مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

هناك مخاوف حقيقية من أن يصب الأداء البطولي المتميز في قطاع غزة في جيب العقلية التي تتحكم في السلطة الفلسطينية في رام الله، وفي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

الخشية هنا أن يقوم المؤمنون بمسار التسوية السلمية ونابذو العنف وخصوم العمل المقاوم بركوب موجة الترتيبات المتعلقة بالهدنة المتوقعة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وبين قوى المقاومة، بحيث توكل إليهم الترتيبات الميدانية على الأرض، بما في ذلك ضمانات التهدئة وإدارة المعابر، بالإضافة إلى إدارة الحياة اليومية في قطاع غزة.

ويبدو ذلك سياقا منطقيا في ضوء أن حكومة تسيير الأعمال التي تقودها حماس قد أنهت مهامها، وحلت مكانها من الناحية الرسمية حكومة التوافق الوطني برئاسة الحمد الله، وبالتالي ستكون هي المعنية بتنفيذ الاتفاقات والالتزامات.

أعطى الوفد الفلسطيني المفاوض في القاهرة، حتى الآن، انطباعا إيجابيا عن التماسك والإجماع الفلسطيني بشأن الهدنة وشروط وقف القتال، بما في ذلك فك الحصار وفتح المعابر وإنشاء الميناء البحري.. وغيرها. غير أن مسار اليوم التالي لإدارة الحياة في قطاع غزة يجب أن يصب في تقوية القطاع وتحصينه، وتعزيز مقاومته وصموده، وليس في تطويعه و”نزع أظفاره وأسنانه”.

***

إن الأداء الجهادي البطولي لحماس وقوى المقاومة يحتاج إلى ترجمة سياسية وميدانية على الأرض، تعكس صمود الشعب الفلسطيني وبطولاته وتضحياته، حتى لو تحققت شروط هدنة تستجيب لعدد من مطالب المقاومة. وبالتالي، فإن الحاضنة التي سيقع على عاتقها عبء التنفيذ يجب أن تكون مؤتمنة، أو على الأقل يجب أن يوجد من الضمانات ما يلزمها بالتنفيذ.

إن حرص حماس على تنفيذ اتفاق المصالحة، والترتيبات التي حدثت في اتفاق الشاطئ (23/4/2014) قد تمّ تفسيره على أن حماس ضعيفة ومنهكة وأنها جاءت وهي راغمة، وهو ما أثبتت حماس في حرب غزة (العصف المأكول) عدم صحته. غير أن الحسابات الإستراتيجية لا تلتفت فقط إلى عناصر القوة التنظيمية والشعبية والعسكرية لحماس. وهي تحاول أن تستفيد من بعض الثغرات الخطيرة المؤثرة على حماس وقوى المقاومة، ومن أبرزها:

– أن اتفاق المصالحة جعل تنفيذه منوطا من الناحية العملية بالرئيس عباس، وليس بأي آلية ملزمة له.

– أن اتفاق المصالحة أبقى من ناحية عملية المجلس التشريعي للسلطة معطلا بانتظار انتخاب مجلس جديد، وهو ما يمنع حماس التي تملك الأغلبية من ممارسة أي دور رقابي على السلطة التنفيذية في الرئاسة والحكومة.

– أن اتفاق المصالحة يقتضي فترة من الهدوء، لإيجاد أجواء مناسبة للانتخابات في الضفة والقطاع، وهو ما يعني عمليا توقف برنامج المقاومة على الأرض.

– أن اتفاق المصالحة أدى إلى إنهاء حكومة تسيير الأعمال برئاسة إسماعيل هنية، مما أفقد حماس “الشرعية السياسية”، التي كانت تمثل من خلالها الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة.

وفي مثل أجواء كهذه تتراجع وتتضاءل الروافع التي تستند إليها حماس (بعد انجلاء غبار المعركة مع العدو)، وخصوصا في جوهر قوتها المتعلق بشرعيتها الشعبية وببرنامجها المقاوم وبشرعيتها السياسية.

***

من جهة أخرى، فإن حكومة التوافق الوطني التي شكلها رامي الحمد الله كانت:

– أقرب إلى حكومة فتحاوية منها إلى حكومة توافق وطني حقيقي.

– تلتزم بسياسات الرئيس عباس وتوجيهاته، وهي توجيهات تظل أسيرة مسار التسوية واستحقاقاتها، وأسيرة الخصومة لتيار “الإسلام السياسي”.

– التجربة العملية لأدائها على الأرض أوضحت عدم رغبتها (أو عدم قدرتها في أحسن الظنون) على تنفيذ شراكة حقيقية مع حماس. وأنها تعاملت بطريقة كانت أقرب للاستجابة للمطالب والشروط الإسرائيلية الأميركية، منها إلى تنفيذ برنامج المصالحة الوطنية.

