مدة القراءة: 6 دقائق

تقدير استراتيجي (52) – كانون الأول/ ديسمبر 2012.

ملخص:

وضعت الحرب على غزة أوزارها في 2012/11/21؛ بموجب تفاهمات التهدئة، التي وضعتها المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حماس والجهاد.

قبلت الحكومة الإسرائيلية بهذه الشروط لأنها محتاجة لإعلان وقف إطلاق النار؛ حيث انتهت سلة الأهداف لديها، ولم تكن مستعدة لخوض الاجتياح البري؛ خشية التكلفة العالية لهذه الخطوة. في حين كان ما يزال أمام المقاومة متسع من الأهداف التي انتشرت على امتداد الجبهة الداخلية الإسرائيلية؛ وخصوصاً في مدنه الرئيسية ومواقعه الحيوية.

في مثل هذه الظروف سوف تتبع “إسرائيل” سياسة المماطلة والتسويف في تنفيذ بنود التهدئة بدعاوى وذرائع مختلفة، مثل: استمرار دخول السلاح إلى القطاع، أو منع دخول بضائع بذريعة أنها تستعمل لأغراض عسكرية. وعلى الصعيد الآخر، من المتوقع أن تُبدي المقاومة شيئاً من المرونة مع هذه السياسة ما دامت تحقق لها حدّاً معقولاً من مطالبها، سعياً منها لكسب استمرار الموقف المصري الإيجابي في صفها، وأملاً باتساع دائرة الاعتراف الغربي بها، غير أنها قد تنتهز الفرصة لاحقاً لانتزاع حقوقها.

وستسعى الحكومة الإسرائيلية لإبقاء زمام المبادرة العسكرية بيدها والتركيز على استمرار الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية. كما أن قوى المقاومة ستواصل تقوية إمكانياتها استعداداً لمواجهة قادمة قد لا يطول مداها.

مقدمة:

ما إن توقف إطلاق النار في معركة غزة يوم 21 نوفمبر 2012، حتى اندفعت للواجهة مجموعة تساؤلات مستقبلية:

– كم ستصمد التهدئة المترتبة على مذكرة التفاهم التي تمت بين “إسرائيل” وحركات المقاومة الفلسطينية، بوساطة مصرية مباشرة مدعومة بمساندة تركية قطرية أمريكية ومباركة إيرانية، وهل يمكن أن تتطور مذكرة التفاهم إلى ترتيبات أوسع عبر تفاوض شبه مباشر بين المقاومة في غزة وبين “إسرائيل”؟

– ما هي العوامل التي يمكن أن تهدد التهدئة والتفاهمات؟

– ما هي النتائج المستقبلية للمواجهة التي استغرقت ثمانية أيام؟ وهل سيزداد اعتماد حركة حماس بشكل رئيسي على مصر خلال الفترة القادمة، لتعويض الخروج من سوريا والبرود النسبي للعلاقة مع إيران وحزب الله، ناهيك عن استمرار الخلاف المبطن والمعلن مع السلطة الفلسطينية؟

التحليل:

يشير تاريخ الصراع العربي الصهيوني منذ بدايته، إلى أن الطرف الصهيوني يتبع إستراتيجية تفاوضية تقوم على تعميق المكاسب إلى أقصى مدى، عندما يكون ميزان القوى مختلا لصالحه، لكنه يعمل على تكييف تدريجي وعبر استثمار لأدوات الضغط السياسي والعسكري والنفسي للوضع الذي لا يكون فيه ميزان القوى لصالحه؛ إذ يبدأ بامتصاص الضربة، ليعود بعدها إلى التفاوض المنهك للطرف الآخر. ذلك يعني أن الطرف الفلسطيني المقاوم سيواجه محاولات إسرائيلية لعقد جلسات تفاوضية غير مباشرة لتنفيذ بطيء وتدريجي للتفاهم، على أمل جذب الطرف الفلسطيني للدخول في تفاوض شبه مباشر بفعل جاذبية توسيع دائرة الاتصال الدولي مع حماس، والحرص الفلسطيني على استمرار الموقف المصري وتطويره.

ويبدو أن الطرف الصهيوني شعر بأن إستراتيجية ضرب العمق الإسرائيلي التي بدأت مع العراق في مطلع التسعينات، وتوالت مع تكريسها من قبل حزب الله، ثم اطمئنان المقاومة الفلسطينية لجدوى هذه الإستراتيجية تحتاج منه لإعادة النظر في إستراتيجية التعامل مع مصادر التهديد له.

لقد قبل الطرف الصهيوني بالتهدئة، نظراً لإدراكه بأن الحرب البرية غير مضمونة النتائج، مع كل ما تنطوي عليه من احتمال لخسائر بشرية عالية، تشكل نقطة الضعف المركزية في الإستراتيجية الصهيونية، كما أن قبوله التهدئة ناتج عن إحساسٍ بنفاد “بنك” الأهداف، في الوقت الذي تتسع فيه الأهداف المتاحة أمام المقاومة لشل الحياة في المجتمع الصهيوني.

