مدة القراءة: 6 دقائق

بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

عندما يكون الحديث جادا عن إعادة ترتيب النظام السياسي الفلسطيني، فهناك ثلاث قضايا تجب معالجتها، الأولى مرتبطة بالرؤية والمسارات الأساسية (البرنامج الوطني والأولويات)، والثانية مرتبطة بالمؤسسات (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية)، والثالثة مرتبطة بالآليات (حكومة وانتخابات وتمثيل وضمانات…).

ورغم حالة الإجماع على الترحيب بتفعيل اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي وقع في 23/4/2014 في قطاع غزة، تكمن الإشكالية في التركيز على علاج بعض الآليات (وليس كلها)، وهو ما يجعلنا حذرين، كعديدين غيرنا، عند التحدث عن إمكانية تفعيل هذا الاتفاق على الأرض. وربما كانت الخبرة السلبية الفلسطينية في التعامل مع اتفاقات المصالحة السابقة قد ألقت بظلالها على هذه المشاعر.

وبعيدا عن العواطف والتمنيات التي تتملكنا جميعا في الحرص على الوحدة وإنهاء الانقسام وتوحيد الصف الوطني في مواجهة العدو، فإن ثمة “أسئلة حرجة” تجب الإجابة عليها لاختبار مدى قدرة اتفاقيات كهذه على النجاح والصمود:

1- هل التقى الطرفان فتح وحماس بناء على رؤية إستراتيجية مشتركة، باتجاه توحيد وبناء وتفعيل مؤسسات السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أم بسبب أوضاع تكتيكية مرتبطة بضغط الحاجة لدى الطرفين، وما تقتضيه طبيعة الظروف الراهنة، وخوف كليهما من الفشل والتراجع في المسار الذي اختطه لنفسه سواء كان ذلك مسار التسوية أم مسار المقاومة. وبعبارة أخرى هل كان دافع الاتفاق ذاتيا وعميقا في التحول الفكري والمنهجي لدى الطرفين، أم سيزول بزوال الظروف الضاغطة التي دفعت إليه، وبالتالي سيعيد كل طرف حساباته من جديد وفق مصلحته التي يراها؟

2- هل يمكن أن يتعايش برنامجا التسوية والمقاومة في عمل مؤسسي واحد؟ وكيف؟ وهل يمكن لحماس أن تتنازل عن ثوابتها؟ وهل يمكن لفتح أن تتنازل عن التزاماتها؟

3- هل يمكن التوافق على الآليات، دون الاتفاق على الأولويات أو المسارات الكبرى؟

4- هل حركة فتح (ومعها قيادة منظمة التحرير والسلطة) مستعدة فعلا لترك خيار التفاوض السلمي كخيار وحيد لإزالة الاحتلال؟ وهل حركة حماس مستعدة لقبول نتائج التفاوض التي تصل إليها حركة فتح؟ وهل حماس مستعدة للتخلي عن خيار المقاومة المسلحة؟

5- ما المدخل السليم للإصلاح الفلسطيني ولإنهاء الانقسام؟ أهو مجرد ترتيبات تحت الاحتلال (الحكومة والانتخابات والأجهزة في الضفة والقطاع)؟ أم للشعب في الداخل والخارج (منظمة التحرير..)؟

6- ما مدى قدرة فتح على المضي حتى النهاية في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، بما يعني “نفض” وتفعيل منظمة التحرير، وإعادة تعريف السلطة الفلسطينية بما ينهي دورها الوظيفي. وإلى أي مدى تستطيع الصمود في وجه الضغوط الإسرائيلية والأميركية في سبيل تنفيذ ذلك؟

7- وإلى أي مدى تستطيع فتح السير حتى النهاية في التفاعل الإيجابي مع “الإسلام السياسي” الذي تمثله حماس، وفي التحالف معه في بيئة إقليمية حساسة إن لم تكن معادية تجاهه، وفي بيئة إسرائيلية ودولية ترفضه وتحاصره وتطارده؟!

8- ما درجة الثقة المتبادلة التي استطاع الطرفان أن يبنياها، ليتمكنا من عبور المرحلة دون تعطيل أو تعويق، ودون مخاوف الخداع والطعن في الظهر والإفشال والاستقواء بالخصوم؟ وهل لدى الطرفين الجاهزية الكافية لإزالة المعوقات وعناصر التوتير، وإزاحة كل من يهمه؟ ألا تتم المصالحة من المحسوبين على الطرفين؟

***
الإجابة على هذه الأسئلة بشكل دقيق تُبيِّن إن كان اتفاق المصالحة هذا إستراتيجيا أم تكتيكيا. والخلاصة أن الإجابة غير مطمئنة!!

