مدة القراءة: 32 دقائق

إعداد: غسان دوعر. (خاص – مركز الزيتونة)

توطئة

انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة تعسفية بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967؛ فكانت السجون ومراكز التوقيف والتحقيق والاعتقال مكاناً للقتل الروحي والنفسي للفلسطينيين. فقد غصت بعشرات آلاف الفلسطينيين دون تمييز بين طفل ومسن أو رجل وإمرأة، لدرجة أنّ تقديرات متقاربة تقدر عدد الأسرى الفلسطينيين، بسبعمائة وخمسين ألف، مروا بتجربة الاعتقال والسجن التي طالت أيضاً قرابة 12 ألف إمرأة وفتاة وعشرات الآلاف من الأطفال والأشبال.

وهذا يعني أن ربع السكان قد تعرض للاعتقال والسجن لمدد متفاوتة تتراوح ما بين التوقيف الإداري لمدة ثلاثة أشهر، والحكم بعدة مؤبدات وفوقها بضع سنين. وتعتبر هذه الأرقام الخيالية سواء ما تعلق بأعداد المعتقلين، أو بعدد السنوات التي يمكن أن يحكم بها المعتقل هي الأعلى في العالم.[1]

تحولت السجون التي ورث الكيان الصهيوني معظمها عن الانتداب البريطاني إلى مراكز لتصفية الإنسان جسدياً ومعنوياً بشكل تدريجي. فقد أراد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشية دايان للفلسطينيين أن يتحوّلوا في السجن إلى حطام كائنات لا تمت للبشرية بأي صلة، كائنات مفرّغة من كلّ محتوى إنساني وتشكّل عبئاً على نفسها وعلى شعبها.

فقد برز السجن في الكيان الصهيوني كمؤسسة توافرت لها كافة الشروط المناسبة، وتجهّزت بكامل المقومات الضرورية لأجل تحقيق هذا الهدف اللاإنساني والقذر بحق الفلسطينيين. وواجه الأسير الفلسطيني منذ اعتقاله جملة من الظروف والسياسات التي كانت تقضي إذا ما سار مفعولها حتى منتهاه بالإجهاز على هذا الإنسان وتحطيمه حتى لا يعود إنساناً بأيّ معنى من المعاني.[2]

كثيرة هي السجون الإسرائيلية الموزعة من شمال فلسطين حتى جنوبها، قلاع مليئة بالأسرار وأسماء لا يعرفها إلا من أمضى زهرة شبابه وسني عمره داخلها، أسماؤها مألوفة على الأسرى بداخلها، أسوار عالية وأسلاك شائكة وزنازين معتمة، ومساحات ضيقة وهواء قليل وشمس محجوبة وجدارن أكلت من أعمار آلاف المخلصين والصادقين من مجاهدين حرموا الحد الأدنى من شروط الحياة، ومن الحرية والزوجة والزوج والأولاد ولقاء الأهل والأحبة، وحرموا من ألوان الطعام والشراب والبيت؛ فعاشوا صابرين وصامدين أمام قسوة السجن وسطوة السجان.

ولا شك أن ما يعيشه الأسرى في تلك السجون هو بحد ذاته معاناة إنسانية حقيقية بكل معنى الكلمة، وما يحدث في هذه السجون امتهان لكرامة الإنسان الفلسطيني.

معظم هذه المعتقلات عبارة عن ثكنات للجيش الإسرائيلي ومقار لإداراته العسكرية والمدنية، بل إن العدد الهائل للمعتقلين الفلسطينيين الذين ارتفع عددهم خلال سنوات المواجهة، حول كل موقع لجيش الاحتلال إلى مركز لتوقيف المعتقلين.

وهذه السجون موزعة جغرافياً وغالبيتها العظمى تقع في المناطق المحتلة عام 1948، مثل نفحة، بئر السبع، عسقلان، سجن الرملة، نفي ترستا، تلموند، أنصار 3، وكفاريونا، وسجن شطة، وعتليت والدامون، والجلمة، بالإضافة إلى بيتح تكفا، مجدو، هشارون، بيت إيل، قدوميم، والمسكوبية في مدينة القدس.

ويعتبر نقل المعتقلين الفلسطينيين من المناطق المحتلة واحتجازهم في سجون داخل أراضي الدولة المحتلة مخالفة للقانون الدولي ويشكل جريمة حرب. إذ تنص المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة “يجب احتجاز المتهمين من المناطق المحتلة داخل سجون تقع ضمن الأراضي المحتلة، وفي حالة صدور الأحكام بحقهم، فيجب أن يقضوا محكوميتهم داخل سجون تقع في الأراضي المحتلة”.

وهناك سجون ومعتقلات تقع في مناطق الضفة الغربية كالظاهرية، وعوفر، بينما لا توجد معتقلات في قطاع غزة سوى معتقل إيرز والذي يقع في منطقة معبر بيت حانون (إيرز)، والذي يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي.[3]

لكن الاحتلال الإسرائيلي مُتهم أنه يُدير زنازين وسجوناً بعيدًا عن عيون العالم, وعن عيون مجتمعه نفسه, ليضع فيها أشخاصًا لا يرغب أن يعرف عنهم أحد, ولهم علاقة بقضايا كبرى تمس أمن الكيان من وجهة نظره. ومن الأمور التي يُتهم بها كذلك التجارب العلاجية والعلمية التي يقوم بها أطباء الاحتلال في هذه السجون انطلاقاً من سرية السجين، وأن لا علم لأحد بمكانه, وفي هذا الإطار خرجت على السطح العديد من الروايات والقصص التي تحتاج من ينقب عنها ويقدمها للرأي العام.

هذا السلوك اللاإنساني تتعامل به أجهزة الاحتلال مع أبنائها وجنودها حين يقعون بمخالفات، فماذا بالنسبة للأسير الفلسطيني أو العربي؟ الخطورة أكبر والجريمة أوسع، وهذا مدعاة لعلو الصوت، خاصة ونحن لا نعلم ما هي الإجراءات السرية التي يقوم بها الاحتلال بعيداً عن أعين رقابة مؤسسات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية.[4]

انتحار أو إعدام عميل الموساد بن زيغير، والذي يحمل الجنسية الأسترالية، داخل إحدى السجون السرية الإسرائيلية يضع قضية المعتقلين والمخطوفين والمختفين الفلسطينيين والعرب لدى الكيان الصهيوني على طاولة البحث والنقاش من جديد، ويبدو أننا بحاجة إلى حدث كبير أو وسائل إعلام غربية لفتح العديد من الملفات الهامة والعالقة، وبحاجة إلى قرار سياسي وتحرك شعبي ودولي لفتحها.

فمنذ عقود والمعتقلون الفلسطينيون يتحدثون عن وجود معتقلات وسجون سرية لدى الاحتلال الإسرائيلي تحتجز وتختطف العشرات من الأسرى الفلسطينيين والعرب، كما تحدثت العديد من التقارير والمؤسسات الحقوقية والإنسانية عن وجود معتقلات سرية أو أقسام ملحقة بسجون إسرائيلية، وهي منشآت محصنة بشكل تام وجيد، حيث أن بعضها هو عبارة عن ثكنات وقواعد عسكرية، بعضها يعود لحقبة الانتداب البريطاني وبعضها الأخر استحدثنه سلطات الاحتلال.[5]

بن زيغير المعروف أيضًا باسم بن ألون وبن ألن وأحيانًا باسم بنجامين باروز، وكلها أسماء قانونية وضعها على جوازات سفر خلال السنوات العشر التي اشتغل فيها عميلاً للموساد قبل أن يرميه الجهاز في السجن بصورة مفاجئة عام 2010. وتوفي في الزنزانة رقم 15 في كانون الأول من ذلك العام، مشنوقًا في ما قال التحقيق الرسمي إنه انتحار. ولا يُعرف ما فعله زيغير، الإسم المكتوب على شاهد قبره، ليستحق الاعتقال والسجن،  ولا يُعرف ما قدمه من خدمات للموساد رغم أن جوازات السفر التي حصل عليها من وطنه الأم أستراليا تشير إلى احتمالات متعددة، فإن العملاء من ذوي الجنسيات المزدوجة يصلحون لعمليات الاستطلاع والاستكشاف، بما يوفره الجواز غير الإسرائيلي من إمكانية السفر إلى دول مثل سوريا ولبنان وإيران دون قلق من السفر بوثائق مزورة.[6]

وفاة بن زيغير يفتح الباب واسعًا على قضية جديدة – قديمة, وهي المعتقلات السرية الإسرائيلية. فقادة الاحتلال يرفضون الفكرة من أساسها, ويعتبرونها خيالًا وكذبًا، لكن جاءت قصة انتحار أحد منتسبي جهاز “الموساد” فيما أُطلق عليه بالسجين “إكس” ليفجر القضية من جديد.

السجون السرية جريمة تخالف القانون الدولي الذي ينص على مواصفات محددة ومعايير إنسانية عالمية للسجون ولمعاملة المساجين، الأمر الذي يتوجب عدم التوقف عن الحديث عنها, بل وتحريك الرأي العام العالمي تجاهها لفضحها لأنها من جرائم الحرب التي يراكمها الاحتلال على نفسه. وخاصة أن إثارتها الآن تتزامن مع معاناة غير طبيعية لأسرانا، وإضرابهم لنيل حقوقهم الآدمية وعلى رأسها الحرية.

أوضاع السجون السرية

الاعتقال والأسر هو أحدى الوسائل المتبعة لسلطات الاحتلال ضد المقاومين الفلسطينيين والعرب, ولا زالت سلطات الاحتلال تحتجز الآلاف من الأسرى والمعتقلين في سجونها. ولم تكتف سلطات الاحتلال ببناء 28 سجنا ًومركز توقيف وتحقيق، بل سعت إلى إنشاء سجون سرية لتكون مقابر للإحياء تنتهك فيها كل الأعراف والمواثيق الدولية، ويمارس بداخلها كل أصناف التعذيب، دون أن يتمكن احد من اقتفاء تلك الجرائم.

السجون السرية لها طرقها الخاصة للتعامل مع الأسرى الذين يتم احتجازهم بها, ويطلق على هؤلاء الأسرى والمفقودين (أسرى X), وهم أسرى تم اختطافهم أو اختفائهم من سجون الاحتلال أو من مناطق سكناهم دون إبلاغ ذويهم أو منظمات حقوق الإنسان الدولية بمكان احتجازهم أو التهم الموجهة إليهم.

ومن بين الأسرى المحررين الذين تم احتجازهم في السجون السرية من تحدث عن بشاعة أساليب التحقيق وأماكن الاعتقال، وهي عبارة عن زنازين لا تتجاوز مساحتها مترين مربع، يشرف عليها وحدة مختارة تسمى الوحدة (504) المتخصصة في التعذيب وفنونه وأنواعه وأصنافه.

