مدة القراءة: 7 دقائق

بقلم: د. جوني منصور (خاص – مركز الزيتونة).

أولاً: محاولة استخراج مدى تناغم المؤسستين وكيفية تعاملهما مع قطاع غزة: 

كما يعلم كثيرون فإن المستويين السياسي والعسكري في “إسرائيل” متناغمان في معظم مركبات العمليات العسكرية أو المعارك التي تشنها “إسرائيل” بين فترة وأخرى.

يتمثل المقصود بالتناغم في النقطة الأولى: بناء الخطة الحربية وفقاً للأهداف التي ترسمها الحكومة، أي المستوى السياسي. وبالتالي مناقشتها وفقاً للأسس العسكرية مع قيادات الجيش.

النقطة الثانية: بناء عملية ترويج الخطة للجمهور الإسرائيلي بالتعاون مع كافة مؤسسات الإعلام في “إسرائيل”.

النقطة الثالثة: عملية الترويج المستمرة قبل وخلال وبعد العملية العسكرية، باللجوء إلى التحليلين السياسي والعسكري معاً وعلى طاولة واحدة. هذه النقاط تؤكد لنا مدى التوافق بين المستويين السياسي والعسكري. وخصوصاً في مسألة العدوان/ الحرب على غزة في تموز/ يوليو 2014. لكن فترة التناغم ليست مستدامة بين المستويين، خصوصاً وأن المستوى العسكري يعمل على الأرض، وليس في مكاتب مفروشة كتلك التي يجلس فيها رجال السياسة وصناع القرار.

بمعنى آخر، أن الجيش يواجه المقاومة الفلسطينية ميدانياً بما يملك من معلومات مسبقة، وطبعاً بما يملك من آليات حربية. لكن عامل المفاجآت كان أقوى بكثير من كل الخطط التي رسمها المستويان. فالمقاومة الفلسطينية في غزة ليست كما كانت قبل عامين. حصل تغيير جذري في أدائها، وتوجهاتها الاستراتيجية وقدراتها ومهاراتها الميدانية التكتيكية. وهذا العنصر فاجأ الإسرائيليين سواء المستوى السياسي أم المستوى العسكري. فالمستوى العسكري كان مزوداً بإضبارة سمينة من الأهداف والمعطيات التي ناقشها مع المستوى السياسي، ولكن ميدانياً جرت الأمور وتجري بطريقة ونمط مغاير كلياً.

ما تريده حكومة نتنياهو من حربها على غزة في مجمل أهدافها “المعلنة” توفير الهدوء لسكان منطقة النقب الغربي والمركزي ومحيط غزة. على الجيش القيام بكل مهمة تحقق هذا الهدف. لكن الهدف المركزي هو تدمير حركة المقاومة الفلسطينية بكل ثمن، ومهما كانت كلفة ذلك، لفرض أجندة سياسية إسرائيلية على القيادات الفلسطينية، للتوقيع على مزيد من التنازلات عن الأرض وامتيازات لصالح “إسرائيل” ومشروعها التوسعي.

إن حكومة “إسرائيل” تعدُّ قطاع غزة منطقة تؤوي “إرهابيين” وفقاً لرؤيتها. وبالتالي فإنها تشكل خطراً على مستعمراتها المحيطة بالقطاع. وترى في غزة لعنة يجب التخلص منها. إن ما احتاجت إليه “إسرائيل” هو ذريعة، مع العلم أنه لا ينقصها اصطناع الذرائع. لكنها اختارت ذريعة الأنفاق واعتبرتها خطراً محدقاً بها. وتصر على تصفية الأنفاق بكل ثمن، حتى خلال الحديث عن اتفاقات التهدئة/الهدنة تصر “إسرائيل” على جعل موضوع تصفيتها وتدميرها للأنفاق، خارج أي اتفاق. والأنفاق معروفة لـ”إسرائيل” من فترة طويلة، وهذا ليس بالسر بالمطلق. وبالتالي فإن كل القطاع هو عبارة عن شبكة أنفاق، وهذا يعني تدمير كل القطاع، مجازياً.

ولكن فعلياً هذا ما تقوم به “إسرائيل”، على الأقل في المناطق الشرقية من القطاع بموازاة الحدود مع “إسرائيل”. وبالتالي إيجاد منطقة أو نطاق فارغ بعد تدمير آلاف البيوت وجرف الأرض، كجزء من محاولة ضمان عدم تحرك أي فلسطيني في هذه المنطقة. لكن هذه المنطقة المفرغة كلياً من الفلسطينيين لن تضمن أي أمن واستقرار لسكان المستعمرات المحيطة بالقطاع.

