مدة القراءة: 7 دقائق

تقدير استراتيجي (64) – آذار/ مارس 2014.

ملخص:

يعاني اللاجئون الفلسطينيون في سورية من أوضاع مأساوية صعبة نتيجة أحداث الثورة والصراع بين الحكم والمعارضة. ومن بين 160 ألف فلسطيني كانوا يقيمون في مخيم اليرموك، اضطر نحو 130 ألف منهم للنزوح منه، فيما عانى الباقون من حصار قاسٍ، ومن مجاعة أدت إلى استشهاد العشرات منهم.

وبالرغم من حرص معظم القوى والفصائل الفلسطينية على تحييد المخيمات، وعدم التدخل في الشأن الداخلي السوري، إلا أن تطورات الأحداث ومحاولات العديد من القوى المتقاتلة الاستفادة من الموقع اللوجستي لمخيم اليرموك، أو إقحام الفلسطينيين في النزاع، أدى في النهاية إلى أن يصبح ساحة المخيم أحد ساحات الصراع.

من المحتمل أن تتجه السيناريوهات إما إلى إنجاح الهدنة وتحييد المخيم، أو إلى استمرار الصراع على المخيم، أو أن يحسم أحد الطرفين السيطرة على المخيم لصالحه. غير أنه من المهم بذل كافة الجهود لرفع الحصار عن مخيم اليرموك (وكافة المخيمات)، والسماح بعودة المهجَّرين، وتحييد المخيمات عن كافة أشكال الصراع المسلح؛ وتقديم كافة أشكال الدعم للاجئين الفلسطينيين في سورية.

مقدمة:

غنيّ عن القول أن المجتمع الفلسطيني في سورية تشكل في أعقاب النكبة سنة 1948. وحسب إحصاءات الأونروا، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في سجلاتها حتى 31/3/2013 نحو 537 ألف شخص. ونظراً لوجود فئات أخرى من الفلسطينيين ممن وفدوا إلى سورية من الأردن ولبنان وقطاع غزة في فترات مختلفة ولأسباب متباينة بعد سنة 1948، وهم غير مسجلين في سجلات الأونروا في سورية، يقدر العدد الفعلي للفلسطينيين المقيمين في سورية بنحو 600 ألف شخص. وبهذا يشكل الفلسطينيون نحو 2.8% من مجموع سكان سورية. ويعيش نحو ربعهم فقط في 13 مخيماً (ثلاثة منها لا تعدُّها الأونروا مخيمات رسمية وأهمها مخيم اليرموك). وتتركز الكتلة الأكبر من الفلسطينيين (نحو 80%) في العاصمة دمشق والمناطق المحيطة بها، أو ما يعرف بــ “ريف دمشق”. ويعدُّ مخيم اليرموك أكبر تجمع سكاني للفلسطينيين في منطقة دمشق. وحسب معطيات الأونروا فقد كان يسكنه حتى كانون الأول/ ديسمبر 2012 أكثر من 160 ألف شخص.

كان المجتمع الفلسطيني في سورية قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية الداخلية في بدايات سنة 2011 (والتي تحولت إلى ثورة فيما بعد) من أكثر مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في الشرق العربي استقراراً واندماجاً في مجتمعهم المضيف. وتمتع اللاجئون الفلسطينيون في سورية بوضع قانوني مميز (بناء على القانون 260 المقر سنة 1956) منحهم طيفاً واسعاً من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية تكاد تقترب من حقوق المواطنة الكاملة، مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية. وبشكل عام، حافظت الدولة السورية طوال العقود الماضية على هذا الوضع القانوني للفلسطينيين، الذي يضمن مشاركتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نحو متساو مع المواطنين السوريين.

حقبة ما بعد نشوء الأزمة:

بعد اندلاع الأزمة الراهنة في سورية تعرض الفلسطينيون كغيرهم من السوريين لتأثيراتها المدمرة على نسيج مجتمعهم، وخاصة في المخيمات، وعلى رفاههم الاجتماعي ومختلف أوجه حياتهم اليومية، مما اضطرهم إما إلى النزوح داخل سورية بحثاً عن الأمان النسبي، أو إلى الهجرة خارجها بحثاً عن سقف آمن. وهكذا تعرض الجيل الثاني والثالث للنكبة للتهجير الداخلي واللجوء خارج البلد، الذي ولدوا وترعرعوا فيه، ولم يعرفوا وطناً آخر لهم غيره. ومن اضطر منهم للهجرة خارج سورية تعرض لصنوف من المعاناة والتمييز في البلدان المجاورة التي لجأوا إليها مؤقتاً. وغامر بعضهم بحياته وحياة أطفاله في قوارب الموت وعلى المعابر الدولية، بحثاً عن حياة آمنة، فمنهم من وصل إلى بر الأمان، ومنهم من ابتلعته الأمواج ولم يبلغ غايته.

