مدة القراءة: 7 دقائق

تقدير استراتيجي (56) – أيار/ مايو 2013.

ملخص:

تشكل المكتشفات الإسرائيلية من مصادر الطاقة في الساحل الشرقي للبحر المتوسط تطوراً استراتيجياً مهماً، وذلك بحكم حجمها ونوعيتها، وأثرها بعيد المدى على مجمل الأداء السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي الإسرائيلي.

وإذا كانت فلسفة العمل الإسرائيلية قائمة على أساس أن مصدر الموارد أهم من الموارد نفسها، وأنه لا يجوز المسُّ بنموذج الدولة الإنتاجية الراهن، كما لا يجوز التحوُّل إلى دولة ريعية زبائنية، تُضرب فيها قيم العمل؛ فإنه من المرجح أن تكتفي “إسرائيل” بإنتاج ما يغطي احتياجاتها.

وستسعى إلى الاستثمار في تحسين ترسانتها العلمية والصناعية، وتقوية مواردها البشرية. وقد تعطيها الموارد الجديدة مزيداً من الشعور بغطرسة القوة، والإمعان في ممارسة السياسات العدوانية والاحتلالية وسياسات الهيمنة.

غير أنه لا بدّ من التركيز على المكتشفات أمام ساحل قطاع غزة، وما توفره من فُرص اقتصادية، وكذلك الساحل اللبناني، ومنع التعطيل الإسرائيلي للاستفادة منها.

مقدمة:

يستدعي تناول هذا العنوان التعرف أولاً على عناصره التأسيسية الثلاثة: مصادر الطاقة المكتشفة، وصافي الواردات من مصادر الطاقة، وحجم الناتج المحلي. وفي ضوء علاقة هذه العناصر ببعضها بعضاً، يمكن استشراف التحولات الاستراتيجية المرتقبة. هنا، ثمة حاجة إلى استدراك مفاهيمي هو أن اكتشاف مصادر طاقة في بلد فقير قد يقلب حياته، على خلاف اكتشاف الحجم نفسه في بلد متقدم. بكلمة أخرى لا ينبغي قياس التفاؤل اللبناني أو القبرصي، بشأن أثر مكتشفاتهما من مصادر الطاقة في اقتصاديهما، على المكتشفات الإسرائيلية؛ ليس بسبب حجم المكتشفات فقط، بل لاختلاف حجم وطبيعة الاقتصاد الذي تقاس عليه الإضافات الجديدة.

تذهب التقديرات إلى أن “إسرائيل” تملك احتياطاً من الغاز يكفيها لـ 150 سنة، تصل قيمته نحو 300 مليار دولار، لكن ما ستستفيد منه “إسرائيل” بشكل مباشر يتوزع على شقين:

 أ. رفع  قيمة “إسرائيل” الائتمانية دولياً، على خلفية أنها دولة تملك مصادر طاقة.

 ب. ما ستستخرجه لغرض الاستهلاك الداخلي أو الخارجي، من ضمن تحقيق توازن في مجال الطاقة، كأن تستغني عن استيراد الغاز من الخارج، وتصدر من الغاز ما يعادل وارداتها من مصادر الطاقة الأخرى كالنفط والفحم واليورانيوم. هذا هو الحد الأدنى الذي سيتوفر لـ”إسرائيل” سنوياً من موارد إضافية، ما يقتضي التعرف بدقة على صافي وارداتها من مصادر الطاقة.

تجارة “إسرائيل” الخارجية من مصادر الطاقة:

في سنة 2011، بلغ حجم واردات “إسرائيل” من مصادر الطاقة 13.6 مليار دولار، مقابل 4 مليارات دولار صادرات، أي بعجز 9.6 مليارات دولار، بمعايير 2011. وعليه، فإن استغناء “إسرائيل” أو إيجاد تغطية محلية لوارداتها من مصادر الطاقة، سيوفر لها سنوياً ما يعادل صافي فاتورتها من مصادر الطاقة.

نخلص في ضوء ما تقدم أنه سيكون متاحاً للمخطِّط الإسرائيلي، موارد إضافية تساوي 9.6 مليارات دولار سنوياً بمعايير 2011، وهو مبلغ يفيض كثيراً عن حجم الناتج المحلي السنوي للضفة الغربية وقطاع غزة مثلاً. وكذلك بمعيار التعامل مع الاشتباكات الاجتماعية الداخلية الإسرائيلية حول توزيع كعكة الموازنة، والتي تدور حول مبلغ مليار دولار، لإرضاء الأمن والاستيطان وتهدئة الحراك الاجتماعي الاحتجاجي في “إسرائيل”.