ثانياً: النظر في انعكاسات الحرب على صناعة القرار في “إسرائيل”:

إن صمود المقاومة في غزة لفترة طويلة، لم يكن متوقعاً من قبل المستويين السياسي والعسكري، وبالتالي فقد خلط الأوراق في المحافل السياسية في “إسرائيل”، وبخاصة لدى أوساط صناع القرار.

انقسم صناع القرار، وهم ما يطلق عليه في “إسرائيل” بـ”الكابينيت”(مجلس الوزراء المصغر)، والذي يضم رئيس الحكومة ووزير الجيش ووزير الخارجية ووزراء آخرين من الائتلاف الحكومي، إلى معسكرين: الأول يقوده نتنياهو ووزير جيشه، والثاني يقوده ليبرمان وزير خارجية “إسرائيل” ووزير الصناعة بينيت من البيت اليهودي. وهذا يعني صراعاً داخلياً في الكابينيت بين اليمين (نتنياهو وحزب الليكود)، وبين اليمين المتطرف (ليبرمان وحزبي إسرائيل بيتنا والبيت اليهودي). وكذلك فإن حكومة نتنياهو منقسمة على نفسها جوهرياً وضمنياً ولكنها تحاول حتى الآن ألا تُظهر هذا الأمر علناً، وإن كان سيأتي اليوم الذي تظهره. إن نتنياهو لا يريد توسيع العملية الحربية أكثر مما هو مخطط لها مسبقاً. لكنه أسير حزبين يمينيين متطرفين جداً يرغبان في أن يحتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة من جديد ويقضي نهائياً على المقاومة.

خلال مجريات الحرب على غزة ومن بعدها ستظهر الشقوق في أرضية الائتلاف الحكومي، وذلك على خلفية “لعنة غزة”. وستتسع هذه الشقوق وتشهر السيوف بين أعضاء الائتلاف من الأحزاب السياسية التي تُكونه. وبالتالي سيؤدي هذا إلى: تفكك الحكومة والتوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أو عرقلة سير أعمال الحكومة الإسرائيلية على يد معارضة اليمين المتطرف.

ثالثاً: إلى أي مدى تخدم هذه الحرب أجندات خارجية، مثل إعادة سيطرة السلطة (أبو مازن) على قطاع غزة، ضرب الإسلام السياسي في المنطقة؟

لا شك في أن الحرب على غزة تندرج أيضاً، فيما تندرج به، تحت مسمى مزيدٍ من تصفية الحركات الإسلامية في المنطقة، بما فيها فلسطين. وهنا تلعب مصر دوراً مركزياً في هذا الميدان، حيث إن نهج “مصر السيسي” هو في تصفية “الإسلام السياسي” المتمثل بحركة الإخوان المسلمين والتضييق على حركة حماس باعتبارها فرعاً للإخوان؛ إذ إن تصفية أو إضعاف “الإسلام السياسي” سيشكل ضمانة بقاء للحكم الجديد في مصر، وبالتالي سيشكل ضمانة لبقاء العلاقات السياسية والمصالح المشتركة بين “إسرائيل” وبين مصر. وأيضاً سيضمن إبعاد شبح سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد الحكم في مصر أو في المناطق المحيطة بها. وهذا يعني أن مصر تريد محيطاً خالياً من “الإسلام السياسي” على نسق الإخوان. وهذا يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية المعادية للإسلام السياسي، والذي ترى فيه خصماً شرساً، يشكل خطراً مستقبلياً عليها.

أما فيما يتعلق بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، فهو أمر مسلم به من منطلق أسس الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تم الاتفاق عليها برعاية مصرية. وقد انبنى على ذلك اتفاق الشاطئ بين فتح وحماس في 23/4/2014، الذي وافقت حماس فيه على تشكيل حكومة وفاق وطني تَولَّى رئاستها رامي الحمد الله المحسوب على قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله.

سيفضل الطرف الإسرائيلي قيام السلطة الفلسطينية في رام الله بإدارة قطاع غزة وتحت إشراف أبي مازن، وهي جهة مفضلة أيضاً إقليمياً ودولياً؛ وذلك مقارنة بإدارة حماس للقطاع. فأبو مازن ملتزم بمسار التسوية السلمية، ويرفض العمل المقاوم المسلح، غير أنه يدرك أن قوى المقاومة لن تسلمه قطاع غزة إلا بضمانات عدم نزع سلاح المقاومة، وبالشراكة الوطنية في إدارة المشروع الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، وليس في قطاع غزة وحده؛ كما أن أبا مازن يدرك أنه قد يقع في مستنقع صراعٍ داخليٍ مرير إذا ما قرر التماهي مع سياسة ضرب الإسلام السياسي أو نزع سلاح المقاومة.
 