فقد أعلن أبو مازن أن الحكومة حكومته، وأنها ملتزمة بشروط الرباعية بما في ذلك الاعتراف بـ” إسرائيل” وبالاتفاقات الموقعة معها وبوقف المقاومة، وأكد أن التعاون الأمني مع الاحتلال هو تعاون “مقدس”، بينما ظل السلوك الأمني لأجهزة السلطة على حاله تجاه إطلاق الحريات وعودة المؤسسات المحسوبة على قوى المقاومة.

– شكّل رفض السلطة في رام الله دفع رواتب موظفي قطاع غزة، الذين قام العمل على أكتافهم نحو سبع سنوات متواصلة إشارة مفجعة عن العقلية المسكونة بالسقف الوظيفي لاتفاق أوسلو واستتباعاته المذلة، وأعطت رسالة متعجرفة لحماس أن لا مكان لها أو لأنصارها ليس فقط في المستوى القيادي والشراكة في قيادة السلطة، وإنما حتى على مستوى الموظفين العاديين، وذلك حتى لا يغضب “أرباب المال” من الداعمين الغربيين، ولا الإسرائيليون الذين يمسكون بصنبور (حنفية) دخول المال وخروجه وبحركة الناس فتحا أو إغلاقا.

وعلى ذلك، فبأي منطق يمكن أن تدير سلطةٌ وظيفية خاضعة للاحتلال (من رام الله) قطاعَ غزة، الذي فرض إرادته، وانسحب منه الاحتلال ودافع عن نفسه بكرامة وبطولة، وبنى قاعدة لوجستية حرة ومبدعة للمقاومة الفلسطينية. في هذه الحالة، فإن على السلطة في رام الله أن تتعامل مع المقاومة كرافعة للمشروع الوطني الفلسطيني، لا أن تقوم بتطويع المقاومة والقطاع للشروط الإسرائيلية والأميركية.

***

عندما شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على قطاع غزة بدا للحكومة في رام الله وكأن العدوان موجه لبلد آخر في كوكب آخر، وليس لقطعة من أرض الوطن، صحيح أن قيادة السلطة حسّنت من أدائها في الأيام التالية للحرب، وتواصلت مع قيادة حماس والجهاد تحت ضغط شراسة العدوان وإنجازات المقاومة والتفاف الناس حولها، ولكن:

– كان تفاعل قيادة السلطة مع الحدث بطيئا ومتأخرا، ودون المستوى المأمول بكثير.

– شاركت قيادة السلطة في رام الله في صياغة الورقة المصرية بالتنسيق مع الجانبين الإسرائيلي والمصري، من وراء ظهر المقاومة ودون علمها. وهي ورقة أقل ما يقال فيها إنها تنزع إمكانية تحقيق أي إنجاز للمقاومة، وتبقي فك الحصار ومستتبعاته رهينة بالمفاوضات بعد أن تصبح إسرائيل في وضع مريح، ولا تعاني أي ضغوط تجبرها على تغيير سياستها.

– تابعت السلطة في رام الله تنسيقها الأمني مع الجانب الإسرائيلي في أثناء العدوان على غزة، بينما كانت الأيدي الإسرائيلية تتلطخ بدماء أكثر من 1900 فلسطيني، وبجراح عشرة آلاف آخرين، وبتدمير آلاف المنازل، بالإضافة إلى تدمير المدارس والمستشفيات والبنى التحتية.

– سعت السلطة في رام الله إلى ضبط الغضب الشعبي، ومنع تحوله إلى انتفاضة عارمة في الضفة الغربية، مع سماحها بعد ذلك للناس بـ”التنفيس” عن مشاعرهم، ضمن شروط وقيود تمنع الاحتكاك مع الاحتلال الإسرائيلي.

– لم تقم قيادة السلطة بمعالجة فضيحة إعلان مندوب فلسطين في الأمم المتحدة إبراهيم خريشة لتلفزيون فلسطين أن صواريخ المقاومة التي تطلق ضد “إسرائيل” هي جريمة ضد الإنسانية، ولم تتخذ أي إجراء بحقه، فإذا كان خريشة لا يستطيع التفريق بين الصواريخ الإسرائيلية وبين صواريخ المقاومة، فلا أظن أنه في وضعٍ يمكنه من تمثيل الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.

***

البيئة الإقليمية صبت في إضعاف قدرة المقاومة على استثمار إنجازاتها، فالأنظمة العربية “المعتدلة” و”الممانِعة” تركب موجة مرتدة ضد الثورات والتغيرات في المنطقة، وهي تستنفد جهودها في العداء للتيارات الإسلامية الحركية (وخصوصا الإخوان المسلمين) التي برزت في قيادة موجة التغيير، باعتبارها خطرا على أنظمتها ومستقبلها.