“إسرائيل” أمام عبء الأموال السهلة وخطر التحوّل إلى دولة ريعية:

تبدو الأمور لمن ينظر نظرة مستعجلة وكأن مشاكل “إسرائيل” قد حُلَّت دفعة واحدة مع المكتشفات الجديدة من مصادر الطاقة. أما المتروي، فيدرك أن العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، الذي يخاف، تاريخياً، من الأموال السهلة، يعرف أن الموارد المضافة راهناً  كانت وستبقى  أموالاً ريعية سهلة! نذكر هنا أن فلسفة العمل الإسرائيلية تقوم على أن مصدر الموارد أهم من الموارد نفسها، وهو ما كان قيل بمناسبة التمييز بين موارد تتأتّى لها من خلال رفع انتاجية العمل لديها، وبين أموال سهلة تأتي عِبر المساعدات الخارجية! وبالتالي فعلى الأرجح أن “إسرائيل” ستتصرف مع الموارد الجديدة محل الحديث، على أنها أموال سهلة، تحمل مخاطر اجتماعية بالغة الخطورة، جراء رفاه مصطنع يعود للثروات الريعية من باطن الأرض، وليس نتيجة جهد إنتاجي أو إبداعي معادل يحفظ التوازن الاجتماعي.

من المرجح أن الثقافة السياسية الإسرائيلية لا تسمح بمس نموذج الدولة الإنتاجية الراهن، والتحول إلى دولة ريعية وما تفرزه من رخاوة اجتماعية وضرب قيم العمل وحلول زبائنية للمشاكل الاجتماعية؛ إذ طالما ألحت “إسرائيل” على أن تكون حلول مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية عِبر سياسات تقوم على الربط المحكم بين نمو الإنفاق ومستوى المعيشة وبين نمو الانتاجية الفعلية وليس الريعية! وهي سياسات تميل إلى تقديم نموذج متقدم في التعامل مع الثروات الطبيعية.

الفوارق البنيوية بين “إسرائيل” وبين قبرص ولبنان:

لكن: هل تملك “إسرائيل” بنية اقتصادية تغنيها عن الاستخدام المتسرع للأموال السهلة، أم أن الوضع الاقتصادي على شفير الهاوية؟ يقوم الدليل على أن الناتج المحلي الإسرائيلي، كماً ونوعاً، يضعها في مصاف دول العالم الأول، سواء بمعيار متوسط الدخل الفردي، أم بمعيار نوعية الناتج المحلي، لكونه يتأتى أساساً عن قطاعي “التصنيع” و “صناعة المعرفة- الاتصالات والمعلومات”، أو بمعيار أن المصدر الأساس للدخل القومي يعود للعمل، في دلالة لا تخطئ على كفاءة الموارد البشرية وعدالة التوزيع نسبياً، حسب الكفاءات الفردية.

يعادل الوفر المتوقع في واردات الطاقة، البالغ 9.6 مليارات دولار سنوياً نحو 4% من الناتج المحلي سنة 2011، البالغ 244 مليار دولار. ولا تكفي إضافة نمو سنوي بنسبة 4% ، إلى جانب النمو الطبيعي، لإحداث تحوَّل استراتيجي في بنية دولة متطورة، تقررت ملامحها وترسخت. لكن هذه الإضافة تعادل متوسط معدل النمو السنوي الطبيعي خلال العقد الأخير، ما يعني أن “إسرائيل”، ودفعة واحدة، ستضاعف معدل نموها السنوي لمرتين؛ واحدة نتيجة النمو الطبيعي، والثانية حصيلة الموارد الاستثنائية من مصادر الطاقة.

نختم النقطة بالتمييز بين وزن نسبي، تشكله مصادر الطاقة من الناتج المحلي- الثروة المنتجة سنوياً أي 4%، وليس بإمكانه إحداث تغيير استراتيجي في بنية “إسرائيل” ككل، وبين وزن كمّي يـُـقدَّر بإضافة عشرة مليارات دولار سنوياً كفيلة بإحداث ثورة في قطاعات معينة، ستحظى بحصة الأسد من الموارد المضافة.