وقد أكد قرار “المحكمة العليا الإسرائيلية” رفض إغلاق السجن السري رقم (1391)، ما تحدثت عنه العديد من المؤسسات الحقوقية والإنسانية بوجود سجون سرية لدى الاحتلال يرفض الإفصاح عنها، حيث تمارس فيها أخطر واقسي أنواع التعذيب والقتل بحق الأسرى بعيداً عن كاميرات الإعلام وزيارات المحامين والصليب الأحمر الدولي.[7]

المفقودين بين الحياة والموت

“أتمنى من الله أن أرى ماجد قريباً”، هذه كانت آخر كلمة قالها الحاج أحمد خليف الزبون قبل أن تصعد روحه إلى بارئها. والحاج أحمد الزبون، هو والد المفقود الأردني ماجد الزبون الغائب عن المنزل منذ واحد وعشرين عاماً، حين اجتاز الحدود مع فلسطين برفقة ثلاثة مجاهدين، أما الآن فلا يدري أحد أين هو، هل هو شهيد أم أسير في سجون الاحتلال.

وفاة الحاج الزبن أعادت فتح ملف المفقودين الأردنيين البالغ عددهم تسعة وعشرين مفقوداً، وهو ما ثبّت فقط في سجلات اللجنة الوطنية لنصرة الأسرى والمفقودين الأردنيين في سجون الاحتلال.

عائلة ماجد هي حلقة من حلقات معاناة العديد من الأسر التي لم تفقد الأمل يوماً بلقاء أبنائهم، أو أقلها أن تستلم أجسادهم الطاهرة إن كانوا شهداء، أو أن تعلم في أي معتقل يوجد إن كانوا على قيد الحياة.[8]

مئات الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين اختفوا منذ سنوات واعتبروا في عداد المفقودين، إما أن يكونوا قد اختفوا في السجون السرية وإما يقضون حكماً بالسجن لسنوات في ثلاجات الموتى، وإما دفنوا في مقابر الأرقام السرية للأبد، وهي عبارة عن مدافن بسيطة أحيطت بحجارة دون شواهد، مثبت فوقها لوحات معدنية تحمل أرقاماً بعضها تلاشى بشكل كامل، وهي غير معدة بشكل ديني وإنساني كأماكن للدفن.

كل شهيد في تلك المقابر يحمل رقماً معيناً، ولهذا سُميت بمقابر الأرقام، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة، يشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد، وتلك المقابر تضم أرشيفاً طويلاً وتتسع للمزيد وقابلة للتوسع.

وقد كشفت مصادر صحفيّة إسرائيلية وأجنبية معلومات عن أربع مقابر أرقام هي:

1- مقبرة الأرقام المجاورة لجسر “بنات يعقوب” وتقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية – السورية – اللبنانية، وتفيد بعض المصادر عن وجود ما يقرب من 500 قبر فيها لشهداء فلسطينيين ولبنانيين غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982، وما بعد ذلك.

2- مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر داميه في غور الأردن، وهي محاطة بجدار، فيه بوابة حديدية معلق فوقها لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية “مقبرة لضحايا العدو”، ويوجد فيها أكثر من مائة قبر، وتحمل هذه القبور أرقاماً من 5003 – 5107، ولا يعرف إن كانت هذه الأرقام تسلسليه لقبور في مقابر أخرى أم كما تدعي إسرائيل بأنها مجرد إشارات ورموز إدارية لا تعكس العدد الحقيقي للجثث المحتجزة في مقابر أخرى.

3- مقبرة “ريفيديم” وتقع في غور الأردن.

4- مقبرة “شحيطة” وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبريا. غالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965 – 1975. وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة ينتشر نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً، ومما يثير المشاعر كون هذه المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف، فتظهر الجثامين منها، لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارة.

بما تقدم، فإنه توجد علاقة بين السجون السرية ومقابر الأرقام, وتكمن هذه العلاقة على أن الأسرى والمفقودين الذين تم اختفائهم منذ سنوات طويلة ولا يعلم أحد عن مكان وجودهم ربما تعرضوا للقتل وسرقة أعضائهم ودفنهم داخل مقابر الأرقام لكي يتم محو آثار نزع الأعضاء البشرية منها عن طريق تحللها.[9]

كما أنه يتم إجراء التجارب الطبية على عينات من السموم والأدوية على الأسرى والمفقودين في السجون السرية دون رقابة عليها، وتستعملهم كحقول تجارب، ومن يفارق الحياة يتم نقله إلى مقابر الأرقام ليتم دفنه هناك. ومما يؤكد على استعمال الاحتلال الأسرى والمفقودين حقول للتجارب هو مساءلة نائبة في الكنيست عن حزب ميرتس اليساري لوزير الصحة الإسرائيلي عام 1995 عن سبب سماح الوزارة للجهات الأمنية بزيادة نسبة التجارب الطبية على الأسرى والمعتقليين الأمنيين.

الأطباء الإسرائيليون في السجن مجردون من الإنسانية التي من المفترض أن يتميزوا بها عن غيرهم. والأخطر، أن هؤلاء الأطباء يجيزون لأنفسهم ممارسة كل الأساليب الدموية واللاإنسانية، ويسعون دائماً لإبتكار أبشع الأساليب لإلحاق الألم والأذى بالأسرى، وهذه هي سمات سائدة في السجون الإسرائيلية بشكل عام، والسجون السرية بشكل خاص.

وفي بحث خاص، قدمته مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان حول هذا الموضوع، حذرت المؤسسة من قيام الاحتلال باستغلال الأسرى كعينات مخبرية حية لتجريب الأدوية والمستحضرات الطبية الجديدة المنتجة في مختبرات وزارة الصحة الإسرائيلية على أجسامهم، وقياس تأثيراتها على الوظائف الحيوية، تماماً كاستخدام الحيوانات المخبرية في مختبرات الوزارة.

بل إن رئيسة لجنة العلوم البرلمانية سابقاً “داليا إيزك” قد كشفت النقاب داخل أروقة الكنيست، وفي جلسة أمام أعضائه، عن ممارسة ألف تجربة لأدوية خطيرة تحت الاختبار الطبي سنوياً بحق الأسرى الفلسطينيين والعرب. وتعد مثل تلك الممارسات من الجرائم الأخلاقية، التي تثير الكثير من الضجة والملاحقات القانونية حول المسؤولين عنها، كونها تتعلق مباشرة بانتهاك حقوق الإنسان والاعتداء المباشر على حياة الأسرى.

كما أكد تقرير مؤسسة التضامن الدولي كذلك أن رئيسة شعبة الأدوية في وزارة الصحة وعضو الكنيست، “أمي ليفتات” كشفت النقاب أيضاً عن زيادة بنسبة 15% في عدد التصاريح التي تمنحها وزارة الصحة الإسرائيلية سنوياً لإجراء التجارب على الأسرى، في اعتراف وإقرار رسمي منها، بتوسع الجريمة وتزايد عدد المعرضين لها.

وتمتد آثار هذه التجارب إلى ما بعد التحرر أو الخروج من الأسر، وهذا ما أكدته بعض الدراسات العلمية التي أثبتت أن الأمراض التي بدأت تظهر على الأسرى السابقين لها علاقة بالسجن، بمعنى أنه من المحتمل أن آثار المواد التي تستخدم في تلك التجارب، بالإضافة إلى آثار سياسة الإهمال الطبي التي تفاقم الأعراض ومع الوقت تصبح مزمنة ومستعصية، هي السبب في وفاة المئات من الأسرى السابقين بعد تحررهم.

إن اخضاع الأسير لتلك التجارب، اعتداء على حقه في الحياة، وامتهان لكرامته، وانتهاك لحقوقه. كما أن التلاعب والعبث بالجسم البشري دون أخذ الاحتياطات وأسباب الوقاية، ودون التحلي بأي شكل من أشكال المسؤولية، أخلاقياً وعلمياً ودينياً، هي من أشد ما يتعارض مع الشرائع السماوية كلها.

وهذا يتناقض بشكل فاضح مع كافة المواثيق والأعراف والإتفاقيات الدولية، وخاصة إتفاقية جنيف الرابعة في مادتها الثالثة عشرة من الباب الثاني التي تنص: “يجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية في جميع الأوقات، ويحظر أن تقترف الدولة الحاجزة أى فعل أو إهمال غير مشروع يسبب موت أسير لديها، ويعتبر انتهاكاً جسيماً لهذه الإتفاقية، وعلى الأخص لا يجوز تعريض أي أسير حرب للتشويه البدني أو التجارب الطبية أو العلمية من أي نوع كان، مما لا تبرره المعالجة الطبية للأسير المعني أو لا يكون في مصلحته”.[10]

طبيعة السجون السرية

تمتلك سلطات الاحتلال من السجون السرية ما يمكّنها من احتجاز مئات الأسرى والمفقودين بداخلها، ويصعب على المنظمات الحقوقية والدولية التنبؤ بعددها، إلا بقدر ما تسمح به سلطات الاحتلال. فالسجن السري الذي يعرف برقم 1391، ليس الوحيد، بل هناك العديد من السجون السرية التي ترفض سلطات الاحتلال الإفصاح عنها والتي يتم احتجاز العشرات بل المئات من الأسرى والمفقودين فيها. وهذا ما أكدته وسائل إعلام إسرائيلية بعد الكشف عن السجن السري رقم 1391، وبعد الشهادات التي نشرتها مؤسسة هموكيد الإسرائيلية لأسرى تم الإفراج عنهم من تلك السجون السرية، وكذلك اعتراف سلطات الاحتلال بوجود هذه السجون في أراضيها دون الإفصاح عن مكان وجودها أو عددها, أو عدد الذين يتم احتجازهم فيها.

المئات من الأسرى والمفقودين اختفوا منذ عام 1967 وحتى هذه اللحظة، منهم فلسطينيين ومن جنسيات عربية وإسلامية ولا يعلم أحداً بمكان وجودهم أو مصيرهم، بينما تنفي سلطات الاحتلال بوجودهم داخل سجونها أو حتى إعطاء معلومات عن مكان اختفائهم، أو هل هم على قيد الحياة أم أسرى في مقابر الأرقام التي تقيمها سلطات الاحتلال وتحتجز المئات من جثث المقاومين فيها, كما لا توجد أي إحصائية رسمية بعدد السجون السرية الإسرائيلية أو بعدد الأسرى والمفقودين الذين يحتجزون فيها.

كما أن هناك العديد من الأسرى الذين تم اختطافهم وأدعت سلطات الاحتلال بأنها قتلتهم ولم يتم تسليم جثامينهم إلى ذويهم أو إبلاغ الهيئات الدولية بمكان وجودهم أو مصيرهم, كما هو الحال للأخوين عادل وعماد عوض الله الذين تم اختطافهم من قبل قوات الاحتلال وأدعت بأنها قتلتهم ولم يتم تسليمهم إلى ذويهم أو حتى إعطاء ما يفيد بأنهم قد أستشهدوا فعلاً. ومن الأسرى الذين اختفوا أيضاً محمد عطية فريج وماجد الزبون وليث الكيلاني من الأردن, ويحيى سكاف من لبنان وغيرهم الكثير.

ورغم اعترافها بوجود هذه السجون بعد فضح وجود المنشأة 1391، إلا أن سلطات الاحتلال تتكتم على مكان وجودها، ولا تسمح لأحد بما فيها المنظمات الدولية بزيارتها أو تفقد المعتقلين داخلها، وإن كان بعض الأسرى المحررين من تلك السجون قد تداولوا أسماء مثل “سجن باراك”، و”سجن صرفند” الذي يقع في قاعدة (ترفين) العسكرية في تل أبيب، وسجن يحمل رقم 1091، و”سجن عتليت”.[11]

وأوضح مسؤول الإعلام في لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة نشأت الوحيدي، أن بناية السجن 1391 تبدو مركز أثري للشرطة يعود لأيام الإنتداب البريطاني على فلسطين، وعادة ما كانت “إسرائيل” تستخدم لافتات تحمل أرقاماً تدل على الطريق للبناية إلا أن الإحتلال في السنوات الماضية أزال هذه اللافتات التي تؤدي للمكان. وأضاف الوحيدي أن هناك معلومات تفيد بوجود أكثر من 70 بناية شيدت في عهد الإنتداب البريطاني لاستخدامها كمراكز للشرطة، يمكن للعديد منها أن يستخدم دون إثارة أي شبهات حوله يستطيع الإحتلال أن يستخدمها كأماكن لإخفاء جرائم الحرب التي يرتكبها بحق الفلسطينيين، ومن بين هذه البنايات أو السجون السرية ما عرف باسم “سجن صرفند، وسجن باراك، واشموريت، وكيشون”.[12]

كما يؤكد  الصحفي الفرنسي جوناثان كوك وجود العديد من السجون السرية الإسرائيلية، إذ يقول في ختام وصفة للسجن السري 1391: “بناية أخرى، في الخضيرة، جنوب تل أبيب، يشتبه في أن أنها كانت سجناً سرياً حتى السبعينات. رسميين سابقين في منظمة الصليب الأحمر الدولية، تابعوا قضايا السجناء أثناء الانتفاضة الأولى ما بين الأعوام 1987-1993، قالوا إن المنظمة علمت أن إسرائيل تحتجز الفلسطينيين بشكلٍ سريّ في جناحٍ خاص من مركز اعتقال عسكري بالقرب من مدينة نابلس، عرف باسم الفارعة. لقد اشتبهوا في أنه ربما يكون لدى إسرائيل العديد من السجون السرية، يتم فتحها بحسب الحاجة وكلما اقتضت الضرورة. إذ أثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، استخدم العديد من تلك السجون السرية، كما أن تراكم أعداد المعتقلين الفلسطينيين في السنة الماضية أجبر الإسرائيليين إلى إعادة فتح هذه السجون السرية”.[13]

أما عدد الأسرى والمفقودين الفلسطينيين والعرب الذين يتم احتجازهم في السجون السرية، فإنه لا توجد معلومات دقيقة عنهم، ولكن يعتقد أن عددهم يفوق المائة وثلاثون أسيراً من جنسيات عربية وفلسطينية.[14]

لماذا يخفون الأسرى؟

السؤال الذي يثار مراراً وليس له جواب شافي حتى الآن هو: ما المعيار الذي يتبعه الصهاينة في الاعتراف بوجود أسير أو إنكار وجوده؟ لماذا اعترفت “إسرائيل” بأسري وأنكرت وتنكر حتى الآن معرفتها بمكان ومصير غيرهم من الذين قاموا بعمل مماثل؟ ولماذا يحتفظ الصهاينة بأسرى مجهولين؟ وما هي الفائدة التي يجنونها من إقامة السجون السرية؟

هل تكمن الإجابة في أنه إذا سارع الإعلام إلى مكان الحادث يتم الإعلان؟ أو إذا شهد عملية الأسر عدد كبير من الجنود أو شاركوا فيه؟ أم أن حجم الإصابات التي أوقعها الأسرى في صفوف المحتل، ومدى جرأة المقاومين وجبن الجنود الصهاينة أخجل قادتهم فأرادوا إخفاء فضيحتهم؟ وقد يسأل البعض لماذا يحتفظ الصهاينة بأسرى مجهولين، وما الفائدة المرجوّة من إقامة السجون السرية؟

أجرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوم 13/10/2003 لقاءً صحفياً مع رئيس الوزراء أريئيل شارون، فكان مما قاله في هذه المقابلة: “إسرائيل لديها التزام من الدرجة الأولى في إنقاذ أي يهودي يأسره العرب… وأنا أتعامل مع هذا الملف منذ ما يقارب خمسين سنة. وعندما كنت في سلاح المظليين، كنا نخطف جنوداً أردنيين ضمن خطة أسميناها بنك الأسرى لنستخدمهم كأوراق مساومة إذا وقع جنودنا في الأسر”.

ومن المعلوم للجميع أن الأردن لم يجر أي عملية لتبادل الأسرى مع الحكومة الإسرائيلية منذ ذلك الحين، فأين ذهب الجنود الذين اعترف شارون بخطفهم؟

في صيف 2003، تجدد النقاش الداخلي في الحكومة الإسرائيلية حول العملية الفاشلة لتحرير الجندي نحشون فاكسمان الذي كانت حماس أسرته عام 1995، غير أنه قتل أثناء محاولة تحريره بيد وحدة خاصة تابعة لقيادة أركان الجيش الإسرائيلي. وفي إطار ذلك النقاش، أجرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” مقابلة مع قائد وحدة خاصة تابعة للبحرية الإسرائيلية، قال فيها: “لو سمح لوحدتي القيام بعملية تحرير فاكسمان لأخرجناه كما أخرجنا الأخوين عادل وعماد عوض الله”.

عادل وعماد عوض الله هما قادة في كتائب القسام بالضفة الغربية، لا تزال الرواية الرسمية باستشهادهما تثير العديد من التساؤلات، خاصة في ظل الرفض الإسرائيلي لتسليم جثتيهما حتى بعد قرار المحكمة العليا بذلك، مما يدعو إلى الاعتقاد بأنهما لا يزالان على قيد الحياة ومحتجزين في سجن سري.

الروايات والشهادات حول وجود السجون السرية لا تعد ولا تحصى، وهناك شهادات حية لمعتقلين فلسطينيين التقوا في الزنازين بأناس يعتبرون في عداد المفقودين منذ عام 1967 وحتى اليوم. ومع تقاعس الحكومات العربية عامة، وتلك الموقعة على “اتفاقات سلام” بشكل خاص عن متابعة هذا الملف، والعمل على كشف مصير جنودها ومواطنيها المفقودين، تبقى الحاجة قائمة إلى قيام لجنة حقوقية دولية مختصة لكشف الحقيقة المؤلمة وحل هذا اللغز الإنساني.[15]                                              

مقابر للأسرى الأحياء

وفي تعليقه على انتحار العميل بن زيغير في سجن سري، أكد الجنرال المتقاعد رافي إيتان، وهو مسؤول سابق رفيع المستوى في جهاز “الموساد”، إنه لا يستبعد وجود سجناء آخرين بأسماء مستعارة في السجون الإسرائيلية، معللاً ذلك بأن “إسرائيل” ليست كأي دولة أخرى وهي في حالة حرب دائمة”. واعتبر الجنرال إيتان، أن “إسرائيل محاطة ببحر من الدول العدوة التي لا تزال للأسف تعيش في القرن الرابع عشر. التهديدات التي تستهدف إسرائيل مستمرة، ولذلك لا بد من اللجوء لمثل هذه الآليات والأساليب من قبل الأجهزة الاستخباراتية، رغم كل الضجة التي تثيرها الصحافة العالمية”.

وانتقد إيتان أسلوب تعامل تل أبيب مع القضية إعلامياً، مشيراً إلى أنه “يصعب في هذا العصر إخفاء أي معلومات، وبكبسة زر يمكن أن تصل المعلومات لكل أرجاء العالم، والمشكلة أننا لم نتعلم بعد كيف نتعامل مع هذه المواضيع. من اللحظة التي انتشر فيها الموضوع كان على إسرائيل بدل محاولة التستر عليه ومنع انتشاره، أن تقوم بتوجيه رسائل مضادة وحتى مضامين مغلوطة للتمويه”.

أما قاضي المحكمة الإسرائيلية العليا السابق، يعقوب تيركل، والذي سبق له أن ترأس لجنة إسرائيلية مختصة بالتحقيقات مع السجناء أمام القانون الدولي، فاعترف بوجود حالات مشابهة في السابق، وأن حالة السجين بن زيغير ليست الأولى من نوعها.

وقال تيركل لإذاعة الجيش الإسرائيلي: “سنتعامل بنفس الطريقة مع سجناء آخرين في حال تطلب أمن الدولة ذلك”. وأضاف:”لا يوجد سجناء مجهولون في إسرائيل، ولكن هناك فقط سجناء يقبعون في السجن تحت أسماء مستعارة. ومع مر السنوات تم اتباع تعليمات معينة تضمن أن يكون عزل السجين وكل ما يتعرض له في سجنه تحت رقابة قضائية كاملة، خاصة أنه لا يمكن أن يكون قرار إخفاء شخص ما قراراً اعتباطياً. في إسرائيل هناك رقابة، وعلينا أن نتذكر أن مثل هذه الخطوات تهدف إلى حماية أمن كل واحد منا، لأن المعلومات التي يتم تسريبها يمكن أن تؤدي لإلحاق ضرر بكل واحد من بيننا”.[16]

والغرض الأساسي التي أنشأت من أجله السجون السرية هو أخفاء الأسرى لجعل عملية اقتفائهم أمراً صعباً وشبه مستحيل من منظمات حقوق الإنسان الدولية أو من قبل عائلاتهم. ولم يقتصر الاختفاء لأسرى فلسطينيين، بل أن هناك العشرات من الأسرى العرب الذين تم اختطافهم واختفائهم بعد لحظات من اعتقالهم، ومنهم جنوداً تم اختفائهم منذ سنوات طويلة وخاصة المفقودين من جنسيات أردنية ومصرية وغيرها من الجنسيات. وتتخذ سلطات الاحتلال من عمليات الاختطاف والاختفاء من أجل عمل بنك الأسرى يتم التبادل بهم في حال وقوع أسير إسرائيلي مع أي جهة عربية, وهذا ما كشفه رئيس الوزراء السابق “أرئيل شارون” بأن الجيش الإسرائيلي كان يقوم بخطف جنود أردنيين في الخمسينات ضمن خطة تسمى “بنك أسرى” لاستخدامهم كأوراق مساومة في حال وقع جنود إسرائيليين في الأسر.

هذا الإقرار أو الاعتراف يؤكد بشكل لايدع مجالاً للشك بأن سلطات الاحتلال لديها العديد من السجون السرية، وأن عدد المفقودين في تلك السجون السرية يفوق كل التوقعات مما هو معلن عنه حتى الآن, مع رفض الكشف عن هذه السجون أو السماح لأي من المنظمات العالمية والحقوقية بزيارتها.

وتعتبر السجون السرية الإسرائيلية مقابر حقيقية للأسرى والمفقودين الذين يتم احتجازهم بداخلها وذلك لعدم توفر المقومات الدنيا للحفاظ على كرامة الأسير والمفقود بداخلها، إذ تتميز جدران غرف السجون السرية باللون الأسود، والإضاءة الخفيفة، ولا تتعدى مساحة زنازينها المترين مربعة في أحسن الأحوال, كما لا يتم السماح للأسير بالدفاع عن نفسه أو بتوكيل محامي لينوب عنه، ويمنع من الزيارة أو لقاء ذويه أو أي من المنظمات الحقوقية الدولية ومنها الصليب الأحمر الدولي، كما لا يسمح بالتريض في الهواء إذ لا توجد مساحات كافية في هذه السجون للتريض. وعند انتقال الأسير من زنزانته، يتم وضع كيس أسود اللون على رأسه وتكبيله.[17]

التعذيب في السجون السرية

التعذيب هي سمة الاحتلال مع كافة الأسرى سواء كانوا فلسطينيين أو عرب, وهو مشرع بموجب قانون خاص يخالف كافة الأسس والمبادئ القانونية الدولية. وتتنوع أساليب التعذيب في السجون السرية, لإجبار الأسير على الاعتراف أو الموت. ومن بين أساليب التعذيب المتبعة وفق شهادات لأسرى محررين من هذه السجون, استخدام التعذيب النفسي والجسدي بشكل روتيني, شد القيد, عدم السماح للأسير بقضاء حاجته, الربط على الكرسي بشكل مؤلم, عدم السماح للأسير بالنوم ورشه بالماء البارد إذا استلقى ونام, التهديد, الاغتصاب, تعرية الأسير من ملابسه أثناء التحقيق, الهز العنيف, الركل, إجبار الأسير على الجلوس الغير مريح أو الوقوف لفترات طويلة.

كما يتم إخبار الأسير بأنه محتجز فوق القمر، إما أن يعترف أو ينتهي ولا يعلم أحداً ماذا حصل معه, ويشرف على التحقيق قادة بلباس رسمي, وليس بلباس مدني كباقي السجون المعروفة. وهذا يدل على بشاعة أنواع التعذيب المتبعة في هذه السجون وإتباعها للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.[18]

محاكمات عسكرية

تتم محاكمة أسرى السجون السرية (أسرى X) كغيرهم من الأسرى والمختطفين ولكن في ظروف غير متشابهة, وأمام محاكم مختلفة يغلب عليها الطابع العسكري, وفي أوقات محددة, حيث أن هناك العديد من المحاكمات التي تتم لأشخاص في الكيان الصهيوني لا يتم توثيقها أو معرفة الأشخاص الذين يتم محاكمتهم. وقد نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية, بأن محاكمة هؤلاء الأسرى تجرى أمام محاكم إسرائيلية لا أحد يعلم ما يحصل في المداولات، ومن هم المتهمون، وأي تهم موجهة إليهم, أو أي دفاع يحصلون عليه, وتتم هذه المحاكمات بشكل سري وأمر سري تحت إدعاء أن ذلك يضر بأمن كيان الاحتلال إذا ما نشر، بحيث يتم إحضار الأسير أمام قاضي، وعادة يكون في منزل القاضي وإذا تعذر ذلك يتم إحضاره إلى المحكمة في ساعات المساء ويتم تخزين وثائق الاعتقال في خزينة خاصة, كما لا يتم تسجيل المداولات ضمن مداولات المحكمة، ومحضر الجلسة يشرف تتم طباعته من قبل موظفة من مكتب رئيس المحكمة على حاسوب متنقل ومرتبط بالحاسوب المركزي للمحكمة.[19]

مخالفة القونين الدولية

يعتبر الاحتجاز السري للأسرى والمفقودين وعدم إبلاغ عائلاتهم أو المنظمات الدولية ذات الشأن والحقوقية منها بمكان وجودهم، وممارسة شتى أنواع التعذيب بحقهم من الجرائم المستمرة والتي تحدث كل يوم سواء كان من خلال الاستمرار في احتجاز الأسرى والمفقودين في باستيلات الإجرام الإسرائيلي أم احتجازهم أموات في مقابر الأرقام والتي جميعها تشكل انتهاكات وجرائم وفقاً للقانون الدولي التي تعد اتفاقيات جنيف أحد أركانه الأساسية, ومخالفاً لكافة ألأعراف والمبادئ الدولية. كما تعتبر انتهاكاً لقواعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وجريمة حرب يعاقب عليها القانون الجزائي الدولي خاصة المواد 8/7 من نظام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

المؤسسات الحقوقية الدولية مطالبة أن تفتح تحقيق جدي فئ وجود سجون سرية لدى الاحتلال الإسرائيلي، يحتجز فيها أشخاص لا يعرف مصيرهم سواء كانوا أحياء او أموات، وعلى تلك المؤسسات أن تضغط على الاحتلال للكشف عن أسماء وأماكن تلك السجون وحقيقة المعتقلين فيها، وأن تسعى من أجل إغلاق تلك السجون، لأن وجودها يشكل خرق فاضح لكل الأعراف والمواثيق الدولية.

وقد طالبت لجنة مناهضة التعذيب بتاريخ 15/5/2009 دولة الاحتلال بتحديد مكان السجن 1391 أنذاك، والسماح بدخول الصليب الأحمر الدولي إليه, وأنه على المحكمة الاسرائيلية أن تتكفل بالتحقيق بحياد في كل حالات التعذيب والمعاملة السيئة للمحتجزين في هذا المعتقل وإعلان النتيجة على صفحات الجرائد.

كما أكد تقرير الأمم المتحدة أن دولة الاحتلال هي واحدة من 66 دولة تحتجز أشخاصاً في سجون سرية. وأكد التقرير أن الضحايا وعائلاتهم يملكون الحق في التعويض وأن المسؤولين عن الأعمال الإجرامية يجب أن يخضعوا للقضاء, وأن الاحتجاز السري يمثل انتهاكاً للمبادئ الدولية لحقوق الإنسان، حتى وإن كان في حالات الطوارئ.[20]

السجن السري 1391 نموذجاً

تمتلك سلطات الاحتلال كما أسلفنا العديد من السجون السرية التي يتم احتجاز مئات الأسرى والمفقودين بداخلها, ولا يستطيع أي شخص أو منظمة حقوقية أو دولية التنبؤ بعددها إلا بقدر ما تسمح به سلطات الاحتلال, حيث تم الكشف عن سجن سرى واحد فقط يحمل رقم (1391).

“غوانتانامو إسرائيل” هو الإسم الأفضل ليطلق على هذا السجن، بالرغم أنه لم يحظ بأي شهرة مقارنة بمعسكر غوانتانامو، لكنه ينتهك القوانين الدولية والإنسانية بشكلٍ أفظع. وعلى عكس معسكر الاعتقال الأميركي، لا يعرف أحد بدقة مكان السجن الإسرائيلي. فهو ليس بمكان معرّف على الخرائط، كما محي عن الصور الجوية، وأزيلت لافتة الطرق المرقمة الخاصة به. وليس هناك صور فوتوغرافية قريبة أو حتى بعيدة المدى للمحتجزين فيه، كالتي أخذت للمحتجزين في معسكر غوانتانامو. كما أزالت الرقابة العسكرية جميع ما ذكر حول موقع السجن من الإعلام الإسرائيلي، وذلك بداعي التكتّم والسريّة الضرورين “لمنع إلحاق الضرر بأمن الدولة”.

الصحفيين الأجانب الذين أفشوا سر المعلومات حول هذا السجن مهددين بالإبعاد خارج فلسطين المحتلة. لكن، وبالرغم من محاولات الحكومة لفرض تعتيم إعلامي، تم ترسيب معلومات حول أحداث مرعبة جرت في هذا السجن. فقد استخدم هذا السجن بشكلٍ مكثف لاحتجاز المعتقلين العرب والأجانب، من أردنيين، لبنانيين، سوريين، مصريين أو إيرانيين، إلا أنه ليس من المعروف عدد الذين احتجزوا فيه.[21]

كما استخدم جيش الاحتلال هذا السجن للاحتجاز والتحقيق مع بعض الأسرى الفلسطينيين، خاصة من تعتبرهم قادة للعمل المسلح ضدها، ولم يكن بإمكانها بطبيعة الحال إخفاء خبر اعتقالهم وبما أنهم لم يدخلوا السجون المعروفة، ولم يُسمح للمحامين بزيارتهم، فقد كان ذلك مؤشراً قوياً على وجود سجون سرية، وعندما خرجوا من التحقيق إلى السجون كثرت الشهادات وتواترت.

الإعلان الأول عن وجود السجن كان مع الاجتياح الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية عام 2002، عن طريق صحفي أجنبي استطاع جمع معلومات عنه، خصوصاً بعد عدم تمكن عدد كبير من المحامين من زيارة موكليهم، إضافة إلى القصة الشهيرة لتعذيب الأسير اللبناني مصطفى الديراني داخل السجن مع عدد كبير من المعتقلين اللبنانيين. وإذا كان الفلسطينيون الذين مرّوا على هذا السجن السرّي بقوا تحت سيطرة جهاز “الشاباك”، المسؤول عن عمليات التحقيق في جميع مراكز التوقيف الإسرائيلية، فإن أصحاب الجنسيات الأخرى تقع مسؤولية التحقيق معهم على عاتق الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.[22]

عاد الرقم “1391” إلى التردد من جديد خلال عام 2009 في وسائل الإعلام العالمية والإسرائيلية بعد تقرير لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، والتي طالبت دولة الاحتلال بالكشف عن سجونها السرية التي طالما أنكرت وجودها، وأخفتها عن جهات الرقابة الدولية، مثل منظمة الصليب الأحمر وغيرها.

ونشرت صحيفة “يديعوت احرونوت” ما يشبه بطاقة التعريف بالسجن السري “1391”، وقالت إنه يعتبر قاعدة تستخدم للتحقيق مع “الأسرى الخطيرين وجنود الجيوش المعادية الذين يقعون في أسر القوات الإسرائيلية”، وفيه تم التحقيق مع منفذي عملية الساحل الشهيرة والفلسطينيين الذين حاولوا تفجير طائرة العال في مطار نيروبي، وهو يتبع شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي. ويقوم جنود الشرطة العسكرية بكافة الخدمات اللوجيستيه، مثل نقل المعتقلين منه وإليه، واقتيادهم من غرفهم تحت الأرض إلى غرف التحقيق، إضافة إلى نقل كافة احتياجات السجن الأخرى، فيما يقوم بأعمال التحقيق محققون من شعبة الاستخبارات العسكرية ومساعديهم من “الموساد” و”الشاباك”، وجميعهم مختصون بالتحقيق مع الأسرى.[23]

معلومات وبيانات المنشأة

من جانبه، أكد الباحث نشأت الوحيدي، مسؤول الإعلام في لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية والمكلف بإعلام الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين الفلسطينيين في قطاع غزة، أن الاحتلال الإسرائيلي قام بحجب كافة المعلومات والبيانات والدلائل التي تشير لوجود السجن 1391، إلى جانب تهديد وتحذير الإعلاميين والباحثين والناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان الذين ينشرون معلومات عن تلك السجون السرية بالإعتقال والإغتيال أو الإبعاد.