من خلال دراسة نحو ربع قرن من العلاقة، نلاحظ أن حالة التقارب بين فتح وحماس عادة تكون مرتبطة لدى قيادة فتح بـ:

1- محاولة استيعاب حماس ضمن منظومة تكون تحت التوجيه والسيطرة، كغيرها من المعارضات الفلسطينية المستوعبة أو المهمَّشة. ومثل هذه المحاولات تعود إلى العام 1988.

2- التعامل معها كرافعة لشرعية النظام السياسي الفلسطيني القائم وكأحد مكوناته، بما يكفل إعطاء مزيد من القوة والزخم والمصداقية لقيادة المنظمة (فتح)، وبما يعطيها مزيدا من الشرعية في التعامل مع البيئة الإقليمية والدولية وفي المفاوضات السياسية. وهذا ما حدث في اتفاق القاهرة سنة 2005، وما تلاه من انتخابات بلدية وتشريعية، وإن كانت النتائج لم تأتِ كما اشتهت قيادة فتح.

3- التعامل معها، أو التلويح بها، كورقة ضغط عندما تجد قيادة المنظمة (فتح) نفسها محشورة في زاوية الضغوط الإسرائيلية والأميركية، بهدف تليين المواقف الأخرى، وبل وربما التعامل معها كفزاعة لتخويف الآخرين من احتمال أن تكون هي البديل الذي يحل محل هذه القيادة.

4- امتصاص الحالة الجماهيرية في حالة تحقيق حماس أو خط المقاومة نجاحا استثنائيا، كما حدث في أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع وما تلاه في نهاية 2008 ومطلع 2009، وكذلك أثناء العدوان الإسرائيلي في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 حيث كانت تتعالى الأصوات بضرورة تفعيل المصالحة وإنهاء الانقسام، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه بعد أن تهدأ المشاعر ويذهب “أَلَقُ” الصمود والانتصار.

***
ومتابعة لإجابة الأسئلة نجد أن قيادة منظمة التحرير والسلطة، وإن كانت محبطة من مسار التسوية والمفاوضات فإنها ما زالت تؤمن به وتتبناه، وكثيرا ما لجأت إلى وقف المفاوضات، والتهديد بحل السلطة، والتقارب مع حماس، والمقاومة الشعبية.. لكن خط التسوية وأوسلو ومقتضياتها ظل الثابت الأساس في مسارها القيادي.

من ناحية ثانية، لا يبدو أن هناك رغبة جادة لدى قيادة المنظمة والسلطة (فتح) في الخروج عن التزاماتها تجاه الجانب الإسرائيلي، وكل ما يتعلق بما ترتب على اتفاق أوسلو.

فإذا كانت السلطة في رام الله ستدير قطاع غزة بعقلية التزاماتها الأمنية تجاه “إسرائيل” فهذه كارثة، وسيكون ذلك مدخلا لحرب مباشرة مع قوى المقاومة. وإذا كانت ستستمر في التزاماتها وتنسيقاتها الأمنية في الضفة الغربية، فسيعني ذلك أن قوى المقاومة ومؤيديها لن ينعموا بأجواء حرة في العمل الإداري والتنظيمي والحزبي والسياسي، ولن تكون لهم فرص متساوية في تقديم مرشحيهم ورموزهم وقياداتهم. وبالتالي فإن لم تجد حماس وقوى المقاومة نفسها في بيئة عمل عادلة ومعقولة، فستقاطع الانتخابات وما يترتب على ذلك من استحقاقات.

ويظهر أن حكومة التكنوقراط التي تمت الموافقة على تشكيلها للخروج من إشكالية الرفض الإسرائيلي الأميركي لوجود حماس فيها، لن تسلم من التعطيل، إذ تجد بانتظارها شروط الرباعية.

وعندما أراد عباس نفسه في يوم 9/5/2014 طمأنة الآخرين بشأن الحكومة قال إنها “تنبذ العنف وتعترف بإسرائيل وتعترف بالشرعية الدولية”، وقال إن حماس بالنسبة له “معارضة”. وتصريحات عباس تؤسس لبداية إشكالية مع حماس، وهذا قبل أن تتشكل الحكومة وتبدأ عملها.

من ناحية ثالثة، لم تقم قيادة السلطة بعمل مراجعة حقيقية لمستقبل السلطة، وليس واضحا إلى أي مدى ستستمر في ممارسة دورها الوظيفي الذي يخدم الطرف الإسرائيلي أكثر من خدمته للطرف الفلسطيني. وهل قيادة السلطة مستعدة لتقديم التضحيات اللازمة لإعادة توجيه السلطة، واستيعاب قوى المقاومة، وحرمان الطرف الإسرائيلي من خدمات السلطة. وما مدى استعدادها لمواجهة احتمال توقف التمويل الخارجي الغربي، وعدم استلام أموال الضرائب، وتوسع دائرة الحصار، وتعرض أكثر من 15 ألف موظف لانقطاع العمل والدخل. أم أن مشاركة حماس وقوى المقاومة مطلوبة فقط تحت الشروط الإسرائيلية وضمن سقف أوسلو.