نظام السيسي في مصر نفذ أقسى إغلاق للمنفذ العربي الوحيد مع القطاع، وبشكل أشد قسوة من الحصار الإسرائيلي للقطاع، ودمر الأنفاق مع القطاع ( نحو 1650 نفقا) وبشكل أكثر كفاءة من نظام مبارك السابق، وقدم مبادرة للتهدئة تخدم الجانب الإسرائيلي أكثر مما تخدم المقاومة، وتعنَّت في فتح معبر رفح أكثر من التعنت الإسرائيلي.

ولسنا في معرض مناقشة العديد من التقارير(وخصوصا الإسرائيلية) التي تعبر عن سعادة النظام المصري بالضربات الإسرائيلية للقطاع، ورغبته في توجيه الإسرائيليين ضربة قاصمة لحماس، غير أن الأداء السيئ والمشوِّه للإعلام المحسوب على النظام المصري (العام والخاص) تجاه العدوان على القطاع، يكشف جانبا من حقيقة موقف النظام.

ويعكس البرود اللافت بمواقف عدد من أنظمة “محور الاعتدال” رغبة داخلية بسقوط حماس، وحالة انتظار قلقة تريد إغلاق الملف بالسرعة الممكنة. هذا إذا وضعنا جانبا تلك التقارير التي تتحدث عن تواطؤ مسبق بين دول هذا المحور وبين الجانب الإسرائيلي لإسقاط حماس والمقاومة في غزة.

أما قوى “الممانعة” فقد كان برود مواقفها لأيام عديدة تجاه ما يحدث في غزة لافتا أيضا، ولحقت بالركب الداعم للمقاومة على نحو بطيء ومتأخر، بعد أن أذهلت المقاومة العالم بإنجازاتها وصمودها، وبدا أن هذه القوى مستهلكة ومستغرقة في الأجندات الداخلية للأنظمة والجهات الحليفة لها، والتي لها مشاكل مع شعوبها.

***

وتواجه حماس وقوى المقاومة بيئة دولية تقودها أميركا، تدعم الجانب الإسرائيلي، وتدعم توجهات ضرب المقاومة وضرب “الإسلام السياسي” ومحاصرته. وبالرغم من اتساع التعاطف الشعبي العالمي مع المقاومة ومع قطاع غزة، إلا أن القوى الفاعلة في السياسة الدولية ما زالت توفر الغطاء للجانب الإسرائيلي لارتكاب حصاره وعدوانه ومجازره، وما زالت سدا في وجه إمكانية ترجمة أداء المقاومة لانتصارات سياسية.

***

وعلى ذلك فإن هذه المعركة (العصف المأكول) بقدر ما تفتح من الفرص، بقدر ما تفتح من المخاطر والتحديات، وستحرص القوى الإقليمية والدولية على إفراغ انتصارات المقاومة من محتواها، وستحرص على أن تستلم إدارة القطاع جهة فلسطينية ملتزمة بمسار التسوية وبسقف أوسلو، تدير القطاع بمعايير الاحتلال في الضفة الغربية.

وبالتالي، فإن الذي سيقدَّم لحماس وقوى المقاومة قد يكون “هزيمة بطعم النصر”، إذا لم تحسن إدارة مخرجات الحرب. لقد شكلت المعركة رافعة كبيرة للمقاومة، ولكن لا ينبغي أن يسقط مَطَرُها في حضن أولئك الذين لا يؤمنون بها، وألا يحصلوا هم على “خراجها”.

وحتى يتمّ تجاوز هذا الخطر المحتمل، فينبغي الاتجاه ليس فقط إلى ترتيب هدنة مع الاحتلال تنهي الحصار، وإنما بإعادة ضبط النسق الداخلي الخاص بالمصالحة الفلسطينية وترتيب البيت الفلسطيني، بحيث:

1- تتعهد الرئاسة وحكومة التوافق الوطني بالالتزام بروح اتفاق المصالحة، خصوصا في استيعاب وتمثيل كافة مكونات وفصائل الشعب الفلسطيني، وينطبق على ذلك مشاركتها الفاعلة في إدارة منظمة التحرير، ومؤسسات السلطة في الضفة والقطاع، واستيعاب موظفي قطاع غزة ممن عينتهم حكومة هنية السابقة.

2- أن تعلن كافة الفصائل وقيادة المنظمة والسلطة أن سلاح المقاومة هو خطّ أحمر، وأنه لن يكون عرضة للنزع أو المطاردة من أي جهة كانت.

3- أن يتم تفعيل الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني، ويكون هو الجهة المعنية بالتوجيه والقيادة حتى تتم إعادة تشكيل قيادة منظمة التحرير على أسس سليمة.

4- أن يعلن محمود عباس وقيادة السلطة أنها ليست جزءا من الحرب على ما يسمى “الإسلام السياسي”.

5- أن تتم عملية إصلاح أجهزة السلطة في رام الله، وإطلاق الحريات وإعادة بناء منظمة التحرير بالتوازي مع عملية استلام حكومة التوافق لمهامها في القطاع.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 17/8/2014