منذ بدايات الأزمة وحتى أواخر سنة 2012، قبل تفجر الوضع في مخيم اليرموك، حافظ الفلسطينيون في سورية على نوع من الحياد، وفي ذهنهم درس حرب الخليج الأولى، عندما انحازت قيادة م.ت.ف في هذه الحرب إلى العراق، الذي تسبب في تهجير جماعي للفلسطينيين من دولة الكويت. وفي ظل حالة الحياد النسبي، تحولت مخيماتهم في الشمال وفي الجنوب وحول العاصمة دمشق (خاصة مخيما اليرموك وخان الشيح) إلى ملاذات آمنة للنازحين السوريين، الهاربين من جحيم القتال، جسّدت بحق التآخي السوري الفلسطيني على المستوى الشعبي. فقد تقاسم اللاجئون الفلسطينيون مع إخوانهم النازحين السوريين لقمة العيش، وحيث تضاعف عدد سكان بعض المخيمات مثل مخيم خان الشيح إلى الضعف بسبب هذا النزوح.  كما تحولت المخيمات إلى خطوط إمداد خلفية لكلا الفريقين المتحاربين من نظام ومعارضة. وقد حظي هذا الوضع في البداية بمباركة الأطراف الفلسطينية كافة ورضى الفريقين المتصارعين، على الرغم مما كانت تقوم به قوات النظام أحياناً من اقتحامات لبعض المخيمات ومحاصرتها، عندما كان يلجأ إليها مقاتلو المعارضة، إما طلباً للحماية أو لمداواة الجرحى أو لغير ذلك من دواعٍ لوجستية. وهذا ما حصل أكثر من مرة في مخيم درعا بشكل خاص. وقد شكّل مخيم اليرموك قبل زجّه بالكامل في أتون الصراع المسلح أواخر العام نموذجاً لحالة “الحياد الإيجابي” تلك.

بيد أن تعقُّد الأزمة السورية وعسكرتها، نتيجة لتدخل أطراف دولية وعربية واقليمية بشكل مباشر في الصراع، وتداخل مصالح تلك الأطراف وتضاربها، أدى إلى حالة من الاستقطاب في المواقف الفلسطينية، ممّا فُسّر انحيازاً لهذا الطرف أو ذاك من طرفي الأزمة الرئيسيين. وقد أدى الانقسام الفلسطيني، فضلاً عن تزايد الضغوط من قبل النظام والمعارضة على الفلسطينيين من خلال الترغيب والترهيب، بهدف دفعهم للتخلي عن حالة الحياد والانحياز لطرف من طرفيه، إلى زيادة حدة الاستقطاب تلك، وإلى عجز الفصائل الفلسطينية عن الحفاظ على وضع الحياد.

وفي واقع الحال يلخص وضع مخيم اليرموك منذ بداية الأزمة وحتى الآن تحوُّل المخيمات الفلسطينية، من مناطق محايدة وحاضنة للنازحين السوريين، وخالية من السلاح، إلى بؤر ساخنة يسعى كل طرف من طرفي الصراع إلى السيطرة عليها، وزجّها في أتون القتال.

المشهد من مخيم اليرموك:

يشكل مخيم اليرموك، الذي أصبح بامتداده العمراني حياً جنوبياً من أحياء العاصمة، التجمع الأكبر للفلسطينيين في سورية، حيث يشكل الفلسطينيون غالبية سكانه، ويُنظر إليه بوصفه مرآة للمواقف الفلسطينية من الأزمة السورية. ومع محاولات قوات المعارضة الدؤوبة لإحكام الحصار حول العاصمة، ومحاولة اقتحامها بغية حسم الصراع مع النظام، برزت أكثر فأكثر أهمية السيطرة العسكرية على مخيم اليرموك بالنسبة لكل من طرفي الصراع. تنبع هذه الأهمية من موقعه الجغرافي المحاذي لبؤر القتال الساخنة (الحجر الأسود، يلدا، بابيلا، التضامن، القدم) ومن كونه المدخل الجنوبي للعاصمة بالنسبة لقوات المعارضة في سياق ما يسمى “معركة دمشق”. وهذا ما حصل في نهاية 2012، حين تقدمت قوات المعارضة من الجبهة الجنوبية باتجاه مخيم اليرموك، بذريعة وجود مسلحين داخل المخيم موالين للنظام. وكان يقصد بهم مقاتلو الجبهة الشعبية/القيادة العامة.