وقال الوحيدي أن المعلومات الفلسطينية التي توفرت لديه، وحسب متابعته لهذا الملف، وحسب مصادر إعلامية وأبحاث تعود لناشطين فلسطينيين من الرعيل الأول، أفادت بأن السجن السري 1391، يقع في منطقة مجاورة للضفة الغربية، بدأ الإحتلال الإسرائيلي يستخدمه في إخفاء جرائمه منذ أوائل العام 1967.

وأضاف الوحيدي بأن السجن 1391 عبارة عن بناية اسمنتية تتوسط كيبوتساً إسرائيلياً يتبع لإحدى القرى التعاونية ومحاطة بالأشجار الكثيفة، وجدران السجن مرتفعة جداً، وتحده الأبراج العسكرية للمراقبة وأن الإحتلال يعتبر هذه السجون مناطق عسكرية مغلقة كحال مقابر الأرقام.[24]

سجن 1391، بناية مبنية من الإسمنت في وسط فلسطين المحتلة، يتوسط قرية إستيطانية بالكاد ترى في أعلى التلة لأنها محاطة بالأشجار الحرجية والجدران المرتفعة. ويبدو السجن من الخارج كأي مركز شرطة بناه البريطانيون أبان انتدابهم لفلسطين، له برجين مراقبة توفر الحراسة العسكرية والمراقبة المكثفة لمحيط المنطقة. والشهادت التي أدلى بها عدد من المعتقلين السابقين في ذلك السجن تفترض بأن السجن مزدحم بالمعتقلين.[25]

وفي المقابل، ذكر الأسير المحرر سامر المصري أنه يعتقد أن السجن في مكان قريب من الساحل، لأنه كان يسمع أصوات بعض الطيور البحرية كطائر النورس بالقرب من المكان المذكور، وكذلك نظراً لقصر المسافة نسبياً عندما تم نقله من التحقيق داخل هذا المعتقل إلى محكمة التمديد في سجن الجلمة بشمال فلسطين. ووصف الأسير المحرر طبيعة هذا المعتقل، بأنه بناء قديم، وجدرانه مهترئة ولونها قاتم، والإضاءة في الغرف ضعيفة جداً، وكل هذه العناصر تؤثر على نفسية المعتقل، خاصة – حسب المصري – أن الغرف في هذا السجن موجودة تحت الأرض، وذلك لشعور الأسير بأنه ينزل بالسيارة منحدراً قوياً قبل الوصول إلى المكان المنشود لبدء جولات التحقيق القاسي معه.[26]

تقول المحامية الإسرائيلية “ليئـا تسيمل”، المتخصصة في الدفاع عن الفلسطينيين: “أي شخص يدخل هذا السجن يختفي، ومن المحتمل للأبد”. وتضيف: “لا فرق بينه وبين سجن يديره الديكتاتوريون العنصريون من جنوب أفريقيا”. وقد طالبت المحامية “ليئا تسيمل” و”مركز الدفاع عن الفرد” واسمها المشهور “هاموكيد” عام 2002 بمعلومات عن هذا السجن، وإظهار الفلسطينيين المفقودين لبرهنة أنهم لا زالوا على قيد الحياة. وقد اعترفت السلطات الإسرائيلية بأن المعتقلين المفقودين كانوا محتجزين في السجن السري، لكنها لم تعط أي تفاصيل، لكنها أحالت جميع المطالب إلى ما يسمى رئيس شعبة مكافحة الإرهاب بالقرب من حيفا.[27]

وهنا قامت منظمة “هاموكيد”، برفع دعوى قضائية إلى المحكمة العليا الإسرائيلية تطالب فيها الحكومة بكشف المعلومات حول هذا السجن واستندت إلى أن القانون الدولي والإسرائيلي يعارضان وجود سجون سرية، وقد اعترف الإدعاء العام بوجود السجن، وأنه يستخدم لحالات خاصة وغير مخصص للأسرى الفلسطينيين، وأنهم توقفوا عن استخدامه منذ مدة ولم يبق فيه إلا عدد قليل من الأسرى الذين رفض الادعاء كشف هوياتهم وظروف اعتقالهم.

قامت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، ببث تقرير مفصل عن هذا السجن وكشفت العديد من المعلومات المستقاة من “هاموكيد”، ثم توالت التقارير الصحفية في الصحف العبرية مثل الخبر الذي نشرته “يديعوت أحرونوت” في 3/8/2003، والخبر المنشور يوم 27/8/2003 في “معاريف”.[28]

أما في التحقيق الصحفي الذي كتبه أفيف لافي في صحيفة “هآرتس” العبرية، فقد فضح فيه ممارسات شعبة الاستخبارت العسكرية داخل المعتقل، ووصفه أنه نسخة جديدة لغوانتنامو. وجاء في هذه التفاصيل: يتذكر الجندي (م) المرة الأولى التي أرسل فيها لتنفيذ مهام حراسة في معسكر 1391. فقبل أن يصعد إلى برج الحراسة، تلقى أمرا صريحاً من الضابط المسئول: “عندما تكون فوق البرج، لا تنظر إلا إلى الأمام. إلى خارج القاعدة، وإلى الأطراف. أما ما يحدث خلفك فهو ليس من اختصاصك. إياك أن تدير رأسك إلى الوراء.

لكن جندي الاحتياط في سلاح الاستخبارات، لم يكن قادراً على ضبط نفسه، إذ راح يسترق النظر بين حين وآخر، إلى الوراء. شاهد من فوق نقطة حراسته الجدران الشائكة المزدوجة المحيطة بالمعسكر، وكلاباً هجومية مدربة تجول في الشريط الواقع بين الجدارين، وسيارة جيب عسكرية تقوم بأعمال الدورية في الجانب الداخلي للسياج، والمركبات التي يستخدمها أفراد الوحدة التي تتولى إدارة القاعدة، والمبنى الإسمنتي الضخم، القديم، الذي استخدمته الشرطة البريطانية في عهد الانتداب والذي تحيط باسمه الآن هالة من الغموض: معسكر الاعتقال السري في دولة إسرائيل.

ثمة أوجه شبه معينة بين معسكر الاعتقال الأمريكي في كوبا وبين هذا المعسكر، وخصوصاً بكل ما يتصل بعلامات الاستفهام القانونية والقضائية التي تحوم حول المعسكرين والشكوك المريبة حول ما إذا كان وجودهما أو نشاطهما يتماشى مع مبادئ الديمقراطية. ولعل معسكر غوانتانامو الأمريكي يتقدم على نظيره الإسرائيلي من حيث الموقع الجمالي على الأقل، إذ تشاهد أبراج الحراسة الأولى من مياه البحر الكاريبي، في حين يقع السجن السري الإسرائيلي بجانب شارع اعتيادي وسط البلاد.

من الداخل، يبدو السجن كأي قاعدة عسكرية اعتيادية، عنابر للجنود وغرفة طعام وورشة لتصليح وصيانة السيارات. وباستثناء الحراسة الجسدية، التي أوكلت لمجندين جدد في الغالب، فقد أحيط المعسكر 1391 من جانب دولة إسرائيل بسور حصين من التكتم والسرية.

فمنذ الثمانينيات، حينما نقل المعسكر من موقعه السابق في جنوب البلاد إلى موقعه الحالي، تبذل إسرائيل كل جهد مستطاع في سبيل إبقاء وجود هذا السجن في حد ذاته طي السرية التامة. وحتى بعدما كشف أمره، لا تزال الدولة ترفض إشراك العالم والجمهور الإسرائيلي في طائفة التساؤلات المتعلقة بالسجن: مكانه، وهوية المعتقلين، وأسباب سجنهم هناك، ومدة سجنهم، وهل حوكموا قبل سجنهم، أو هل ينتظرون المحاكمة، وما هي الظروف التي يتم اعتقالهم فيها، وغيرها من التساؤلات التي تكون إجاباتها في أي معسكر أو منشأة اعتقال أخرى في إسرائيل واضحة وخاضعة لرقابة خارجية وقضائية.

سجن 1391، حسبما هو معروف، هو السجن الوحيد الذي لا يعرف المعتقلون فيه مكان احتجازهم، فعندما حاول أحد منهم الاستيضاح، رد عليهم الحراس بأنهم محتجزون “في المريخ” أو في “الفضاء الخارجي” أو “خارج حدود إسرائيل”. وهذا هو السجن الوحيد الذي رفضت الدولة السماح لممثلي الصليب الأحمر بزيارته. كما أن أعضاء الكنيست لم يقوموا بزيارته مطلقاً، حتى أن السياسيين الإسرائيليين، وبضمنهم مسؤولون سابقون في الحكومة، أبدوا جهلاً تاماً بشأن وجوده عندما سئلوا عنه.

يقول المحامي دان باكير، المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن في إسرائيل إن أي منشأة اعتقال سرية تعتبر منافية للمبادئ الأساسية في أي مجتمع ديمقراطي، وللشفافية والرقابة العامة على سلطات الحكم. كما إن وجود معتقل من هذا النوع يثير مخاوف مزدوجة، أولاً مخاوف بوجود اعتقالات سرية وحالات اختفاء أو مفقودين، وثانياً مخاوف من إساءة استخدام القوة وإساءة المعاملة وممارسة العنف والتعذيب.

هذه المخاوف لها أساس من الصحة كما سنبين لاحقاً، إذ تقول عضو الكنيست زهافا غالئون والتي طلبت السماح لها بزيارة سجن 1391، لكنها لم تلق جواباً إن حقيقة وجود سجن كهذا، لا يعرف أحد مكانه من ناحية رسمية، هي من سمات الأنظمة الديكتاتورية، الشمولية ودول العالم الثالث.

ولعل أحد أسباب هالة السرية المحيطة بالمكان يرجع إلى حقيقة كونه وسط قاعدة عسكرية تتبع إحدى الوحدات السرية في سلاح الاستخبارات – الوحدة 504 – التي تتولى جمع معلومات استخبارية عن طريق العنصر البشري، وبشكل أساسي بواسطة استخدام عملاء ومخبرين خارج فلسطين المحتلة. ويتولى بعض ضباط الوحدة مهمة تشغيل العملاء والاتصال بهم، فيما يعمل ضباط آخرون في التحقيق.

نشاطات الوحدة المكثفة في لبنان سلطت الأضواء على معسكر 1391، الذي تحول إلى مركز للتحقيق مع المشبوهين بالانتماء لمنظمة حزب الله الذين اعتقلهم أو اختطفهم الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وكان من أشهرهم الشيخ عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني.