إن القبول بالتهدئة يعني أن الطرف الصهيوني أدرك ضرورة “إعادة النظر” في جدوى هجومه، دون إعادة النظر في أهداف الهجوم المتمثلة في كبح تنامي المقاومة الفلسطينية، التي لا بد أن استخباراته أشعرته بتناميها العسكري من ناحية، وبهدف اختبار طبيعة مواقف النظام المصري الجديد من ناحية ثانية، إلى جانب اختبار جدوى “القبة الحديدية” في مواجهة إستراتيجية المقاومة الصاروخية، أما الاستثمار الانتخابي في المعركة، فقد لا يكون ذا أهمية كبيرة، إلاّ إذا ضمن الطرف الصهيوني نجاحه التام في الهجوم.

ذلك يعني-طبقا لما سبق- أن الطرف الصهيوني سيبني إستراتيجيته القادمة على أساس:

 أ. البحث عن أية تأويلات لنصوص مبادرة التفاهم تخفف من درجة التزامه أو تساعده على التملص التام من بعض بنودها مثل فتح المعابر وتسهيل عبور الأفراد ..الخ.

1. الزعم في مرحلة لاحقة باستمرار تهريب السلاح إلى غزة، أو التذرع بأن عناصر من حزب الله أو إيران دخلت إلى القطاع .

2. الزعم بأن فتح المعابر لا بد أن يتم من خلال السلطة الفلسطينية، وليس من خلال حكومة غزة، وقد تطالب “إسرائيل” بمراقبين دوليين أو بتفعيل اتفاقية المعابر التي وُقِّعت سابقاً مع السلطة الفلسطينية، وكان للأوروبيين فيها دور كبير، وقد تُصرُّ على ضرورة تفتيش السفن التي تدخل المياه الإقليمية لغزة.

3. الزعم بأن بعض المواد لا يجوز السماح بدخولها إلى غزة، نظراً لأنها صالحة للاستخدام العسكري.

4. لن تتورع “إسرائيل” في مراحل لاحقة-إن وجدت ذلك مجدياً- في أن تستثمر أي حادث فردي للهجوم على غزة من جديد، كما فعلت في الهجوم على لبنان عام 1982 بحجة ما وقع لسفيرها في لندن في حينه، فقد تقع بعض العمليات الفدائية في الضفة أو داخل الخط الأخضر أو عبر صحراء سيناء، أو خارج فلسطين فتستغلها “إسرائيل” للتبرؤ من التفاهم، أو قد تتذرع بأن التفاهم غير ملزم قانونياً، نظراً لطبيعة الأطراف فيه أو لعدم التوقيع عليه.

5. وقد تقوم “إسرائيل” بعمليات اغتيال لبعض قادة المقاومة في داخل غزة من خلال عملاء لها أو رجال مخابراتها، مما يدفع التنظيم الذي تنتمي إليه هذه القيادات إلى الرد، مما سيؤدي إلى انهيار التفاهم كله.

ب. على المستوى العسكري، فلا شك أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ستسعى للإجابة على تساؤل محدد وهو: كيف تتم مواجهة إستراتيجية الصواريخ؟ ويبدو أن الحل التقني هو الذي سيطغى على التفكير الصهيوني، من خلال تطوير القبة الحديدية على المدى القصير بالتعاون مع الولايات المتحدة، وربما تخفيف التكدس الحضري  في بعض المستوطنات على المدى البعيد، وهو أمرٌ فيه تعقيدات عديدة.

ج. بالمقابل فإن “إسرائيل” معنية في المدى المتوسط بالضفة الغربية أكثر من عنايتها بغزة، فإذا ضمنت “إسرائيل” تهدئة طويلة المدى في غزة، فإنها ستستثمر ذلك في الضفة الغربية بمزيد من الاستيطان، واستثمار استمرار الانقسام الفلسطيني، لإضعاف طرفي الخلاف الفلسطيني والحصول على المزيد من التنازلات من قبل السلطة الفلسطينية، لاسيما في موضوع اللاجئين والحدود والقدس…الخ.

بالمقابل فإن الطرف الفلسطيني، لاسيما حماس، سيُواجَه بأسئلة إستراتيجية في المرحلة القادمة:

1. هل هناك تفاهمات إسرائيلية مسبقة غير معلنة لاسيما مع مصر؟ وهل لها أية انعكاسات على الطرف الفلسطيني؟

2. بالرغم من التنسيق الواضح خلال المعركة بين حماس والجهاد الإسلامي بشكل أساسي، وظهور القيادات للحركتين في مؤتمر صحفي معاً، فإن تحليل الإستراتيجية بعيدة المدى للحركتين يشي ببعض التباينات التي قد تتصاعد، نظراً لطبيعة موقع كل منهما في الخريطة الفلسطينية (حماس في السلطة، والجهاد خارجها)، وقد يقع ذلك مع تنظيمات أخرى لأسباب متعددة لا مجال لحصرها.