وكانت محصلة الصراع على المخيم سيطرة عناصر من الجيش الحرّ وفصائل إسلامية من المعارضة (جبهة النصرة وغيرها) على المخيم، بينما سيطرت قوات النظام بتنسيق وتعاون مع عناصر من الجبهة الشعبية/القيادة العامة على مدخل المخيم الشمالي، المفتوح على حي الزاهرة والمعروف باسم “مدخل البطيخة”.

ونتيجة لهذا الوضع العسكري المأزوم تعرض المخيم في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2012 لقصف شديد؛ استخدم فيه النظام للمرة الأولى الطيران الحربي (استهداف جامع فلسطين ومستشفى الباسل). وأعقب هذا القصف موجة نزوح كبيرة غادر المخيم بنتيجتها نحو 130-120 ألف من سكانه. وخضع ما تبقى منهم بعد التهجير (30-20 ألفاً) لحصار محكم قضى خلاله أكثر من 120 شخص، بسبب الجوع ونقص الرعاية الطبية. ومنذ ذلك الوقت قامت العديد من الفصائل الفلسطينية وم.ت.ف بمحاولات وجهود متواصلة بالتنسيق مع الأونروا من أجل فكّ الحصار عن المخيم، وإدخال المساعدات الانسانية إلى سكانه، وصولاً إلى طلب انسحاب المقاتلين منه، وتحويله من جديد إلى منطقة محايدة. ونجم عن ذلك إطار حلّ تعذّر تطبيقه حينها، ويجري تطبيق نسخة منقحة منه حالياً، من أبرز بنوده: انسحاب المسلحين غير الفلسطينيين من المخيم؛ وانتشار المسلحين الفلسطينيين على أطرافه؛ وإدخال المواد التموينية إلى المخيم وإجلاء الحالات الانسانية؛ وعودة النازحين من سكان المخيم. وفي ظل التعقيدات الأمنية الميدانية المرتبطة بوضع مخيم اليرموك، فليس من السهل التكهن بإمكانية نجاح تطبيق هذا الاتفاق على أرض الواقع.

السيناريوهات المحتملة:

يصعب التنبؤ بمآلات الثورة في سورية، وفيما إذا كانت محادثات جنيف ستنجح، فيما لو استؤنفت، في الوصول إلى حلّ سياسي للأزمة، حيث يختلف كل من طرفي الأزمة والقوى الدولية الداعمة لهما في تفسير مضمون تلك المقترحات وأولويات تطبيقها. ولا يلوح في المدى المنظور إمكانية التوصل إلى حلّ للأزمة على أساس تشارك وتقاسم السلطة بين الأطراف المتصارعة. ويمكن حصر السيناريوهات المحتملة فيما يتعلق بمخيم اليرموك فيما يلي:

السيناريو الأول: التهدئة وتحييد المخيم:

يبدو أن هناك توافقاً ظاهرياً على هذا السيناريو لدى الأطراف المختلفة، حيث توجد رغبة بتحييد الفلسطينيين والمخيمات عن الصراع الدائر، وألا يُستخدموا كأداة لأي طرف. وهو سيناريو يسمح بعودة المهجَّرين إلى المخيم، وتدفق المساعدات وإعادة الإعمار، وعودة الحياة المعتادة. غير أن أزمة الثقة بين الأطراف المتصارعة، والحاجة الماسة لاستخدام كل ما لديها من وسائل للسيطرة والضغط على الخصوم، وعدم حسم الصراع لصالح أيِّ طرف؛ ستجعل سيناريو التهدئة احتمالاً هشاً وقابلاً للخرق والانهيار في أي لحظة.