مستقبل التعامل الإسرائيلي مع مكتشفات الطاقة:

تنطلق السيناريوهات الإسرائيلية المحتملة، تجاه موضوع حساس كالذي نحن بصدده، من فلسفة العمل الإسرائيلية الحاكمة لكيفية التعامل بالمبدأ مع الموارد المتاحة، القديم منها أو الجديد، والتي تقوم على إدراك المخاطر الاجتماعية للنموذج الريعي “العالمثالثي”. ولذا، فإن القاعدة التي لم تَحِد “إسرائيل” عنها يوماً، هي أن الموارد، أيا كان مصدرها، لابد وأن تمر من المصدر إلى الاستثمار- الإنتاج أولاً، قبل أن تتحول دخلاً فردياً.

وعليه: أين ستذهب الموارد الإضافية المتأتية عن مكتشفات مصادر الطاقة، والمقدَّرة بعشرة مليارات دولار سنوياً؟ من المرجح أنه لن تستخرج “إسرائيل” من مصادر الطاقة إلا ما يغطي حاجتها، سواء للاستهلاك الداخلي، أو التصدير لتغطي وارداتها من مصادر الطاقة الأخرى. ويعود ذلك إلى عدم استنزاف مواردها الطبيعية، وكذلك لمحدودية طاقتها الاستيعابية للرساميل  الجديدة، وذلك لأنها مشبعة على الصعيد “الترسملي”.

إن دليلنا على ما تقدم هو أن التكوين الرأسمالي، أي ما يضاف من أصول ثابتة؛ بلغ 43 مليار دولار، أي 17% من الناتج المحلي سنة 2011. وبالتالي، فمع التشبع الاستثماري،  لن يبقى أمام “إسرائيل” سوى التوجه صوب تحديث ترسانتها العلمية والصناعية، من خلال:

أ. رفع حصة البحث والتطوير من الموارد المتاحة.

ب. تحديث الآلات الراهنة، حتى ولو لم ينقضِ عمرها الافتراضي، لمجاراة آخر التقنيات العالمية واللحاق بها.

يترتب على ما تقدم استيعاب مزيد من الطاقة البشرية المؤهلة، ووقف نزف العقول واستعادة الكفاءات المهاجرة للخارج بحثاً عن فرص مادية أفضل، …الخ. من جانب آخر يتيح لها استخدام مزيد من التقانة، واستجلاب أحدثها من الخارج، فرصة رفع مستوى الانتاجية دون حاجة إلى موارد بشرية إضافية.

إذاً، من المتوقع أن تُوجَّه الموارد الإضافية المتاحة أولاً صوب تطوير الموارد البشرية والتحديث ورفع إنتاجية العمل كخط استراتيجي له الأولوية على ما عداه، بما في ذلك الأمن، على قاعدة أن احتفاظ “إسرائيل” بتفوقها التكنولوجي وتوسيعه، هو الأمن الحقيقي، والمصدر الذي ينبثق عنه كل أمن آخر، ومنبع كل تفوق آخر.

ستتوفر لـ”إسرائيل” قدرة أكبر على تدوير الزوايا وإحلال هدوء نسبي على جبهة التجاذب على الموارد بين الإستيطان والأمن، وبين المطالبات الاجتماعية على مختلف أنواعها. وفي هذا السياق، ليس لدى “إسرائيل” شيء كثير تضيفه على صعيد الاستيطان والأمن، إذ إنها سعت دائماً لتوفير حاجة هذين الجانبين.

ليس من المتوقع أن تلجأ النخبة الإسرائيلية لأسلوب الرشاوى الاجتماعية، بالتحوَّل إلى دولة إعالة اجتماعية، فهذا شيء، أما دولة الرعاية الاجتماعية فهذا شيء آخر. يقع في هذا السياق دعم الشرائح الضعيفة، من خلال برامج محكمة الضبط، كيلا تنزلق صوب دولة الإعالة، أو استفادة غير المستحقين من برامج الرعاية الاجتماعية.

إن تخصيص مزيد من الأموال لتطوير الموارد البشرية والتحديث ورفع إنتاجية العمل ونصيبه من الثروة المنتجة، يُعجل على الأرجح في انتقال “إسرائيل” من دولة الرعاية الاجتماعية، بمعنى التمكين الاجتماعي، إلى دولة الرفاه المتأتي عن رفع مستوى الدخل كمواز لرفع مستوى انتاجية العمل، وليس جراء توزيع المال الريعي. وإن تحسن جودة الحياة في “إسرائيل” يجعلها أكثر جاذبية للعيش، ما يؤدي لخفض الهجرة المضادة منها، ويجعلها تتلقى مزيداً من المهاجرين، ما يحسن الميزان الديموغرافي وتوازنه بين الهجرة إلى “إسرائيل” والهجرة منها.