الطائرة العمودية التي اختطف بها الشيخ عبيد من منزله في بلدة جبشيت بجنوب لبنان، أحضرته مباشرة إلى بوابة المعسكر 1391. ولم يغادر عبيد المعسكر، باستثناء حالات تمديد اعتقاله في المحكمة، سوى مرة واحدة بعد مرور 13 عاماً على اختطافه واحتجازه، حيث نقل عبيد وديراني إلى سجن كفار يونا.

لكن عبيد وديراني ليسا المختطفين الوحيدين اللذين زج بهما في زنازين 1391. فقد احتجز فيه أحد الشبان اللبنانيين، ويدعى هاشم واصف، الذي تصادف وجوده في منزل الشيخ عبيد عندما قامت وحدة إسرائيلية باقتحام المنزل، لتقتاده أيضاً، حيث مكث 11 عاماً في السجن، بداية في معسكر 1391 ثم نقل في السنوات الأخيرة إلى سجن الرملة. وطوال هذه المدة لم يحاكم أو توجه له أية تهمة، فضلاً عن أن الحكومة الإسرائيلية أنكرت في السنوات الأولى حقيقة وجوده رهن الاعتقال لديها، ومنعته من الاتصال مع العالم الخارجي.

وفي نيسان 2000، أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا الإفراج عن هاشم مع 18 معتقلاً لبنانياً آخرين احتجزوا حسب الرواية الإسرائيلية الرسمية كرهائن مقابل ملاح الجو الإسرائيلي المفقود في لبنان رون أراد.

يقول بعض سكان المنطقة التي يقع فيها معسكر 1391، إنهم يتذكرون أنه كانت هناك لغاية السبعينيات لافتة قرب المعسكر تشير إلى أن البناية الإسمنتية القديمة التي تتوسطه استخدمت في عهد الانتداب كمخفر للشرطة البريطانية، ثم اختفت اليافطة، وكذلك اليافطة التي وضعت لاحقاً قرب مدخل القاعدة والتي كتب عليها اسم المعسكر 1391، أزيلت قبل عدة سنوات.

في الصور الجوية الرسمية، وكما هو متبع إزاء المنشآت الأمنية الأخرى، لا وجود للمعسكر، حيث تظهر مكانه حقول وتلال جيء بصورها من مكان آخر لتوضع بطريقة تخفي كل أثر للمعسكر في الصور الجوية. كذلك، فإن معظم الخرائط لا تحتوي على أثر للمعسكر.

يتعين على القادمين للمعسكر اجتياز بوابتين أحيطتا بأسلاك شائكة. بعد اجتياز البوابة الأولى يتم إقفالها آلياً، وبعد ذلك فقط تفتح البوابة الثانية. قسم الاعتقال والتحقيق يقع على مقربة من غرفة الطعام. زنازين الاعتقال القائمة على دهليز طويل، تلتصق إحداها بالأخرى، تفصل بينها جدران إسمنتية سميكة. ولا يستطيع المعتقلون الإتصال فيما بينهم سوى عن طريق القرع على الجدران أو الصراخ على بعضهم، كما يقول أحد الضباط الذين خدموا في المعسكر، مضيفاً: إن هذه ممنوعات، لكننا لم نكن نملك القدرة دوماً على ملاحقة مثل هذه الأمور. وحتى لا يتمكن المعتقلون من معرفة مكان وجودهم، يتم إحضارهم لمعسكر الاعتقال بعيون معصوبة. وفي مرحلة استيعابهم داخل السجن، تصادر منهم حاجاتهم الشخصية، وتنزع عنهم ملابسهم ليرتدوا بدلاً منها بنطالاً وقميصاً بلون أزرق.

زنازين الاعتقال متشابهة جداً، وهناك حجرتان فقط واسعتان نسبياً (2.5) متر مربع، أما غرف الزنازين فتعتبر سيئة للغاية، إذ لا تزيد مساحتها عن 1.25 متر مربع. كما أن الظلمة فيها شديدة، حيث طليت جدرانها باللون الأسود أو الأحمر. أبواب الزنازين صنعت من فولاذ سميك، ولا يوجد في الزنزانة أي نافذة أو تهوية ما عدا كوة صغيرة في الباب لا تفتح إلا من الخارج.

داخل كل زنزانة توجد مسطبة من الباطون ملاصقة لأحد الجدران تستخدم كسرير وضعت عليه فرشة وبطانية. وفي الجدار المقابل للمسطبة، هناك فتحة، أشبه بماسورة يضخ الماء عبرها، لكن الحنفية تخضع لسيطرة وتحكم الجنود خارج الحجرة. وهناك تحت مصب الماء ثقب في أرضية الحجرة أو الزنزانة، يستخدم كمرحاض لقضاء الحاجة.

وفي عدد من الزنازين، المخصصة كما يبدو للمعتقلين قيد التحقيق، لا توجد أية خدمات أو مرافق على الإطلاق، حيث يضطر المعتقلون لقضاء حاجتهم في دلو كبير مصنوع من البلاستيك يتم إفراغ محتوياته مرة واحدة كل عدة أيام.

ولا يستطيع المعتقلون التمييز بين النهار والليل، لأن المصباح الكهربائي الموجود في كل زنزانة يبقى مضاءً على مدار 24 ساعة في اليوم، وبضوء خافت. وتخضع جميع غرف الاعتقال لمراقبة دائمة بواسطة كاميرات تعمل بدائرة مغلقة، علماً أن غالبية المعتقلين محتجزون بشكل انفرادي.

يتلقى المعتقلون وجبات الطعام ثلاث مرات في اليوم، وعندما يأتي السجانون بالطعام يقومون بقرع باب الزنزانة، وعندئذ يتعين على المعتقل، حسب الإجراءات المتبعة، أن يغطي رأسه بكيس أسود وأن يستدير بوجهه إلى الحائط، مرفوع اليدين. ولا يسمح إلا للمعتقلين الذين انتهى التحقيق معهم، بالخروج مرة واحدة في اليوم فورة لمدة ساعة في باحة داخلية ضيقة أرضيتها مكسوة بالرمال.[29]

أساليب التعذيب ونتائجه

يروي الأسير المحرر سامر المصري الذي مكث في هذا المعتقل حوالي 30 يوماً أنه تعرض لتعذيب قاس وبشع جداً، وأضاف: “هذا السجن يتكون من غرف متعددة الأشكال، لا تتعدى مساحتها 190سم×190سم، وكل غرفة لا يوجد لها مرحاض، وعوضاً عنه يوجد كردل لقضاء الحاجة. ويدخل الأسير إلى الغرفة وهذا الكردل مليء وتصدر عنه رائحة نتنة جداً. ولهذا المكان لباس خاص به، حيث يلزم الأسير بخلع كافة ثيابه، حتى الملابس الداخلية، ويعطى ملابس خاصة لا تناسب حجم المعتقل: فإما أن تكون ذات مقاس أكبر أو أقل، وتخرج منها رائحة عفنة شديدة وكأنها مستعملة منذ عشرات السنين”.[30]

قامت منظمة “هموكيد” بطلب رأي من الدكتور “يهوكيم شتاين” المختص بالأمراض النفسية، حول تأثير الاعتقال في مثل هذه الظروف، حيث قال الدكتور شتاين بأنه من خلال علاج الأسير المحرر بشار جاد الله وغيره من المعتقلين الذي أدلوا بشهاداتهم حول ظروف اعتقالهم، تبين أنهم “تعرّضوا لتعذيب عقلي أدّى إلى ظهور أعراض مرض يسمى ف.خ.ض: الفزع، الخضوع، الضعف، نتيجة نقص الغذاء، والنوم، والحركة، والمنبهات العقلية، وكذلك استبعاد أي اتصال إنساني مع محامين، أفراد من الأسرة، معتقلين آخرين، أو حتى حراس وسجانين. وهذا بمجمله أسلوب تعذيب مدروس يهدف إلى الحد من القدرة على مقاومة الاستجواب والتحقيق وإجبار المعتقل على أن يكون خاضعاً بشكل كامل للمحققين”.

هذه الظروف، إلى جانب آلام التعذيب أو حتى التهديد باستخدام التعذيب، مع الخوف من القتل أو بمجرد التفكير في أنك شخصٌ منسي، تجعل من المعتقلين مثالاً حياً لما يدعوه الدكتور “شتاين” الفزع المؤذي نفسياً.

كما يضيف الأسير المحرر بشير جادالله: “عدم معرفتي بالمكان الذي احتجز فيه، أو حتى عدم رؤيتي لوجوه السجانين، جعلني مرتعب جداً. بل الشيء الأصعب هو شعوري بأني قد اختفي ولن تعرف عائلتي مطلقاً ما قد حصل لي”.[31]

كما تضمنت شهادات المعتقلين وصفاً دقيقاً لأساليب التعذيب، وهي نفسها الأساليب التي منعتها محكمة العدل العليا الإسرائيلية عام 1999. وقد شمل ذلك، الضرب المبرح، الركل، الهز العنيف، الإجبار على الجلوس أو الوقوف غير المريح لفترات طويلة، بالإضافة إلى تقييد القدمين واليدين بشكل شديد ومؤلم.

وبحسب الشهادة التي أدلى بها الأسير المحرر محمد جاد الله، كان يتعرّض للضرب بشكلٍ متكرر، وكانت القيود على معصميه تشد بقسوة، وكان يربط إلى الكرسي بشكلٍ مؤلم، بالإضافة إلى عدم السماح له قضاء حاجته، وعدم السماح له بالنوم، ورشقه بالماء البارد إذا ما استلقى نائماً. كما عرض عليه ضباط التحقيق صور لأفراد من عائلته وهددوه بإيذائهم إذا لم يتجاوب معهم. وأضاف: “أحضروا لي صوراً لأبي وهو بثياب السجن، وعرضوا فيلماً قصيراً يظهر أبي كأنه معتقل لديهم، لقد هددوني بسجنه وبتعذيبه”.

لكن على الأرجح أن هؤلاء المعتقلين لم يعانوا كثيراً بالنسبة لأولئك الذين يقضون فترات طويلة في سجن 1391 من أصحاب الجنسيات العربية. فقد أمضى مصطفى الديراني، حوالي 8 سنوات في سجن 1391 السرّي، برفقة أسير لبناني آخر، هو الشيخ عبد الكريم عبيد، حيث تعرّض الديراني في الشهور الأولى من أسره للتعذيب على يد ضابط في الجيش الإسرائيلي يعرف فقط باسم “الرائد جورج”. وقد رفع الديراني قضيتين ضد الحكومة الإسرائيلية والرائد جورج لتعرضه للاغتصاب مرتين: في المرة الأولى، أمر الرائد جورج جندياً إسرائيلياً باغتصاب الديراني، وفي الثانية، أدخل الرائد جورج “هراوة” خشبية في مؤخرة الديراني.

