعبة، وأن يتعامل مع غزة كصاحب يدٍ عليا، وأن يُحدث حالة من “كيِّ الوعي” لدى المقاومة في القطاع. كما يبدو أن نتنياهو بعد فوزه في الانتخابات، وبين يدي تشكيله لحكومته اليمينية المرتقبة، أراد أن يؤكد “صقوريته” لدى ناخبيه، وأن يقدم لهم انتصارا سريعا يُسوِّق به نفسه لدى المجتمع الصهيوني، على حساب دماء ومعاناة أبناء القطاع.

ولكن، مرة أخرى، فقد أفشلت المقاومة رغبات ومخططات الجانب الإسرائيلي. وأدارت معركتها بوعي واقتدار، بالرغم من محدودية الإمكانات وضعف الدعم العربي والدولي. وتمكنت المقاومة من إدخال نتنياهو والجانب الإسرائيلي في مأزق حقيقي اضطره للعودة إلى التفاهمات، وأفرغ مكاسبه السياسية والإعلامية من محتواها، بل وجعله عرضة لانتقادات لاذعة من قادة وسياسيين وإعلاميين ومتخصصين إسرائيليين.

لم يكن هدف المقاومة كما ذكر قائد حماس إسماعيل هنية الذهاب إلى حرب جديدة، ولكن لجم العدوان، ومنعه من فرض قواعد اللعبة، وإلزامه بالتفاهمات التي سبق الوصول إليها. ولذلك، فإن إدارة المقاومة للمواجهة، من خلال استهداف مستوطنات “غلاف غزة” بالصواريخ، وتوسيع الاستهداف بشكل مدروس، قدّم المقاومة في صورة حكيمة وحازمة. وكانت قدرة المقاومة على تحقيق ضربات نوعية وإصابات مباشرة في الجانب الإسرائيلي، رسالة قوية، سرعان ما فهمها الإسرائيلي الذي طلب الهدنة، ووافق على الالتزام بالتفاهمات.

في هذه المرة، أطلقت المقاومة خلال يومين نحو 700 قذيفة وصاروخ، في بيئة يراقب فيها العدو بوسائله التَّجسُسية المتطورة كل حركة وسكنة. واعترف الجانب الإسرائيلي بمقتل أربعة وجرح أكثر من مئة. غير أن مقاطع الفيديو التي بثَّتها قوى المقاومة تثبت أن خسائره أكبر، وأن هناك ما يتعمد إخفاءه عن أعين مجتمعه الصهيوني، خصوصا في الجانب العسكري. فالضربة الصاروخية التي دمرت ناقلة الجنود، والضربة الصاروخية التي دمرت جيبا عسكريا، كلتاهما تشيران إلى وقوع خسائر كبيرة (يُقدّرها البعض بـ11 قتيلا في الناقلة و4 قتلى في الجيب)، لم يعترف الجانب الإسرائيلي حتى الآن بحجمها. واللافت في الأمر، هو الجانب الأخلاقي الذي تحلَّت به المقاومة عند ضرب صاروخها ناقلة الجند، حيث ظهر في مقطع الفيديو قطار ركاب، وهو يتحرك في مرمى الصاروخ، وكان يسهل استهدافه وإيقاع خسائر إسرائيلية كبيرة، لكن المقاومة ضربت هدفا عسكريا. وفي ذلك ردّ واضح على الادعاءات الإسرائيلية باستهداف المقاومة للمدنيين، وعلى ادعاءات أطراف في السلطة الفلسطينية حول “عبثية” أسلحة المقاومة، وعلى أنها مجرد “ألعاب نارية”. ثم إن الحقائق والأرقام أثبتت هذه المرة، كما تثبت في كل مرة، أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يتعمد إيقاع أكبر قدر من الخسائر في وسط المدنيين.

بالرغم من الخسائر الكبيرة في أوساط المدنيين التي تدفعها حركات التحرر في مواجهة الاحتلال والاستعمار، فإنه من الواضح أن ضربات المقاومة للعدو كانت موجعة. وهذا ما يفسر سرعة الطرف الإسرائيلي في الموافقة على الهدنة وفق شروط المقاومة، بغض النظر عن ادعاءاته الإعلامية. وقد استفادت المقاومة من عدم رغبة الطرف الإسرائيلي في إطالة أمد المواجهة؛ لأن الاحتلال كان يُرتب لإقامة احتفالات للجيش، ولإقامة احتفالات ما يُسمى “ذكرى الاستقلال”، وكان يُرتب لتظاهرة إعلامية دعائية سياحية كبيرة، من خلال استضافة تل أبيب المهرجان الموسيقي العالمي “يوروفيجين”، وكان يريد أن يُسوِّق نفسه كواحة للاستقرار السياسي والأمني والازدهار الاقتصادي، بينما كان استمرار المواجهة سيفضحه ويكشف عورته، وبشاعة مشروعه الاستيطاني، وجرائمه في حقّ الشعب الفلسطيني. ولذلك، فقد تلقى نتنياهو انتقادات قاسية من جهات إسرائيلية مختلفة عبرت عن خيبة أملها من أدائه، وعن استيائها من نتائج المواجهة، وكان من أبرزها تصريح بني غانتس، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق ورئيس حزب أزرق أبيض (المنافس الرئيس لليكود في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة)؛ الذي أشار إلى أن “إسرائيل” فقدت القدرة على الردع، وأن الطرف الإسرائيلي استسلم لما أسماه “ابتزاز” حماس ومنظمات المقاومة. بينما توقع عديدون أن هذه المواجهة هي مجرد جولة، ستتبعها جولات، وأن ما حدث هو مجرد إرجاء للحرب القادمة.

ومرة أخرى، ثمة حالة إحباط شعبية فلسطينية من أداء السلطة في رام الله؛ إذ بينما كانت غزة تواجه العدوان، تابعت السلطة تنسيقها الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وعقوباتها ضدّ قطاع غزة، ومطاردتها لقوى المقاومة في الضفة الغربية، بينما كان على السلطة القيام بواجبها تجاه القطع، كما كان عليها التقاط الدعوة التي أطلقها إسماعيل هنية في 27 نيسان/ أبريل 2019 لوحدة وطنية فلسطينية، ووضع رؤية استراتيجية لإسقاط “صفقة القرن”. لقد أثبتت هذه الدعوة رفض قوى المقاومة كل مترتبات “صفقة القرن”، وما يراد لغزة من فصل عن الضفة، وهو ما يرُدُّ على ادعاءات واتهامات عدد من قيادات فتح لحماس وقوى المقاومة بهذا الشأن، ويضع الكرة في ملعبهم لإثبات جديتهم في مواجهة “صفقة القرن”.

وهكذا، تنتزع غزة حقوقها وحريتها، وتعبر عن عزة وكرامة الأمة، وتفرض شروطها على العدو، في الوقت الذي يهرول فيه قادة وزعماء عرب لاسترضاء أمريكا و”إسرائيل” رغبا ورهبا. وتستعلي غزة على جراحها، بينما يسلقها “المخلفون” من أصحاب السلطان والعسكر والمال بألسنة حداد، ويطعنون ظهرها ويشاركون في حصارها. فلا نامت أعين “المُطبِّعين”!!

المصدر: موقع “عربي 21″، 10/5/2019


جميع إصدارات ومنشورات المركز تعبّر عن رأي كتّابها ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.



المزيد من المقالات والتحليلات السياسية: