مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

إذا كانت الشراكة والمصالحة الفلسطينية قرارا إستراتيجيا لحركتي فتح وحماس، فلتكونا أكثر وضوحا وحسما في التعامل مع استحقاقاتها.

وإذا كانت الشراكة تأتي تحت شعار “شركاء في الدم.. شركاء في القرار.. شركاء في المصير” فهذا يعني الشراكة في المسؤولية، وفي المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وفي صياغة البرنامج الوطني ومساراته وأولوياته.

والشراكة لا تعني استفراد الفصيلين الأكبرين (فتح وحماس) بالساحة وبالمناصب، وإنما تعني مشاركة جميع الفصائل والاتجاهات والأفراد في خدمة المشروع الوطني، كلٌّ حسب طاقته وإمكاناته، ولا بأس أن تفرز الانتخابات الحرة النزيهة شعبية وحجم كل فصيل، لينعكس ذلك على دوره في المؤسسات القيادية وصناعة القرار، فكما أن للمصالحة مزايا، فإن لها أثمانا وأعباء.

إذا كانت قيادة حركة فتح (وهي نفسها قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة الفلسطينية) ملتزمة بمسار التسوية السلمية وباتفاقيات أوسلو واستحقاقاتها وبشروط الرباعية، وبالاعتراف بـ”إسرائيل”، ونبذ المقاومة المسلحة، فلتكن صريحة مع حماس وقوى المقاومة، ولتقل لهم “على المكشوف” إن الشراكة المطلوبة يجب ألا تُغضب الطرف الإسرائيلي ولا الطرف الأميركي، ولا أطراف “الاعتدال العربي” ولا أعداء “الإسلام السياسي”.

يجب أن تقول فتح لحماس وقوى المقاومة: إن شراكتكم عبء لا تَحمِله ولا تتحمَّله أقدام منظمة التحرير ولا أقدام السلطة الفلسطينية.

إن مشاركة قوية لحماس وقوى المقاومة (بحسب حجمها الحقيقي في الشعب الفلسطيني) في قيادة السلطة ووزاراتها ومؤسساتها، خصوصا في الضفة الغربية، سيعني بالنسبة لـ”إسرائيل” عملا عدائيا، وستُتَّهم السلطة أميركيا وغربيا بالإرهاب، وستتعرض لحصار إسرائيلي، ولن تُحوَّل لها عائدات الضرائب التي تُعدُّ عمادا رئيسيا لميزانيتها، وستتوقف الدول المانحة عن تقديم مساعداتها للسلطة، وسيتم تعطيل أو إفشال أعمال المؤسسات وحركة الأفراد والاستيراد والتصدير، وبالتالي ستتحول هذه المشاركة إلى كابوس وعبء على الناس وحياتهم.

باختصار، السلطة سلطة وظيفية وهي مصممة لخدمة أغراض الاحتلال وليس للتخلص من الاحتلال، وعلى فتح وحماس والفصائل الفلسطينية أن تتفق أولا على تغيير وظيفة السلطة باتجاهات تتحدى الاحتلال وتستوعب العمل المقاوم أو توفر له الغطاء، قبل أن تتوافق على مجرد تشكيل حكومة توافق، أو إجراء انتخابات.

وإذا كان اللبيب بالإشارة يفهم، فإن تعطيل المجلس التشريعي الذي ملكت وتملك حماس فيه الأغلبية طوال السنوات الثماني الماضية، والعمل الدؤوب والتنسيق الأمني لاستئصال حماس أو تهميشها في الضفة الغربية، وحصار غزة والحروب الثلاثة الكبيرة التي تمّ شنها عليه، هي أكبر من مجرد إشارات على أنه لا مكان لحماس في العمل الإداري والقيادي في الضفة والقطاع ما دامت تتبنى الخط المقاوم.

من جهة أخرى، على فتح أن تكون صريحة أيضا مع حماس في موضوع الشراكة في قيادة منظمة التحرير وتقول لها إن مشاركتكم الفاعلة في قيادتها وصناعة قرارها يعني إسرائيليا وأميركيا وغربيا اتهام المنظمة بالإرهاب، ووقف عملية التسوية، وتعطيل تمثيل المنظمة في الأمم المتحدة، وتعطيل تمثيلها في عشرات الدول، ويعني وقف الدعم المالي عنها وربما سحب الاعتراف السياسي بها.

فلتكن فتح صريحة مع حماس وتقل لها إن “الإسلام السياسي” الذي تتبنونه ومدرسة الإخوان المسلمين التي تتبعونها، يسببان لنا عداءا إقليميا وعالميا، فإما أن تُغيّروا اتجاهاتكم وإما أن تتنحوا جانبا، فلدينا ما يكفينا من المشاكل والتعقيدات.

فلتقل فتح لحماس إنه ضمن المعايير والموازين الحالية فإن فوزكم في الانتخابات “مصيبة”، ومشاركتكم الفاعلة في القيادة وصناعة القرار عبء لا نتحمله. وعلى حماس ألا تقود الحكومة وألا تشارك فيها، إذا ما أريد للسلطة أن تستمر ضمن مساراتها الحالية المرسومة لها، والتي لا يمكن إلا لفتح أن تتولاها. وعلى حماس بغض النظر عن شعبيتها وقوتها وفوزها في الانتخابات أن تبقى على الهامش، لأن تولّيها للسلطة سيكسر ظهر السلطة!!

فلتقل فتح لحماس إنه إذا لم تقبلوا بالمعادلات والموازنات وشروط اللعبة وفق ما تفرضه البيئة الإسرائيلية والإقليمية والدولية، فلا تحرجونا، واجعلوا مشاركتكم “سكر خفيف” أو بما يتوافق مع “لزوم الديكور”، وليكن دوركم هامشيا بما ينشئ “وحدة وطنية” مشروطة بقيادة فتح، وترقص على أنغام التسوية السلمية.

وفي الجانب الآخر من المشهد، على حماس وفصائل المقاومة أن تكون أكثر صراحة ووضوحا مع فتح وتيار التسوية السلمية، ولتقل بصراحة إن مشاركتها الفاعلة في السلطة وفي المنظمة لن تكون دعما لمسار التسوية السلمية، وإنما لتعطيله وإيقاف عجلة تنازلاته، ولن تكون وقفا للمقاومة المسلحة، وإنما سعيا لتقويتها وشرعنتها وحمايتها.

على حماس أن تكون صريحة في أن تقول لفتح إنها غير معنية بأن تكون الظروف الإسرائيلية والعربية والدولية مواتية أو غير مواتية لخط المقاومة المسلحة ولـ”الإسلام السياسي”، وإنما هي معنية بالتعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني وعدم التنازل عن ثوابته، وإنها ترفض التكيُّف والتموضع وفق الظروف والمعادلات التي فرضها الإسرائيلي والأميركي والعجز العربي، وإن دخولها للسلطة هو لتغيير وظيفتها من سلطة وظيفية إلى سلطة مقاومة، وإن دخولها للمنظمة هو لرفع سقفها ولاستعادة أسس ميثاقها لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

ولتقل أيضا إنه لا يعنيها رضا هذا الطرف أو ذاك، ولكنها معنية بالارتقاء بالأداء الفلسطيني المؤسسي والعسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وترتيب البيت الفلسطيني لصناعة الظروف وفرض معادلات جديدة تؤدي إلى التحرير والاستقلال.

على حماس وقوى المقاومة أن تكون صريحة مع فتح فتقول لها “رجاء أفسحوا الطريق”!! يكفيكم 46 عاما من قيادة الشعب الفلسطيني واحتكار السلطة، وإن شرعيتكم القيادية ارتبطت بالمقاومة المسلحة و”ديموقراطية البنادق” وليس بالتسوية السلمية.

على حماس أن تقول لفتح إن مشاركتها أو قيادتها للسلطة أو المنظمة لا يقررها الجانب الإسرائيلي ولا الظروف والمعادلات العربية والدولية، وإنما الشعب الفلسطيني نفسه، وإن من حق الشعب الفلسطيني أن يُغيِّر قيادته، وأن يعيد النظر في اتفاقات أوسلو وفي بنية ووظيفة السلطة الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني إذا أعطى حماس الثقة فيجب أن تأخذ فرصتها كاملة على المستوى التشريعي والتنفيذي والقيادي.

على حماس أن تكون صريحة في أن تقول لفتح إن مسار التسوية السلمية، أدى للتنازل عن معظم فلسطين، وعطّل برنامج المقاومة، وأوصل القضية الفلسطينية إلى طريق مسدود، وإن الطرف الإسرائيلي استغله لمصادرة الأراضي والتهويد والاستيطان، وإنه ليس من حق قيادة فتح أن توقع الاتفاقات والتنازلات باسم الشعب الفلسطيني، وإن دخول حماس وقوى المقاومة للمنظمة سيعني وقفا لمسار التسوية السلمية بشكله الحالي، وإحياء لبرنامج المقاومة، واستعادة للثوابت الفلسطينية.

على حماس أن تقول لفتح بصراحة إنها لن تكون جزءا من الديكور، ولا شاهد زور في المشهد الفلسطيني، وإنها لن تعترف بـ”إسرائيل” ولا بشروط الرباعية الدولية، وإنها ستمضي في المقاومة وإنها لن تسمح بنزع سلاحها.

على حماس أن تقول لفتح بصراحة إنكم قد تحولتم إلى عبء على منظمة التحرير بعد تعطيل أو إلغاء معظم بنود ميثاقها، وبعد إثقالها بتسوية سلمية مجحفة تعاكس ثوابت المنظمة وأهدافها، وبعد تعطيلكم لمعظم دوائرها ومؤسساتها، وبعد تقزيمها إلى دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، وبعد فشلكم في استيعاب شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني في داخلها، وبعد تحويلها إلى مؤسسة فتحاوية تعبِّر عن أيديولوجية ومسار فصيل فلسطيني واحد.

وكذلك على حماس أن تقول لفتح بصراحة إنكم قد تحولتم إلى عبء على السلطة الفلسطينية لأنها بدل أن تتحول من حكم ذاتي إلى دولة مستقلة، تحولت تحت قيادتكم إلى سلطة وظيفية تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني، وتطارد المقاومة، وتنفق على الأمن أكثر مما تنفق على التنمية، وتُكبِّل نفسها بسياسات الدول المانحة المؤيدة لـ”إسرائيل”، وتبني اقتصادا رعويا استهلاكيا يُكرس الاحتلال، وليس اقتصادا إنتاجيا مقاوما ينهي الاحتلال.

وهكذا، فإذا ما التزم كل طرف بمساره -في التسوية أو المقاومة- فإن الشراكة الفلسطينية لن تعني سوى وضع المشاكل تحت السجادة، أو السير في حقل ألغام تنفجر قنابله عند كل قرار أو عند كل خلاف، وما موضوع حرمان موظفي قطاع غزة -الذين عينتهم حكومة هنية- عنا ببعيد.

إذا كانت حماس غير قادرة وغير راغبة في دفع الأثمان والاستحقاقات التي دفعتها فتح في مسار التسوية، وإذا كانت فتح غير قادرة وغير راغبة في دفع الأثمان والاستحقاقات المتعلقة باستيعاب خط المقاومة، وبمراجعة مسار أوسلو ووظيفة السلطة الفلسطينية، فإن كل طرف سيكون عبئا على الآخر وسيتعامل معه تكتيكيا، سعيا في النهاية إلى تهميشه أو الحلول مكانه.

إن المسارات المتعارضة لا يمكن إلا أن تؤدي إلى “شراكات متشاكسة”، وإلى عمليات “إفشال متبادلة”، وستفتح المجال للتوظيف الإقليمي والدولي للخلافات ودعم طرف ضد آخر، وهو ما سيعني عمليا استمرار الانقسام، واستمرار حالة “التيه” الفلسطيني وضياع البوصلة، وضياع الطاقات والجهود، وتردِّي وتراجع العمل الوطني الفلسطيني.

وفي العدوان الأخير على غزة، اجتمع مشهد الصواريخ التي تطلق من غزة لتقصف تل أبيب وحيفا، مع مشهد التنسيق الأمني الإسرائيلي مع السلطة في رام الله، ليعكس بؤس الشراكة الفلسطينية، وبالرغم من تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض بشأن التهدئة، فإن أبا مازن وعددا من قيادات فتح لم ينتظروا كثيرا بعد الحرب ليشنوا حملة عنيفة ضد حماس وقيادتها.

لا قيمة للشراكة إذا لم تكن رافعة للعمل الوطني الفلسطيني، وإذا لم تستند إلى أهداف كلية مشتركة ومسارات تتكامل مع بعضها وتُوظّف لخدمة الاتجاه العام وليس لتعطيله أو تعويقه.

إن مجرد وجود اتفاقات مصالحة أو شراكة لن يحل أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وإن لعبة تبادل الأدوار، أو توسيع هوامش إدارة الاختلاف يمكن أن ينجح بدرجة أو بأخرى، شرط ألا يكون التعارض إستراتيجيا وجوهريا. والنيات الحسنة مهمة جدا في عملية الشراكة وفي تجاوز الخلافات، ولكنها غير كافية لحسم المسارات الإستراتيجية.

والانتخابات الحرة النزيهة هي مدخل مهم لجهاتٍ تحترم التعددية وتداول السلطة، ولكنها غير كافية في الحالة الفلسطينية بسبب الصعوبات العملية التي تعترضها، كصعوبة تنظيمها في معظم التجمعات الفلسطينية خارج فلسطين، ولأن الطرف الإسرائيلي يملك القدرة على تعطيلها وإفشالها في الضفة الغربية. ثم إننا في مرحلة التحرير نحتاج للعمل الجبهوي وبناء التحالفات (مع احترام الأوزان)، والحذر من أن تكون الانتخابات مدخلا لتكريس الانقسام والتنافر الفصائلي.

ما هو مهم هو أن تكون هناك إرادة حقيقية صلبة، بحيث تضع الفصائل الفلسطينية وخصوصا فتح وحماس القضايا الجوهرية على طاولة البحث، حتى يتم الوصول إلى برنامج وطني فلسطيني يحدد الثوابت بشكل لا لبس فيه، ويحدد الموقف من مساري التسوية والمقاومة، ويفتح المجال لإعادة بناء شاملة لمنظمة التحرير ومؤسساتها، ويعيد تعريف السلطة الفلسطينية ودورها، ويحدد أولويات العمل الفلسطيني، ويرفض الارتهان للضغوط الخارجية وخصوصا الإسرائيلية والأمريكية.

عند ذلك نستطيع أن نتحدث عن أن القوى الفلسطينية أصبحت روافع لبعضها، وأنها جميعا تصب في المصلحة الفلسطينية.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 29/10/2014