من ناحية رابعة، ليس واضحا إلى أي مدى ستفسح قيادة فتح المجال لحماس وقوى المقاومة للمشاركة في قيادة منظمة التحرير، وإعادة بناء مؤسساتها وتفعيل دورها. وعلى أي أساس ستتم هذه الشراكة؟ وهل ستكون تحت سقف التزامات وتعهدات منظمة التحرير بما في ذلك اتفاق أوسلو، واستمرار إلغاء معظم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني. وهل يمكن، بالتالي، لحماس أن تدخل المنظمة لتعطي فقط مزيدا من الزخم وقوة الدفع لمسار التسوية.

وإذا كان ثمة مجال لتفعيل المنظمة ودورها من خلال الإرادة الشعبية الفلسطينية الحرة، أو توافق القوى الرئيسية الفلسطينية، بحيث تكون النتيجة رفضا لمسار أوسلو والتسوية، فكيف سيكون موقف القوى الغربية أو ما يسمى “المجتمع الدولي” حينئذ، وهل سيسحب الاعتراف بالمنظمة وتحاصر وتتهم بالإرهاب مرة ثانية، لإنهاء عدد من مكاسبها السياسية والتمثيلية الدولية. وفي هذه الحال، سيبدو أن مشاركة حماس وقوى المقاومة الفاعلة في المنظمة ستتحول إلى عبءٍ إضافي على قيادة المنظمة وفتح، ستحاول ما استطاعت أن تتجنبه.

باختصار ليس الأمر مجرد شراكة، لأن هذه الشراكة ليست مشروع تسلية ولا عملا تجاريا، وإنما تترتب عليها استحقاقات سياسية وقانونية وعسكرية وأمنية واقتصادية…، وتترتب عليها أثمان هائلة من دماء الشعب الفلسطيني وعرقه وتضحياته مع السير باتجاه المقاومة، أو من ضياع كفاح أجيال وإهدار حقوق تاريخية وتكريس الاحتلال مع السير باتجاه مسار التسوية.

من ناحية خامسة، فليس واضحا مدى جدية (إستراتيجية) قيادة فتح في التحالف أو الانفتاح على تيار “الإسلام السياسي” الذي تمثله حماس، في بيئة عربية راهنة، يغلب عليها معاداة هذا الاتجاه، بالإضافة إلى البيئة الإسرائيلية والدولية المعادية، إلا إذا كان الانفتاح يراهن على عدم امتلاك هذا التيار أي فرص للفوز أو التغيير، وأن يكون الإجراء جزءا من برنامج الاستيعاب والتهميش وإعادة التوجيه.

من جهة سادسة، فإن حسابات حماس الحالية هي أيضا حسابات معقدة، فهي إذا فازت في الانتخابات ستقع في “مصيبة” إدارة السلطة وأثقالها وأعبائها في بيئة إسرائيلية معادية، وفي بيئة حصار وإفشال جديدة، وفي بيئة عربية ودولية أصعب كثيرا من تلك البيئة التي واجهتها سنة 2006.

وهي إذا خسرت فستقع في إشكالية خسارة شرعيتها الشعبية، وسيكون عليها أن تسلم قطاع غزة، وأن ترضى بدور الأقلية المعارضة، وأن تحترم إرادة الشعب الفلسطيني الذي أعطى قيادته لفتح لتمضي في مسار مبني على التسوية السلمية واستحقاقاتها.

وهي إن عطلت الانتخابات وأجلتها ستظل تعاني إلى أمدٍ غير مسمى من الحصار الخانق في القطاع، ومن احتمالات تداعي أوضاعها وشعبيتها. كما ستكون الطرف المتهم بتعطيل المصالحة وإنهاء الانقسام.

***
وأخيرا، لنا ثلاث ملاحظات:

الأولى: أننا لا نرغب بتعقيد الأمور في وجه مسار المصالحة، ولكننا بالفعل نريد أن يُبنى على أسس صلبة تضمن له النجاح والاستمرار.

الثانية: أن الوضع الفلسطيني يحتاج إلى حالة مراجعة حقيقية وشاملة يتحمل فيها الجميع المسؤولية للخروج بحلول حقيقية وجريئة للأزمة الوطنية، بحيث يشترك الجميع في دفع أثمانها مهما كانت غالية شرط عدم التفريط بالثوابت.

الثالثة: أننا ندفع باتجاه إنجاح هذا الاتفاق، وندعو إلى أن يكون مدخلا للبحث عن المشترك، ولاتفاقات أوسع وأنجح، مع تعزيز برامج بناء الثقة وتفعيل الدور الشعبي على الأرض.

المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 15/5/2014