رابعاً: محاولة وضع اتجاهات متوقعة في مسار الأحداث:

1) إن أحد المسارات المتوقعة فور انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة إزالة جزئية للحصار، بمعنى فتح المعابر لأوقات طويلة، وإتاحة الفرصة أمام فلسطينيين بأعداد محدودة بالعبور إلى داخل “إسرائيل” للعمل والتجارة أو للعلاج. هذا لا يعني أن “إسرائيل” ستفك الحصار كلياً ودفعة واحدة. لأنه في حال قيامها بذلك فإنها تنسف نظرية دفاعها عن الجبهة الداخلية، لأنها أوهمت شعبها لفترة طويلة أن حصار غزة هو أحد ضمانات أمنهم وأمانهم.

2) ستكون هناك فرصة لإعادة العمل بميناء غزة البحري بشروط مقيدة، وهذا يعني توسيع مساحة الصيد دون بلوغ الحد الأقصى للمياه الإقليمية. غير أنه من المستبعد في المدى القريب أن تتيح “إسرائيل” إعادة ترميم وفتح مطار ياسر عرفات في غزة.

3) لن يتم تجريد حركات المقاومة، وخاصة حماس، من أسلحتها، في المدى المنظور، كما تطالب “إسرائيل” وتدعو إلى تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح. بل ستحافظ المقاومة على أحد أهم إنجازاتها بالحفاظ على السلاح الذي بين أيديها كجزء من عملية توفير الأمن للقطاع. وقد تحاول “إسرائيل” وبعض القوى الإقليمية والدولية تغذية مخاوف أبي مازن وقيادة السلطة من سلاح المقاومة، وستدفع باتجاه سيطرته ولو تدريجياً على هذا السلاح بذريعة “وحدانية السلطة” وضبط عملها وشرعيتها وعدم توريطها… كما فعل سابقاً في الضفة الغربية.

4) ستخلِّف إطالة أيام وأسابيع العدوان ظلالاً وتداعيات خطيرة على حكومة نتنياهو. إذ إنه يُقتل، باعترافٍ إسرائيليٍ، ثلاثة جنود بمعدل يومي من صفوف الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى عدم قدرة الإسرائيليين تحمل حالة طوارئ لفترة طويلة، بعكس ما يروج له الإعلام عن قدرتهم على الصبر. هذه الإطالة سيدفع ثمنها نتنياهو وحزبه في الأساس. وستشهر الخناجر من بين معارضيه في حزب الليكود، إضافة إلى معارضيه في الائتلاف الحكومي من أحزاب اليمين المتطرف كـ”إسرائيل بيتنا” والبيت اليهودي. إن خروج نتنياهو من هذه الحرب ليس كدخولها على صعيد مكانته وشعبيته. فـ”إسرائيل” الدولة والجيش تحارب غزة المدينة ومدن أخرى متلاصقة بها. أي إن جيش “إسرائيل” لا يحارب جيشاً نظامياً، ولم يستطع هذا الجيش حسم الحرب لصالحه في الأيام الأولى، وفقاً لنظرية القصف الجوي وإخضاع المقاومة للاستسلام. هذا هو الإخفاق بعينه.

5) إن انسحاب “إسرائيل” أحادي الجانب من المناطق التي اقتحمتها في غزة دون التوصل إلى أي اتفاق رسمي مع حماس، يحمل دلالات قوية تُشير إلى إصرار نتنياهو على عدم التفاوض مباشرة مع حماس كي لا يُعدُّ ذلك اعترافاً بهذه الحركة، غير أن حماس نفسها ترفض التفاوض المباشر مع “إسرائيل”؛ وترفض من ناحية مبدئية الاعتراف بها.

أضف إلى ذلك أن هناك من يرى في هذا الانسحاب تراجعاً عن التصريحات المستمرة لنتنياهو حول تكريس قوة الردع لـ”إسرائيل”، لكن واقع الأمر أن هذا لن يُحسِّن الردع الإسرائيلي مطلقاً. وهذا ما يؤكد لنا إدراك “إسرائيل” بمستوييها السياسي والعسكري أن الردع الإسرائيلي قد تراجع. وإذا لم يتحقق هذا الهدف في هذه الحرب على غزة، فإنه سيؤكد انتصار المقاومة على “إسرائيل” في معركة صراع الإرادات. وتعدّ قدرة “إسرائيل” على الردع ميزاناً لـثقة الجمهور بالحكومة والجيش، وإذا نزع الردع فهذا يعني انكسار وإخفاق الحكومة.