3. ما هو الأفق الزمني الذي تحتاجه حماس للهدنة؟ فإذا كان المدى طويلاً، فإنه ينطوي على مخاطرة كبيرة لأنها ستتحول لما يمكن اعتباره “وقف المقاومة”، بينما يحتمل المدى المتوسط للهدنة النقاش، أمّا المدى القصير ففيه مخاطرة خسران التأييد المصري، وهو هدف مهم في الظروف الحالية.

ذلك يعني، أن التزام الفلسطينيين بالتهدئة لفترة طويلة سيجعل من الوضع مشابهاً للوضع في الجبهة اللبنانية، إذ لم يعد هناك عمل مقاوم منذ 2006، لكن “إسرائيل” لم تتوقف عن الاغتيال خارج لبنان لبعض قادة حزب الله، وهو الأمر الذي قد يتكرر مع المقاومة الفلسطينية.

4. ثمة بُعدٍ آخر في الموضوع الفلسطيني، وهو السعي الفلسطيني للحصول على مقعد “الدولة غير العضو” في الأمم المتحدة. وهنا نلاحظ تهديدات إسرائيلية وأمريكية وبعض التهديد الأوروبي باتخاذ إجراءات ضد هذا الموقف، ولكن الأمر ذاته يشير إلى تباين داخل حركة حماس تجاه هذه الخطوة، ولعل تصريحات محمود الزهار الرافضة تماما للخطوة، مقابل الترحيب من خالد مشعل وعدد من قيادات الحركة يعزز هذا الهاجس وتداعياته.

أما الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، فإن المعطيات المتوفرة لا تُغري باحتمال تحققها في المدى القريب، بسبب تجذُّر إستراتيجية التفاوض والمساومة في التيار غير المقاوم في السلطة الفلسطينية. بل إن فكرة توزيع الأدوار غير واردة في التاريخ الفلسطيني كله.

هناك جانب آخر، وهو نتائج الانتخابات البرلمانية التي ستعقد في إسرائيل، وبالرغم من أن فوز اليمين-بغض النظر عن تفاصيله –هو الأرجح، فإنه ليس من المرجح أن تشهد الفترة القادمة تغيراً مهماً في السياسة الإسرائيلية.

أخيراً، منذ استكمال انسحاب القوات الصهيونية من قطاع غزة في أيلول/ سيبتمبر 2005، قامت “إسرائيل” بهجومها الكبير الأول بعد ثلاث سنوات تقريباً، وعادت بعد ثلاث سنوات أخرى لتكرار الهجوم، وتخلل الفترات الفاصلة هجمات متقطعة لم تتوقف طيلة فترة السنوات السبع الماضية. وإذا نظرنا إلى السلوك الصهيوني مع بيئته الإقليمية منذ ما بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973 مروراً بعملية الليطاني عام 1978 إلى الهجوم الأخير على غزة، فإن معدل دورة الحرب تتراوح بين 3-5 سنوات، مما يعني أن احتمالات انهيار الهدنة والعودة للقتال لن تتجاوز السنوات الخمس في أكثر السيناريوهات “تفاؤلاً”.

التوصيات:

1. على حركة حماس ومعها تنظيمات المقاومة الفلسطينية الأخرى أن تركز في الفترة القادمة على استعادة فاعليتها في الضفة الغربية، وباقي أماكن التواجد الفلسطيني.

2. من الضروري أن تعمل فصائل المقاومة على تعزيز مصداقية علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية على أساس أولوية المقاومة على أي اعتبار آخر، نظراً لأن الجولة القادمة مع “إسرائيل” لن تكون بعيدة.

3. ضرورة استغلال تحسن الحالة المعنوية للشارع الفلسطيني التي أنجزتها المقاومة في معركة غزة لتعزيز ثقافة المقاومة، وعدم جدوى مسار التسوية السلمية الحالية.

4. يشير الاتجاه التاريخي للصراع العربي الصهيوني إلى أنه يعرف تغيراً إيجابياً تدريجياً لصالح الطرف الفلسطيني منذ عام 2000، ولكن هذا التغير بطيء إلى حد كبير من ناحية، كما أنه مؤلم للغاية من ناحية أخرى. ويمكن رصد العديد من المؤشرات الإستراتيجية في هذا الجانب، وهو ما يستدعي بناء إستراتيجية المقاومة في ضوء هذا التصور، ويكفي الإشارة إلى تنامي الأدبيات الإستراتيجية الأمريكية الرسمية وغير الرسمية، الداعية للتحول التدريجي نحو الشرق الآسيوي، وهو ما يثير هواجس الإستراتيجيين الصهاينة على المدى البعيد.

* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على كتابته النص الأساسي الذي اعتمد عليه هذا التقدير.

مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 20/12/2012