السيناريو الثاني: استمرار الصراع على المخيم:

وهو يفترض أن يتم تغليب المصالح الجيو-استراتيجية أو الميدانية لدى أطراف النزاع على الجانب الإنساني أو الخصوصية الفلسطينية للمخيم، والتعامل مع المخيم كجزء من الجغرافية السياسية للصراع؛ وكأحد أوراق الضغط المستخدمة. وبالتالي فإن المخيم سيكون عرضة لمزيد من الحصار والدمار والمعاناة. كما يفترض السيناريو أن النظام قد لا يستعجل في حسم المعركة لصالحه حتى لو كان يملك الأدوات لذلك، خصوصاً إذا ما كانت الأثمان في الأرواح كبيرة جداً، حتى لا يوصم باستهداف الفلسطينيين ومخيماتهم. كما يفترض السيناريو أن المعارضة السورية ما زالت بعيدة عن تحقيق أيّ مكاسب جوهرية في دمشق العاصمة. وأن الرغبة الدولية الغربية ما زالت مع إطالة أمد الصراع واستمرار استنزاف وتدمير البنى التحتية السورية وتمزيق النسيج الاجتماعي في سورية.

السيناريو الثالث: حسم الصراع لأحد الطرفين:

يفترض هذا السيناريو أن تتحقق السيطرة الكاملة على المخيم ومداخله ومخارجه لأحد الطرفين؛ وهو ما قد يعني إنهاء الحصار وعودة أعداد من المهجرين وعودة الحياة بدرجة أو بأخرى للمخيم. غير أن الأوضاع لن تعود بشكل كامل إلى طبيعتها إلا بعد إيجاد حلّ شامل في سورية. وهو ما يعني أنه حتى لو حسم الأمر لصالح طرف معين في المخيم، فلن يكون المخيم بمنأى عن القصف الجوي أو المدفعي أو العمليات العسكرية والأمنية، طالما أن البيئة المحيطة الأوسع هي بيئة غير مستقرة.

وأياً كانت السيناريوهات المرجحة على أرض الواقع، فإن السعي يجب أن يستمر لحماية ما تبقى من وجود فلسطيني في سورية، وتحييده عن المشاركة في القتال، والعمل الجديّ للتوصل إلى توافقات وتفاهمات مع أطراف الصراع، من أجل جعل المخيمات مناطق آمنة لسكانها، ومدّها بكل أسباب الحياة ومقوماتها، تمهيداً لعودة من تهجروا منها وتقطعت بهم السبل داخل سورية وخارجها.

وفي هذا السياق لا بدّ أن تضع القيادات والفصائل الفلسطينية نصب أعينها أهمية وضرورة الحفاظ على النسيج الاجتماعي الفلسطيني في المخيمات، بوصفها حاضنة للنضال من أجل العودة، والمعبِّر عن الهوية الكفاحية الفلسطينية، والموئل للمناضلين الفلسطينيين جيلاً بعد جبل. ومن جهة أخرى يجب على الفصائل الوطنية الفلسطينية أن تفكر ملياً وتعمل جدياً من أجل الحفاظ على الامتيازات والمكاسب التي تحققت للفلسطينيين في سورية خلال الفترات الماضية، والمتمثلة أساسا ً في الوضع القانوني المتميز الذي تمتع به الفلسطينيون في سورية على امتداد العقود الستة الماضية.

اقتراحات وتوصيات:

1. رفع الحصار فوراً عن مخيم اليرموك (وكافة المخيمات)، والسماح بحرية الحركة، وعودة المهجَّرين، وعودة الحياة الطبيعية.

2. ضرورة تطوير موقف فلسطيني موحّد يؤكد على تحييد المخيمات الفلسطينية عن أشكال الصراع المسلح الذي تشهده سورية، وتعزيز هذا الموقف ميدانياً بشكل عملي وملموس؛ وإقناع أطراف الصراع المختلفة بذلك.

3. دعوة الدول المانحة للإيفاء بالتزاماتها في دعم الأونروا، وتقديم دعم استثنائي لها بما يمكنها من تفعيل دورها في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين داخل سورية، والمهجرين منهم إلى الدول المجاورة. وفي السياق ذاته دعوة المنظمات غير الحكومية الدولية إلى تقديم المزيد من الدعم لتأمين الحاجات الأساسية لهؤلاء اللاجئين.

4. قيام “المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب” التابعة للدولة السورية بممارسة دورها الإنساني وواجبها الوطني، والتنسيق مع الأونروا في تقديم الخدمات الإغاثية.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ جابر سليمان بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 5/3/2014