6) هناك أصوات إسرائيلية تنطلق في هذه الأيام مطالبة بتشكيل لجان تحقيق داخلية لدراسة الإخفاقات واستخلاص النتائج والعبر، ومن بينها لجنة للتحقيق في أداء المستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي. وليس مستغرباً على التجربة والتاريخ الإسرائيلي أن تشكل مثل هذه اللجان لاحقاً.

7) على الصعيد الدولي، تصرفت “إسرائيل” وكأنها دولة فوق القانون، ولا تخضع للحساب والعقاب، وبالتالي تمادت في عدوانها على المدنيين والبنى التحتية والخدماتية. حيث من الواضح أنها مطمئنة للغطاء الذي توفره الولايات المتحدة والقوى الغربية، كما أن تجربتها التاريخية تشير إلى أنها أفلتت دائماً من أي عقوبات دولية ضدها.

8) من جهة أخرى لن تترك هذه الحرب أثراً عميقاً على مكانة الجيش الإسرائيلي في الإجماع العام. هناك تشديد من قبل قيادة الجيش والمستوى السياسي على أن الجيش هو “العائلة”. وبهذا المفهوم الاجتماعي يتحول النظام العسكري إلى مشهد حياتي مهيمن على حياة ونشاط بل تفكير الإسرائيليين. وهذا يندرج تحت نظرية “الكل جيش” التي يروج لها ربابنة “إسرائيل” من سياسيين وعسكريين. أي أن المجتمع الإسرائيلي ومنذ تأسيس “إسرائيل” بل منذ بداية طرح مشروع الدولة اليهودية هو مجتمع مبني على أسس عسكرية محضة. الأسس العسكرية ترافق الإسرائيليين في كل نشاط وتحرك يقومون به. عملياً هذا الاحتضان الذي دفعت به حكومة نتنياهو جعل الإسرائيليين يعتقدون أنه بدون جيشهم هم إلى زوال سائرون. الاحتضان لا يعني التضامن فحسب بل التماهي مع كل خطوة يقوم بها الجيش.

قد يستغل نتنياهو مكانة الجيش كغطاء لضمان استمرارية حياته السياسية، بحيث يؤكد على أهمية دور الجيش في الحفاظ على الكيان، وأنه أي الجيش فوق كل الاعتبارات وأنه هو قد عمل بالتنسيق مع الجيش. لكن في “إسرائيل” السياسة تأخذ مجراها المختلف في حالة اللا حرب. بمعنى أن معارضي نتنياهو قد دعموه في الحرب، ولكن بعد الحرب سوف يشهرون سيوفهم وخناجرهم عليه.

9) وبالرغم مما سبق فإن نتنياهو سيواجه عقبات كثيرة في متابعة مسيرته السياسية. ولن يكون من السهل عليه مواجهتها. فقد بدأت ترتفع أصوات كثيرة في الأيام الأخيرة قبل إعلانه عن وقف العمليات الحربية من طرف واحد، تشير إلى إخفاق إسرائيلي في معالجة الأنفاق والصواريخ وسلاح المقاومة، وخاصة سؤال إخفاق المخابرات بكل مستوياتها في معرفة ما يجري بالتمام والتفاصيل في غزة. وهذا عامل مفاجأة لـ”إسرائيل” وجانب لم يتوقعه مخططو هذه الحرب. ويبقى السؤال: كيف سيدفع نتنياهو الثمن؟

يبدو أن ترك الساحة مفتوحة أمام الجيش الإسرائيلي للقيام بمزيد من عمليات قصف وتدمير في القطاع في أي ساعة يشاء، سيجعل حركة المقاومة غير ملتزمة بأي تهدئة من طرفها، وستواصل رشق المستعمرات الإسرائيلية بصليات من الصواريخ والقذائف. وسيوجد هذا الوضع حالة من التوتر الشديد والمتواصل، وسيؤدي إلى مزيد من القتل والدمار لغزة ومواطنيها في الأساس. مقابل أنه لن يوفر للمستوطنين وسكان “إسرائيل” في غلاف غزة أي حالة من الهدوء.

وسيطالب نتنياهو بدفع الفاتورة سياسياً على قراره هذا، وبالتالي إخفاقه العسكري في حسم المعركة وتركيع غزة.

10) أتاح العدوان على غزة والأداء القوي للمقاومة فرصة متميزة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، والتعامل مع المقاومة كرافعة سياسية للعمل الفلسطيني. ويمكن أن تكون أداة ضغط بيد صانع القرار الفلسطيني لتحقيق مكاسب سياسية وشعبية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 4/8/2014