وجاءت اتهامات الديراني لتثبت ما جاء في الشهادات التي أدلى بها جنود خدموا في هذا السجن السرّي، إذ قال أحد المحققين: “أعرف أنه كان من المألوف التهديد بإدخال العصا إذا ما رفض المعتقل التجاوب”. و”الرائد جورج” اعترف أيضاً أن تعرية المعتقلين من ملابسهم بشكل كامل، كان تصرفاً معتاداً أثناء التحقيق.

وليس من الصعب تصور نتائج هذه الممارسات على الوضع العاطفي والنفساني للأسرى. فذلك غسان الديراني، أحد أنسباء مصطفى الديراني، الذي كان قد أسر معه في الوقت نفسه واعتقل في السجن السري 1391، أصيب إثر ذلك بانفصام الشخصية تسبب له بما يعرف بإغماء التخشي.[32]

ظروف التحقيق

وقد أشار الأسير المحررسامر المصري إلى أن غرف التحقيق في هذا المعتقل، تحتوي 4 كشافات إنارة على الأقل تعطي أضاءة قوية جداً، حيث يجبر المعتقل أن يسلط وجهه باتجاه هذه الكشافات، مما يسبب له آلاماً في العينين.[33]

أشهر عمليات التحقيق التي شهدها السجن السري، حسب صحيفة يديعوت أحرونوت، عملية التحقيق التي خضع لها الأسير اللبناني مصطفى الديراني، الذي اشتكى من التعذيب الشديد الذي تعرض له خلال التحقيق، مثل تعرضه للضرب المبرح، وإجباره على السير مرتدياً حفاظة أطفال، وإجباره على ابتلاع أشياء مثلثة الشكل، إضافة إلى تعرضه للاغتصاب.

ويستخدم السجن السري في عمليات تحقيق أخرى غريبة يخضع لها الجنود الراغبون في الانضمام لبعض الوحدات العسكرية الخاصة جداً مثل “سيرت متكال، شيلداغ، شييطت 13″، وخريجي دورات الطيران، في إطار البرنامج التدريبي المعروف باسم “ترتيبات الوقوع في الأسر”، حيث تجري محاكاة وقوعهم في أسر العدو ويخضعون للتحقيق، واعتاد أفراد الوحدة 504 تعريض هؤلاء الجنود للتعذيب الشديد.[34]

وقد أشار الأسير المحرر سامر المصري إلى طبيعة التحقيق في هذا المعتقل، وقال: “كل أنواع التحقيق متاحة في هذا المكان، سواء الضرب أو الحرب النفسية أو إطلاق العبارات النابية، والحرمان من النوم طيلة وجودك داخل هذا المعتقل، ويتم ذلك عن طريق الطلب الإجباري من الأسير بالوقوف التام والتحدث مع الجندي ليثبت أنه مستيقظ، بالإضافة إلى الأصوات المزعجة التي تستمر لمدة 24 ساعة متواصلة دون توقف، وكذلك يستخدم الجنود مادة التربنتين ذات الرائحة الكريهة والتي تعمل على إثارة أعصاب الأسير وتجبره على البقاء مستيقظاً. ويقوم الحراس بتشغيل المكيف خلال فترة الشتاء على الهواء البارد، مما يزيد من شدة البرودة مع وجود نقص في البطانيات والأغطية في الأصل”.

وعلق المصري على وجوده في هذا السجن، بالقول: “لم أشاهد طيلة الثلاثين يوماً سوى الغرفة التي كنت متواجداً فيها وغرفة التحقيق ووجه الطبيب داخل العيادة، حيث كانوا يمنعوني من الالتفات جانباً وأنا أعرض على الطبيب”.

وقال أن المحققين يتناوبون على المعتقل ثلاث أو أربع فترات، تصل في مجموعها إلى أكثر من خمسة عشرة ساعة متواصلة يقضيها الأسير في غرفة التحقيق قبل أن يعود إلى غرفته. ويتعرض الأسير في طريقه إلى غرفة التحقيق والعودة منها إلى العديد من الإهانات والضرب بوحشية وبصورة مؤذية على مناطق حساسة من الجسم. كما أنه، وبعد كل جلسة تحقيق، يتم أخذ المعتقل إلى العيادة، ويعرض على الطبيب لتحديد مدى صموده ومعنوياته ودرجة تحمله لألوان التعذيب التي تمارس ضده.

وشبّه الأسير المحررالمكان الذي خرج اليه بالحوض الكبير للماء، حيث لا ترى إلا السماء فقط من معالم الطبيعة المختلفة. فهو لم يشاهد أي معتقل أخر، إذ أن لكل معتقل غرفته الخاصة به، وحتى أنه لم يخرج إلى الهواء إلا مرة واحدة خلال شهر كامل لمدة نصف ساعة، لم يشاهد خلالها إلا جدراناً عالية وأسلاكاً وسماء وبرجين للمراقبة.[35]

كما نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية عن هذا السجن: “الشهادات التي ترِدُ من منشأة 1391 يتجمّد من هولها الدم في العروق وتقشعر لها الأبدان، إذ يتحدّث بعض من اعتقلوا في هذه المنشأة عن أنه تمت تغطية عيونهم على مدى ساعات طويلة، كما يشيرون إلى الزنازين التي لا توجد فيها أية فتحة للتهوية، فضلاً أن قضاء الحاجة يكون داخل دلوٍ يبقى في الزنزانة أيامًا عديدة. وهناك معطًى يتكرّر في إفادات جميع المعتقلين، يتحدّث عن انعدام الضوء في الزنازين الخالية من النوافذ، والتي تم دهنها بألوان قاتمة لمنع المعتقل من التمييز بين الليل والنهار. كذلك، يفيد المعتقلون أنه لا توجد أية حمامات، وأنهم لم يستحموا أو ينظّفوا أسنانهم على مدى أسابيع طويلة”.[36]

لقد تم اعتقال بشار جاد الله وابن عمّه محمد جادا لله،، عن جسر ألنبي، بعد أن عبرا الحدود من الأردن في 20/11/2002، حيث وصف الأسير المحرر بشار جاد الله شهورٍ عدّة أمضاها في العزل القاسي، وبأنه احتجز في زنزانة ضيقة، لم يكن لها أي نافذة، ودهنت جدرانها باللون الأسود مع أناسٌ لم يسبق أن رآهم قط، ولم يعرف خلفيتهم، وكان هناك مصباح خافت يضيء الزنزانة 24 ساعة في اليوم. وقد رفضت إدارة السجن زيارة المحامي له، كما لم يسمح له بالتقاء أي معتقل آخر، ولم يكن يسمح له برؤية أي شيء خارج زنزانته.

ويضيف بشار: “لقد أجبروني على وضع عصبة على كلتا عيني في كل مرة يخرجوني فيها من الزنزانة… كان عليهم تعصيبي إذا ما نقلوني إلى مكان آخر مثل غرفة التحقيق أو عيادة السجن، لا يزيلون العصبة أبداً إلا إذا كنا داخل المكان المغلق”.

لقد جاءت حسابات الأسير المحرر بشار جاد الله لقضية عزله وظروف معيشته بشكلٍ منسجمٍ مع ما جاء في شهادات أدلى بها معتقلين آخرين، وقام بجمعها كل من المحامية “تسيمل” ومؤسسة “هموكيد”. لقد قاموا جميعاً بوصف الرطوبة، الفرشات النتنة ذات الرائحة الكريهة، “السطل” الذي نادراً ما يكون فارغاً، والذي كان يستخدم لقضاء حاجتهم، وحنفية الماء في الزنزانة التي كان يتحكم بفتحها حارس خفي لا يرى، والضجة العالية التي تحرم المعتقلين من النوم بالإضافة إلى جهاز تكييف الهواء البارد.[37]

دور المنظمات الدولية

المعلومات عن المعتقل تم استنتاجها من تجربة وشهادات الأسرى المحررين، وأكدت أنه تابع للإستخبارات العسكريةالإسرائيلية، وأنه يقع تحت الأرض في منطقة عسكرية قريبة من مطار، هي تبعد عن حيفا مدة ربع ساعة، حيث معتقل الجلمة، وعن تل أبيب ساعتين وربع بالسيارة.

لم يكن يعلم أمر وجود هذا المعتقل، ومكانه، وهوية المحتجزين فيه، سوى الجهات الأمنية المعنية، وبطبيعة الحال لم تكن هناك زيارات أهالي ولا محامين، أما الصليب الأحمر فكان يسمح له برؤية الأسير بعد 21 يوماً على أسره، إن كان من الذين تعترف إسرائيل بوجودهم لديها، ولكن ليس داخل المعتقل نفسه، حيث كانوا يأخذونه بعيون مغمضة إلى موقع عسكري يبعد عدة ساعات، حيث يلتقي هناك بمندوب الصليب، والسؤال المثير: لماذا لم يقم الصليب الأحمر بالاحتجاج وكشف وجود هذا السجن السري؟.[38]

وبالنسبة للمنظمات الدولية ودورها، قال الأسير المحرر سامر المصري أن مندوب الصليب الأحمر الدولي اجتمع معه، وطلب منه وصف طبيعة التحقيق داخل هذا السجن، فقال له: إنه، وخلال التحقيق في هذا المعتقل، يدرك الإنسان مدى الفرق بينه وبين الحيوان، حيث لا توجد أي مراعاة لحقوق الإنسان أو المشاعر الأدمية من قبل الموجودين داخله تجاه الأسرى. وردّ مندوب الصليب الأحمر بأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء سوى جمع شهادات المعتقلين حول هذا المكان، لرفض الاحتلال الحديث عن هذا الموضوع.[39] 

شهادة أسرى محررين

نستند في ذلك لبعض الإفادات التي أدلوا بها الأسرى المحررين لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية (هموكيد), التي قابلت الأسيرين المحررين بشار جاد الله وابن عمّه محمد جاد الله، ونقلت شهادتهما عما تعرضا له داخل السجن السري 1391، حيث قال محمد جاد الله بشهادته، إنه “أجبر على الاعتراف بأنه عضوٌ في حركة حماس بسبب التعذيب الذي تعرّض له”.

كما وصف الأسير المحرر بشار جاد الله شهورٍ عدّة أمضاها في العزل القاسي، وبأنه لم يكن يسمح له برؤية أي شيء خارج زنزانته، وقيل له أنه “على القمر”، عندما سأل أحد السجانين عن مكان احتجازه.

لقد جاءت حسابات الأسير المحرر بشير جاد الله لظروف عزله، بشكلٍ منسجمٍ مع ما جاء في شهادات أدلى بها معتقلون آخرون. فالأسير المحرر جهاد شومان، بريطاني الجنسية تم اعتقاله في كانون الثاني 2010 وتم احتجازه في السجن السري رقم 1391 لمدة ثلاثة أيام, أفاد في شهادته لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية (هموكيد), أنه تعرض للضرب المبرح على يد الجنود بعد أن أزالوا العصبة عن عينيه, وكان عددهم ما يقارب من 15 جندياً مجهزين بالهراوات وقاموا بضربه ودفعه ولكمه وتم التحقيق معه من قبل ضابط يلبس زياً رسمياً وأبلغه بأنه عليه الاعتراف وإلا سوف ينتهي وسوف لن يعرف أحد ما الذي حصل معه، الاعتراف أو الموت.[40]

وننقل شهادة لأسير أردني محرر هو سلطان العجلوني، قام جيش الاحتلال باحتجازه في هذا السجن السري، رغم أن سنه عند الأسر كان ستة عشر عاماً فقط، مما يعزز الاعتقاد بأن هناك العشرات من الأسرى العرب والمفقودين ما زالوا محتجزين فيه، أو أنهم فارقوا الحياة لطول فترة الاحتجاز هناك.