يتناقض الحديث عن رفض سياسة الرشاوى الاجتماعية، مع ما يجري منذ إنشاء “إسرائيل” مع المتدينين اليهود (الحريديم) الذين عادة ما يعطون مزايا خاصة. غير أنه يمكن افتراض عدم التوسع فيما يعطى لهم من “رشاوى”، أو مده ليغطي فئات أخرى،  على خلفية سعي العديد من القوى الإسرائيلية الفاعلة إلى تشكيل شبه إجماع في “إسرائيل”، على أن التوسع في إعالة الحريديم، فضلاً عن إعفائهم من التجنيد، يفضي إلى هدر موارد بشرية ومالية، كما يؤسس لظاهرة اجتماعية طفيلية تهدد قيم العمل التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية في “إسرائيل”.

ثمة حصيلة بنيوية لما تقدم هي ارتفاع تأهيل القوة العاملة الإسرائيلية ودفعها نحو أعلى السلم المهني، ما يولد حاجة متزايدة لليد العاملة غير الفنية، التي لا مجال لتوفيرها إلا من الخارج، ومن ضمنه الضفة وغزة.

لا شك أن تحسن الأوضاع الاقتصادية في “إسرائيل”، راهناً ومستقبلاً، سوف يجعلها أقل حاجة للمساعدات المالية الخارجية، وأعلى قدرة على مجابهة الضغوط الاقتصادية الخارجية، هذا إن وقعت، أو ثار سؤال في يوم ما حول أن “إسرائيل” تمول برامجها الاستيطانية في الضفة الغربية بأموال المساعدات الخارجية.

ولا شك أن توفير موارد جديدة كبيرة ومديدة لـ”إسرائيل” سينعكس إيجاباً على حجم القوة الإسرائيلية الشاملة، وبالتالي على ميزان القوى الذي تنطلق منه، وهو ما قد ينعكس مزيداً من غطرسة القوة والعدوانية، والممارسات الاحتلالية، ومحاولات فرض الهيمنة في المنطقة.

من جهة أخرى، تطرح “حمى غاز المتوسط” على نحو جدي مسألة غاز ساحل غزة، الذي تَحُول “إسرائيل” دون المضي في اكتشافه واستخراجه، لما يوفره من تغطية لفاتورة الطاقة الفلسطينية الباهظة نسبياً، التي تُدفع جراء استيراد مصادر الطاقة. ويكتسب الأمر أهمية عالية ربطاً بالأزمة المالية الحالية المتمادية للسلطة الفلسطينية.    

وأخيراً، ثمة آثار جانبية أخرى لمكتشفات البحر المتوسط، مِثل أن تصيب أثارها بعض دول المتوسط، كتركيا واليونان. غر أنه ليس من الحكمة المبالغة في عوائد ذلك على دول المنطقة الأخرى عدا “إسرائيل”، أو الظن أنها تكفي لتأسيس تحالفات سياسية لحماية مصالح اقتصادية مشتركة ناشئة مزعومة، لا شك أنها محل مبالغة شديدة. 

توصيات ومقترحات:

– على الرغم من الأهمية الاقتصادية لمكتشفات “إسرائيل” من مصادر الطاقة، باعتباره أمراً ناجزاً، فإنه من الضروري متابعته، ليس كمسألة إقتصادية فنية فقط، بل كحدث له أثر استراتيجي مديد أيضاً.

–  “إسرائيل” دولة غنية، وقد حصلت الآن على موارد جديدة، وهي مع ذلك ما تزال تتلقى مساعدات من الخارج بمليارات الدولارات. إنه لا بد من رفع الصوت لوقف تلك المساعدات ليس فقط لعدم حاجتها إليها، وإنما أيضاً لأنها دولة احتلال عنصري، قائمة على اغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني.

– لا بد من طرح ملف غاز ساحل غزة كجزء من هذا الملف وكقضية ملحة، على خلفية تداخل المساحات الاقتصادية للأطراف المختلفة، وما يقتضيه ذلك من تحديد رسمي حسب القانون الدولي، وهذا أمر ترفضه “إسرائيل” بذريعة الأمن، لإدامة سرقاتها.

ملاحظة: كافة الأرقام المعطاة والنسب المستخرجة الخاصة بالاقتصاد الإسرائيلي؛ الناتج المحلي، الصادرات والواردات، مستخرجة من الكتاب السنوي للإحصاءات الإسرائيلية الرسمية لسنة 2012، أبواب عدة وصفحات مختلفة.      

* يتقدم مركز الزيتونة للدكتور حسين أبو النمل بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23/5/2013