يقول سلطان العجلوني في تجربته مع هذا السجن: بعد ليلة من الجحيم لا يجيد صنعها إلا جلادو المخابرات الصهيونية، نُقلت من معسكرات الجيش الإسرائيلي حيث تم اعتقالي، إلى مركز اعتقال تابع للمخابرات الإسرائيلية.

استغرقت الطريق من منطقة جسر دامية شمال البحر الميت إلى هذا المركز أكثر من ساعتين تفنن فيها الجنود بـ “تطعيج” خلقتي من خلال ضربي على وجهي ورأسي المغطى بكيس من القماش السميك (الشادر)، وكانت يداي مقيدتان بقيود بلاستيكية حفرت فيهما أخاديد.

بعد ساعتين من السير على الطرق الإسفلتية العامة، نزلت السيارة إلى طريق ترابي يمر بين معسكرات للجيش وسارت بنا نصف ساعة أخرى، عندما وصلنا إلى مركز التحقيق شعرت بأننا ننزل تحت الأرض، وأن بوابة ضخمة أُغلقت، أنزلوني من السيارة وأمروني بالركض، والكيس يغطي رأسي؛ ركضت بضع خطوات واصطدمت بحائط، ثم أجبروني على الاستدارة وتكرار ذلك عدة مرات، ربما لأفقد الإحساس بالاتجاهات.

سمعت أصوات كلاب تأتي من تحت الأرض، وقالوا لي إنني ذاهب إليها، وتذكرت قصص التعذيب التي رواها معتقلو الإخوان المسلمين في العهد الناصري، وأيقنت أنني سأجربها على جلدي قريباً، فبدأت بالدعاء والابتهال إلى الله.

بعد ذلك، أدخلوني إلى غرفة كبيرة فيها مكتب وكرسي وأبواب من القضبان تفضي لزنازين صغيرة، جردوني من الملابس بالكامل، وجزوا شعر رأسي تماماً، ثم دخل من قال إنه طبيب، وسألني إن كانت الإصابة في يدي من الرصاص، فأجبت بأنها من الضرب، تفحص رأسي الذي اختلفت تضاريسه من الضرب، ثم ضحك وقال إنه أصبح الآن حبة بطاطا!

أعطوني ملابس السجن التي لم تناسب حجمي الصغير، ثم اقتادوني مغطى الرأس بذلك الكيس ذو الرائحة العفنة، والذي سيرافقني في الأيام السبعة والأربعين التي سأمكثها في هذا المكان، إلى زنزانة صغيرة باردة رطبة، عرضها أقل من متر وطولها أقل من مترين، فيها فرشة إسفنج ودلو لقضاء الحاجة وإبريق للشرب.

جدران الزنزانة مكسوة بالإسمنت الأسود الخشن جداً، وهناك في السقف توجد فتحة صغيرة تشبه المدخنة تدخل الهواء دون أن تسمح برؤية السماء حتى لا تعلم الليل من النهار، أما الباب فهو أقرب ما يكون لأبواب الخزنة في البنوك الكبرى ليس فيه ثقب إبرة. وفوق الباب، هناك ضوء كشاف قوي مسلط على وجهي، مضاء ليل نهار.

مكثت في زنزانتي الصغيرة أربع أيام في عزلة مطلقة، ولم أكن أر وجه إنسان أو أسمع صوتاً إلا عندما يقتادونني إلى جولة جديدة من التحقيق. وتحت ضغط التحقيق المتواصل والعزلة، فقدت إحساسي بالزمن والمكان، ثم فقدت الوعي، فنقلوني إلى زنزانة بنفس المواصفات ولكن أوسع قليلاً، فيها سرير من الإسمنت على هيئة القبر، كان إلى جواري زنازين أخرى، وجميع الذين تعرفت إليهم هناك كانوا من العرب الذين نفذوا عمليات فدائية عبر الحدود، أو تم اختطافهم من خارج فلسطين، منهم العراقي والأردني واللبناني وغيرهم.

العزلة كانت شبه مطلقة، ولكننا تواصلنا من خلال الصراخ الذي ينتقل عبر فتحات التهوية في السقف، وهناك تعرفت على معتقلين من حزب الله أمضوا سنوات عديدة في هذا المكان، وسمعت منهم عن وجود الشيخ عبد الكريم عبيد في قسم آخر من المعتقل.

أنا شخصياً لم أتعرض للتعذيب الجسدي في هذا المكان، وكانت الضغوط التي مورست ضدي نفسية ومعنوية، ولكن غيري لم يحالفه نفس الحظ، وقد سمعت عن التعذيب الذي تعرض له الشيخ مصطفى الديراني في هذا المكان.[41]

الهوامش

[1] مركز الأسرى للدراسات والأبحاث الأإسرائيلية، 6/8/2010.
[2] المركز الفلسطيني للإعلام، تقرير خاص 5/5/2003.
[3] “واقع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني”، تقرير لمركز غزة للحقوق والقانون، نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام 23/10/2003.
[4] حسن أبو حشيش، “انتحار إكس يفتح ملف السجون السرية للاحتلال”، المركز الفلسطيني للإعلام، 17/2/2013.
[5] “ملف السجون السرية الإسرائيلية”، صحيفة منبر القضية الفلسطينية الإلكترونية 23/1/2011.
[6] “هل انتحر الجاسوس اكس أم قتل مع أسراره؟؟”، موقع المجد الأمني 14/2/2013.
[7] “السجن السري 1391 يسلط الضوء على ملف السجون السرية الإسرائيلية”، المركز الفلسطيني للإعلام 23/1/2011.
[8] “وفاة الزبون يعيد فتح ملف المفقودين في اسرائيل”، صحيفة السبيل الأردنية 15/1/2013.
[9] حسن جبر، “أهالي الشهداء الأسرى .. آمال وترقب وقبور مفتوحة تنتظر أصحابها”، صحيفة الأيام الفلسطينية، 7/7/2008.
[10] عدنان جابر، “الأسرى العرب: إهمال طبي وحقل تجارب”، موقع فلسطين خلف القضبان 11/7/2008. و”حقائق مرعبة حول استخدام الأسرى الفلسطينيين حقولاً لتجريب الأدوية الإسرائيلية”، تقرير مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان، 16/11/2009.
[11] “السجن السري 1391 يسلط الضوء على ملف السجون السرية الإسرائيلية”، مرجع سابق.
[12] نشأت الوحيدي، “الإحتلال أقام السجون السرية لشطب الذاكرة واغتيال الارادة”، مركز الأسرى للدراسات والأبحاث الإسرائيلية، 27/8/2010.
[13] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السجن 1391 صورة حية للارهاب الإنساني”، مركز الميزان لحقوق الإنسان، 10/8/2010.
[14] “ملف السجون السرية الإسرائيلية”، صحيفة منبر القضية الفلسطينية الإلكترونية 23/1/2011.
[15] سلطان العجلوني، “المفقودون والسجون الإسرائيلية السرية: شهادة وإثبات”، الجزيرة نت 29/5/2008.                                             
[16] دنيا الوطن، 16/2/2013.
[17] “السجن السري 1391 يسلط الضوء على ملف السجون السرية الإسرائيلية”، مرجع سابق.
[18] “السجن السري 1391 يسلط الضوء على ملف السجون السرية الإسرائيلية”، مرجع سابق.
[19] “ملف السجون السرية الإسرائيلية”، صحيفة منبر القضية الفلسطينية الإلكترونية 23/1/2011.
[20] “ملف السجون السرية الإسرائيلية”، منبر القضية الفلسطينية 23/1/2011.
[21] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السري 1391 صورة حية للارهاب الانساني”، مرجع سابق.
[22] “أسرى فلسطينيون وعرب في سجون سرية اسرائيلية”، صحيفة دنيا الوطن الإلكترونية 25/12/2003.
[23] صحيفة يديعوت أحرونوت، نقلاً عن صحيفة القدس العربي اللندنية، 6/5/2009، ص 9.
[24] نشأت الوحيدي، “الإحتلال أقام السجون السرية لشطب الذاكرة واغتيال الارادة”، مرجع سابق.
[25] صحيفة القدس المقدسية، 27/8/2010.
[26] المركز الفلسطيني للإعلام، 14/4/2007.
[27] صحيفة القدس المقدسية، 27/8/2010.
[28] سلطان العجلوني، “المفقودون والسجون الإسرائيلية السرية: شهادة وإثبات”، مرجع سابق.
[29] أفيف لافي، “ماذا يحدث خلف جدران معسكر الاعتقال رقم 1391؟”، صحيفة هآرتس، ترجمة نشرة المشهد الإسرائيلي، الناصرة، 25/8/2003.
[30] المركز الفلسطيني للإعلام، 14/4/2007.
[31] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السري “1391” صورة حية للارهاب الانساني”، مرجع سابق.
[32] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السري “1391” صورة حية للارهاب الانساني”، مرجع سابق.
[33] المركز الفلسطيني للإعلام، 14/4/2007.
[34] صحيفة يديعوت أحرونوت، نقلاً عن صحيفة القدس العربي اللندنية، 6/5/2009، ص 9.
[35] المركز الفلسطيني للإعلام، 14/4/2007.
[36] نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام، 8/9/2003.
[37] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السري “1391” صورة حية للارهاب الإنساني”، مرجع سابق.
[38] سلطان العجلوني، “المفقودون و السجون الإسرائيلية السرية: شهادة وإثبات”، مرجع سابق.
[39] المركز الفلسطيني للإعلام، 14/4/2007.
[40] جوناثان كوك، “السجن الصهيوني السري “1391” صورة حية للارهاب الانساني”، مرجع سابق.
[41] سلطان العجلوني، “المفقودون و السجون الإسرائيلية السرية: شهادة وإثبات”، مرجع سابق.

 

 للاطلاع على الدراسة كاملة، اضغط على الرابط التالي:

دراسة: السجون السرية الإسرائيلية… صورة حية للإرهاب الإنساني 
Word 
( 38 صفحة، حجم الملف 268 KB )
دراسة: السجون السرية الإسرائيلية… صورة حية للإرهاب الإنساني   
( 38 صفحة، حجم الملف 449 KB )*

* إذا كانت لديك مشكلة في فتح الملف، اضغط هنا

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013/3/13

[/fusion_builder_column][/fusion_builder_row][/fusion_builder_container]